مقدمة
بين مينرفا وتليماك
تليماك يجادل العشاق
في بيلوس؛ تليماك يسائل نسطور عن أبيه
العشاق يتآمرون
أوديسيوس يبحر من جزيرة كاليبسو
حفل أولمبي
في أرض المردة (السيكلوبس)
أوديسيوس يروي قصته
أوديسيوس يروي قصته: رحلة أوديسيوس إلى العالم الثاني
تمام قصة أوديسيوس
أوديسيوس يصل إلى إيثاكا
مع الراعي
عودة تليماك
أوديسيوس يلقى تليماك
أوديسيوس في قصره
أوديسيوس يتشاجر مع شحاذ
المرضع العجوز تعرف أوديسيوس
نذير من السماء
وما رميت إذ رميت ...
الانتقام الهائل
بنلوب، وأخيرا ... بنلوب!
أوديسيوس يصل إلى إيثاكا
مقدمة
بين مينرفا وتليماك
تليماك يجادل العشاق
في بيلوس؛ تليماك يسائل نسطور عن أبيه
العشاق يتآمرون
أوديسيوس يبحر من جزيرة كاليبسو
حفل أولمبي
في أرض المردة (السيكلوبس)
أوديسيوس يروي قصته
أوديسيوس يروي قصته: رحلة أوديسيوس إلى العالم الثاني
تمام قصة أوديسيوس
أوديسيوس يصل إلى إيثاكا
مع الراعي
عودة تليماك
أوديسيوس يلقى تليماك
أوديسيوس في قصره
أوديسيوس يتشاجر مع شحاذ
المرضع العجوز تعرف أوديسيوس
نذير من السماء
وما رميت إذ رميت ...
الانتقام الهائل
بنلوب، وأخيرا ... بنلوب!
أوديسيوس يصل إلى إيثاكا
الأوديسة
الأوديسة
لشاعر الخلود هوميروس
تعريب
دريني خشبة
مقدمة
هذه هي الملحمة الثانية - بعد الإلياذة - لشاعر الخلود هوميروس كما عربها وأعاد صياغتها دريني خشبة.
أجمع النقاد على أن «الأوديسة» أكثر عمقا ونبلا ورقة من سابقتها «الإلياذة»، وأجمعوا على أنها ملحمة الفضائل الحضارية - فضائل الوفاء والإيمان والأسرة والفن - بعكس الإلياذة التي كانت ملحمة فضائل البداوة وحياة الخشونة، وقالوا: إن «الأوديسة» تشيع فيها روح أنثوية رقيقة عذبة مستمدة من «بنلوب» زوجة البطل الوفية، ومن الربة «مينرفا» ربة الحكمة وحارسة أوديسيوس ومسددة خطاه.
والأوديسة هي قصة عودة البطل الإغريقي أوديسيوس أو أوليسيز، بعد سقوط طروادة، إلى وطنه ومملكته «إيثاكا»، لقد نسي البطل أن يقدم القرابين للآلهة بعد الانتصار وقبل إبحاره إلى وطنه، وفي الطريق وأثناء دفاعه عن نفسه وعن رجاله أوقع الأذى البالغ بأحد أبناء رب البحار نبتيون، فكان أن طارده الإله في البحر، وحكم عليه بالنفي لمدة عشر سنوات، ولم يستطع أن يعود إلى دياره إلا بعد أن نزل إلى العالم الآخر؛ لكي يستعلم من حكماء الموتى عن طريق العودة، وفي إيثاكا واجه البطل عشاق زوجته الذين حاولوا إجبارها على الزواج من أحدهم، فأبادهم جميعا قبل أن يكشف عن شخصيته ويستقر في بيته بين زوجته وولده.
وقد اعتمد دريني خشبة في صياغته العربية على نفس الترجمات الإنجليزية التي اعتمد عليها في صياغة «الإلياذة»، وقد ذكرناها في مقدمة الملحمة الأولى التي صدرت في روايات الهلال في أكتوبر سنة 1969م، وهي ترجمة «جورج تشابمان» في القرن السابع عشر، وترجمة «وليام كاوبر» في القرن الثامن عشر، وترجمة «ألكسندر بوب» في القرن الثامن عشر أيضا، وترجمة «وليام إيرل أوف دربي» في القرن التاسع عشر.
كذلك اعتمد دريني خشبة في ترجمته للأوديسة على نفس الأسلوب الذي اعتمد عليه في ترجمة الإلياذة، فقد حافظ بأمانة على الأحداث الروائية وروح النص، وإن كان قد أعاد بناء الأحداث وترتيبها لتناسب ذوق القارئ الحديث، وهو نفس الأسلوب الذي اعتمد عليه المترجمون الإنجليز وخاصة «جورج تشابمان».
بين مينرفا وتليماك
أنشد يا هوميروس!
وظل في فم الأبد قيثارته المرنة، ونايه المطرب، وعوده الآن، ونغمته الحلوة الحنون.
أنشد يا شاعر العصر الخالي.
وحل في الأسماع موسيقى مدوية، وفي العيون دموعا جارية، وفي القلوب رحمة ومحبة، وانفح عرائس الشعر من لدنك سلطانا، وحكمة وبيانا، وسريرا وصولجانا.
تغن يا شاعر أولمب!
ولترسل من جنتك نغمة تنتظم الأفلاك، ورنة تجلجل في الأفق، وآهة تزلزل قلوب الجبارين! •••
سقطت إليوم،
1
ونزح المغير بخيله ورجله، فتعالي يا عرائس الفنون فافتقدي أوديسيوس في ذلك البحر اللجي يذرعه، موجة تلبسه وموجة تخلعه، لا يعرف لمملكته ساحلا فيرسو عليه، ولا شاطئا فيقصد إليه، يخبط في اليم على غير هدى، ويرسل عينيه في الماء والسماء على غير بصيرة؛ زرقة متصلة في العلو والسفل، وتيه لا نهائي يخبط في أحشائه أسطول السادة المنتصرين.
والأقدار وحدها تعلم لماذا ضل أوديسيوس بجنوده في ذلك العباب؟ وقد عاد كل أقرانه إلى هيلاس بعد طول النأي وشحط المزار، إلا هو وإلا هم ، ممزقين في دار الغربة كل ممزق، يتجشمون المصائب والأهوال، ويتخبطون بين موج كالجبال، ويخلصون من بحر إلى بحر، ومن روع إلى روع، فإذا أرسوا على أرض وظنوا أنهم نجوا، أفزعهم فيها غير الذي رجوا.
ولقد رقت قلوب الآلهة، وودوا لو أدركوا برحمتهم أوديسيوس، إلا نبتيون الجبار - رب البحار - الذي يضمر للبطل في أعماقه كل كراهية وكل بغضاء، والذي آلى أن يصب على رأسه كل تلك الأرزاء.
عندما ينشد شاعر الأولمب تحل في الأسماع موسيقى مدوية وآهة تزلزل قلوب الجبارين.
وحدث أن كان نبتيون في حرب مع الإثيوبيين، فانتهزها الآلهة فرصة سانحة، وعقدوا مجلس الأولمب في ذروة جبل أيدا، وتفضل الإله الأكبر «زيوس» فافتتح الجلسة بكلمة مخلصة توجع فيها لما يلقاه بنو الإنسان من صروف الحدثان، واستطرد فذكر مأساة أجاممنون المسكين، وما لقيه على يدي زوجه وعشيقها الأثيم إيجستون من غدر وغيلة، ثم أنحى باللائمة على هؤلاء البشر البائسين الذين يقولون إن كل ما يصيبهم من خير وضير هو من عند الآلهة، وما هو إلا من عند أنفسهم، ولكن لا يفهمون!
ثم نهضت مينرفا ربة الحكمة ذات العينين الزبرجديتين، فأيدت ما قال أبوها سيد الآلهة، وأثنت عليه، ثم ذكرت أوديسيوس؛ «ذلك التعس المسكين الذي تخبطه
2
وصحبه البحر، وقضى عليه - دون أقرانه جميعا - أن يشقى هذا الشقاء الطويل عند عروس الماء الفاتنة كالبسو في جزيرة أوجيجيا ثمانية أعوام أو يزيد. ما ذنبه؟ ما جريرته؟ لماذا ينفى هذا العبد الصالح في أقصى الأرض يا أبي، إنه خير عبادك أجمعين، أذكر كم ضحى في الأضحيات باسمك، وقدم القرابين من أجلك، وحارب أعداءك، وجاهد شانئيك! لقد نمى إلي أن كالبسو تحاول جاهدة أن تستميل قلب البطل، وأن تنسيه وطنه إيثاكا، يا للهول! كيف يا أبتاه؟! وهذه الزوجة التاعسة بنلوب؟ بنلوب المحزونة المرزأة، بنلوب التي صبرت وصابرت طوال هذه السنين على ما كرثها الدهر به من بعد زوجها، بنلوب التي حافظت على طهرها وإخلاصها، أتظل هكذا سجينة في قصرها المنيف الباذخ؟ ويظل هذا القصر محاصرا بعشاقها المجانين من أمراء الأقاليم؟ أبي! يا سيد الأولمب، ألا تدرك برحمتك أوديسيوس وترده إلى وطنه ليذود هذه الكلاب التي ولغت في حوضه، وكادت تخوض في عرضه؟ تداركه يا أبي، تداركه بعطفة واحدة منك، وإنك على إنقاذه لقوي مكين.»
واستجاب لها سيد الأولمب، وقضى أن يعود أوديسيوس إلى إيثاكا، لكنه ذكرها برب البحار نبتيون، وذكرها بما بينه وبين البطل من ترات وثارات، «سببها هذه الفعلة الجنونية التي فعلها أوديسيوس بواحد من السيكلوبس
3
أبناء نبتيون؛ إذ اقتلع عينه الواحدة التي كان ينعم بسبيلها بزينة الحياة. اطمئني يا بنية وقري عينا، إننا نحن الأعلون، وسيرى نبتيون أنه لن يغلب الآلهة مجتمعة أبدا.»
وشاعت الغبطة في أعطاف مينرفا، وتضرعت إلى مولاها أن ينفذ ولده هرمز إلى جزيرة أوجيجيا، فيأمر عروس الماء كالبسو أن تعد مركبا عظيما لأوديسيوس ورفاقه؛ ليعودوا عليه إلى أوطانهم، ثم ذكرت أنها ستمضي من فورها إلى إيثاكا حيث العشاق المآفين يحاصرون قصر بنلوب، وحيث ابن أوديسيوس المنكود، تليماك، يشهد خراب مملكة أبيه ولا يستطيع أن يحرك ساكنا لصغر سنه؛ «إني سألهب إحساسه، وأفتح عينيه على ما ينبغي، سأجعله يخرج من هذه العزلة المعيبة ليبحث عن والده؛ فإنه لم يعد طفلا بعد.»
هبطت مينرفا من السماء إلى الأرض، وانقلبت فاتخذت شكل الآدميين، ولمحها تليماك، وهب للقائها.
وانطلقت مينرفا فربطت نعليها السحريين على قدميها الجميلتين، وحملت رمحها العظيم الذي تقطر المنايا من سنانه، ووضعت تاجها المرصع على رأسها الكبير، وأطلقت ساقيها للريح، حيث كانت بعد لحظة على مقربة من قصر أوديسيوس، فهبطت من السماء إلى الأرض، وفي لمحة انقلبت فاتخذت شكل الآدميين، وتخايلت في هيئة الأمير منتش
4
وطيلسانه، ثم تقدمت فدخلت ردهة القصر الواسعة، حيث اجتمع العشاق المجانين من أجل وليمة، وتلفتت يمنة ويسرة، ورأت الفتى السادر الساهم الحزين تليماك، وقد تعقدت فوق جبينه هموم وهموم، وتغضنت ملء أساريره آلام وآلام.
وما هو إلا أن لمحها تليماك حتى أخذه من هيبتها شيء عظيم، فهب للقائها مسرعا، ثم مد إليها يده مصافحا وهو لا يعرف من هي، وقال: «مرحبا مرحبا بالغريب المكرم! هلم فشارك في ذلك القرى، ولنتحدث بعدها فيما أقدمك إلينا، مرحبا مرحبا وأهلا وسهلا.» ودلف نحو الصالة المزخرفة، وتبعته مينرفا وفي يمناها رمحها الجبار الذي يقدح من سنانه الشرر، حتى إذا بلغا العمود الأكبر الذي أسندت إليه مئات الرماح، والذي كان أوديسيوس يسند إليه رماحه وعدة حربه، تناول تليماك الرمح وأسنده بعد جهد، حيث برز بكل عظمته وكل جلاله بين رماح العشاق الفاسقين. وتقدم نحو أريكة وثيرة منعزلة، وسأل مينرفا فاستوت عليها، وكانا ثمة بمأمن من أن يستمع إليهما أحد. وأقبلت جارية فينانة رائعة تحمل طستا وإبريقا من الذهب، فصبت الماء على يدي الضيف ويدي تليماك، ثم مضت فأحضرت مائدة نسقت عليها الورود والرياحين، ونشط النادل
5
يحمل أطباق الطعام والفاكهة والحلوى، فيأتي بها ملأى، ويمضي بها فارغة. والندمان
6
فيما بين ذلك يجذب الزق
7
إليه ويسقي، ثم يسقي، وشرع العشاق المجرمون بدورهم يلتهمون ما لذ وطاب من أكل وشراب. حتى إذا انتهوا شرع فيميوس نايه وانطلق يغني.
وانتهز تليماك فرصة انصراف القوم إلى لهوهم وشرابهم فساءل الضيف قائلا: «يا أعز الأصدقاء، أرأيت إلى أولئك الفساق؟ لو أن رب البيت هنا أكانوا يلهون لهوهم هذا أو يفسقون فسوقهم هذا؟ كلا، لقد كانوا إذن أسرع إلى الهرب منهم إلى ذلك الطرب، ولكن، أواه! أين هو؟ أين أوديسيوس العظيم الذي انقطعت عنا أخباره، ويئست من أوبته دياره؟ ولكن حدثني بربك من أنت؟ ومن أي الأقاليم قدمت؟ ومن رجال البحر الذين ألقوا مراسيهم عند إيثاكا؟ أغريب أنت أيها السيد؟ أم كنت فيما خلا من الزمان من أصدقاء أبي وأحبائه؟»
وقالت مينرفا ذات العينين الزبرجديتين: «ليهدأ بالك يا بني؛ فإني مجيبك على كل ما سألت؛ إنك ترى الآن منتش أمير «جزيرة الطافيان» البحارين، وسليل إنخيالوس الكبير، ولقد أبحرنا من جزيرتنا ميممين شطر جزيرة النحاس من أجل ذلك المعدن الثمين، وسفائننا ملقية مراسيها بالقرب من غابات «نيوس»، ولقد كنا ولا نزال من أحب ضيفان أبيك وأودهم إلى فؤاده ، فلما سمعنا بما حل به من شدة، وببيته من لأواء، استوحينا آلهتنا فخبرتنا أنه لا بد عائد إلى وطنه سالما غانما، وأنه لا بد منتقم من هؤلاء الفجار الأشرار، ولكن خبرني بأربابك أفي الحق أنك ابن أوديسيوس العظيم؟ إن ملامحك تشبه ملامحه، وإنك لقريب الشبه منه جدا، وإن هذا البريق الذي يشع من عينيك هو نفسه الذي كان يشع من عيني أوديسيوس ... يا للآلهة! كم سمرت إلى أبيك قبل أن يشد رحاله إلى طروادة، فهل يقدر لي أن أسمر إليه مرة أخرى؟ إنني من وقتها إلى اليوم لم أره، وهو كذلك لم يرني. ألا ما أشوقني إليه! ما أشوقني إليك.»
وشاع بارق من الأمل في نفس تليماك فقال: «ويحك أيها الصديق، إنني أنا ابن أوديسيوس، ما في ذلك ريب، والعالم كله شهيد على ذلك.»
ثم اختلطت الزرقة بالخضرة في عيني ربة الحكمة وقالت: «على رسلك يا تليماك! إذن فما هذه الولائم وتلك السمط؟ وهذا الزحام من أين أقبل؟ إني لأقلب ناظري في القوم فلا أرى شريفا ذا حسب يستأهل أن يحتفى به أو يقام له وزن.»
ويبتئس تليماك ويجيب: «أيها العزيز، لقد هاجرت الفضيلة من هنا في أثر المهاجر العظيم، وكانت آلت ألا تعود إلا معه، وكان هو - تداركته السماء - يلقنها هؤلاء بنظرة واحدة تكفي لتزول منها الجبال؛ وا أبتاه! لقد أطمع العاديات فينا بطول نأيه. فيا للنوى! إننا لا ندري اليوم أين مقره ولا أيان مستودعه. ولو قد خر تحت أسوار إليوم لاجتمع الإغريق من كل حدب هنا، هنا؛ في حاضرة إيثاكا ليذرفوا دموعهم من أجله، وليقيموا له صحائف صدورهم بمداد أبدي من التبجيل، ولكن وا أسفاه! لقد انتصر انتصار الأبطال، ثم مضى على وجهه وراء البحار في فجاج الثبج، وغدونا لا تحلم العين بنظرة مفردة منه، ولا الأذن بلفظة عذبة من لسانه المبين، تباركت يا آلهة الأولمب! ماذا عندك من الأقضية المخبوءة لي؟ الذئاب! أي يا آلهة هذه الذئاب! وحوش البرية التي اجتمعت من كل فج؛ من الجزائر المتناثرة في البحر، ومن المدائن المترامية في البر، من ساموس ودلشيوم وزاكنثوس، ومن كل إقليم وكل مصر ... كلهم يرابطون حول هذا القصر، ولا يستحيون. الفساق الأوشاب العرابيد يطلبون يد الزوجة الوفية، الأم المكلومة؛ بنلوب! بنلوب الباكية المحزونة المصدعة، كنز أوديسيوس الذي لا يفنى، يطلبون يدها ولا يرحمون وفاءها وبكاءها ولأواءها؛ لا تستطيع أن تردهم لعجزها، ولا تستطيع أن تجيبهم وهي لا تدري من أمر زوجها. وهم طوال هذه السنين يريغون نعماء أبي، فكهين في أشربات وآكال حتى أقفر الزرع وجف الضرع، وما أحسبهم مبقين على شيء، حتى علي!» •••
وانثال الحنان في فم مينرفا إذ هي تجيب الفتى المحزون: «ويح لك أيها الفتى! رحمتا لك يا بني الصغير! أواه! لو أن أباك هنا اليوم ليذود أولئك المناكيد! وحق السماء لو أنهم رأوه وهو يلاعب رمحيه أو يداعب سهامه لأجفلوا وولوا مدبرين، إن له لسهاما مسمومة سقاها أبي بعد إذ رفض أن يسمها إيلوس بن مرمريس،
8
وهو لو صوبها إلى أولئك المفاليك لأبادهم. يا رحمتا له إن أحدا غير الآلهة لا يعلم إن كان لا يزال حيا يرزق أو هو قد ابتلعه اليم أو عاجلته المنون. تليماك! يا ابن أعز الناس علي، أصغ إلي، وع الذي أقول: إنك لست طفلا بعد، فلم لا تشمر عن ساعد الجد وتبحث بنفسك عن أبيك؟! لم ترض أن يلطخ شرف بيتك هؤلاء الفجار؟ لم لا تكلمهم بنفسك في أمر أمك؟ ولم لا تصرفهم عن هذه الدار إلى بيت جدك ليطلبوا إليه يد ابنته إن شاءوا؟ أليس أبوها أليق لهذا الشأن من كل رجل سواه ما دام أوديسيوس لم يؤب؟ لم يربضون هنا كسباع الفلاة يوهون ثروتك ويأكلون مالك، ويذهبون بالأخضر واليابس مما ترك أبوك؟ استمع لما أقول يا تليماك، نبئ القوم فليجتمعوا لك، ولتسمعهم كلمتك ولتصارح أمك إن هي أرادت منهم بعلا فلتنصرف إلى بيت أبيها؛ فهو أولى بهذا الأمر من كل أحد، ثم انهض أنت يا ابن أوديسيوس، فابحث عن أوديسيوس. أعد ما استطعت من سفين وزاد، وميرة وعتاد، ولتبحر على بركة الآلهة، فلتذهب أولا إلى «بيلوس» حيث الحكيم الباسل نسطور، ثم إلى أسبرطة حيث صاحب هذه الداهية منلوس.
9
أقلع بفلكك إلى هذين فسائلهما أين مضى أبوك؛ فقد تقع منهما له على خبر، ولتكن لك أسوة في الفتى الجريء المقدام أورست الذي قتل قاتلي أبيه
10
وفيهم أمه. بوركت يا أورست، بوركت يا أورست! هلم يا تليماك؛ فقد تعود بأبيك حيا، فيرد الشرف والمجد إلى هذا البيت، وقد تعود به ميتا فترفع ذكره، وتقيم قبره، وتخلد في العالمين أثره، والآن فلأنهض أنا إلى رجالي وسفني، فلقد بعدت طويلا عنهم. وكلي يقين يا بني أن تقدر نصيحتي، وعلى الآلهة فلنتوكل.»
الورود وأطباق الفاكهة والحلوى للعشاق الذين استغلوا غياب أوديسيوس العظيم الذي انقطعت أخباره.
وحين انتهت مينرفا من هذا الحديث حدجها تليماك وقال: «أيها الصديق حبا، ويا أبر الأوفياء سمعا، لقد أيقظت في ضميرا أنت أحييته، فألف شكران لك. أبدا لن أنسى كلمتك: أنا ابن أوديسيوس! فلأبحث عن أوديسيوس.» وحاول الفتى أن يقدم لمحدثه هدية سنية تكون تذكار هذا اللقاء، ولكن مينرفا شكرته وأبت أن تأخذ شيئا: «فإذا نجحت في مسعاك يا بني فسوف أعود، وسوف أقبل أية هدية منك.»
ثم انطلقت ربة الحكمة ذات العينين الزبرجديتين، ولشد ما ذهل الفتى ووقف مسبوها مشدوها حين رأى هذا الأمير «منتس» ينتفض انتفاضة هائلة فيكون نسرا قشعما يضرب الهواء بجناحيه ثم يعلو ويعلو، فيكون في السماء ويغيب عن ناظريه.
ولم يحس الفتى يوما بما أحس به الساعة من هذه الذكريات الملحة على فؤاده تهيج فيه الشوق إلى لقاء أبيه، وجدد الثقة عنده وأكدها فيه يقينه أن إلها يساعده هو هذا الضيف الذي أرسل جناحيه وغاب في السماء.
وانطلق تليماك حيث جلس الفساق يستمعون إلى أغاني فيميوس، وحيث وجد أمه في الشرفة العليا تستمع هي الأخرى إلى تلك الأغاريد بين قيانها من وراء ستار صفيق وتبكي، وتسأل فيميوس أن يتغنى غير هذا الغناء غناء لا يثير شجوها وشحنها، وتثور النخوة في قلب الفتى فيصيح بأمه: «علام العويل يا أماه؟ وما وقوفك هذا الموقف تسترقين الغناء؟ وما اعتراضك على المغني؟ دعيه فليتغن ما يشاء، فلقد غدونا سخرية القضاء وهزو المقادير. ولقد ذهب أوديسيوس وذهبت معه كرامة هذا البيت، وإني لصاحبها بعده. فادخلي وليدخل معك قيانك، ولتقمن جميعا بشئون المنزل، ولتخلن إلى مغزلك ومنسجك، ودعي كل ما عدا ذلك للرجال؛ لي، لي أنا وحدي؛ سيد هذا القصر!»
وأثرت مقالة الابن في نفس أمه؛ فانثنت مع قيانها إلى مخدعها بالطابق العلوي حتى إذا خلت إلى نفسها ذرفت من الدمع على أوديسيوس ما شاء لها حزنها أن تذرف. أما تليماك فقد انطلق وسط القوم ونادى بأعلى صوته: «أيها الفساق! يا عشاق أمي، خذوا في لهوكم وتمتعوا قليلا أو كثيرا، فإذا كان الغد فاجتمعوا في الساحة الكبرى، فإن لي كلاما معكم؛ سأطلب إليكم أن تشدوا رحالكم من هنا، أتسمعون؟ لقد طالما أتلفتم لنا زادا وعتادا، ألا فلتلتمسوا الزاد والعتاد من عند أنفسكم، ولتقيموا أفراحكم وولائمكم في غير هذا المكان، فإن أبيتم فإني مستعين بالآلهة عليكم، ولتقتص منكم السماء بما جرحتم.»
وما كاد يفرغ من قالته حتى عضوا على أصابعهم لمفاجأتهم بهذا الكلام الخشن الذي لم يعتادوه، ونهض أنتينوس من مجلسه وقال: «تليماك، لقد حق لك أن تخاطبنا بهذه الشجاعة، ولكن يا لشؤم اليوم الذي تتوجك السماء ملكا فيه على إيثاكا؛ عرش آبائك وأجدادك.»
ويجيب تليماك: «ليس أحب إلي من الملك حين تخلعه علي السماء، غير أن أمره إليكم اليوم إن كان قد قضى أوديسيوس، أما أنا فلا أريد إلا أن أكون سيد هذا القصر، ولا غرو؛ فإن هذا من حقي.»
وأجابه يوريماخوس: «إن من حقك أن تقول ما تشاء يا أخانا تليماخوس، أما ملك إيثاكا فالسماء وحدها تؤتيه من تشاء. ولكن قل لنا بربك: من هذا الضيف الذي كان معك الساعة؟ هل من قبل أبيك أقبل، أو أن له عليكم دينا؟ إن أحدا منا لم يلقه ولم يره، ولكنا لمحناه من بعد، عليه سيماء النجابة والجلال ، من أين أقبل يا تليماك؟ وفيم قدم؟»
وأصلح تليماك من شأنه وقال: «أيها السيد يوريماخوس، إن يقيني أن أبي قد انتهى، ولن تغريني هذه الكلمات المعسولة التي يتشدق بها المنجمون. أما هذا الضيف ... هو من أصدقاء أبي طبعا، وقد أقبل لمجرد الضيافة، وهو الأمير منتش أمير البحارين، وسيد تافوس، وابن سيد هذا الزمان، الملك الشجاع إنخيالوس.»
قالها تليماك وهو أعرف الناس بضيفه، ثم انثنى كل إلى مخيمه، وانثنى تليماك إلى مخدعه بالطابق العلوي، حيث كانت مربيته يوريكليا تنتظره وتوقد له الشموع والسرج، يا لها من أنثى طيبة تخلص لمولاها وتحنو عليه! لسرعان ما خلع ملابسه فعطرتها وحفظتها، ولسرعان ما هيأت له فراشه الوثير!
وقضى تليماك ليلة نابغية ممتلئة بالهواجس والأفكار.
بعد ضياع أوديسيوس هاجرت الفضيلة هذا القصر العظيم وطمع العاديات في أهله.
تليماك يجادل العشاق
موهت أورورا
1
ابنة الفجر الوردية مشرق الأفق، فهب ابن أوديسيوس من مرقده وأصلح من شأنه وتقلد سيفه،
2
ثم انفتل مختالا، كأحد آلهة الأولمب من باب مخدعه، وجعل يقلب عينيه في هذه الخيام المضروبة التي تملأ حديقة القصر والتي يثوي فيها أولئك الفجار الأشرار عشاق بنلوب، وتلبث قليلا وفي القلب لظى، وفي النفس كلوم، ثم صاح بالملأ فهبوا مسرعين، وأخذوا ينسلون إلى الردهة الكبرى، حتى إذا انتظم عقدهم والتأم شملهم تقدم هو متهدجا نحو عرش أبيه، وفي يمينه رمح ظامئ إلى تلك الدماء النجسة التي تتدفق في أبراد تلك الذئاب، وعن جانبيه كلباه الضاربان، وفي عيني كل منهما جمرتان، وكانت مينرفا نفسها تضفي على الشاب سيماء النبل، وترقرق فوق ناصيته أمواها من العظمة والمجد؛ لتقذف منه الرعب في قلوب أعدائه حتى لبهرهم أن يروا في تليماك ذاك الضرغامة المختال.
وما كاد الفتى يستوي على عرش آبائه الصيد وأجداده الصناديد، حتى نهض شيخ يحمل فوق كاهله السنين الثقال، وتشتعل في رأسه شيبة التجاريب وجلائل الفعال، وكان هو إيجبتوس بعينه، إيجبتوس المسكين الذي بعث بولده أنتيفوس في أسطول عظيم وجند لجب؛ ليشارك في حرب إليوم مع أوديسيوس؛ فنازل وناضل ، وكر وفر، وجال وصال، وصمد وانتصر. ولكنه، وا أسفاه! لم يعد إلى أوطانه في العائدين، بل صحب أوديسيوس في رحلته المشئومة وراء البحار حيث أكله السيكلوب الوحش فيمن أكل، وقف إيجبتوس بين أبناء له ثلاثة؛ أحدهم من عشاق بنلوب، ثم قال: «أيها الرفاق، يا أبناء إيثاكا النبلاء، إنها أول مرة منذ أن بارح أوديسيوس بفلذات أكبادنا ندعى فنجتمع مثل هذا الاجتماع، فمن ذا الذي دعا إليه؟ وماذا يبتغي؟ أنفحة من نفحات الشباب؟ أم زفرة من زفرات الشيب؟ أم خبر من جيشنا الهالك يبشر بعود؟ لينهض باركته السماء فليحدثنا عما دعانا إليه.»
وتناول تليماك صولجانه من قواسه، وتقدم حتى كان في وسط القوم، وجهر فقال: «أنا السيد الوقور صاحب هذه الدعوة، أنا تليماك بن أوديسيوس صاحب هذه الدار، وصاحبكم ومولاكم من قبل، لقد دعوتكم لأشكو إليكم بثي وحزني، لا لأزف إليكم بشريات الجيش المفقود لا يعلم مصائره إلا زيوس! لقد فقدت والدي ووالد الإيثاكيين جميعا، ثم أنا اليوم حبيس هذه الدار، أسير هؤلاء العشاق
3
الذين يطمعون في الزواج من أمي، غير متقين في عرضي إلا، ولا راعين لأبي ذمة، يذبحون النعم
4
ويريغون
5
الزاد، ويعاقرون ابنة العنب، ولا يبالون أن يهلك الزرع والضرع ما داموا يبيتون وبطونهم ملأى، ويبيت غيرهم على الطوى! لقد استباحوا هنا كل شيء، ما دام لا أوديسيوس هنا فيردعهم، ولا حول لي فأغل أيديهم، ولا ضمائر فيصيخوا إلى قولي ويرحموا ضعفي، ويذهبوا من فورهم إلى جدي فيخطبوا إليه ابنته إن أرادت أحدهم بعلا، فهو بها أولى وبشأنها أحق. إنكم ضعفاء أيها الإيثاكيون الأوفياء، ولو استطعتم لرددتم عني غائلتهم؛ فلقد طفح الكيل، وحزب الشر، وعم الأذى، والآن أوجه إليهم قولي، ولن أستحي أن أصارحكم مرة أخرى أيها العشاق، اخجلوا إذن، ولتصبغ الفضيلة وجناتكم بحمرة الحياء، اذكروا ما عسى أن يعيركم به جيرانكم، واخشوا قارعة تحمل عليكم من أربابكم، واتقوا يوم تلقونهم تودون لو تلقفتكم الصواعق. يا قوم، أستحلفكم بسيد الأولمب، بربة العدالة ثيميس، إلا ما تركتموني أقضي البقية الباقية من أيامي في شقوتي وجدي، هل أجرم أبي مرة مع أحد منكم فأنتم اليوم تأخذونني بجريرته؟ فيم إذن مقامكم هنا؟ وفيم إذن تستنزفون آخر قطرة من خمري دون مقابل؟! اذهبوا، اذهبوا، ودعوا تليماك البائس تحز في نفسه أشجانه، وتبري اصطباره بلواه.»
ودق الأرض بصولجانه، وانفجر يبكي، وكأنما انهمرت دموعه في نفس القوم، فوجموا وجوما شديدا، ولم ينبس أحدهم ببنت شفة، حتى نهض أنتينوس آخر الأمر فقال: «لله بيانك يا تليماك! لقد كنت مصقعا حقا، ولكنك لم تصب كبد الحقيقة حين قصرت علينا اللوم، وحين لا ملوم إلا أمك، لقد خدعتنا جميعا طوال سنوات ثلاث كادت تتم أربعا، إذ رسائلها تترى علينا، تحيي في نفوسنا الآمال وتذكي فينا الأماني، لقد كانت وعودها تترادف كالبروق الخلب، وتتراءى كالسراب المضل، لقد اتخذت لها منسجا وطفقت تعمل عليه وهي تغرر بنا، وتقول: «أيها الإغريق، لقد قضى أوديسيوس، ما في ذلك ريب، وكلكم تطمعون أن تفوزوا بزوجته، ولكن أبي ليرتيس رجل شيخ وهو يدب بخطى وئيدة إلى حافة القبر، أفليس أخلق بي وبكم أن تنتظروا حتى أنسج له هذا الثوب لتكون منه أكفانه؟ وحتى لا أكون مضغة في فم الإغريقيات إن تركته برغم ثروته الطائلة وليس له كفن يضم رفاته.» ولقد أجبنا سؤلها وتلبثنا طويلا، نرجو لو تفرغ من نسج هذا الكفن، بيد أنها كانت تنقض بالليل ما تنسجه بالنهار، وهكذا دواليك، ظلت تخادعنا تلك السنين الثلاث حتى فضحت سرها إحدى وصيفاتها؛ إذ حدثتنا به واستطعنا أن نضبطها وهي تنقض غزلها أنكاثا في ضوء المشاعل في جنح الليل، فأجبرناها على إتمامه بالرغم منها. هذه هي الحقيقة يا قوم، والآن فلترسل أمك أيها الفتى إلى أبيها، وليختر لها من بيننا بعلا، أو فلتختر هي لها بعلا، أما إذا عكفت على ختلها بنا فلتثق أن شيئا منه لم يعد يجوز علينا مهما ظنت أنها أحذق من نيرو أو أكيس من الكمينا أو أبرع من ميسينيه.
6
حسبها ما خدعتنا! وإنا نقاسمك يا تليماك أننا لن نبرح عاكفين على ما شكوت من ذبح لنعمك، وإراغة لزادك، ومعاقرة لخمرك حتى تختار لنفسها، أو فلتعف هذه الدار، ولينضب معين خيرها.»
وشاعت الكبرياء في كل جارحة من جوارح تليماك، فقال: «أنتينوس! ماذا أصابك؟ كيف تسألني أن أقهر أمي التي غذتني ونشأتني على غير ما ترضاه؟ كيف أطردها من قصر بعلها الذي لا يعلم غير الله إن كان حيا أو ميتا؟ لبئس ما أجزيها به، ولشد ما أغضب أبي وأثير غضب الآلهة علي إن فعلته، إنها ستدعو إيرينيس كي تنتقم لها مني، وستنصب علي لعنات الناس جميعا، ويحك أيها الرجل! لن أقولها أبدا، بل اذهبوا أنتم فسلوها ما شئتم، فإما أجابت طلبتكم، وإلا فانصرفوا غير مأجورين، اذهبوا فأولموا ولائمكم في غير هذا القصر، وأريغوا من زادكم، وأنفقوا مما تحبون، أما إن رأيتم أنه أحلى لكم أن تأكلوا مال غيركم؛ فإني سأهتف أبدا بالآلهة أن تقتص لي منكم، فهي محيطة بكم.»
شرع العشاق المجرمون يلتهمون ما لذ وطاب، ثم شرع فيميوس ليغني.
وما كاد يفرغ تليماك من مقالته حتى أرسل سيد الأولمب نسرين عظيمين طفقا يضربان الهواء بخوافيهما، ثم جعلا يدومان فوق الملأ ويقدحان الشرر من أعينهما نذيري ردى وصيحة منون، ثم انطلقا نحو المدينة وغابا في ظلام البعد.
وشده القوم، وريعت أفئدة العشاق وأخذوا يتخافتون. ثم نهض فيهم القديس هاليتير بن نسطور المعروف بورعه وصدق نبوءته، فقال: «أيها الناس، يا أبناء إيثاكا، اسمعوا وعوا، ليحذر العشاق المعاميد ما يخبئ لهم الغيب من شر أوشك أن ينقذف على رءوسهم، إن أوديسيوس حي يرزق، وإنه عائد إلى وطنه، بل إنه ليغذ السير إلى هنا، وإنه ليحمل الموت الأحمر إلى خصومه، والخير الأخضر إلى مواطنيه، أنا هاليتير قديسكم الذي لا يكذب قد أنبأته قبل أن يبحر إلى طروادة بذلك النبأ وأنه عائد إلى وطنه بعد أن ينتصر على أعدائه، ويذيقهم ضعف ما صنعوا، ولن يجديهم أن يتوبوا أو يندموا، وليأتينكم نبؤه بعد حين.»
وسخر القوم منه واستهزءوا به، وقام يوريماك يرجمه بهذه الكلمات: «انقلب إلى دارك أيها العجوز الخرف، هلم إلى أحفادك الكسالى فتنبأ لهم بما ينبغي أن يأخذوا حذرهم منه، لقد قصف المنون عود أوديسيوس الفينان، فليته قصف عودك كذلك! طير؟! ها إن الطير طالما يستنسر في سماء إيثاكا، إن أكبر الظن أنك تطمع في منحة من ابن مولاك تليماك، ولكن أصغ إلي، لتكن لك منحة منا إن تنبأت له عما يكاد يذهب بك وبه من بطشتنا إن لم يختر لنفسه، أسمعت؟ لقد نصحنا له أن يرسل أمه إلى بيت أبيها ليختار لها الكفء الذي ترضى به فلم ينتصح، وأنا أرسلها كلمة صريحة في غير مين؛ إننا لن نبرح عاكفين على ما نحن فيه من هذا الخير حتى تخضع بنلوب فنمضي مأجورين، وثق أيها الشيخ المهيب الخرف أن نبوءاتك لن تفزعنا، بل هي تضاعف سخطنا عليك وبغضاءنا لك، ألا ما أطيب الإقامة هنا! لتزدد بنلوب عنادا؛ فإنا لن نزداد إلا جلادا.»
ونهض تليماك فقال: «على رسلك يا يوريماك، وعلى رسلكم أيها العشاق جميعا، لقد أرسلتها كلمة حق فلم تستمعوا لها، أبدا لن أضرع إليكم مرة أخرى. الآلهة بيني وبينكم، والإغريق أجمع أعلم بأمري وأمركم، غير أن لي طلبة إليكم بودي لو أنلتموني إياها؛ فهل تسمحون لي بمركب وعشرين بحارا فأقلع من فوري هذا إلى بيلوس ثم إلى أسبرطة، عسى أن أسمع خبرا عن أبي، أو أتلقف نبوءة من سيدة الأولمب الذي بيده ملكوت كل شيء. إني إذا أيقنت أن أبي لا يزال حيا فقد أوفق في العثور عليه ولو بعد حين، أما إذا استيقنت من هلاكه فإني عائد إلى إيثاكا فمقيم له نصبا يتفق وهذا المجد الباذخ والذكر التليد، ثم يكون لي مطلق الحرية في منح أحدكم يد أمي فتكون زوجه المخلصة إلى الأبد، بعد أن أتم لأبي كل المراسم الجنائزية؛ لتقر روحه العظيمة وتسكن إلى ربها في ظلال هيدز.»
7
وكان في المجتمعين رجل تبدو عليه مخايل النبل، وتتقد في رأسه جمرات المشيب، تهالك على نفسه حين وقف ينافح عن تليماك، فإذا هو الشيخ منطور الذي كان أوديسيوس قد استخلفه على أهله قبل إبحاره إلى طروادة لصداقة قوية كانت تجمع بينهما. قال منطور: «اسمعوا إلي يا أهل إيثاكا، ما لكم اليوم قد نسيتم آلاء ملككم أوديسيوس عليكم، وهو الذي كان يرعاكم كأب، ويغدق عليكم من فيضه العميم؟ ما لكم قد تقاعستم دون هؤلاء العشاق الذين يذهبون بخير مولاكم ويأكلون مال ابنه بغير الحق، وهم قل وأنتم كثر، آمنين مطمئنين، لا يرهبون أوبة مفاجئة من البطل الشريد؟»
وهاجت كلمة الرجل كوامن العشاق فهب أحدهم وهو ليوكريتوس يقول: «رويدك يا منطور! أيها الثرثارة العجول، كيف تجرؤ أيها الرجل فتثير الشعب على العشاق وهم سادتك؟ هل أعجبتك كثرتهم يا منطور؟ إذن فأبشر بعجزهم دون ما ابتغيت، وثق أن ملك إيثاكا نفسه لن يستطيع معهم شيئا إذا حاول إخراجهم من بيته هذا - إذا قدر له يوما أن يعود - إنه إذا فعل فسيذوق وبال أمره، ولن تنال منا حماقاتك ولا نبوءات هاليتير، وبنلوب نفسها لن تسر بأوبة أوديسيوس، ولكن اسمع أيها الشيخ، إنه لن يضيرنا أن يذهب تليماك فيذرع البحر باحثا عن والده، وله أن يتخير من السفن ما يشاء.»
وتفرق القوم وأهرع العشاق إلى خيامهم، وانقلب تليماك إلى سيف البحر، حيث وقف فوق صخرة ناتئة يناجي مينرفا: «أيها الربة المباركة، يا إلهة الحكمة مينرفا، يا من كنت أمس ضيفة مكرمة تحت سقف هذا البيت أصلي لك - أنا تليماك التعس - وأبتهل أن تباركيني وتسددي خطواتي، وأن تكوني رائدي الأمين في عباب هذا البحر، وأن تشدي أزري وتكوني معي إلبا على هؤلاء الفساق العرابيد، وأن تشرقي في ظلماتي البعيدة، وأن تحلي أمنا وسلاما علي. يا مينرفا، يا مينرفا، استجيبي يا ربة العدالة.»
واستجابت مينرفا وأقبلت في صورة الأمين منطور حتى كانت قبالة تليماك، ثم شرعت تكلمه كلمات هن أروح من أنفاس الفجر، وأندى من نسمات الورد، وأعذب من قطرات الندى: «السلام عليك يا تليماك، السلام عليك حين تثبت أنك ابن أوديسيوس الوفي، وفرع دوحته الوارف، وحيث تبدو فيك بدوات من حوله وطوله وقوة بأسه، وحين تقلع على بركة السماء، وفي عناية الآلهة ورعاية سيد الأولمب، في رحلة لن تكون عبثا. أنت ابن أبيك يا تليماك، أتى بك من بنلوب، وآية ذلك هذه الروح القلقة التي تشيع فيك من أجله، وهذا الجبروت الذي هو نفحة منه، وذاك الصوت الجبار الذي يتلجلج في فمك كأنه فيض من لسانه، وذلك الذكاء الوقاد الذي هو قبس من ذهنه العظيم ... بشراك يا تليماك! لا يحزنك خبال أعدائك؛ فقد أوشك القضاء أن ينقض على رءوسهم فيحطمهم. أنا، أنا هذا الشيخ المهدم، صديق أبيك وأمينة منطور، سأكون معك، وسأخدمك، وأسهر عليك، وأفديك، ولكن لتمض الآن فلتعد للرحلة ما هو حسبها من زاد وعتاد، ونخبة أولي بأس من رجالك الأقوياء، وسأنتقي أنا نفسي أشدهم مراسا وأصدقهم عزيمة. امض على بركة الآلهة، امض لا وقت لدينا فنضيعه، هلم.»
وسكتت مينرفا، ولكن حرارة كلماتها أشرقت بالآمال في نفس تليماك، فذهب وقلبه يخفق بألف أمنية إلى القصر؛ حيث رأى العشاق يذبحون ويعدون نار الشواء، وحيث قفر أنتينوس للقائه ساخرا مستهزئا: «تليماك! ناشدتك الآلهة إلا ما شاركتنا غداءنا واطرحت بغضاءك هنيهة! هلم تحس من هذه الخمر قرقفا أيها الصديق، لا يشغلك أمر هذه الرحلة؛ فقد أمرنا أن يعد لك الآخيون سفينة عظيمة، وقدرا من الزاد كبيرا، وعصبة من الرجال أولي قوة، وستبحر قريبا فتذرع البحار وراء أبيك. هلم، هلم.»
ولكن تليماك عبس عبوسة قاتمة ثم قال: «أنتينوس! إليك عني فما أستطيع مشاركة خصومي السفلة غداءهم، ولا لي قلب فأشرب النخب من يدك، لا بورك لكم هذا الذبح الذي لا يحل لكم، والذي استبحتموه من غير حق، إذ أنا طفل أحبو! أجل، لأستعجلن لكم الخراب، ولأسعين في حتفكم، ولأذهبن إلى بيلوس فأنتصر إذ عزني النصر في إيثاكا، أيها الذئاب، حتى سفائني وعتادي تنكرونها علي.»
وكان اللئيم قد أمسك بيمين تليماك كالمصافح المستهزئ، ولكن تليماك جذبها ساخطا، وترك الكلاب تغمزه وتلمزه، وتستهزئ بهذا العون الذي يرجوه من بيلوس، وتلك الجحافل التي يأمل أن يجردها عليهم من أسبرطة ... «ومن يدري؟ فقد يهتدي إلى أيفير المثمرة فيجد في أعشابها بقلة يدس لنا منها في كئوسنا فتريحه منا»، «بل من يدري؟ فلقد يبتلعه اليم كما ابتلع أوديسيوس من قبل، وتكون هناك الطامة، إنا إذن نقتسم هذا المتاع وتلك الضياع، ثم نمهر أحدنا الذي تختاره بنلوب بعلا لها بهذا القصر المنيف.»
تركهم تليماك ومضى قدما إلى غرفة أبيه بالطابق العلوي، حيث كنوزه التي لا تقدر من عدة للحرب، وذهب مدخر، وخمرة معتقة، وروح أذفر، وخز وديباج، ودر وجوهر، ومغافر
8
أعدت لليوم المنتظر؛ يوم يعود أوديسيوس فيظفر ويقهر، ويطهر بيته من ذاك النفر.
ووجد عندها حارستها يوريكليا فصاح بها: «ربيبة يوريكليا، هيا صبي من خمرك في زقاقي من مدامتك التي ادخرتها لأبي. لا لا، ليس من صفوتها يا ربيبة، احتفظي بصفوتها له، املئي اثني عشر دنا، وهيئي عشرين جوالقا من دقيق، هيا، أعديها كلها لتحمل إلى سفينتي بعد أن تنام الملكة؛ لا يعلمن أحد بأمر رحلتي إلى بيلوس وأسبرطة، حتى ولا أمي، سأرحل ثمة، سأتسمع أخبار.»
أورورا ربة الفجر في الميثولوجية اليونانية وإحدى تابعات أبوللو.
وصمت تليماك هنيهة، واستعبرت ربيبته يوريكليا، وأرسلت هذه الكلمات على أجنحة من الحنان، وفي أنسام من الرحمة: «رويدك يا بني، أي سفر وأي نوى؟! لقد انتهى أوديسيوس وانتهى معه كل شيء، وهو اليوم رفات سحيق في رمس عميق في بلد لا نعرفه، أتسافر يا تليماك ليأتمر هؤلاء الذئاب وقد يسلطون عليك من يغتالك، ثم يستصفون كل مالك بعد ذلك؟ حاشا يا بني، لتبق معنا نحن الذين أحببناك واصطفيناك، فيم تذرع عباب هذا البحر ولا رجاء لك في مطمح، ولا ثقة لك في شيء؟»
وأجاب تليماك في رفق: «رويدك أنت يا ربيبة، إني لم أعتزم شيئا من تلقاء نفسي؛ إنها السماء هي التي توحي إلي، ولكنني أستحلفك بكل أربابك ألا تقصي شيئا مما اعتزمته على أمي إلا بعد أحد عشر يوما أو اثني عشر يوما من رحيلي؛ فإنها لو علمت بسفري لأظلمت في عينيها مباهج الحياة ، وذهبت نفسها علي حسرات.»
وأقسمت يوريكليا بكل أربابها، وانثنت تهيئ دنان الخمر وأحمال الدقيق.
أما مينرفا، أما ربة العدالة والحكمة الخالدة، ذات العينين الزبرجديتين، فقد يممت شطر البحر وقصدت إلى المرفأ، حيث لقيت تويمون بن فرونيوس سيد الملاحين، سألته إحدى جواريه المنشآت فأعد لها واحدة من خيارها، وما كادت ذكاء تلج في خدر الأفق، وما كاد الشفق يبكي فيصبغ بدموعه جبين السماء حتى كان الملاحون قد هيئوا القلوع ونشروا الشراع، وخبروا مجاديفهم، وأحضروا عددهم، وتزودوا من السلاح، وكانت مينرفا نفسها تستحثهم؛ فسرعان أن تهادت السفينة ورقصت نشوى فوق هامات الثبج.
وذهبت مينرفا في صورة منطور وفي طيلسانه، فأشرفت على عصبة العشاق، وتمتمت بكلمات فانتشر الظلام فوق خيامهم، ولعب النعاس ملء جفونهم، وكانت الكئوس لا تزال تقهقه في أيديهم، فسقطت عن غير عمد لتسقي الأرض من تحتهم شرابا.
وطفقوا، تحت طائف الكرى، ينسلون إلى خيامهم ...
ريعت أفئدة العشاق وأخذوا يتخافتون.
وأدلفت مينرفا نحو القصر لتلقى تليماك: «تليماك، هلم، البدار! أنت هنا وكل رفاقك في الفلك المشحون ينتظرونك! هلم، يجب ألا نضيع وقتنا سدى.»
ونهض تليماك وسارت مينرفا، وسار هو في أثرها حتى كانا عند سيف البحر وحتى أشرفا على السفينة. «مرحبا يا رفاق، هلموا فاحملوا هذه الدنان وتلك الأحمال إلى السفينة، لا أحد يعلم أمر رحلتنا حتى ولا أمي، إلا ربيبتي.»
وامتثل الملاحون أمر سيدهم، ثم تقدمت مينرفا فركبت السفينة ومن ورائها ابن أوديسيوس، وجلست هي عند الدفة، ونشط البحارة فهيئوا المركب. وحدجت المغرب ربة العدالة بعينيها الزبرجديتين فهبت النسمات رخاء، ورقصت تحتها الأمواج من طرب، وانتصب تليماك واقفا يحث رجاله، واضطرب الماء تحت السفينة واصطخب، وصب القوم دنانا من الخمر تقدمه للآلهة وقربانا لمينرفا وتحية لا تبيد.
واحلولك الليل وتدجى غيهبه، ثم انجاب ظلامه عن فجر مبين!
في بيلوس؛ تليماك يسائل نسطور عن أبيه
برزت ذكاء من لجة المشرق فصبغت آرادها
1
الذهبية جبين الأفق النحاسي، وسكبت الأضواء الجميلة لتهدي إلى السبيل السوي، وألقت السفينة مراسيها تلقاء بيلوس - مدينة نليوس -
2
حيث وجدوا القوم على الشاطئ يقربون القرابين باسم بوسيدون ذي الشعر اللازوردي، وقد جلسوا في صفوف تسعة، وفي كل صف خمسمائة شيخ عنيد، وذبحت كل فئة قرابينها؛ تسعة عجول سمان ذوات خوار فأكلوا الحوايا،
3
وضحوا بالسواعد والأفخاذ، ثم أقبل تليماك وبين يديه مينرفا تتهادى وتقول: «تليماك! تشجع يا بني، ولا تجعل للاستيحاء سبيلا إلى نفسك، وتقدم إلى أمير هذه البلدة الصنديد نسطور؛ فقد تكون لديه أخبار عن أبيك، وقد يجلو لك الشكوك التي تخامرك، وثق أنه لن يخفي عليك من أمره خافية؛ فقد تقدمت به السن، وهو اليوم أحكم الناس.»
ويقول تليماك: «أواه يا منطور، ما أحسبني أقوى على لقاء الرجل، وأنا من تعرف من قلة الشأن ورقة الحال أنا الفتى الحدث، أنى لي بقاء الشيخ ذي التجاريب؟»
وتجيبه ذات العينين الزبرجديتين: «لا عليك يا بني، إن هي إلا كلمات تقولها وعلى الله قصد السبيل، العالم كله يعرف أنك نشأت في ظروف قاهرة ما كان لك بها يدان.»
ودلفت مينرفا، ودلف في أثرها تليماك، حتى كانا في وسط القوم، وحيث جلس نسطور العظيم بين أبنائه، وحيث اشتغل أهله بالشواء، وهب الجميع للقائهما، وتقدم ابن نسطور الأكبر بيزسترانوس، فصافحهما هاشا، وتلقاهما باشا، وأجلسهما.
فوق الفراء المبثوث إلى جنب أبيه، وأخيه الأصغر تراسميديس، وقدم لكل مضغة من حوية، ثم كأسا ذهبية من خمر معتقة، تذوقها قبل أن يحيا بها، ثم قال مخاطبا مينرفا: «مرحبا بك أيها الضيف المكرم، لقد شرفت في عيد نبتيون، وبودنا لو أفرغت باسمه ما في هذه الكأس من خمر صلاة له وزكاة، ونرجو لو أشركت في التقدمة زميلك، فما أحسبه إلا محبا للآلهة خابتا لها.»
وتبسمت مينرفا، وتناولت الكأس في وقار، وأرسلت هذه الصلاة باسم رب البحار: «نبتيون العظيم، تقدس اسمك، وأحاط باليابسة ملكوتك ... يا منقذ الضالين، ومغيث المتضرعين، أدرك بلطفك التائبين إليك، ونجهم من دأمائك ببركة أسمائك، مولاي وتقبل من نسطور ومن ذريته، وتقبل من جميع أهل بيلوس أضحياتهم، ثم تفضل يا مولاي فسدد خطى تليماك وخطاي إلى ما أقلعنا فوق هذا المركب الشاحب من أجله؛ آمين آمين!»
وتناول تليماك الكأس بدوره، ثم أفرغ ما فيها وتمتم بصلاة قصيرة، وما كاد يفرغ حتى تفرق المدعوون من أهل بيلوس طاعمين شاكرين، إلا مينرفا وصاحبها إلا نسطور وولديه. ثم قال نسطور: «أما وقد فرغنا من غدائنا فماذا أيها الوافدون؟ من أنتم؟ ومن أين حملكم هذا البحر؟ أتجار أنتم؟ أم قرصان تملئون الشطآن ذعرا وفزعا؟»
واستجمع تليماك شجاعته، ونفخت فيه مينرفا من روحها، وتكلم فقال: «على هينتك يا ابن نليوس العظيم يا فخر هيلاس، إني أنا ابن صديقك وصفيك أوديسيوس، سعيت إليك من أقصى الأرض أسائلك عن أبي، أبي صفيك وخليلك الذي صال معك تحت أسوار إليوم وجال، ثم لا أحد يعرف من أنبائه اليوم شيئا، لقد انتهت إلينا أخبار الأبطال اليونانيين جميعا، وعرفنا مصارعهم إلا إياه؛ أين رقد؟ وأنى ثوى؟ وأيان قرت رفاته إن كان قد شالت نعامته، أو مضى على وجهه في الأرض إن كان لا يزال حيا ... إن الآلهة نفسها لا تشاء أن تدلنا من أخباره على أثر، ولشد ما أخشى أن يكون قد ثوى هناك؛ في أعماق مملكة نبتيون مع الجميلة أمفتريت؛
4
لذلك سعيت إليك يا فخر هيلاس؛ كيما تحدثني عن أبي، وكيما تذكر لي بعض ما تعرف عما ألم به إن كنت قد شهدته، أو تقص علي ما عسى أن تكون قد سمعته من بعض حاشيتك التي تجوب هذه البحار، قل، تحدث يا نسطور ولا تخف عني شيئا، قل؛ إني أستحلفك بكل ما كان يفتديكم به في ساحة اليوم أن تقص علي أنباءه؛ لقد كان يحبك ويجلك ويوقرك، فاجز ابنه بعض ذلك.»
وكأنما رأى نسطور حلما لذيذا فقال: «ويحك أيها الصديق الشاب! ما أروع ما هجت ذكريات الماضي المفعم بالأشجان! ذكريات السادة الذادة والمغاوير الصناديد، الذين سقطوا تحت أسوار إليوم العتيدة فأرووا ثرى الميدان بدمائهم، وسطروا آية المجد بمهجهم؛ آية أخيلوس يا سليل الآلهة، وبتروكلوس يا معجز الأنداد والأقران، وأجاكس، أجاكس الذي كان أمة وحده ، لقد رقدوا جميعا تحت قلاع بريام الجبار الشيخ، ورقد معهم ولدي، يا ولدي، أواه يا قطعة قلبي، وفلذة كبدي، وثمرة حياتي وسؤددي! يا أشجع الشجعان يا أنتيلوخوس، أية قصة وأية مأساة؟! يرعاك الله أيها الشاب المحزون، أنى لي أن أقص عليك أحداث سنين تسع كانت هموما متصلة وأحزانا فاجعة وآلاما تتسعر في جميع القلوب؟! أي لسان ذرب يقص فلا يمل؟! وأي مقول رطب يحكي وما يعيا؟! إلا لو أنك أقمت تسمع الأعوام الطوال فما أحسب القصة تنتهي، القصة التي لم تجد فيها شجاعة الألوف لولا خدعة أوديسيوس وحيلته، وطول أناته وهمته، ولكن حدثني بربك أيها الشاب، أئنك حقا لولد أوديسيوس؟ أجل، إنك بملامحك وقسماتك غصن دوحته، وإنك بكلماتك العذاب عسلوج أرومته، أوه أوديسيوس، يا رفيق الشباب وحبيب القلب، لشد ما تعتلج في النفس تلك الخاتمة الهائلة التي قضاها على الأرجيف
5
سيد الأولمب غب انتصارهم وقبيل أوبتهم! لقد حنقت مينرفا على ولدي أتريوس إذ تنازعا، فقال قائل منهما: نضحي لربة العدالة عند سيف البحر تلقاء إليوم، ولكن الآخر أبى وأبحر على أن يقدم لها القرابين في آرجوس، يا للتعسين؛ أجاممنون البائس، ومنلوس المسكين! إنهما لم يصليا لمينرفا فحاق بهما غضبها، وعبثا حاولا بعد ذلك أن يترضياها، اختلف الأخوان ونام الجند حتى مطلع الفجر، ثم أقلع نصف الأسطول في موج ثائر مصطخب من غضب الآلهة بقيادة أجاممنون، وما هي إلا سويعات حتى هدأ اليم ونام الموج، وبلغنا تندوس فذبحنا الأضحيات باسم الآلهة، وسبحنا لرب البحار نبتيون فتطامن العباب، ولكنا ما كنا ندري ما تنسجه يد جوف
6
حولنا، بل لم يكن يخامرنا أقل شك في وصولنا إلى الوطن سالمين؛ ذلك أن أوجه النظر اختلفت ثمة، ونشب بين القادة نزاع في الرأي؛ هل يقلعون من تندوس؟ أو يتلبثون بها حتى تنجلي العاصفة التي شرعت تهب في عنفوان وشدة؟ وهنا آثر ملاحو أبيك أن يعودوا أدراجهم بسفائنهم إلى طروادة؛ وذلك مجاملة للقائد العام، بيد أني لم أر هذا الرأي، بل فررت من العاصفة بسفائني إلى جزيرة لسبوس ولحق بنا ديوميد، ثم وصل منلوس في أثره وأرسينا ثمة، وانتظرنا إذنا من السماء، أو قل بارقة من الآلهة، نقلع بعدها. وكانت العاصفة تشتد وترقص فوقنا ومن تحت أساطيلنا، فلم نر بدا من المجازفة وإلا تكسرت جوارينا على الصخور وفوق الأواذي. يا للهول! لقد بلغت قلوبنا الحناجر قبل أن نصل إلى جيريستوس، حمدا لك يا نبتيون وثناء عليك، وقل أن نذبح باسمك ألف قربان من كل عجل جسد وكبش حنيذ، ولقد فاز ديوميد فوصل بجنوده سالما على آرجوس، وكذلك فاز الجبابرة الميرميدون، جنود أخيل، بقيادة شبله العظيم نيو بتوليموس، فوصلوا إلى أوطانهم غانمين، ووصل من بعدهم فيلوكتيتيس، كذلك وصل أجاممنون وليته لم يصل، لا ريب أنك سمعت بما حاق به، لقد قتله المجرم إيجستوس،
7
ولكنه دفع روحه ثمنا لفعلته، إن العيش لم يطب لابن أجاممنون حتى ثأر لأبيه، فانقض كالصاعقة على قاتله وغاله بيده، يا للفخار أيها الصديق الشاب حيني، تنتقم لأبيك فتسجل اسمك في سجل الخالدين!»
وشاع العجب في نفس تليماك، فقال: «ويك نسطور! إنه سيكون انتقاما عادلا بحق السماء، وستتغنى الأجيال القادمة بقصته، وسيرويه الخلف عن السلف كم ذا وددت لو مكنت لي الآلهة في أعناق هذه العصبة الفاجرة من العشاق الآثمين الذين يدلون علي بعددهم وعددهم، والذين يقذفون في وجهي بالإهانة تلي الإهانة. وا أسفاه! ليت شعري لم لا تؤيد الآلهة حقي على باطلهم؟ لقد نفد اصطباري وكلت حيلتي، فماذا أعمل؟»
وقال نسطور: «أيها الصديق، لقد أذكرت مني غافلا. ويحك تليماك! لقد تناقل الناس ما كان من حماقة هذه الطغمة التي تستبيح عرض أوديسيوس وتستنزف ثروته، ولكن من يدري هل أمنوا أن يعود يوما فيستأصل شأفتهم ويديل منهم وتكون له الكرة عليهم؟ لقد كان أبوك العظيم حبيب مينرفا وصفيها، وهي لا بد آخذة بناصرك كما أخذت بناصره من قبل، وهي لا بد مدركتك وشيكا، وحائلة بين أعدائك وأعداء أبيك، وبين هذه الزيجة المجرمة.»
ويجيب تليماك: «ألا من يدري؟ إنه لا أمل في ذلك قط، آه أيتها الأحاسيس الغريبة التي تجيش في قلبي! الآلهة فقط هي القادرة على تحقيقك بمعجزة.»
تفرق القوم وأهرع العشاق.
وهنا حدجته مينرفا بنظرة هائلة من عينيها الزبرجديتين، وقالت له: «تليماك! أية كلمة هائلة زل بها لسانك؟ ما أيسر على الآلهة أن تقول للمستحيل: كن فيكون! أنا نفسي كم تجشمت أهوالا في أسفاري ثم عدت بعناية أربابي سالما إلى أرض الوطن! بل كم من أناس ظنوا أنهم نجوا من الموت في يوم غشيهم بموج كالظلل، فلما وصلوا إلى البر حاقت بهم مناياهم كما حاقت به منيته أجاممنون، حين خر صريعا بيد إيجستوس الأثيم ويد زوجه الملكة
8
الغادرة الفاجرة الزنيم! حقا إن الآلهة لا تملك أن تحول بين المرء وبين المنون ما دام قد جاء أجله مهما يكن حبيبها وأعز عبادها عليها.»
وعبس تليماك عبوسة خفيفة وقال: «مهما يكن من الأمر فلندع هذا الآن يا منطور، إنني لا أمل لي مطلقا في عودة أبي، ولكنها أقضية من السماء ومقادير أن أذرع وراءه البحار، وأن أعود فأسأل فخر اليونان نسطور، اللبيب الأريب الذي حكم كما هو مأثور أجيالا ثلاثة، والذي يتألق في عينيه سناء الآلهة ... أعود فأسائله كيف قتل أجاممنون؟ وكيف تهيأ لإيجستوس أن يقتله، وهو من هو أعلى منه نسبا وأعز حسبا وأشرف قدرا؟ وأين كان منلوس الملك شقيق أجاممنون؟ ألم يكن قد عاد بعد إلى أرض الوطن؟ أم كان لا يزال يطوي الآفاق، فشجع ذلك إيجستوس ونفخ في قلبه؟»
وقال نسطور: «رويدك أيها الصديق الشاب؛ فإني قاص عليك نبأ ما لم يأتك به علم؛ تالله لو لم يقتل إيجستوس قبل عودة منلوس ما أقيم على رفاته جدث، وما بكت عليه عين، ولألقي بدنه النجس لكلاب البرية وطير الفلاة تنوشه وتمزقه وتغتذي به جزاء فعلته الشنعاء وجرمه الذميم وخطيئته التي لا تغتفر، أصغ إلي؛ لقد أناب منلوس عنه حارسا أمينا يسهر على أمور المملكة، ذاك هو أتريدس الحميم الذي تغفله إيجستوس، واتصل بمولاته سرا وهو لا يدري، واستطاع أن يدبر معها هذه المؤامرة الشنيعة التي انتهت بنفي الحارس الأمين ثم قتله في برية موحشة غالبته فيها السباع الضارية والأوابد
9
الكاسرة، حتى إذا خلا لهما الجو أسلست له المملكة القيادة فحكم وساد، وطغى واستبد، وسلط على البلاد أعواما سبعة طوالا ... كل هذا والسماء ساهرة لا تغفل، فقد عاد أورست ابن الملك الغائب وابن الملكة الفاجرة، فأنقذ عرض أبيه وقتل الوحش اللئيم الذي دنس شرف المملكة ولطخ بالوحل هذا المجد الأثيل، ثم قتل أمه ... أجل، قتل أمه وجمع حوله الأرجيف البؤساء يحتفلون بهذا النصر ويصلون للآلهة التي أنقذتهم من ذاك الشر، وبينا هم في أفراحهم وانشراحهم إذا بالملك العظيم يصل بأساطيله بعد رحلة طويلة محفوفة بالمخاطر؛ فلقد أبحرنا (أنا ومنلوس) من طروادة معا، وما كدنا نبلغ صنيوم،
10
أول مرافئ أثينا، حتى وقع ما لم يكن لنا بحسبان؛ ذلك أن رب الشمس أبوللو غال بسهامه التي لا تطيش ربان الأسطول العظيم فرونتيس، فاضطر الملك أن يلقي مراسيه حتى يصلي على صديقه ويقيم الشعائر على جثمانه، ثم أقلع وما كاد حتى اضطرب البحر وفغرت اللجج أفواهها، وتدافع الموج حول الأسطول كالجبال، وعتم الجو، وغامت السماء، وانقضت الصواعق، فانشعب الأسطول، وتفرقت سفائنه وانشطرت وحداته؛ فبعضها شرق، وبعضها غرب، وبعضها يمم شطر سيدورن عند كريت، وبعضها اتجه برغمه نحو شطآن مصر، وبعضها غاص إلى الأعماق، وخمس فقط، وصلت بعد طول الجهد إلى هنا.» «بني، أيها الصديق الشاب، أخلق بك أن تذهب من فورك إلى منلوس فتسائله عن أبيك؛ فلقد لقي الأهوال في البحر، ولا ريب أنه سمع كثيرا مما جرى فيه من مختلف الأمم في رحلته المشئومة. هلم، انطلق إليه، وإن لم تسعفك سفينتك فإني ممدك بكل ما تحتاج من مركب البر أو البحر، وها هم أولاء رجالي معك أينما توجهت، بل ها هم أولاء أبنائي، ليصحبك أحدهم أو كلهم إلى منلوس؛ فإن عنده الخبر اليقين.»
وكانت الشمس قد توارت بالحجاب، والليل قد نشر ظلامه فوق الطبيعة المنهوكة الخامدة، فنهضت ابنة زيوس العظيم، مينرفا الخالدة، وهي لا تزال في صورة منطور أمير البحر وطيلسانه، فقالت: «مرحى يا فخر هيلاس! لقد قلت حقا وتكلمت صدقا، هلم البدار البدار، قطعوا ألسن القرابين
11
وأريقوا الخمر باسم الآلهة وباسم نبتيون قبل كل شيء.»
وانتشر الولدان بين المدعوين يصبون الماء على أيديهم بعد إذ أدوا التحية الخمرية المقدسة لأربابهم، ثم تفرقوا شيعا ونهض تليماك وصاحبه لينصرفا، لولا أن صاح بهما نسطور: «حاشا يا رفاق، أنتما ضيفي
12
فكيف تبيتان في سفينتكما تحت طل الليل، وهذا بيتي فيه كن لكما وفراش وثير، وفيه - والحمد للآلهة - خير كثير، وهؤلاء أبنائي سماركما، وهم ثمة طوع لكما.»
وشكرت مينرفا للملك عطفه ثم قالت: «بوركت أيها الملك، ليبق تليماك هنا، ولأمض أنا إلى البحر لأسهر على صوالح مركبي، ولأطمئن بحارتي؛ فكلهم أتراب تليماك، وكلهم متطوعون لخدمته وفاء وحبا، وليس يجمل إلا أن أبيت أنا معهم تلك الليلة، على أن نقلع صبيحة الغد إلى كوكون، ولتأذن فتمنحه عربة وزوجا من صافنات جيادك ليلحق بنا ثمة، يصحبه أحد أبنائك ما دمت قد عرفت فيه ابنا لأعز أحبائك وأوفى أصدقائك.»
سفينة تليماك التي أخذ يعدها في رحلته إلى بيلوس وأسبرطة.
ثم حدثت المعجزة؛ فإنه ما كادت مينرفا تتم كلامها حتى انتفضت انتفاضة هائلة، وتحولت من صورة منطور أمير البحر إلى نسر عظيم مهوب اللفتات، ما عتم أن ضرب الهواء بخافيتيه حتى حلق في السماء وغاب في لانهايتها بين دهش القوم وشديد حيرتهم.
وتناول نسطور العظيم يد تليماك وظل يقلب فيه بصره، ثم قال: «أيها الصديق، لشد ما عظمت منزلتك وسمت مكانتك، حتى لتكون في رعاية الآلهة وعناية السماء! هذه دون ريب ابنة سيد الأولمب - الكريمة مينرفا - التي ما وقرت أحدا من أبناء هيلاس كما وقرت أباك.» «ولكن أنت، أنت يا مليكة العدالة ضرعت إليك أن تتلطفي بنا جميعا! امنحيني بركاتك؛ أنا وأبنائي وشعبي، اكتبي أسماءهم في الخالدين، وسنصلي لك ونذبح باسمك خير بقرة، لا ذلول، تثير الأرض ولا تسقي الحرث، مسلمة لا شية فيها، منضورة بالورد محلاة القرنين بالذهب.»
وقبلت مينرفا صلاته ولبت دعاءه ونهض وفي إثره أبناؤه وأحفاده، ففتحت أبواب القصر، وتقدمت ندمانة الشراب، فقدمت إليه كأسا من خمر لها نسب من عهد أولمب، فأفرغها في الأرض تحية لمينرفا، واقتدى به أبناؤه فأفرغوا كئوسهم ثم مضوا إلى غرفاتهم، ومضى الملك مع تليماك إلى مخدع وثير، وفراش من حرير، وأمر ابنه بيزستراتوس فقام معه، ثم ذهب حيث وجد الملكة في انتظاره.
ونشرت أورورا
13
غلالتها الذهبية في مشرق الأفق، فاستوى نسطور على عرشه المرمري المتألق عند بوابة القصر، حيث كان أبوه تليوس يجلس كإله للنظر في صوالح العباد، وأقبل بنوه الستة ومعهم تليماك الذي جلس إلى جنب أبيهم، وتحدث إليهم نسطور فقال: «هلموا يا بني، لنذبح القربان المقدس باسم مينرفا الكريمة التي باركت حفلنا أمس، لينطلق أحدكم إلى الحقل فليحضر ثورا
14
سمينا، وليذهب آخر فليدع رجال تليماك - إلا اثنين - من السفينة، وليمض ثالث فليأت بالصناع الفنان «ليرسيوس» ليجلل قرني القربان بالذهب، وليبق الآخرون هنا ثم لتحضر كل حاشيتنا من النساء ليكسبن الوليمة بهجة ورواء.»
وأطاع أبناؤه الأوفياء وأحضر القربان وأقبل الملاحون الأمناء، ثم قدم الفنان ليغطي قرني البهيمة بالذهب، ثم وافت مينرفا؛ مينرفا نفسها لتشهد الطقوس التي تقام باسمها. وبدأ الفنان عمله فأخذ يرقق صفائح الذهب ويثبتها بمهارة في القرنين الصغيرين، وتقدم أريتوس بن نسطور وفي إحدى يديه باقة كبيرة من الزهر وفي الأخرى سلة من أفخر أنواع الكعك، وتقدم ابنه الثاني تراسيميد وفي يده شاطور كبير ليذبح الثور، ووقف قبالته يرسيوس يتلقى الدم في وعاء كبير، ونهض نسطور الأب فسبح وصلى أمام نار كبيرة مضرمة، وتمتم باسم مينرفا، وقذف في اللظى بكعكتين كبيرتين وبناصية القربان، وبقدر قليل من الماء المقدس. وإذا انتهى الجميع من صلاتهم شمر تراسيميد عن ساعده وجزر القربان، وانكب الجميع يجهزونه، وكانت يوريديس الجميلة المفتان تعنى أشد عناية بالفخذين، فسترتهما بثوب غال من الديباج، وكان نسطور نفسه ينثر الخمر المقدسة والعطور والأرواح، وهكذا أخذ الجميع في شغلهم، وشرعوا يلقون في الجمر بالحوايا، وشرعت بوليكاست تنثر البهار والتوابل. وتهادى تليماك بعد هذا فاستوى إلى جنب الملك، وانتصب الولدان والندامى يصبون الخمر، وبدأ الكل يأكلون هنيئا ويشربون مريئا.
وما كادوا يفرغون حتى أمر نسطور فهيئت الصافنات الجياد لرحيل تليماك، وأحضر القواص عربة كبيرة مثقلة بكل ما تحتاج الرحلة من زاد وعتاد.
وأخذ تليماك مكانه من العربة الأولى، واستوى إلى جانبه بيزستراتوس أشجع أبناء نسطور، ثم سلم تليماك وودع وشكر وأثنى، وجذب أعنة الخيل فانطلقت تنهب الرحب، وتبعد عن بيلوس وتطوي الزمان.
وبلغوا مع مغرب الشمس فيريه حيث تلقاهم رب البيت بالبشر والترحاب، وباتوا عنده حتى أيقظتهم أورورا المشرقة، فواصلوا رحلتهم إلى أسبرطة.
يممت مينرفا ربة العدالة شطر البحر وقصدت المرفأ.
العشاق يتآمرون
وصل الركب إلى أسبرطة بعد أن غور في وهادها وأنجد، وانطلق تليماك وصاحبه من فورهما إلى باب منلوس الملك حيث وجدا - لحسن الطالع - وجوها مسفرة، وجماهير مستبشرة، وموسيقى تصدح، ومنشدين يرددون أناشيدهم ويرسلون أغنياتهم، ووليمة ملكية حافلة اجتمع لها الملك وأبناؤه وخلصاؤه ونداماه، يأكلون ويشربون ويسمرون ويتطربون ... ماذا؟ لقد اجتمع القوم من كل حدب وأقبلوا من كل صوب، يحتفلون بابني الملك؛ بابنه الذي زوجه أبوه من أجمل غادات أسبرطة وأكثرهن وسامة وقسامة وفتنة، ابنة ألكتور العظيم، ثم بابنته المفتان اللعوب الطروب التي رزقها على كبر من هيلين، والتي نافست بجمالها ودلها هرميون ابنة فينوس.
وما كادا يجاوزان الوصيد حتى لمحهما أتيون كبير أمناء الملك، فانطلق إلى مولاه وحدثه عنهما: «إن لهما لمهابة وإن عليهما لرواء، فهل يأذن لهما مولاي أو يأمر فنردهما من حيث أقبلا؟»
وأومأ الملك برأسه الكبير الذي يزيد في وقاره وحسن سمته شعره الذهبي، وأمر أتيون أن يذهب إليهما، فيسير بين أيديهما إليه؛ «إذ كيف يرد عن طعامي الغرباء وقد طعمنا طويلا زاد الغرباء؟»
ودعا إليه أتيون طائفة من الخدم وذهب إلى الوافدين الكريمين فحيا وسلم، وحل اللحم وأناخ البهم، ومضى بهما إلى داخل القصر من طريق يشرف على مكان الحقل وترى منه الجدران التي ازدانت بأحسن زينة، وقبة العرش التي تلألأت في الأنوار الوضاءة والسرج الوهاجة ، ثم لقيتهما فتيات من عذارى القصر فقدنهما إلى الحمامات المرمرية الباذخة، فاغتسلا وتضمخا ولبسا ثيابا ملكية، ثم ذهبا للقاء رب هذه الدار.
وهش الملك لهما وبش، وأجلسهما إلى جانبه على مقعدين وثيرين، وهما في دهش من ذاك المنظر العجب. وأقبلت فتاة فصبت على أيديهما الماء، وذهبت فأحضرت مائدة رائعة منسقة عليها قدر غير قليل من أفخر الأشربات وأشهى الآكال، ووقف خادم آخر يقدم طبقا بعد طبق، وكأسا من ذهب بعد كأس من ذهب، والملك فيما بين ذلك يبالغ في إيناسه لهما والحفاوة بهما، وينظرهما حتى يفرغا من طعامهما فيخبراه عن أمرهما، وكان يتلطف فيقدم لهما قطعا من شوائه بيده. «بيزستراتوس يا صديقي، ما أجمل وما أفخم وما أروع هذا الحفل الباهر، يتألق في الذهب والفضة والعاج والكهرمان ودروع النحاس! أبدا ما ترى العين مثل ذلك، ولا تسمع الأذن إلا عن قصر سيد الأولمب في شعاف جبل أيدا، أية ثروة وأي كنز؟»
وسمعه منلوس الملك فقال: «بني، لا تقرن قصر أحد منا - نحن بني الموتى - إلى قصر سيد الأولمب، وأنت على حق حين ترى أن لا أحد يملك ما أملك أنا من أذخار وكنوز؛ فقد سحت في أقصى الأرض سنين عددا، وجمعت الدرر الغوالي من كل فج؛ من كريت وقبرص، وفينيقية ومصر، ومن أثيوبيا وأيرمبي، ومن صيدا ولوبيه، ورءوس الشاء والوعل هذه؛ الوعل الوحشي السائم، والشاء التي تمدنا بخيرها بغير حساب ... لقد طوفت في الآفاق وتركت في كل منها ذكرى. ولا غرو؛ فقد نبأكم آباؤكم أنباء منلوس الملك الذي دك المعاقل وهدم القصور. ما أنسى لا أنسى هذا القصر العتيد الذي جعلت عاليه سافله بما فيه من أذخار وقنى، وددت لو كان في قصري شيء منها، وود الإغريق لو حصلوا في بلادهم جميعا على بعضها، هناك! هناك تحت أسوار طروادة يا صاح، يا ويح نفسي! يا رحمتا للأصدقاء الأحباء الأعزاء الذين ناموا ثمة! لشد ما أسلي النفس عنهم بالتأسي! لشد ما يندلع الأسى في قلبي عليهم جميعا، ولا سيما صفيي وخليلي وأعز أودائي علي؛ أوديسيوس، أوديسيوس الكريم! ليت شعري يا صديقي فيم شطت بك النوى وطال عليك الأمد؟ أحي ترزق؟ أم ثويت في بطحاء بلقع؟ يا ويح لك ولأبيك الشيخ وزوجك الملتاعة وابنك المحزون اليتيم تليماك، الذي غادرته في المهد ما بلغ الفطام إلى حومة الوغى وحلبة الحمام.»
ولم يملك الفتى دموعه حين سمع هذا الهتاف باسم والده، فنشج نشيجا مؤلما، ثم استخرط في البكاء، وطفق يذري شئونه في طرف ثوبه، بين دهشة منلوس وحيرته وذهول الحاضرين. وانعقد لسان الملك فلم يسأل الشاب عن حاله حتى أقبلت هيلين فجأة، فتلفت القوم ينظرون إلى هذا الرشأ الذي يتثنى مياسا في ظلال من الفتنة كأنه ديانا ربة القوس الذهبية.
واستوت على عرشها المنضد الذي أصلحته يدا أدرستا وعناية أكليب، ثم أحضرت الطرف والهدايا واللهى؛ فهذه سلة من الفضة المزخرفة بالتصاوير هدية من ألكندرا زوج بوليت أمير طيبة عروس المدائن المصرية، وتلك عشر بدر من النضار الخالص، وطستان من الذهب ودنان من الإبريز؛ يقدمها كلها ملك أسبرطة إلى زوجه البارعة الرائعة الهيفاء، ونظرت هيلين إلى الضيفين الغريبين، وسألت زوجها: «ملكي، نشدتك الآلهة أن تخبرني من هذان؟ إن أحدهما شديد الشبه بطفل أوديسيوس، الصغير تليماك، الذي تركه أبوه صبيا في المهد من جراء حرب إليوم المشئومة.»
وقال الملك: «وأنا مثلك يا هيلين، لقد دار بخلدي ما دار بخلدك من أمر هذا الفتى، ألا ما أشبه الساقين والساعدين وتفتير العينين واسترسال اللمتين
1
بما كان لأوديسيوس؟ لقد ذكرت ما قاسى صاحبي من أجلي وفي سبيلي تحت أسوار إليوم، فسرعان ما رأيت الشاب يبكي ويبكي ويبالغ في البكاء، ثم يغلبه حزنه فيخفي وجهه، وفيه روحه، في ثيابه من الهم.»
وانتهز ابن نسطور الفرصة فقال: «حقا أيها الملك إنه هو، ولكنه خجول حيي، ولقد أوشك حياؤه أن يمنعه من لقائك، وقد هاج تباريحه ما ذكرت عن أبيه. أما أنا فإني ابن نسطور صديقك الآخر، وقد أمرني أبي أن أصحب تليماك إلى هنا عسى أن يسمع خبرا عن أبيه الذي ذهب يذرع الأرض ولا يعلم أحد أيان قد ذهب. وهاك ابنه المكلوم يجتر أشجانه، وتطحن فؤاده أحزانه.»
وشده البطل - ذو الشعر الكهرماني - فقال: «يا للآلهة! أهكذا أفاجأ بلقاء ولدي! أنت؟ أنت ابن أوديسيوس الذي شقي طويلا بسببي، وبذل نفسه من أجلي، ولا يزال يناضل الويلات من جرائي؟ كرامة وحبا يا ابن خير الأصدقاء، لو عرفت أنك تسعى للقائي لشدت لك مدينة في آرجوس تتيه على المدائن وتزهى على القرى، ورفعت لك عماد قصر منيف طالما كنت إخاله يؤوينا جميعا فنسعد سعادة لم يحلم بها قوم من قبل ولا من بعد، ونلتذ، أنا وأبوك وأنت وجميع أهلي وأهله، ذكريات الماضي المترع ... آه يا أوديسيوس لقد طاشت الأحلام وذابت الأماني وقست عليك السماء، فحرمتك كل شيء، حتى الأوبة إلى أرض الوطن!»
وأثارت كلمات الملك شجون القوم فبكى تليماك وأذرفت الملكة وانبجس الدمع من عيني بيزستراتوس حين ذكرت طروادة، فأذكرته قتل أخيه تحت أسوارها، ثم قال: «حسبك أيها الملك! لقد تذاكرنا - أنا وصاحبي - جلائل أعمالك فعرفنا فيك المليك الأجل، والمقدام البطل، ولكن ماذا تجدي دموعنا؟ لقد غالت يد الردى أخي وابن أمي وأبي في سبيلك كذلك! ألا تذكر؟ أنتيلوخوس البطل المغوار والفارس الكرار الذي لم تكتحل عيناي برؤيته! أوه يا ابن أورورا الغادر، شلت يداك بما فتكت بأخي.»
جلس نسطور العظيم بين أبنائه واشتغل أهله بالشواء وهب الجميع للقاء مينرفا.
وتعطف الملك فطيب ابن نسطور بكلمات عاليات، وأمر الندمان فصب الماء على أيديهم جميعا، ثم أخذوا في آكالهم، وصبت هيلين قطرات من طيب مذهب للأحزان في كأس تليماك وكأس صاحبه، لا يعرف من يذوقها إلى الأسى من سبيل، وهي قطرات عجيبة أهدتها للملكة زوجة «ذون» الأميرة المصرية بوليدامنا، وكم في مصر من سحر مبين!
وتكلمت هيلين فذكرت ما كان من أوديسيوس يوم التقى الجمعان عند إليوم، وكيف استطاع أن يتسلل مستخفيا في ثياب شحاذ إلى داخل المدينة العتيدة؟ وكيف قابلها في حجرة باريس ليطلعها على خطة اليونانيين؟ وما كان من رجائه إياها ألا تفضحه عند أعدائه حتى يعود سالما إلى معسكره ومخيمه، وأنها برت فلم تنبئ أحدا بوجوده، ثم رأت أن تتنصل من فضيحة فرارها مع باريس فادعت أنها كانت مسوقة إلى ذلك برغمها؛ لأن فينوس كانت قد سحرتها عن نفسها (لما وعدت به باريس من أنها ستهبه أجمل غادات هيلاس إذا هو قضى لها بالتفاحة).
2 «وا خجلتاه! لقد أزرى بي أن أفر راغمة فأهجر فراشي الطهور وطفلتي اليافعة إلى بلاد قاصية لا ناقة لي فيها ولا جمل.»
وأعذرها الملك ثم ذكر أوديسيوس فقال: «أبدا ما رأيت أثبت جأشا ولا أربط قلبا من أوديسيوس، وإن أنسى لا أنسى يوم الروع الأكبر، يوم فكر أوديسيوس وفكر، ثم دبر هذه الحيلة العجيبة؛ حيلة الحصان الهولة الذي قهر لنا طروادة في يوم أو بعض يوم، وقد عيينا بها السنين الطوال. لقد اختبأ داخله فرسان هيلاس
3
الصناديد، وكنت أنا - سقى الله الشباب - واحدا منهم، فما أنسى قط حين أقبلت في عصبة ذوي أيد من مذاويد الطرواديين (إذ هتف بهم هاتف أن الحصان يحمل لهم شرا ويطوي لقريتهم ثبورا)، فجعلت أنت تنادين بأسماء الفرسان اليونانيين واحدا بعد واحد؛ لتري هل اختبأ منا بداخله أحد كما تنبأ بذلك المتنبئون. تالله لقد كدت أرد عليك نداءك حينما هتفت باسمي، وتالله لقد أوشك زميلي ديوميد يرد عليك هو الآخر، لولا أن فطن أوديسيوس فحذرنا وحبس ألسنتنا الشقشاقة التي كادت توردنا موارد الهلاك، لو أن أحدا منا خدع فنبس ببنت شفة، وا حربا! لقد صمتنا جميعا ولكنك عاودت، فما كدت تهتفين باسم أنتيكلوس حتى أوشك المجنون أن يلبي، لولا أن كتم أوديسيوس أنفاسه بكلتا يديه حتى لكاد يزهق روحه، ولم يعفه حتى أيقنا أنك عدت أدراجك وعاد معك القوم المنكرون.»
ثم كان الهزيع الأخير من الليل، فتلطف تليماك واستأذن الملك في الانصراف ليأخذ كل نصيبه من النوم فتأذن، وأشارت هيلين إلى وصيفاتها، فأهرعن إلى مخادع الأضياف فأصلحن فرشها، وأعددن الملاحف والوسائد والحشايا، ثم نهض أمين الملك ونهض في أثره بيزاستراتوس وتليماك، حتى كان في مخدعه، وحتى اطمأن كل في سريره، وناما في حرير وسمور وفي فاقم وفي سنجاب وتهاويل غير ذاك من الرقم ومن سندس ومن زرياب.
4
ونهض الملك والملكة كذلك فدخلا القصر، واستسلما لأطيب الرقاد. •••
وذر قرن أورورا ربة الفجر في المشرق الوردي، فهب الملك وأصلح شأنه، ورف بازيه الأشهب فوقف على غاربه، ثم مضى إلى مجلسه حيث لقي تليماك في انتظاره، فحيا وجلس وبدأ حديثه، فقال: «أي بني! تليماك، أيها البطل وسليل البطل، فيم شددت رحلك إلى هنا؟ إلى رحاب ليسديمون
5
في فلوات البر وسروات البحر؟ ألأمر عام؟ أم لشأن يخصك ويتعلق بشخصك؟»
وأجاب تليماك: «مولاي الملك منلوس العظيم، لقد جئت أتحسس خبرا عن أبي، وأقبلت أحدث عن أعدائه الذين آووا إلى بيته فما يريمون، يستنزفون غلته، ويهلكون حرثه، ثم هم مع ذاك ينافس بعضهم بعضها في كبر وزهو وخيلاء؛ من أجل زوجه يا للعار! إنهم استباحوا كل شيء؛ كل نعمه وكل شأنه، ولم يعفوا آخر الأمر عن عرضه. إني أستجيرك يا مولاي وأضرع إليك أن تخبرني عما تعلم من أمر أبي؛ هل قضى تحت أسوار إليوم؟ أم غالته يد المنون في ركن آخر من أركان الأرض؟ لقد كان خليلك وصفيك وآثر أصدقائك وأعز أودائك عليك، فبكل آلاء ذلك عندك أستحلفك أن تصدقني؛ ماذا تعرف من أخباره؟ وماذا عسيت سمعت من أنبائه؟»
وتنفس الملك تنفسة عميقة وقال: «يا أرباب الأولمب، أبلغت حقارة نفوسهم أن يفضحوا أوديسيوس في عرضه؟ ألا باءوا بما صنعوا، ألا ما أشبههم بهذه الوعلة التي أجاءها المخاض فولدت في عرين الأسد، فلما عاد الأسد إلى عربته لم يبق عليها ولا على أغفارها،
6
حنانيك يا آلهة؛ زيوس، مينرفا، أبوللو!
7
أين هو فيبطش بالجبارين كما بطش بغليوميليد العتي من قبل؟ تالله لقد اقتربت ساعتهم وأزفت آزفتهم، فطب نفسا يا بني، إني منيبك بما علمته عن أبيك من «بروتيوس» راعي الأعماق وكاهن الأغوار.
ضلت بنا الفلك بما نسينا من التضحية باسم الآلهة، فبلغنا شطآن مصر، ورسونا عند جزيرة فاروس بحيث كان في مقدورنا أن نروى من كوثر هذه البلاد التي تجري من تحتها الأنهار، ثم لبثنا ثمة عشرين يوما لا تجري بنا ريح ولا يرفه عنا نسيم، حتى نفد الصبر وفرغ الزاد، وظننا أنه المعاد، لولا أن رثت لنا إحدى عرائس البحر فبرزت إلينا، وكانت لنا غوثا أي غوث، كنت أجلس وحدي في منعرج بأحد أطراف الجزيرة، وكان بقية صحبي وأكثر الملاحين يرتادون الماء بشصوصهم؛
8
عسى أن يحصلوا على سمك طري يكون غذاء لنا، إذ برزت عروس الماء «إيدوتيا» الجميلة، ابنة كاهن الأعماق بروتيوس، وتهادت حتى كانت تلقائي ثم جلست لجانبي وحدثتني فقالت: «أيها النازح الغريب، أكبر الظن أنك مذهوب بك أو أن بك مسا، أو أن طائفا من الجنون قد ألم بك، أو أنك قد آثرت الشقاء السرمدي حيث لصقت بأرض هذه الجزيرة فما تنوي مضيا ولا تلتمس مخرجا ولو هلك كل أصحابك.»
إن الآلهة لا تملك أن تحول بين المرء وبين المنون ما دام قد جاء أجله، مهما يكن حبيبها.
ولم أبال أني شدهت، فسألتها قائلا: «حسبك يا ربة، إني ما لصقت بأرض هذه الجزيرة بأمري، ولا أقمت فيها بمرضاتي، بل كان ذلك قدرا علي مقدورا، ولكن خبري بحقك؛ إذ الآلهة تعلم كل شيء، من من أرباب السماء يحبسني هنا؟ هل مقدور لي أن أرتد إلى وطني فوق غوارب هذا اليم المضطرب.»
وقالت عروس الماء: «أيها النازح الغريب، سأنبئك فأصدقك، إنك الآن مقيم بشطآن مصر التي تقع تحت إشراف أبي بروتيوس، سيد الأعماق ورب المياه المصرية، والمتصل برعايا نبتيون في أغوار هذا البحر، فإذا استطعت أن تتغفله فتقبض عليه وتشد وثاقه؛ فإنه يقفك على أبعاد هذا اليم، والطريق السوي الذي ينتهي بك سالما غانما إلى بلادك، بل ربما - إذا طلبت إليه ذلك - وقفك على كل ما حصل في بيتك من خير أو شر خلال سفرتك الطويلة؛ لأني أعرف أنك صفي السماء وحبيب الآلهة.»
غير أني لم أدر كيف تستطيع أيدي بني الموتى أن تقبض على هذا الإله البحري الكريم ، ولم أخف عليها ذلك بل حدثتها به، وذكرت لها أنه ربما ولى دبره إذا شعر مني بهذه المحاولة فلا أستطيع لقاءه بعدها أبدا، بيد أنها طمأنتني وذكرت أن أباها يخرج من الأعماق في الظهيرة إلى جون قريب حيث يستلقي برهة وسط قطعان كثيفة من عجول البحر، من ذراري هاليسودنا الجميلة، تأتي هي الأخرى في أثره لتنام ثمة ... «فإذا كانت هذه الساعة فإني سأقودك بنفسي إلى هناك، وليكن معك من رجالك ثلاثة هم أشجعهم وأكثرهم قوة، وسأدلكم على منعرج آمن تنتظرون به حتى يكون قد غلبه الكرى، ثم تنقضون عليه فتكبلونه وتشدون وثاقه، وإياكم أن يرهبكم بشيء أبدا، إنه سيكون تارة سيلا رابيا، وتارة سيكون نارا ترمي بشرر كالقصر، كأنه جمالات صفر، وأخرى يكون أفعوانا هائلا ينفث السم، ولكن خذوه أخذا شديدا، ولا تقتلوه فتهلكوه؛ فإنه إن آنس فيكم قوة عاد فانتفض إلى صورته الأولى التي رأيتموه عليها، ثم ترونه بعد ذلك وقد أسلس قياده، وهدأ وتطامن. فإذا فعل ذلك سألكم عن حاجتكم، ففكوا وثاقه وأطلقوا سراحه وسلوه ما شئتم، فإنه مجيبكم عما تسألون.» •••
ثم غابت عروس البحر في طيات الثبج، وتركتني في حيرة مما ذكرت، ثم إني عدت إلى قمرتي في السفينة وعاد كل إلى قمرته، وبعد أن تعشينا وكان الليل قد أرخى سدوله، نمنا نوما لا آمنا ولا قريرا، وبزغت أورورا تموه المشرق بأصباغ الورد، فنهضت أصلي للآلهة فوق السيف الممتد، وأبتهل إلى السماء أن توفقنا لما فيه خيرنا، ثم انثنيت فتخيرت من رجالي ثلاثة هم أصلحهم لهذا الأمر، وهم موضع ثقتي ومعقد رجائي، وبرزت من الماء عروس الماء، وأحضرت لنا أربعة من جلود عجل البحر لنلبسها ونستخفي بها، ولتتم الخدعة على أبيها، وأعدت لنا مهادا في رمل الشاطئ. ثم دلفنا نحوها ونام كل في معهد، وألقت فوقنا ما معها من الجلود المنتنة التي أروحت حتى كدنا نختنق برائحتها لولا أن نثرت العروس فوقنا طيبا عبقا ملأ خياشيمنا وأنقذنا من صلول
9
تلك الجلود.
وتلبثنا نرقب اليم حتى برزت عجول البحر فنامت في الجون، ثم كانت الظهيرة فبرز بروتيوس وطفق يعد قطعانه مبتدئا لغفلته بنا، وكأن إثارة من الشك لم تخامره في حالنا فانطرح ونام، وانتهزنا الفرصة فانطلقنا نعدو إليه، وقبضنا عليه وشددنا وثاقه بحيث لا يستطيع إفلاتا. يا عجبا! لقد انتفض انتفاضة هائلة، فإذا هو أسد غضنفر ذو لبدة، ثم انتفض فإذا هو أفعوان أرقم يتحوى ويتحوى، ثم انتفض فصار نمرا رائعا ذا أنياب، ثم صار خنزيرا بريا، فسيلا رابيا ذا عباب، فأيكة باسقة ذات غصون وأفنان! ولما لم يجد بدا من أن يبدو لنا على حقيقته انتفض فكان على صورته الأولى، ثم قال: «عمرك الله يا ابن أتريوس، أي إله جبار حبسك في مياهنا وسلطك علي، تمسك بي وتشد وثاقي؟ ماذا تريد؟» فقلت له: «حسبك يا رب هذا البحر، أنك كنت بي عليما، لقد طال مقامنا بهذه الجزيرة، ولست أدري أي إله عادل حبسنا فيها ولأي شيء؟» وقال بروتيوس: «ويك يا منلوس، لم لم تصل في تيه هذا البحر حتى تكون تلقاء مصر فتقيم ثمة حتى يثوب إليك رشدك وتصلي للآلهة خاشعا إلى أوطانك؟» وعراني مما ذكر ما عراني، فقلت له: «الحمد لك أيها الإله القدوس! سأفعل، سأفعل كل ما تأمرني به، ولكن قل لي بحق ربوبيتك؛ هل وصل كل رجالنا إلى أوطانهم سالمين كما تركتهم أنا وصاحبي نسطور عند طروادة؟ أم أن منهم من غرق وقتل أو مات حتف أنفه؟»
وكأنما ضاق بي ولكنه قال: «ويك يا ابن أتريوس، ما هذه الأسئلة؟ أتبتغي أن تقف على كل أسراري؟ إذن فاعلم أن أكثر رجالك قد عادوا سالمين إلى أوطانهم، وأن قليلا منهم من مات، ومن هؤلاء قائدان فقط قد قضيا، ولا يزال واحد يذرع رحب هذا البحر، ضالا على غير هدى! لقد هلك أجاكس بما تحدى الآلهة، وبما ادعى أنه ناج برغم السماء من البحر اللجي الذي كان يناوح سفينته، فبرز نبتيون غاضبا وشطر السفينة نصفين بضربة قاضية من رمحه السمهري ذي الثلاث شعب، ثم رطم حطامها بعد ذلك فوق صخرة موحشة. مسكين أجاكس، لقد غص بالأجاج وشرق بقطرات فمات! أما أخوك
10
فقد نجا، لقد دفعته موجة هائلة فوق شاطئ «ماليا»، أرض ذيستيس وإيجستوس، ومن ثمة ركب البحر إلى وطنه آمنا، ألا كم كان أخوك رائعا حين وطئ أرض الوطن، فراح يقبل رمالها ويناجي كثبانها، ألا ليته ما نجا، لقد لمحه أحد الأوغاد من جواسيس إيجستوس فانطلق يخبر سيده الذي أعد كمينا من عشرين رجلا من أفسق رجاله فاغتالوه كما يذبح العجل؟ الأوشاب الفجرة لقد باءوا بما صنعوا، وأبيدوا عن بكرة أبيهم.»
ولم يكد يصعقني هذا الخبر حتى خذلتني رجلاي، وانطرحت أتقلب في الرمال من الغم، وذرفت الدمع مع الحرقة على أخي ولكنه خاطبني قائلا: «انهض يا ابن أتريوس، إنك تبكي ولات حين بكاء! هلم نعد إلى وطنك لترى بعينيك قبره ولتشهد ابنه العظيم أورست ينتقم له، ويستأصل شأفة قاتليه.»
وكأنما سرى عني بما قال بعد، فنهضت وساءلته بعد أن شكرته على ما أنبأني: «إذن من هذا البطل الثالث الذي ما يفتأ يذرع البحر ضالا في رحابه؟»
فقال: «ذاك ابن ليرتيس وسيد إيثاكا «أوديسيوس»، لقد شهدته بعيني حبيسا في جزيرة عروس الماء كاليبسو؛ لقد حل عليها ضيفا برغمه، فلقد تحطمت سفائنه وهويته عروس الماء، وهو لا يزال عندها لا يجد مركبا يحمله إلى وطنه. أما أنت، أيها الملك منلوس، فطوبى لك، إنك ستحيا سعيدا، ثم تنتقل إلى دار الخلد ونعيم لا يفنى؛ جنات الإليزيوم، حيث لا برد ولا زمهرير، ولا يوم عبوس قمطرير، بل تسقى ومن معك من الأناسي من ماء معين لا لغو فيه ولا تأثيم؛ مقام كريم وجنة نعيم، وغادتك الحسان هيلين، يا ذرية زيوس العظيم.»
ثم غاص في اليم، وعدت ورجالي إلى الفلك، وفي القلب لوعة وبالنفس أسى، وتبلغ كل بلقمات، ثم أسلمنا عيوننا للكرى، وكأنما نام أسطولنا في ظلام الشاطئ.
وانبلجت أورورا، فنضرت بالورد جبين المشرق، وهبت أنفاس الصباح المنداة فأهرعنا جميعا وجزرنا الأضاحي باسم الآلهة، وصلينا لها مخبتين، وأقمت لأخي رمسا فوق ثرى مصر الخالدة، ثم هبت الريح رخاء، فنشرنا الشراع وأصلحنا القلوع، وأقلعنا من فورنا إلى أرض الوطن، فبلغنا هيلاس سالمين.
وبعد، فلتقم معنا ها هنا أياما تمرح وتفرح، ونسعد نحن بك يا ابن أعز الأصدقاء، ثم لنعد لك الهدايا واللهى التي تليق بك، ولتعد إلى وطنك على عربة فاخرة تجرها ثلاثة من الصافنات الجياد، ولنزودك بكأس ذهبية تصب منها قرابين الخمر للآلهة فتذكرنا أبدا.
وشكر تليماك واعتذر، وأبدى من الحنين إلى وطنه وما عليه من واجبات وما ينبغي من عودة ابن ملك بيلوس؛ ما برر عنده أن يستأذن في الأوبة. فأعذره ملك أسبرطة وأهدى إليه كأس فيديموس الفضية ذات الشفة الذهبية، الكأس الخالدة التي صنعها الإله فلكان بيديه لينفخ بها ملك سيدونيا.
ما كادت مينرفا تتم كلامها حتى انتفضت وتحولت من صورة منطور أمير البحر إلى نسر عظيم.
وهيا الندل مقصفا فاخرا به جزور وخمر، وأقبلت أزواجهن يحملن الخبز، فأكل الملك ومن معه ورووا.
هذا ما كان من أمر تليماك ومنلوس.
أما ما كان من أمر العشاق آنئذ فقد كانوا يلعبون ويمرحون في بيت ملك إيثاكا يلاعبون الأسنة ويقذفون القرص، ويتصارعون ويمزحون، كانوا جميعا يأخذون في هذا اللهو لتزجية الوقت إلا أنتينوس ويوريماك، فقد جلسا بمعزل يتحادثان، إذ أقبل الفتى نومون ابن فرنيوس وقد تغضن جبينه، وانتشرت على أساريره سحابة كئيبة، فقال: «أرأيت إذ أعطيت سفينتي للفتى تليماك فإني أريد أن أبحر إلى إيليس لأرعى أفراسا لي اثنتي عشرة لا تزال توضع أفلاؤها،
11
متى يرجع من بليوس يا أنتينتوس؟»
وروع الرجلان لهذا الخبر، فلم يكن أحد يعلم أن تليماك قد غادر إيثاكا، بل كانوا يظنون يجتر آلامه وأحزانه في أحد الأدغال النامية في مزارعه. قال أنتينوس: «أحقا أنه أبحر يا تومون؟ وهل صحبه أحد من ذويه؟ وعلى سفينتك سفينتك أنت؟ وهل أبحر عليها بدون إذن منك؟ أم أنت الذي أذنت له بها أول ما طلبها منك؟»
وأجابه نومون: «بل أبحر عليها بإذني، وماذا عساك كنت صانعا لو سألك أمير في مثل بأسائه أن يبحر على سفينتك؟ أكنت ترفض وتتأبى؟ لقد أبحرت معه ثلة من أشجع البحارين كلهم فينان العود غريض الشباب، وقد رأيت معه أمير البحر منطور. ألا كم كان يبدو منطور بهيا وقورا رائعا! تالله لقد خلته - بل أكبر ظني أنه - أحد الآلهة، وكيف لا يكون إلها وقد رأيته بعيني هاتين صباح أمس وهو قد أبحر إلى بيلوس قبيل ذلك، فأنى عاد؟»
وفرغ نومون، وعاد أدراجه إلى دار أبيه، واستولى الذهول على الرجلين وكان العشاق قد فرغوا مما أخذوا فيه من لهو ولعب، وجلسوا يستريحون من التعب، فيمم شطرهم أنتينوس وهو يتميز من الغيظ، وينقدح الشرر من مقلتيه، فقال: «يا أرباب السماء، أفيقوا أيها الرفاق! عمل باهر، باهر جدا، لقد أبحر الفتى تليماك في عصبة من شباب الملاحين ليؤلب عليكم العالمين، ويرسل علينا حسبانا، الويل له! أعدوا لي مركبا وعشرين فارسا من أبسل صناديدكم لأفجأ - بين أواذي ساموس ونتوء إيثاكا - التاعس الذي ذهب يستروح أخبار أبيه ليسعى إلى حتفه بظلفه.»
وتحمس الملأ وعلا هتافهم، وهرولوا إلى الرحبة الداخلية في بيت أوديسيوس يتآمرون، وكان على مقربة منهم الأمين ميدون الذي انطلق بدوره ينقل ما عقدوا خناصرهم عليه من إفك إلى الملكة الباكية المفئودة؛ بنلوب. وما كاد يقص عليها ما اعتزموه من قتل تليماك حتى تضعضعت وتخاذلت ومادت من تحتها الأرض، وتحبست أنفاسها هنيهة، ثم سألت ميدون فيم أبحر ولدها؟ «ألكي ينقرض اسمه من صفحة الوجود؟» وأجابها الرجل: إنه ذهب يتسمع الأنباء عن أبيه. ثم ذهب لطيته، وجلست الملكة المرزأة لدى الوصيد تبكي وتنتحب ومن حولها الغيد الرعابيب والعجوز الشمطاء من خادمات القصر يعولن ويكفكفن ...
قالت الملكة: «ويح لي أيها العذارى! أبدا ما أحسب واحدة من النساء قد لقيت بعض الذي لقيت مما كتبته علي السماء؛ لقد فقدت زجي أسد هيلاس الكريم أوديسيوس الأمير الحلاحل، رجل الفضائل والمروءات، ثم لم يبق إلا أن يرحل عني ولدي، دون أن أعلم أمر رحيله من إحداكن، فكنت أحول بينه وبين ما اعتزم ولو أديت ثمنا لذلك روحي، ولكن، هيا، لتمض دليون - خادمتي الوفية ذات التجاريب - إلى ليرتيس، فلتحدثه عما تآمر الذئاب، وي! لم يبق إلا أن يقتلوا ولدي وسليل أوديسيوس!»
ونهضت يوريكليا مرضع تليماك تنثر دموعها وتقول: «وا أسفاه علي أيتها الملكة، سأعترف بما كان ولك أن تقتليني، أو تبقي علي، لقد زودت الأمير بكل ما أمر من زاد وخمر، وأخذ علي موثقا ألا أبوح بسره حتى يمضي اثنا عشر يوما بتمامها. حتى أنت يا مولاتي، لقد أمرني ألا أعلمك بشيء، فاهدئي يا مولاتي ولا تضاعفي أحزان القصر بحزن جديد، وامضي إلى مخدعك فاستريحي ثمة، ولنصل جميعا لربة العدالة مينرفا باللاس الطيبة؛ أن تصون مولاي الأمير وترعاه، وتكلأه من كل خطر، وليعد إلى عرش آبائه ليحكم ويعدل ويدير شئون البلاد.»
ورقأ الدمع في عيون الحاشية، ونهضت بنلوب فصعدت إلى الطابق العلوي، وأمرت بسلة من الكعك فنفحت بها العذارى قربانا لمينرفا وتقدمة، ثم أرسلت هذه الصلاة: «اسمعي يا ابنة سيد الأولمب، يا مينرفا العادلة، باسم ما ذبح لك أوديسيوس في هذا القصر وما ضحى نضرع إليك ونتوسل بك ونصلي لك أن تصوني ابنه الأمير، وأن ترسلي عبوسة من شواظ غضبك على أعدائه؛ أولئك الأضياف الظالمين، آمين.»
وانهمرت الدموع من عيني الملكة، فاستجابت مينرفا صلاتها لما علا ضجيج القوم وارتفع صخبهم، وكان فيهم شاب نزق التأثت في أذنيه صلاة بنلوب فحسبها أشرفت تناغي وتغازل، فراح يعرض بها في كلمات قوارص، قطعها عليه أنتينوس بتحذيره القوم ونصيحته لهم أن يستعينوا على حزم أمرهم بالكتمان.
وتخير أنتينوس عشرين من خيرة رجاله، ويمم بهم شطر البحر، ثم ركبوا في سفينة أعدت لما اعتزموه من تلصص وقرصنة وفتك إعدادا كافيا، فنقلت إليها الأسلحة، وحملت إليها أحمال الزاد والذخيرة، وأقلعت، لا باسم الآلهة مجراها، ولا سلكت سبيل الرشاد. •••
واضطجعت بنلوب في فراش حشوه فكر وهم، وجاشت في قلبها الوساوس، وطفقت الأوهام تفتك برأسها القلق الحيران بسبب ولدها وما دبر له الكلاب وما كادوا؛ مسكين أيها الأسد، لولا قوتك وجبروتك ما أكثر صائدوك حولك الأحابيل.
وأخذتها سنة من النوم، فأقبلت مينرفا الكريمة في رؤيا عجيبة تواسيها وتذهب عنها طائف الحزن، فتزيت بزي الأميرة المفتان أفتيما، ابنة البطل الكبير إيكاريوس، ثم وقفت عند رأسها وشرعت ترسل هذه الأحلام:
قدر غير قليل من أفخر الأشربات وأشهى الآكال وحفاوة مبالغ فيها.
أهكذا تنامين ملء عينيك الجميلتين يا بنلوب العزيزة؟ ليفرخ روعك، وليصف بالك؛ فالسماء ترعى ولدك، وهو عائد إليك عما قريب، إنه لم يقترف شيئا مما يغضب الآلهة؛ ولذا فهي تكلؤه وترعاه وتحفظه، فقري عينا واسلمي وانعمي.
وتقول بنلوب إذ هي تحلم: «من؟ أفتيما؟ عجبا فيم قدمت يا أختاه وقد ندر ما كنت تلمين بهذا القصر؟ ألتواسيني وتسليني؟ لقد تكاثرت الأحزان على قلبي، وتكسرت النصال على النصال؛ لقد فقدت زوجي، أسد هيلاس وفخر آرجوس وعزي الأبدي، ثم ها أنا ذا أنتفض فرقا على ولدي؛ ولدي الطري الفينان الذي لا قدرة له ولا احتمال، في هذا البحر اللجي، لقد أقلعت به سفينة كأنها تسبح في بحر من دمي وأحزاني، وها قد تعقبه الأشرار في سفينة أخرى يريدون غيلته قبل أن يرتد إلى وطنه.»
وتجيبها مينرفا: «لا عليك يا ملكة ولا عليه هو الآخر، إن معه راعيا يحفظه ويوقيه، راعيا يتمنى الجميع أن يكونوا في رعايته أبدا؛ مينرفا، إنها أيضا تبشرك وترفه عنك، وأنا هنا رسولها إليك أقبلت بأمرها أواسيك.»
وهلعت بنلوب ثم قالت: «وي! أما إنك إذن لربة وقد كلمتك الأرباب! ألا قصي علي إذن ما كان من أمر رجلي؛ ألا يزال حيا يرزق؟ أم تخطفته يد المنون؟»
وتضاحك الشبح العابس فقال: «لا، ليس الآن لن أذكر لك إذا كان رجلك لا يزال حيا أو أنه قد قضى. ما لنا ولذلك؟»
ثم رفت في ظلام الغرفة وصعدت في سماء الأحلام.
ونهضت الأم وقد سري عنها بهذا الحلم، وانجاب كابوس الهم الذي كان يجثم على قلبها.
وأقلع العشاق بفلكهم في اليم المضطرب، كل تحدثه نفسه بمقتل تليماك حتى كانوا عند برزخ إستريس بين ساموس وإيثاكا، فأرسوا ثمة يتربصون .
أوديسيوس يبحر من جزيرة كاليبسو
هبت أورورا من فراش زوجها الدافئ الحبيب «تيتون» فنشرت في المشرقين غلالة سنية من فيض ضوئها، بينما كان مجلس الآلهة منعقدا في ذروة أولمب، وقد استوى زيوس على عرشه، ومينرفا، ربة الحكمة والموعظة الحسنة، قائمة بين يديه، تحصي آلام أوديسيوس وتبث أشجانه وتصور للآلهة صنوف العذاب التي يتجرع غصصها وحده في هذه الجزيرة النائية السحيقة، فتقول: «أبتاه! يا سيد أرباب أولمب جوف، أصغ إلي، وأنتم يا آلهة الخلود، أعيروني انتباهة واحدة منكم؛ فإنها حسبي! إلى أين تصير الأمور إذن؟ هاكم قد أصبح أمر الناس فوضى، والطغاة يعيشون في الأرض مفسدين، وكأنما أغمضتم أعينكم عن خيارهم، ولم يضركم ألا تكفوا أشرارهم، فنسيتم الرجل الصالح أوديسيوس الذي طالما منحكم محبته والذي بذل لشعبه مهجته، يثوي اليوم في تلك الجزيرة الموحشة يجتر همومه ويبعثر في صفحة السراب آماله. كلا على كاليبسو عروس الماء، لا يملك سفينة فيقلع إلى الوطن، ولا يجد قلبا إلى جانبه فيبثه حزنه ويشتكي إليه لأواءه! وكأنما لم يكن بحسبه بعض ذلك، بل تسلط عليه الأقدار القاسية عصبة من الأعداء الألداء يتربصون بابنه الشر وينتوون غيلته، إذ هو عائد من أقصى الأرض؛ من أسبرطة وبيلوس، بعد رحلة منهكة باكية قام بها يتنسم خبرا عن أبيه يشفي في قلبه غلة، ويبرئ في نفسه كلوما.»
ويجيبها رب السحاب الثقال: «أية كلمة هائلة انفرجت عنها شفتاك يا ابنتي؟ ألست تتشوقين إلى عودة أوديسيوس سالما آمنا فيبطش بكل أعدائه؟ اطمئني إذن ولتحرسي ولده تليماك حتى يصل سالما آمنا هو الآخر إلى أرض الوطن، وليبؤ أعداؤه بالفشل.»
ثم توجه بالخطاب إلى ولده هرمز رسول الآلهة، فقال: «هرمز! هلم يا بني إلى عروس الماء الشقراء كاليبسو برسالاتي؟ مرها أن ترسل أوديسيوس على رمث
1
وحده، لا أنيس له من إنس ولا آلهة، فليلق الأهوال الطوال حتى يصل إلى شيريه أرض الفيشيين ملوك البحار وأصهار الآلهة، فليزودوه بسفينة وزاد وذخيرة من أحمال من ذهب وديباج، وبكل ما تشتهي نفسه مما يفوق نصيبه الذي حصل عليه من أسلاب إليوم، لو عاد به غير منقوص إلى أرض الوطن، ثم ليبحر سالما إلى إيثاكا؛ بذا قضت المقادير أن يثوب، وأن يستعيد سلطانه وصولجانه، وملكه وإيوانه، ويلقى بعد طول النأي خلانه.»
وأصلح رسول الآلهة الأمين «هرمز» نعليه الذهبيتين، فخفتا به كالريح فوق السحاب، وفي يمناه عصاه السحرية العجيبة التي إن شاء داعب بها الجفون فأغفت، وإن شاء ردها إلى الصحو واليقظة، وما فتئ يرف بين السماء والماء، ويدوم في ذاك الفضاء كالغرنوق
2
الذي يتواثب على أعراف الموج يصيد ما يقتات به، حتى كان فوق تلك الجزيرة المنعزلة عن جميع العالم، ثم ما برح يرنق هنا ويرنق هناك حتى اهتدى إلى ذلك الكهف السحيق الذي تأوي إليه عروس الماء الشقراء ذات الشعر الكهرماني، وقد جلست ثمة تغرد وتغني وتعمل دائبة في منسج أمامها، ويداها تتلقفان الوشيعة
3
الذهبية كما يخطف البرق، والنار تتأجج في الموقد بقربها وتتوهج، وجمر الأرز والصندل يعبق ويتأرج، ويملأ نشره أركان الجزيرة وفجاجها، وقد بسقت أشجار الحور والسنديان عند مدخل الكهف فغشته بظلال رائعة وظلمة رهيبة، وصنعت جوارح الطير أوكارا لها في الدوح الذاهب في السماء، ووكنت
4
الحدأة بيضها وقر الغداف
5
جنب صغاره، وطفقت البومة ترسل في الآفاق صفيرها، وتناثرت فوق الشاطئ أفاحيص الطير من كل نوع، وامتدت الكروم عن يمين الكهف وعن شماله مثقلة بالعناقيد ذوات السكر، وتدفقت جداول أربعة عن عيون كوثرية تسقي السندس الجميل المنضر بأفواف الورد والبنفسج؛ منظر عجب، وأي منظر عجب يبعث البهجة والانشراح حتى في قلوب سكان السماء!
ووقف هرمز يمتع ناظريه بسحر هذه الجنة ثم دلف إلى الكهف، ولم يكن يسيرا على عروس الماء أن تعرف من هو، وأي إله خالد طرق بابها، ولو أنها هي أيضا فرد من أسرة الخالدين؛ ذلك لأن سكان السماء يكونون مثلنا أحيانا، لا يعرف أحدهم جميع الآخرين لبعد الشقة ونأي الدار وانقطاع المزار، وأرسل عينيه في كل شق من شقوق الكهف، بيد أنه لم يقف لأوديسيوس على أثر، فانثنى، ويمم نحو الشاطئ واستوى على صخر عظيم ناتئ، وشرع ينثر من عينيه الدموع الغوالي، يطفئ بها في القلب سعيرا سرمديا يلازمه أبد الدهر، وكأنما عرفت كاليبسو من هذه الآية أنه هرمز فراحت تسائله، إذ هي مستوية على عرشها الممرد العظيم:
واستوت هيلين على عرشها المنضد الذي أصلحته يد أورست وعناية إكليب، ثم أحضرت الطرف والهدايا واللهى. «هرمز، يا صاحب العصا السحرية، يا من طالما أحببته وبجلته، حدثني فيم أقبلت وقد ندر ما قدمت إلى هنا، هلم فقل، سل حاجتك فسأقضيها إن تكن في وسعي. ولكن هلم أولا ولتؤد لك مراسم القرى وواجبات الضيافة، هلم.»
ومدت عروس الماء سماطا حافلا بأشهى ألوان الطعام وصنوف الشراب، وأقبل هرمز فاغتذى وروى من هذه المائدة القدسية، ثم توجه بالكلام فقال: «تسألين أيتها الربة فيما أقدمت، ألا فاعلمي أنني ما أقدمت عن أمري لكنه أبى، سيد الأولمب وكبير الآلهة هو الذي أرسلني؛ إذ أية حاجة لإله في هذه القطعة المنعزلة من الأرض، يحيط بها الملح من كل مكان، حيث لا عباد ولا خلق يؤتون الزكاة ويقيمون الصلاة، ولا أثر لعبادة زيوس العظيم، إنه جل جلاله يقول: إنك تحتجزين هنا أتعس مخلوقاته، البطل الكبير الذي نزح عن بلاده إلى إليوم، فقضى ثمة تسع سنين ثم أبحر عنها بعد سقوطها في العاشرة مع محاربي هيلاس الذين تفرقوا في البحر شذر مذر، فمنهم من غرق ومنهم من قتل، ومنهم من وصل إلى بلاده ... إلا إياه؛ فقد هلك كل رجاله، وقذفه البحر فوق جزيرتك النائية. جوف يأمرك أن ترديه، ففي كتاب المقادير أنه لا يهلك هنا، بل يعود إلى بلاده ويلقى فيها آله.»
وزلزلت كاليبسو زلزالا وقالت تجيبه: «ها! الظلم والحسد، دائما، هذا دأبكم يا آلهة، كم تأكل قلوبكم الغيرة كلما ضمت ربة إلى ذراعيها أحد بني الموتى، وهل نسيتم يوم ثرتم عندما علقت ديانا ذات الأصابع الوردية هذا الفتى الجميل أوريون، وكيف دبت الغيرة في قلب أبوللو فمكر هذا المكر السيئ، ودبر قتل الفتى بيدي حبيبته ديانا؟
6
هل نسيتم أيضا كيف أرسل أبوكم جوف إحدى صواعقه على أياسيون المسكين؛ لأن سيرس ربة الربيع قد هويته وأخذته بين ذراعيها حين شغفها حبا، كذلك أنتم معي اليوم، وكذلك أنتم غيورون دائما، فما أقساكم إذ تنفسون على حبيبي! لقد أنقذته بنفسي من هذا اليم الذي التقم سفينته بمن فيها حين شطرها أبوكم بسهمه في عبثة من عبثاته، حبيبي الذي أهواه من أعماقي وأفتديه بروحي، والذي أمهد له حياة الخلود. ولكن، وا أسفاه! كيف أطرده من عندي؟ ويحي! إن تكن هذه مشيئة زيوس فلأحدثن أوديسيوس ليرى لنفسه؛ إذ ليس عندي مركب يأمن فيه غائلة هذا البحر المضطرب وإني ناصحة له.»
وكلمها هرمز فأنذرها من غضبة سيد الأولمب، وحضها أن تعمل على إبحار البطل. •••
ورف هرمز الرسول في لازورد السماء، وانطلقت عروس الماء تبحث في الجزيرة عن أوديسيوس، حتى لقيته فوق صخرة ساهما واجما تفري قلبه الهواجس، ويعبث به محال الأماني، وقد انهمرت فوق خديه عبرات حرار، واللحظات تذبل فتسقط من حياته في ظلام اليأس كأوراق الخريف، وقد مل هذا المقام الطويل البائس في جوار عروس الماء التي كانت تخلع عليه حبها البارد، وتقسره على أن يقضي لياليه بجانبها على فراش واحد في ذلك الكهف السحيق. ولكما فكر في وطنه، ونظر إلى الموج المتواثب في أفق اليم، وعرف أن لا قدرة له عليه. بكى وأن وتوجع وتصدع، وأرسل في لا نهاية الماء والسماء، آهات وآهات.
واقتربت منه عروس الماء في رفق وحدب، وقالت له: «أيها التعس، لا تنتحب هكذا، ولا تصهر حياتك الغالية في تنور من الآلام، هلم، هيا إلى عمل مجيد. أمامك الدوح العظيم والأيك الذاهب فاقطع منه ما شئت، واصنع لنفسك رمثا يحملك فوق هذا العباب المتلاطم، وسأزودك بكل ما يكفيك من طعام وشراب، وسأمدك بأثواب جديدة تقيك الحر والبرد، وسأسخر لك الريح تهدهدك إلى بلدك البعيد. هذا قضاء من آلهة السماء التي تقدر فتعدل، وتقضي فلا يرد لها قضاء.»
وتفزع أوديسيوس لهذه المفاجأة ثم قال: «أوه يا عروس، بل في الأمر سر تحاولين إخفاءه عني. أي رمث يحملني في ذلك البحر اللجي؟ وأي ريح تسخرين من أجلي؟ وإن السفينة العظيمة لتمخر عبابه وهي لا تدري أتسلم أم يكون أهلها من المغرقين؟ لن أفعل حتى تعطيني موثقك وحتى تقسمي القسم العظيم أنك لا تبطنين لي شرا ولا أذى.»
وتبسمت الربة الهيفاء، وراحت تربت على خديه وهي تقول: «ويحك! كيف تسيء بي الظن يا أوديسيوس؟ أية حجة تملأ بها يديك على ما قلت؟ ولكن أصغ إلي، أقسم لك بقسم الآلهة في الأرض والسماء والدار الآخرة ... بالقسم العظيم الذي يقشعر لذكره كل شيء، إني لم أضمر لك فيما عرضت عليك شرا ولا أذى. إن الذي تبكي من أجله أبكي أنا أضعاف ما تبكي منه مثله، فلقد كنت ضرورة من ضرورات حياتي هنا، ولقد علق بك قلبي، وهامت بحبك نفسي، وليس قلبي من صخر فيحتمل البعد عنك بله الإضرار بك.»
وانطلقا سويا إلى الكهف، وجلس أوديسيوس فوق المتكأ الذي كان يجلس عليه هرمز منذ هنية، ثم أقبلت جواري الماء يحملن شيئا كثيرا من اللحم والشراب فأكلا ورويا، ثم شرعت كاليبوس تحدث وتقول: «أهكذا يا ابن ليرتيس العليم أيها الحكيم الصناع، لا تفتأ تحن إلى وطنك وتعتزم الرحيل إليه، أنا عذيرك يا أوديسيوس، فوداعا، ولكن هل فكرت أيها الرجل في الأهوال الجسام التي تخرط قتادها قبل أن تصل إلى بلادك؟ أليس خيرا لك أن تظل إلى جانبي وتقاسمني كهفي فتصبح من الخالدين، وتنسى هذا الجمال الفاني الذي لا ينفك يصبيك ويسبيك، والذي أحسب جمالي وفتنتي لا يقلان عنه سحرا إن لم يزيدا عليه فتونا؟»
فيجيبها أوديسيوس الحكيم: «أيتها الربة المخوفة، هوني من حفيظتك فأنا أعلم أن بنلوبي العزيزية لا تزن من جمالك وفتونك مثقالا؛ لأنها هالكة ولأنك من الخالدين، بيد أن الذي يصيبني هو وطني، وطني الحبيب الذي أحن إليه وأهيم به، وفي سبيل العودة إليه لن يخيفني هذا اللج المتلاطم، فلقد بلوت الأعاصير في البر والبحر في خبار المعمعة وفي الفلك تحت كلكل الزوبعة. إلي إلي يا خطوب، وأقدمي بكل حولك يا رزايا.» •••
وتوارت الشمس بالحجاب، وأرخى الليل سدوله فوق الجزيرة، ونامت الربة في سريرها الوثير وبين ذراعيها حبيبها تشمه وتضمه وتحسه وتلثمه ... حتى إذا نضرت بالورد أورورا جبين المشرق هب الإلفان وتدثرا، هذا بثوبه الخشن وتلك بشفوفها الرقيقة الثلجية الناصعة التي كأنما نسجت من سنمات الصباح العطري، وراحت تخطر فينانة ريانة وقد اتشحت حول وسطها النحيل بقرطق
7
جميل، وألقت على رأسها بخمار صفيق رقيق، وقدمت إليه فأسا ذات حدين أحدهما كالساطور، ركبت فيها يد من خشب الزيتون المتين، ثم إزميلا حادا مرهفا. وسارت بين يديه حتى كانا عند غابة عظيمة مخوفة لاحبة شاحبة، بسقت فيها أشجار الحور والسنديان والشربين،
8
وتركته ثمة وعادت أدراجها إلى كهفها.
ولم يهدأ للبطل المسكين بال، بل شرع من فوره يقطع كل أيكة عظيمة حتى اجتث عشرين من أكبر دوح الغابة. ثم أقبلت كاليبسو وقد حملت إليه آلات ساعدته على تشذيب الشجر، واستطاع بعد لأي أن يضم بعض الجذوع إلى بعض، ثم كلبها بكلابات كبار، وأفرغ في وسط الرمث له ولما يحمل مكانا أمينا كأحسن ما يصنع السفانون، ودعم ذلك جميعا بألواح ودسر، وصنع قلعا وجعل في القلع شراعا، ثم سوى السكان مكانه، وجعل في الباطن صبارة
9
كبيرة تقي الرمث الانقلاب، ولم ينس أن يجدل جوانبه بفروع وأغصان تزيد في قوته تضاعف من متنه، وأتم صنع مركبه في أربعة أيام، وأنزله إلى البحر في الخامس، ثم أدخلته عروس الماء حمامها فغسلته وضمخته بالطيوب والعطور، وخلعت عليه من ديباج ثمين، وزودته بزقين من خمر وماء، وأمدته بشيء كثير من طعام وأثواب.
مارس وفينوس.
وودع عروس الماء المحزونة وجلس عند السكان ثم دفع الرمث في البحر وابتعد رويدا رويدا.
وكان قلبه يفيض بالبشر وصدره يمتلئ بالانشراح. وظل يجري به الفلك الصغير سبعة عشر يوما، وعيناه في كل ليل ما تريمان عن الثريا في علياء السماء، وما تفتران تنظران إلى نجوم الدب الأكبر التي تقف للجبار
10
بالمرصاد كما علمته عروس الماء - قبل أن يبرح - أن يجعل هذا النجم إلى شماله أبدا.
ثم بدت جبال فيشيا الشم كأنها دروع مسرودة فوق صدر الأرض الشاحبة. ولكن وا أسفاه! لقد كان الجبار نبتيون ثانيا عنانه من سوليما،
11
فلمح أوديسيوس فوق رمثه يتواثب على هام الموج ويقترب من الشاطئ، فينجو إلى الأبد من بطشه. وثارت في نفس نبتيون - إله البحار وأعدى أعداء أوديسيوس - ثورة من الغضب، وظل يعلك هذه الكلمات في نفسه من فوق بطاح أثيوبيا.
12 «وي! أوقد تبدلت مقادير الآلهة إذن وتحركت فيهم عواطف الحنان من أجل هذا الرجل أوديسيوس، فقضوا فيه ما قضوا لأنهم يسكنون السماء، ولم يبالوا بي لأني أسكن الأرض في أثيوبيا؟ إنه يرى شاطئ فيشيا قيد وثبات منه، وهو إذا قفر إليه أصبح بنجوة من هموم تترصده في كل موجة من موجات هذا اليم. ولكن، لا، لألهبنه سوط عذاب قبل أن يصل إلى البر.»
ثم إنه لاعب السحاب بصولجانه ذي الشعب الثلاث فانعقدت منه ظلمات في أرجاء السماء، وطفق يهز أعماق البحر فهاج وماج وتلاطم بالأمواج، وصاح صيحة برياح المشرقين ورياح المغربين فاجتمعت إليه من مكان سحيق، ثم هبت ريح الشمال الثلجية اللافحة فانطفأ لألاء النهار وأظلم الليل فجأة، وطغى العباب وشابت نواصيه بالثبج، وتناول الموج الغضوب حول الرمث، وهلع فؤاد أوديسيوس وأصبح قلبه فارغا، وطاشت أحلامه وذابت أمانيه العذاب، وراح يحدث نفسه هكذا: «يا لتعاستي! أي مقدار قاس يترصدني؟ لقد أنذرتني ربة الماء مغبة هذه الرحلة الهوجاء في البحر، فما صدقتها، وتنبأت عن الشدائد التي تعتور طريقي إلى الوطن فها هي ذي تتحقق، أية أعاصير هوج وأي موج ينتفض من الأعماق قد سلطه جوف على هذا البحر! بعد لحظة أغوص في ظلمة هذه القبور التي يشقق عنها الموج، ألا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا تحت أسوار إليوم، يوم أوشكت أن أقضي ثلاثا في سبيل إنقاذ الأتريدس،
13
أو يوم أوشكت أن أصرع برماح الطرواديين إذ أدفع جموعهم عن جثة أخيل! أجل، لو أنني مت ثمة لأقيمت من أجلي الطقوس الجنائزية، وأديت لي الشعائر الدينية، وذرف فوق قبري كل يوناني أغلى دموعه وأعز عبراته، وتفاديت هذه الموتة المجهولة التي تكاد تلتقمني.»
ثم كانت الطامة؛ فإن موجة كالطود فجأته، فبعثرت الرمث، وأفلت مقبض السكان من يدي أوديسيوس فانتشر في اللجة ثم غاص في أعماقها، وعبثا حاول أن يطفو؛ لأن الرياح تكالبت عليه من كل مكان، وكلما نجا من موجة فغرت له فاها أخرى، ثم حدثت المعجزة؛ فقد وسعه بعد لأي وبعد عناء شديد أن يدفع نفسه دفعة اليأس إلى السطح، وأن يملأ رئتيه المنهوكتين بتنفسه من الهواء كانت تمتزج بالماء الأجاج المتصبب من جبينه حتى لأوشك أن يغص بها، لولا أن لطفت به الصدفة فرأى الرمث قريبا منه وقد انتزعت العاصفة قلاعه وشراعه، فسبح إليه وأمسك به، ثم استوى عليه وتركه للموج تلعب به واحدة وتعبث به أخرى، وتجتمع عليه الرياح عن شماله ويمينه ومن خلفه وقدامه، حتى قيض له القدر عروس الماء «إينو» ابنة قدموس التي كانت تعيش في البر وتعرف فيه بهذا الاسم، والتي اتخذت اسم «لبوكوتيا» بعد أن نزلت إلى البحر وعلقها أحد الآلهة فوهبها الخلود، لقد تفجرت في قلبها شآبيب الرحمة من أجل أوديسيوس لما رأته في هذا الروع الذي ليس كمثله روع، فسحرت نفسها، ووثبت على الرمث في صورة غطاس الماء، ثم قالت له: «ويحك أيها البائس! فيم أثرت غضبة نبتيون عليك حتى ليتبعك سربا في شعاب البحر ويصب عليك كل تلك الرزايا؟ على أنني أنصح لك أن تدع هذا الرمث تتدافعه الرياح حيث تشاء ثم تخلع ملابسك وتقفز في الماء، وتسبح بقوة وجلد حتى تصل إلى شطآن فيشيا حيث تسلم بنفسك، وتكون بمأمن من بطش هذا الجبار، خذ هاك زنارا
14
من حرير من حياكة السماء، لفه تحت صدرك؛ فإنه يجعلك بمأمن حتى من مجرد التفكير في الموت، فإذا وصلت سالما إلى الشاطئ فارمه بكل ما أوتيت من قوة بعيدا في البحر، وأدر بوجهك بمجرد أن تفعل؛ بشرط ألا تنظر إليه وهو يسقط في الماء.»
وسلمت إليه الزنار الموعود ثم غاصت في الماء، وبقي أوديسيوس مكانه في حيرة شديدة وحزن عميق، ثم أفاق من غشيته، وجعل يهرف هكذا: «أوه! ترى أذاك شرك آخر تدبره الآلهة لي؟ ولكن لا، لن أبرح مقيما فوق الرمث؛ فالبر بعيد، ولأظل مكاني ما دامت الجذوع مكبلة هكذا فإذا حطمتها يد الحدثان فلأفعلن كما أشار الإله الذي كان يكلمني منذ لحظة.» وما كاد يفرغ حتى أرسل عليه نبتيون موجة جارفة حطمت رمثه، وتركته عالقا بأحد الألواح، وأسرع أوديسيوس فخلع الرداء الجميل الديباجي الذي خلعته عليه كاليبسو، ولف الزنار الموعود حول صدره، وقذف بنفسه في الماء، وراح يسبح.
أشيل يعطي ل «نسطور» ثمن الحكمة.
وكان نبتيون الجبار يرى بعينيه ويشفي حرده، ويقول في نفسه: «ذق يا أوديسيوس وبال أمرك في هذا الطوفان قبل أن تصل حبالك بحبال الشعب الذي هو حبيب الآلهة، وسترى ثمة هل تنتهي آلامك؟»
وحث مطيه حتى وصل «إيجه» حيث يشرف قصره المنيف. •••
وكانت مينرفا تشهد الكفاح الهائل بين أوديسيوس وبين اليم فاطلعت من عليائها وداعبت الرياح حتى استنامت وونت، ثم أطلقت بوريس ريح الصبا الشمالي الكريم، فجرى
15
رخاء يدفع أمامه البطل العظيم الذي ظل يناضل الموت ويصرعه يومين أطول من دهر، وليلتين أحلك من غيابة جب، حتى إذا غابت أورورا في اليوم الثالث استطاع أن يرى الشاطئ على مرمى البصر فوق موجة عالية.
ما أحلى الأمل الذي يحيا بعد يأس، لقد كان أوديسيوس ينظر إلى التلال والجبال القريبة، والغابة النائمة في أحيادها، كما ينظر الأطفال الأبرار إلى أب لهم أنهكته العلة، ثم تماثل للشفاء بعد تسليم وقنوط.
وتحسس الأرض بقدميه، ولكن، وا أسفاه! الأعماق الهائلة والصخور والأواذي، والموج الذي يرتطم بأقدام الجبال فيرغي ويزبد.
لم يكن بهذه الجهة مرفأ، ولم تكن تجوس خلالها سفن، ولقد ظل أوديسيوس يكافح ويكافح، حتى غم على قلبه، وكاد يتغشاه طائف من الخور بعد أمل وطيد.
وجاشت الوساوس في قلبه، وطفق يحدث نفسه حديث الهلك في هذه اللجة الرجراج، وكان أخوف ما يخشاه أن يدفعه الموج على نتوء الصخر فيحطمه، أو أن تلمحه أمفتريت زوج نبتيون عدوه اللدود إله البحر، فتسلط عليه من وحش الماء ما يلقفه، أو يقذف به إلى أعمق الأعماق، كرة أخرى.
وبينا هو في بحرين من ماء ومن هواجس، إذا موجة هائلة يضطرب بها اليم تدفعه في قوة وعنف إلى الشاطئ ذي النتوء والنؤى، فتكاد تدق عنقه وتذرو عظامه، لولا أن قبض بذراعيه الجبارتين على حافة صخرة بارزة، فظل معلقا ثمة حتى أقبل جبل آخر من موجة البحر، فاحتمله إلى الأعماق كأنه أحد سراطين الماء، وجاهد المسكين ثانية وثالثة حتى تدافع الموج من خلفه، فقذفه في مسيل من مسايل الماء المنتشرة الذي كاد يسلمه بدوره للمحيط؛ مما جعله يضرع لرب النهر ويبتهل، ويدعو من أعماق قلبه ويصلي حتى استجاب الرب الرحيم لصلاته فكسر حدة التيار، وفل من غرب الماء، واستطاع البائس المنهوك أن يصل إلى إحدى العدوتين واهيا متهالكا محطما، فانطرح على الثرى يقبله، ويلهث ويقول: «ويح نفسي! ماذا تبتغين يا آلام؟ لقد أقبل الليل وأنا عيي مصدع، ولا قبل لهذه البقية من حشاشتي بطل العشاة وصقيع الفجر، فلو أنني استطعت أن أتسلق هذا الحدور فألوذ بأجمة من هذه الغابة، ولكن وي أي وحش ضار يغتذي بلحمي ثمة؟»
فلكان وفينوس.
بيد أنه توغل في الجبل حتى أوشك أن يضرب في الغابة، ثم كان بين زيتونتين؛ إحداهما مثمرة والأخرى عقيم، كل منهما لفاء شجراء حتى لا تنفذ الريح بينهما، ولا تنسرق أشعة الشمس خلالهما، ولا الماء بواصل إلى من استذرى بهما.
هنا، وجد أوديسيوس مأمنه، فراح يمهد الأرض ويلملم ما استطاع من قش ويحتطب، حتى صنع لنفسه منامة تكفي اثنين غيره من الضاربين المشردين في الأرض، ودعم حفافيها بفروع الشجر، ثم أسلم عينيه لنوم هادئ عميق، سكبته مينرفا في مقلتيه.
فلله ما كان أروعه غارا في هذا السفط من القش كشعلة من زيتونة لا شرقية ولا غربية، يعتز بها ريفي شاب في قرار مكين.
16 •••
نام أوديسيوس منهوك القوى.
وذهبت مينرفا تدبر له أمرا في شيريا ، بلد السلالة ذوي المجد من أبناء فياشيا - ملوك البحر الذين فروا من وجه جيرانهم الجبابرة السيلكوبس - في العصر الخالي ونزلوا بهذا البلد فشادوا حصونه، وأقاموا أسواره، وتوزعوا أرضه المخصبة، وسكنوا الدور والقصور، وأنشئوا المعابد للآلهة عرفانا وشكرانا.
وقضى ملكهم وزعيمهم نوزيتوس، ثم استوى على العرش من بعد ألكينوس، حبيب الآلهة، وصفي السماء. •••
كانت الأميرة الحسناء - نوزيكا - ابنة ألكينوس الملك تغط كالملاك في نوم عميق بين وصيفتين رائعتين من وصيفاتها فوق سرير وثير في مخدعها الملكي الفاخر.
وكان رتاج الباب محكما كأنه باب الجنة، ولكن ذلك لم يقف بسبيل ربة الحكمة مينرفا التي خطرت إلى الداخل كنسمة نادية من نسمات الصباح، ووقفت لدى رأس ابنة الملك تزخرف لها هذا الحلم الفضي الجميل، وكأنما تبدو لها في المنام في صورة صديقتها وأعز أترابها ابنة إيماس الكريم. «نوزيكا! يا ويح لك أيتها النئوم المكسال، أهكذا تهملين ملابسك وأنت موشكة أن تزفي إلى عروسك، وعليها يتوقف مظهرك ومنظرك ورواؤك وراء حاشيتك ووصيفاتك، كما يتوقف عليها زهو أبويك بين الناس، انهضي مع الفلق
17
فاذهبي بمطارفك إلى المغتسل عند ضفة النهر فاغسليها وأعديها ليوم زفافك، يوم تودعين مرح هذا الشباب الخالي. هلمي! إني سأعاونك، أنت يا ساحرة ألباب الشباب الخالي الفياشيين، سلي أباك أن يرسل لك عربة وبغالا تحمل ثيابك ومطارفك إلى عدوة النهر حيث لا شاهد ولا رقيب.»
وانفلتت مينرفا ذات العينين الزبرجديتين، ورقت أسباب السماء حتى كانت فوق ذروة الأولمب؛ حيث السكون والهدوء والصمت، وحيث مستقر الآلهة، وحيث لا تعصف ريح ولا يتلبد سحاب ولا تدمع عين مطر، وحيث السماء لازوردية صافية إلى الأبد. •••
وخطرت أورورا فوق عرش المشرق، وأرسلت من لدنها أمينا من رسل النور يداعب جفني نوزيكا، فهبت وحلمها الجميل لما يفتأ يساور رأسها الصغير، وهرعت من فورها تبحث عن أبويها تقص عليهما أنباء ما رأت، وقد ألفت أمها لدى المدفأ منكبة على غزل من صوف أرجواني موشى بصبغ بحري، ومن حولها وصيفات يساعدنها، ثم لقيت أباها يكاد يذهب ليترأس مجلس شيوخ المملكة، فاستوقفته وكلمته في العربة، واحتجت بملابس إخوتها الخمسة الذين يستحيون أن يراقصوا العذارى في الحفلات بملابس لا تليق بأبناء الملوك، وعقد الخجل لسانها فلم تذكر مطارف زواجها وشفوف زفافها، ولم يبخل أبوها بما طلبت، بل أمر لها بعربة كبيرة عتيدة ودواب، وزودتها أمها بأشربات وآكال وطيوب ومروخ.
18
واستوت مع وصيفاتها في العربة، وساطت البغال فانطلقت تطوي الرحب إلى النهر حيث وقفت عند منعرج يترقرق فيه بلور الماء متدفقا من نبع قريب، وسرحت الدواب لترعى العشب الحلو النامي على حفافي الماء، ثم أخذن في غسل المطارف ونشرها فوق حصباء الشاطئ الذي طمه المد ونضحه الجزر، واغتسلن بعد ذلك وتضمخن وجلسن على شفا النهر يتبلغن بلقمات، ثم نهضن فتلاعبن بالأكر، وتغنت ابنة الملك أعذب الأغاني، وتثنت كما تتثنى ديانا في شعاف الجبال وفي يدها القوس والترس، تصيد الخنازير في أريمانت، ومن حولها ربرب من عذارى الآلهة، ابنة لاتونا
19
تتيه عليهن وتدل. كذا كانت تميس ابنة الملك فيكسف لألاؤها جمال الأخريات، وهنا شاءت مينرفا أن يهب أوديسيوس من نومه؛ ليشهد الغادة الهيفاء التي كتب في الأزل أن تقوده إلى المدينة، ففيما كانت توزيكا تضرب الكرة لتلقفها إحدى وصيفاتها إذ هي تعلو وتعلو، ثم تدوم كما يدوم الطائر وتهوي في العباب المصطخب.
وصرخ العذارى صرخة مدوية، فانتفض أوديسيوس وهب مذعورا مشدوها ليرى هذا المنظر العجب. «ويحي! أي بني الموتى قطان هنا؟ ليت شعري أشوس عرابيد أم كرام أجاويد؟ أوه، إنهن عرائس ماء تفزعن فرجعت الغيران أصداء صراخهن، وتراقص الحباب فوق العباب من جرسهن، وتثنى الكلأ نشوة في الوادي؛ لأدلف نحوهن فأراهن.»
وخطر من دغيلته
20
خطران الأسد هاجته العاصفة فاتقدت في عينيه جمرتان من غضب أو ظمئ فاشتدت غلته إلى الدماء، ودال
21
نحو العذارى، فما إن رأينه حتى تفزعن وولين مذعورات في الشاطئ ذي النؤى، إلا نوزيكا؛ فقد نفخت فيها مينرفا من روحها، ونزعت من فرائصها رجفة الخوف، فوقفت شماء الأنف تنتظر القادم.
وارتبك أوديسيوس ولم يدر ماذا يصنع؟ أيجثو تحت قدميها بتوسل ويتضرع ؟ أم يقف عن كثب يستعطف ويسأل الفتاة دثارا، ويرجوها أن تهديه إلى المدينة؟ وآثر الثانية فتلطف ثم قال: «عمرك الله أيتها الملكة! أربة من الخالدات؟ أم حسناء من بني البشر؟ أضرع إليك أن تجيبي؛ فإنك إن كنت ربة فما إخالك إلا ديانا ابنة سيد الأولمب، ولم لا؟ ولك قسامتها ووسامتها وقدها الممشوق وحسنها السوي وجمالها الروي، أما إن كنت إنسية فما أسعد آلك بك، ولشد ما يزهون بجمالك كلما خطرت في ملعب، أو بدحت في
22
مرتع، ثم ما أسعد الزوج الذي سيحظى بكل ذلك الجمال لا يضارعه في العالم جمال، ألا ما أروع ما تبدين كالنخلة اليانعة في ديلوس عند مذبح أبوللو، أيتها الأميرة ألا كم أتمنى أن ألثم قدميك لولا ما ينتابني من روع ويئودني من فزع، «أنا» ذلك المعنى المحزون المشجون، «أنا» ذلك العيي الموهون الذي أفلت من يد المنون أمس، بعد إذ كشر له عن نابه في ذلك البحر اللجي بعد سفرة عشرين يوما من أوجيجيا، وسط أنواء وأهوال، وموج كالجبال، حتى شاءت العناية أن تطرحني بشطآنكم الحبيبة، ولست أدري ما خبأت لي المقادير بعد، ولكن هل ترثي مليكتي من أجلي وهي أول من لقيت في هذه الأرض بعد طول عنائي فترشدني إلى مدينتها، وتسبغ علي - أسبغت عليها الآلهة كل ما تتمشى من هناءة وبلهنية وقران قوي العرى لا تتطاول إليه أعين الأعداء - دثارا يستر سوأتي؟»
كاليبسو عروس الماء تلتقي بهرمز رسول الآلهة.
وأجابته نوزيكا: «حبا أيها الغريب النازح وكرامة، إن سيماك تدل على نبل، وسمتك ينبئ عن رفعة، اصطبر على ما ابتلاك به كبير الآلهة الذي بيده العزة يشقي من يشاء ويهب لمن يشاء، وإني سأدلك إلى المدينة مدينة الفياشيين ملوك البحر التي أنا ابنة ملكها العظيم ألكينوس، رب نعمائها ومصدر رخائها.» وأومأت إلى وصيفاتها تقول: «مكانكن يا عذارى، فيم فراركن هكذا من إنسي كريم؟ لقد أبت الآلهة أن تطأ قدم عدو أرض أحبائها، بلادنا المقدسة، التي انعزلت في لجج هذا الخضم عن كل العالم ، إنه غريب يا عذارى، جواب آفاق، قذفه البحر إلى شاطئنا، فمرحبا به ضيفا من لدن زيوس، وأهلا بوفادته وسهلا. هلم إذن يا صويحبات فقدمن له طعاما وشرابا، ثم هيئن له حماما في منعرج ظليل عند حفافي النهر.»
وأهرع البنات فقدن أوديسيوس إلى منعرج ذي ظلال وأفياء، وأعددن له ثوبا وكساء، وهيأن طيوبا بها إذا فرغ من حمامه، وسألهن أن يذهبن بعيدا حتى لا يتعرى أمامهن؛ إذ «لشد ما يخجلني أن أبدو عاريا أمام الخرد الخفرات»، وتهادين إلى مولاتهن يحدثنها بما قال، بينا هو قد انقذف في الماء يغسل كاهله وحقويه مما جمد عليهما من ملح اللجة، وصعد فتضمخ بالطيب الثمين، ثم أسبغ على بدنه العتيد ذلك الكساء الذي منحته إياه نوزيكا، ومن أعجب العجب أن مينرفا نفسها كانت تعاونه في تجميل خلقه، وتزيل من شعره الكث الأشعث تلبداته التي كانت تبدو كأنها أزهار الخزامى، ثم هي بعد كل ذلك تضفي عليها أمواها من البهاء تظلل بها صداره كأنما هي فلكان الصناع يعمل حلية من فضة وذهب، وجلس على الشاطئ في رونق وروعة، حتى إذا لمحته الأميرة العذراء أذهلها جماله وقالت لوصيفاتها: «تالله يا صويحبات لقد شككت في حال هذا الرجل أول الأمر، ولقد حسبته أفاقيا من رعاع الناس، لولا أنني أثق أن الآلهة لا تسوق إلى بلادها الحبيبة هذا الصنف من البشر. أما هو الآن فلشد ما يشبه أرباب السماء! أواه لوددت أن يكون لي زوج في بهائه وحسن سمته على أن نبقى آخر الدهر هنا. هلم يا وصيفات، قدمن له طعاما وخمرا.»
ومددن أمامه سماطا كبيرا وزودنه بأحسن الأشربات والآكال، وأخذ أوديسيوس في أكلته حييا متآديا يرد عنه تلك المسغبة الطويلة التي أنهكته وأوهت قوته.
ووضعت أحمال المطارف والثياب فوق العربة، وشدت البغال واستوت الأميرة في مكانها، ثم هتفت بأوديسيوس فقالت له: «هلم أيها النازح الغريب إلى المدينة إذن، إني سأرشدك إلى قصر أبي حيث تلقاه في جمع من أشراف الفياشيين، وسننطلق وسط هذه الحقول، وإني لي معك من أجل هذا لكلمة؛ لقد بنيت مدينتنا فوق صخرة راسية وأحاط بها سور عظيم، ثم وصل بينها وبين فرضتها جسر ضيق تقر على جانبه سفائننا رابضة متراصة، ثم ينهض عندها معبد نبتيون العظيم، وبجواره سوق المدينة ا لمبني منه الحجر الصلد، حيث تباع حبال السفن وشرعها، وحيث تصنع مجاديفها وأكثر عتادها؛ لأن الفياشيين لا يعنون بشيء عنايتهم بهذه المنشآت في البحر كالأعلام، والذي أخشاه أن يرانا الناس ثمة فيستهزئوا بنا، وقد يسلقونني بألسنة حداد، قائلين في سفاهة وتندر: وي! من يكون هذا الغريب النجيب الهرقلي الذي يقص أثر الأميرة ابنة الملك؟ أي صدفة جمعت شملهما يا ترى؟ سرعان ما نراها تزف إليه عروسا كاعبا، قد يكون ضيفا غير محدود من أرض نائية، أو ربما صادت بصلاتها وتسبيحها واحدا من الآلهة أبق من السماء ليقر في حصنها إلى الأبد، الحمد لله الذي من عليها بزوج سعيد من بلاد غريبة يشبع أمانيها الجامحة بعد أن رفضت الأيدي الكثيرة التي تقدمت إليها من أبناء الفياشيين؛ هكذا سيقول الناس إن رأونا أيها الرجل - ولهم الحق - فأنا نفسي لا أعفي من اللائمة فتاة عذراء تستبيح أن تمشي مكشوفة مع رجل غريب قبيل عرسها، ولكن أصغ إلي: إنك واصل حتما إلى أبي إذا اتبعت نصيحتي، بعد قليل سيصل ركبنا إلى حرج أشجار الحور المقدس النامي في تخوم الطريق باسم ربة العدالة والحكمة مينرفا، وإن عنده لنبعا يترقرق وسط كلأ وأعشاب، وإن عنده لحديقة أبي، الجنة الضحوك المئناف، قف ثمة حتى إذا دخلنا نحو المدينة وحصلنا في بيت أبي، فتقدم أنت وادخل المدينة واسأل أيا من الناس - ولو طفلا يافعا - قصر ألكينوس الملك أبي الحبيب، فإنه معروف مشهور لا يضارعه منزل آخر في سعته وأبهته، فإذا دخلته فلا تتوان لحظة، بل سر قدما حتى تلقى أمي جالسة لدى الموقد المتأجج بجانب عمود مرمري، منكبة على غزلها الصوفي الموشى بأصباغ البحر، ومن حولها وصيفاتها يعاونها في إنجازه، وقريبا منها ترى أبي مستويا على عرشه يطعم ويشرب كأحد آلهة الأولمب ، لا تكلمه، بل جاوزه إلى أمي الرءوم ثم رسل حاجتك تقضها لك، وتعدك إلى وطنك مهما كان سحيقا نائيا. أثر في صميمها عامل الخير والمحبة تردك إلى آلك وذويك وبلادك، وسلام عليك.»
ثم إنها ألهبت ظهور البغال فانطلقت تعدو مولية عن النهر الذي صار يبتعد قليلا قليلا، وكانت نوزيكا آخذة بزمامها لتكبح من جماحها حتى لا تفوت أوديسيوس من ورائها.
وكانت الشمس تصبغ بالورس جبين المغرب حينما وصل الركب إلى حرج كأنما يناجي ابنة جوف المدرعة بايجيس.
وهنا، وقف أوديسيوس يصلي لمينرفا: «يا ابنة جوف القوي المتعال، اسمعي لي، أصيخي الآن يا ربة، لقد تصاممت عني إذ كانت اللجج تلقفني فراعيني الآن، اجعلي لي مرفقا من أمري وهبي لي محبة ورحمة في قلوب أبناء الفياشيين أنسى بها آلامي؛ آمين آمين.»
ولبت ربة الحكمة واستجابت لدعائه، بيد أنها احتراما لعمها «نبتيون» الذي لا يفتأ أثر أوديسيوس عدوه الأكبر لم تشأ أن تبدو له.
وفرغ أوديسيوس من صلاته، ووصلت عربة الأميرة إلى القصر، فلقيها إخوتها الأمراء الخمسة النجب، فحلوا الدواب وحملوا المطارف والثياب، وصعدت هي إلى مخدعها حيث كانت خادمتها العجوز الشمطاء «يوريمديوسا» تعنى بنار المدفأة.
ولم تكد يور ترى سيدتها حتى حيت وبيت، وانطلقت تعد لها وجبة العشاء.
أما أوديسيوس فقد هب من مجلسه ويمم شطر المدينة، وقد نشرت حوله مينرفا - صفيته الوفية - ظلالا وغماما يحجبه عن أعين الناس حتى لا يضايقه أحدهم بسؤاله من هو؟ وفيم أقبل؟ ومن أي الأقطار جاء؟ ... بيد أنها لاحت له قبل أن يلج باب المدينة في هيئة فتاة قروية كاعب تحمل فوق رأسها جرتها، وتعمدت أن تعترض طريقه فانتهزها فرصة وراح يسألها هكذا: «يا بنية! أتسمحين فتدليني على بيت رب هذه البلدة ألكينوس الكريم؟ لقد ينال مني الونى وطول السفر، وحللت عليكم يا أهل فيشيا الأجاويد ضيفا غير معروف من بلد سحيق فهل تفعلين؟»
وقالت مينرفا - ذات العينين الزبرجديتين - وهي تجيبه: «حبا أيها الغريب الوقور وكرامة، سأدلك على بيت ألكينوس بنفسي؛ فهو غير بعيد من بيت أبي، ولكن لي إليك وصية؛ اصمت ما دمت سائرا، ولا تحدج أحدا بنظرة، ولا تكلم من أهل هذه البلدة إنسيا، فقد جبلوا على ازدراء الغرباء وقلة إيلافهم وتلقيهم في فتور وبرود طبع، وقد أحبهم نبتيون رب البحار، فأذل لهم أعناق الموج وأساس لسفنهم أعراف الماء، فهي تخطر فيه كالطير حين تزف، أو كالفكرة حين تخطر في الخلد.»
وتهادت ربة الحكمة بين يديه ودلف هو وراءها، ولم تره جموع البحارة الحاشدة التي كان يسير بينها؛ لأن مينرفا ضربت على أعينهم غشاوة عجيبة حجبته عنهم، وكان ينظر بعين الدهش إلى ميانئهم وسفائنهم ورحبة السوق التي يأوي إليها أبطالهم، وإلى تلك القلاع المحدقة بالمدينة في أبهة وجلال، ثم بلغا بيت الملك فقالت مينرفا: «هاك يا أبتاه القصر الذي سألت أن أدلك عليه، وستلقى فيه رؤساءنا وأمراءنا أصحاب السمو يولمون ويقصفون، فهلم فالقهم بقلب رابط وجأش ثابت؛ فهم أشد الناس إعجابا بشجاع جريء، وأكرمهم للاجئ غريب، وستكون الملكة أريتا - سليلة الشرفاء الأمجاد آباء ألكينوس الكبير وحفيدة المردة الجبابرة من ذراري نبتيون
23 - أول من تلقى، إنها سيدة قومها وهي محبوبة مبجلة إلى درجة التقديس من زوجها وأبنائها ومن جميع الفياشيين ملوك البحار، الذين طالما تكبكبوا حول موكبها في شوارع المدينة هاتفين داعين. إنها تجلس وقورا كإحدى ربات الأولمب فتغمر بالمحبة أبناءها، وتقضي فيما يشجر بينهم. لك الله يا سيدي إن قدر لك فاستطعت لقاءها؛ إنها إذن تمنحك برها وتسبغ عليك من بركتها فتعود إلى بلادك راضيا، وتلقى آلك وخلانك عزيزا مكرما.»
ثم غابت مينرفا عن الأنظار، غادرت أرض شيريا الحبيبة إلى مرثون، ومن ثمة رفت رفة فكانت في أثينا حيث أوت إلى قدسها الكريم أركتيوس.
نبتيون رب البحار.
ودخل أوديسيوس قصر الملك هيابا متخاذلا، غارقا في بحر لجي من الوهم والفكر؛ لأنه ما كاد يطأ بقدمه وصيد الباب الكبير حتى بهره لألاء شديد خاطف ينبعث من الداخل، يزيد في شدته ولمعانه تلك الجدران المصفحة بالنحاس، يزينها إطار من اللازورد الأزرق، وتلك الأبواب الهائلة من الذهب الخالص، والعماد السامقة من الفضة المجلوة، تكللها تيجان من النضار الثمين، وعلى اليمين وعلى الشمال ربضت كلاب من ذهب، صنعة فلكان، صناع السماء الخالد، وخالد أبد الدهر كل ما صنعت يدا فلكان. ثم تلي بعد ذلك ردهة فسيحة مترامية صفت إلى جدرانها كراسي كأنها عروش، وبثت فوقها نمارق ذوات أفواف وشفوف، صنعة وصيفات القصر، وهنا يولم الملك لأمراء شيريا، فيقف الولدان في جلابيب من ذهب، وفي يد كل شعلة تسكب الأضواء من فوق المذبح على جموع الطاعمين في كل ليلة. يا للقصر كأنه جنة الخلد! إن خمسين من غيد شيريا الرعابيب يخدمون الملك ثمة، يطحن القمح وينتخلن الدقيق، ويندفن الصوف ويعملن على النول، مائسات كأفنان الدوح يداعبهن النسيم الحلو، حاذقات في الغزل والنسيج كأحذق ما يكون بحارة شيريا في عنفوان العاصفة، قد ثقفن صناعتهن عن مينرفا فأفتن وأبدعن إبداعا، ثم تكون البوابة الكبرى حيث فردوس القصر اليانع وجنته دانية القطوف ذات الأسوار المنيعة المحيطة بهذه الأربعة الأفدنة، للآلهة هذا الدوح بسق في جنباتها، وللآلهة أشجار الرمان المثقلة بأثمارها مفترة عن شفاه الأقاح، وحمرة الخجل قد خضبت خدود التفاح والكمثرى، وسالت قطرات من الشهد في ثمرات التين، وتأججت أنوار زاهية في أفنان الزيتون، فاكهة شهية جنية لا مقطوعة ولا ممنوعة شتاء وصيفا يانعة أبدا، تداعبها أنفاس زفير رب الصبا، فتشيع فيها النضج والنماء، كلما قطفت يد من جناها ثمرة نمت مكانها في الحال ثمرات، فما تقل آخر الدهر قطوفها وما تنقص.
وخلال هذه الجنة المثمرة تمتد الكروم ذوات أعناب والرطب والعناقيد من نور، بعضها يعصر فتقطر الخمر منه، وبعضها يجف على سوقه فيكون زبيبا جنيا، ثم توشى أطراف الحديقة أحواض من الزهر المشذب المنسق، وتتفجر في وسطها عينان نضاختان، يترقرق الماء من إحداهما كاللجين في مسايل هذا الروض، وتتدفق مياه الأخرى في نهر صغير ينساب إلى المدينة من تحت عتبة القصر، فيرتوي الأهلون منه.
ملك كبير ولألاء وافرة أسبغتها الآلهة على ألكينوس الملك.
وقف أوديسيوس مسبوه اللب مشدوه الفكر، يردد طرفه في هذا المنظر العجب، ثم أفاق فخطر إلى الداخل، حيث اجتمع زعماء المدينة وشيوخها يصبون الخمر باسم هرمز رسول السماء تقدمة وقربانا، وصلاة لخاتم أرباب الأولمب قبل أن يأووا إلى مضاجعهم. ولم يتلبث عندهم بل تقدم في خطى حثيثة برغم إعيائه، وكانت مينرفا تحجبه في ظلال كثيفة عن أعين الملأ حتى وصل إلى حيث الملك والملكة، فكشف عنه غطاءه، وجثا عند قدمي الملكة يبث شكاته بين دهش الملكين الكريمين وشدة تحيرهما: «أريتا يا ابنة ركسنور صفي الآلهة، أتوسل إليك وإلى المليك العظيم وأضيافكم النبلاء، من الله عليهم وضاعف لهم آلاءه، وأنعم على ذراريهم وألف بين قلوبهم وقلوب رعاياهم، أتوسل إليك يا سليلة المجد ضارعا أن تعطفي علي وأن تكرمي مثواي، وأن تعينيني على الرحلة من فوري إلى بلادي التي أتحرق إليها شوقا، والتي فصلتني عنها أهوال وأهوال.»
وساد سكون عميق وصمت، وظل البطل المسكين جاثيا عند حافة الموقد المتأجج حتى تفجرت شآبيب الرحمة والحنان في قلب أخنيوس ابن الملك البكر، فراحت الكلمة الطيبة تتدفق من فمه الجميل العذب في فصاحة وتبيان، وحكمة تقليدية وخير؛ حيث قال: «حاشا لمجدك أيها الملك أن تدع هذا الغريب جاثيا هكذا في غبار الموقد وفي وهج النار، وأن تترك أضيافك ينتظرون أمرك، وما تكلم منهم أحدا، ألا فخذ بيد الغريب وأقعده مقعد الندى، ومر الندمان يسقه من كأس جوف كبير الآلهة،
24
وحبيب الغرباء وذوي الحاجات والنادل يهيئ له عشاء مما تبقى من وليمة الليلة.»
وما كاد الأمير يفرغ من قوله حتى أنهض الملك أوديسيوس وأجلسه على كرسي فخم جانب ولده الحبيب الحكيم لأوداماس، ثم أقبلت إحدى وصيفات القصر فصبت الماء على يديه من إبريق فضي، ثم أحضرت مائدة حافلة بأشهى الأكل وأطيب اللذائذ والأشربات، فأكل أوديسيوس وارتوى، وأمر الملك كبير السقاة بونتونوس، فمزح الراح وقدمها إلى الجميع حيث صبوها تقدمة لجوف رب الصواعق وكبير الآلهة وحبيب الغرباء وحامي ذوي الحاجات، ثم شربوا بعد ذلك حتى رووا.
وقال الملك: «أيها الرؤساء والشيوخ الفياشيون كلمة: عفو الخاطر فاسمعوا وعوا؛ لقد طعمتم جميعا وستتفرقون إلى مضاجعكم ثم نجتمع عند مطلع الفجر، نحن ومن لم يحضر من نواب الأمة الأجلاء، فننظر في شأن هذا اللاجئ الغريب بعد أن نضحي للآلهة. إنه يطلب أن يعود في حمايتنا إلى وطنه كيما يصل سالما غانما من غير أن يمسه أذى، إلا أن تكون ربات الأقدار قد قضت عليه أمرا، وإلا أن يكون من أرباب السماء الخالدين. لقد وصلت بيننا وبين الآلهة وشائج القربى، وطالما غشيت مجالسنا وشاركت في ولائمنا، وهي تبقى على محبتنا فلا تمس بأذى رجلا منا يضرب في الأرض، وليس ما بيننا وبينها أقل مما بينها وبين سيكلوبس أو المردة الجبابرة، وفي ذلك فخارنا وهو آية مجدنا.»
ونهض أوديسيوس الحكيم فقال: «غفرا غفرا أيها الملك، ما أنا في الآلهة؟! أين لي خلقها السوي وكيانها السماوي؟! بل أنا شقي من أبناء هذه الغبراء، وأثقلت كاهله حمولة هائلة من الكوارث والآلام حتى لا يعرف الناس من شقي شقاءه، ولا من تحمل مصائبه وأرزاءه؛ بلايا صبتها على رأسه الآلهة فصبر وأناب ... أوه! أبدا لا أنتهي إذا سردت لكم طرفا يسيرا منها، ولكن لا داعي الآن، أرجوكم، أتوسل إليكم، دعوني أتبلغ بهذه اللقيمات في هذه الملحمة الحالمة من الراحة التي لم أنعم بمثلها منذ بعيد. لشد ما يصرخ الجوع في أذن الجوعان، ولشد ما يعذبه الطوى، إنه يلح عليه بكل صنوف الألم حين ينسيه آلامه وأشجانه، إن له لشهية عالية الصخب تطلب العون في جؤار وجنون، حتى ليضيع في ضجيجها هتاف جميع الآلام إلى أن تكتفي، عفوا أيها السادة إني أتضرع إليكم أن تيسروا لي عودا أحمد وأوبة سالمة، بعد طول العناء والشقاء الذي ليس بعده شقاء، إنه لا أحب إلي من أن أودع الحياة بعد نظرة واحدة أتزودها من أهلي ووطني.»
وتأثر القوم من أجله، فأثنوا عليه، واتفقت آراؤهم على معاونته حتى يعود إلى بلاده ويلقى ذويه، ثم نهضوا فصبوا خمر الصلاة باسم الآلهة، وشربوا نخب رب الدار، ثم تفرقوا إلى منازلهم إلا أوديسيوس، فقد ظل جالسا ساهما واجما، كما ظل الملكان إلى جانبه ساهمين واجمين، والندل فيما بين ذلك يحملون أطباق المائدة وأكوابها، حتى إذا فرغوا أخذت الملكة تتحدث إلى أوديسيوس، وقد لفت نظرها هذا الثوب الفضفاض الذي كان يلتفع به.
والآن جاءت نوبتي في التحدث إليك أيها الغريب الكريم، من أنت؟ ومن أين أقبلت؟ وأنى لك هذا الصدار وذاك الدثار؟ ألست قد قلت: إنك غريب نازح أفلتتك المنايا في لحجج البحار؟
وقال أوديسيوس يجيب أريتا: «أيتها الملكة، قد لا أفرغ من الحديث إذا حاولت أن أسرد قصتي بحذافيرها، بل ليس أشق علي ذلك؛ فقد كرثتني الآلهة بكل أنواع الهموم وصنوف الآلام، بيد أنني ألم بمأساتي المحزنة في كلمات فأقول: في أوجيجيا - إحدى الجزر القاصية التي لم تطأها قبلي قدم بشر ولم يخطر بها إله - تقيم عروس الماء المفتان «كليبسو» البارعة الرائعة الصناع، ابنة أطلس الجبار التي قدر علي أن أكون أول لاجئ إلى جزيرتها بعد أن سقط جوف صواعقه على سفينتي فشطرها وأغرق كل رجالي، وظللت أنا متشبثا بالسارية ليالي وأياما حتى دفعتني المقادير في الليلة العاشرة إلى ساحل الجزيرة حيث أوتني كليبسو الجميلة الريانة، وأنقذتني من موتة أكيدة، وأطعمتني وأكرمت مثواي، ثم عرضت أن تهبني الحياة الخالدة والشباب الأبدي لولا أني تأبيت، ثم أقمت عندها سبع سنوات لم يرقأ طوالها دمعي الذي نضحت به أثوابي وما خلعت علي من دثار، وفي الثامنة أرسل إليها جوف كبير الآلهة من يأمرها بإطلاق سراحي، فأبحرت على رمث زودته بالأطايب والأذخار، والأشربات والآكال، ثم أرسلت بين يدي ريحا رخاء ما انفكت تجري بي في عباب من بعده عباب طيلة سبعة عشر يوما. وفي الثامن عشر لاحت قمم جبالكم الشم فخفق قلبي فرحا، بيد أنه كان أملا خلبا لم يطل أمده؛ فقد أبى نبتيون الجبار إلا أن يقف بسبيلي، وإلا أن يرسل ريحا معاكسة تثير الموج وتهيج اللج، وتمزق ما التأم مني ومن فلكي الصغير الذي كان أملي، ولم يعد بد من أن أكافح الماء وأذرع اليم بالسباحة، حتى تضافرت الريح والموج، فقذفاني إلى ساحلكم ذي النؤى، ولم أحتمل صدمة الصخور فنضحني السيل الرابي إلى الأعماق كرة ثانية، وشرعت أكافح مرة أخرى حتى نثرتني موجة مزبدة في نهر وديع متطامن، فسبحت إلى إحدى عدوتيه، واستلقيت على الشاطئ خفق الأحشاء منهوك القوى، وأقبل الليل فتهالكت على نفسي إلى دغيلة مهدتها بعساليج وشيء من القش وفروع الشجر، ونمت ليلا طويلا وضحوة متعبة وظهيرة كلها نصب وإعياء، ثم أيقظتني صيحات قريبة مرنة، فإذا ابنتكم الأميرة الحبيبة الحسان في ربرب من أترابها يتلاعبن كربات الأولمب على رمال الشاطئ، وجثوت تحت قدميها، وما زلت بها أتملق شبابها الغض بدعوات معسولات، وأثير نخوة صباها الفينان حتى أمرت لي بطعام شهي وخمر معتقة، وأشارت إلى منعطف فتوجهت إليه فغسلت ما على جسمي من خبث، ثم منحتني هذا الصدار وذاك الدثار، تلك قصتي أسردها عن قلب محزون، وما فيها من أثارة من مين.»
قال الملك: «لشد ما أخطأت بنيتي إذ لم تصحبك إلى هنا في جملة حشمها ما دمت قد رجوتها في ذلك أول الأمر.»
وقال أوديسيوس يجيبه: «إنها لم تخطئ أيها الملك الكريم وما عليها من ملام، لقد كلمتني في مثل ذلك فأبيت؛ لأني خفت أن يسوءك ذلك منها ومني؛ ولأني أعلم أن الناس في كل مكان طنانون قوالون.»
فقال الملك: «كلا أيها السيد، إن صدري لا يحمل مثل ذلك القلب النزق؛ إن الرصانة والأناة أفضل ميزات الخلق الكريم. تالله يا بني إني لأوثرك كولدي، وبودي لو قبلت فصهرت إلي وتزوجت ابنتي، وعشت معنا كواحد منا، وإني - إن رضيت - لمقطعك الأقطاع الشاسعة ومانحك المنزل الرحب، هذا وليس في فياشيا كلها من يجسر أن يقسرك على شيء تأباه نفسك، معاذ الله يا بني، إن هذا إلا عرض، مجرد عرض مني لما آنسته فيك من سمو ورجاحة ونبل، فإن لم يرقك أن تفعل فإني معد لك أسباب عودتك غدا، وستنام ملء عينيك بينما يكون الفلك ينهب اليم ويطوي العباب منسربا فوق الموج لقوة الأذرع الفتية التي تعمل في المجاديف حتى تصل إلى وطنك سالما غانما، بل حتى تصل إلى أبعد منه، ولو إلى ما وراء أيوبيا أبعد الجزائر منا، حيث يحمل بحارتنا ردمنتوس
25
ذا الشعر الذهبي لزيارة تتيوس
26
جبار الأرض، إنهم يبحرون به إلى هذه الجزيرة ويعودون في يوم في غير عناء أو إعياء، وستعرف سبب فخاري بسفائني وبحارتي الذين يذرعون البحار ويضربون أكبادها حين يبحرون بك.»
وشاع البشر في أسارير أوديسيوس ذي التجاريب فقال: «أيها الأب الخالد، لله محامدك الغر، أنجز يا مولاي يسر ذكرك في البلاد، وألق أهلي وأنشق نسمة من وطني.» •••
وهكذا تشقق الحديث بينهما.
ثم أمرت الملكة وصيفات القصر فأعددن فرشا وثيرا في الرواق ذي الأعمدة، وهيأته بوسائد من دمقس، وبثثن فوقه الأرائك والحشايا، وعلقن الستائر والأسجاف، ووضعن البرانس
27
واللحف، وكانت كل منهن تحمل شعلة كبيرة تتوهج في جوانب القصر، حتى إذا فرغن من كل شيء دعون أوديسيوس في أدب ظرف أن ينهض لينام، وغفا بطل هيلانس، وأسلم عينيه لأحلام سعيدة.
ونهض الملك والملكة لينعما بطيب المنام.
حفل أولمبي
وصبغت أورورا بمثل حمرة الخجل وجنات المشرقين، فاستيقظ الملك وهب أوديسيوس من نومه، وذهبا إلى الشاطئ حيث تلقي السفن مراسيها، وهناك فوق مقعد حجري أملس جلسا يتحدثان، بينما كانت مينرفا تدق البشائر في شوارع المدينة، وقد بدت في صورة منادي الملك طيلسانه تدعو سادات الفياشيين وشيوخهم إلى مجلس الملك؛ للنظر في أمر هذا الغريب الكريم اللاجئ الذي حل عليه ضيفا، كأحد آلهة الأولمب برغم ضربه الطويل في عرض البحار.
وازدحم سادات المدينة وأشياخها في قاعة المجلس، وكانوا يقلبون في أوديسيوس نظرات الإعجاب والدهش، وكيف لا؟ وهذي مينرفا قد أضفت على صدره الرحب وكتفيه العظيمتين وجسمه السامق رواء علويا من الأبهة والجلال كان ينعكس وقارا ورهبة في قلوب الفياشيين.
ولما انتظم عقد القوم نهض ألكينوس الملك فقال: «يا سادة الفياشيين وشيوخ الأمة، كلمة مرتجلة، فاسمعوا وعوا: لقد حل هذا الضيف الكريم الذي لا أذكر اسمه في بيتي بعد أن شرق في آفاق العالم وغرب، وإنه ليرجو أن تمدوا له يد المعونة، فيعود أدراجه إلى بلاده في كنفكم سالما؛ إذ طالما كان هذا دأبكم، وإكرام الضيف والإحسان إلى الغرباء اللاجئين وردهم إلى ديارهم مهما كانت سحيقة آمنين، فالبدار إذن، هلموا إلى سفائنكم فتخيروا أحسنها حالا وأصلحها لمجالدة هذا البحر، ولتعدوا لها نخبة ذوي بأس من أصلب فتيانكم عودا وأشدهم مراسا؛ اثنين وخمسين عددا من أينع زهرات شباب هذه الأمة، ثم تعالوا إلي فإني مولم لكم تحية لهذا الضيف فلا يتأخر منكم أحد أبدا، وليحضر معكم أحب المنشدين دمودوكوس الإلهي صاحب الألحان الخالدة والصوت السماوي الساحر، فليشنف آذاننا بحلو أنغامه التي لا يقدر عليها إلا هو.»
وانصرف الملك وفي أثره شيوخ الفياشيين، وانطلق رسول إلى منزل المنشد دمودوكوس الإلهي، واختيرت النخبة ذات البأس من شباب الملاحين، وأعدت السفينة في مكانها الأمين من اليم، فنصب القلاع ونشر الشراع وصفت المجاديف، ثم مضى الجميع إلى بيت الملك، حيث كانت الجماهير الحاشدة تكظ الأبهاء وتزدحم في الدهاليز وتملأ الصالة الكبرى، وجيء بالذبائح، فهذان ثوران كبيران ذوا خوار، وهذي اثنتا عشرة شاة سمينة، وتلك أربعة خنازير كناز
1
ما كادت تذبح وتنتزع أنيابها حتى أخذ الجميع فيما أقبلوا له من طعام وشراب، ثم أقبل منادي الملك يقود المنشد الإلهي الأعمى رخيم الصوت صفي ربات الفنون اللائي عدلن له بقسطين من خير ومن شر سواء، فوهبنه التطريب المعجز، وسلبنه النور من عينيه العزيزتين، وأقيم له عرش ممرد في وسط الصالة الكبرى عند عمود مرمري عظيم، فاستوى عليه، وأعلمه بونتونوس بمكان قيثارته المعلقة فوق رأسه، ووضع بين يديه سلة من طعام ومزة.
2
وما كادوا يفرغون من أكلهم حتى رقصت عرائس الفنون في فم المنشد المطرب، فأرسل غناء سحر ألباب الناس، ورقى بها إلى أثير الآلهة في قبة السماء! لقد تغنى هذه الأغنية التي تنظم النزاع الذي شجر بين أخيل بن بليوس وبين أوديسيوس بن ليرتيس أثناء الوليمة الإلهية، والذي جاءت به نبوءة أبوللو (في دلفوس) حينما استوحاه أجاممنون عن يوم سقوط طروادة في أيدي اليونانيين.
وسكت المغني ودفن أوديسيوس وجهه الساهم في ذيل ثوبه الأرجواني الفضفاض خشية أن يلحظه أحد، وطفق يبكي، ويستخرط في البكاء، ثم كشف عن جبينه وسقى الثرى كأسا من خمر صلاة للآلهة، ثم عاد إلى بكائه حينما واصل المطرب غناءه، وكان يرسل عبراته في كسائه غير ملحوظ من أحد إلا من ألكينوس الذي عز عليه ما رأى وما سمع من عبرات ضيفه ومن تنهداته، فقال: «حسبنا يا سادة ما طعمنا وما سمعنا! هلموا جميعا نشهد الضيف الكريم بعض ألعابنا ليذكر في العالمين أن الفياشيين خير من يجري ومن يثب، أمهر الناس في اللكم والمصارعة.»
ونهض الملك ونهض في إثره كل أضيافه، وتقدم المنادي فقاد دمودوكوس وقصد الجميع إلى ساحة السوق الكبرى، حيث احتشدت مواكب الشجعان والشباب اليانع من ذوي القوة والفتوة والبأس الشديد، أتوا من كل حدب لهذا الحفل المشهود، وفي وسط الحلبة وقف الأبطال آكرون وأوكيال وألاتريوس ونوت وبرمنيوس، ثم وقف خلفهم الأبطال الخيال وأنابيسين وأرتميوس وبونت وبرور وأمفيال وتون، ثم نهض حليف مارس المهوب يوريالوس، ثم فخر شباب الفياشيين نوبوليد، وقف كل هؤلاء، ثم هب أبناء الملك الثلاثة؛ لوداماس ولده البكر ثم هاليوس ثم كليتون الأصغر، وشارك نفر من أولاء في سباق الجري، فأخذوا أهبتهم ثم انطلقوا يثيرون التراب في أثر كلبتون ابن الملك، الذي سبقهم جميعا وتركهم يتعثرون وراءه كما تتعثر الثيران في أثر البغال، وتلقاهم النظارة بالهتاف العالي والتصفيق الشديد، ثم كانت المصارعة التي برز فيها يوريالوس على كل أقرانه، كما برز أمفيال في الوثب الطويل، وألاتريوس في قذف القرص. أما في الملاكمة فقد تفوق لوداماس النبيل ابن ملك شيريا، وكان فوزه مسك ختام المباريات، ثم نهض لوداماس فقال: «والآن أيها الأصدقاء نسأل ضيفنا الكريم إذا كان يحذق شيئا يفخر به من هذه الألعاب، إنه لا يزال غريض الشباب بادي الفتوة مكتنز العضلات، عظيم منة الساقين والفخذين مفتول الساعدين، وإن له لعنقا أي عنق! كل ذلك بالرغم من بدوات الضنى وأمارات العناء ، وما حطم البحر من جسمه الخصب، وهل أهلك لجسوم الرجال من أجيال العباب؟»
وكأنما راقت هذه الكلمات البطل يوريالوس فطلب إلى لوداماس أن يدعو الضيف إلى النزال، فنهض لوداماس ثانية وقال: «هلم أيها الضيف فأرنا هل تجيد من هذه الألعاب شيئا؟ إنه ما استحق أن يعيش من لم يعمل بيديه ويسع بساقيه. هلم، حاول إذن فيم احترازك هكذا؟ إنا لن نؤخرك قط؛ فالسفينة معدة، والملاحون على أهبة.»
وقال أوديسيوس يجيبه: «أتتخذني هزوا حين تدعوني للعب يا لوداماس؟ أي لهو وأي لعب وأنا نضو أسقام وطريح آلام؟ لا أمل له إلا أن يعود إلى بلاده، وفي ذلك ما يضرع للملك وللناس.»
وهب يوريالوس يصد
3
ويقول: «كلا أيها الصديق، إني عذيرك؛ فسيماك لا تنبئ عن رجل رياضي، بل أكبر الظن من رجال الأعمال أو حفظة المخازن، أو - إن لم يخب حدسي - من أدلاء السفن في الثغور، ومن يدري؟ فقد تكون عيارا أو قرصانا.»
وعبس أوديسيوس وبسر، وانتشرت فوق جبينه ظلمات من الهم، وتهدج صوته فقال: «إنك لم تحسن كيف تتكلم أيها السيد، وإنك لم تبال أن تطلق في لسانك بهجر القول كأنني رجل لا اعتبار لي. على أن الآلهة - جلت وعلت - لم يتفق أن منحت أحدا من العالمين كل آلائها في وقت معا؛ بساطة الجسم، ورجاحة العقل، وقوة البيان؛ فقد يلوح لك هذا الرجل مهدما محطما في حين قد وهبه جوف بيانا متينا ولسانا مبينا حتى ليخلب ألباب سامعيه، وحتى ليرتفع في نفوس إلى مصاف الآلهة، وقد تنظر إلى ذاك الرجل كأنما تتدفق في عضلاته قوى السماء وهو لا يحسن أن يقول كلمة، مثلك، مثلك تماما؛ فلقد أوتيت بسطة في الجسم، حتى لتوشك في ذلك أن تكون مثالا تقيس عليه الآلهة إذا أردت أن تخلق ماردا جبارا، ولكنك وا أسفاه! لم تؤت بيانا ولا حكمة، فلقد أثرت ثائري بكلماتك الغلاظ العجاف، إني أيها السيد - كما ذكرت - لا أحسن من هذه الألعاب قليلا ولا كثيرا، ولكني كنت فتاها وفارس حلبتها أيام كنت شابا يافعا غض الإهاب ريان الشباب ... أما أنا الآن فوا أسفاه! إن حدثان الزمان لم يبق مني ولا علي، لقد ذبل شبابي في نقع الحروب وسوح الوغى، وفي هذا البحر اللجي يغشاه موج من خلفه موج كالجبال! بيد أنني، على الرغم مما ينقض ظهري من ويلات، سأثبت في سجل شجاعتكم قوتي، فإن لما هرفت به من قول السوء لأنيابا تعضني وتنهشني، أو أدل على قوتي وجبروتي.»
وكان إلى جانبه قرص القذف الذي يستعمله أبطال الفياشيين في مبارياتهم، فانقض عليه واحتمله بيده القوية المفتولة، ثم دفعه دفعة هائلة كان لها هزيم وقصف، واستهولها بحارة الفياشيين الشجعان فخفضوا رءوسهم حتى استقرت بعيدا خلفهم، وهنا بدت مينرفا بين الملأ في صورة أحدهم، وهبت عجلى تقيس مدى القذفة، ثم قالت: «ألا أيهذا الغريب الأعمى نفسه لا ينكر برهانك الدامغ القوي، إنه مدى لا يستطيعه أحد غيرك، فته على هؤلاء الفياشيين، إن منهم من لا يستطيع أن يباريك في أي من هذه الألعاب فادعهم إليك وما عليك من بأس.» وشاعت الكبرياء في نفس أوديسيوس حين سمع هذا الهاتف من صميم الفياشيين يطريه ويثني عليه وينصب من نفسه قاضيا له، فقال وقد انكسرت حدة غضبه: «هلموا أيها الشباب فاقذفوا هذه القذفة أبعد منها وبقرص أكبر وزنا، هلموا ليأت أقوى ملاكميكم فإني له، وليقف أضرى مصاريعكم فأنا أخوه، وليجر معي أسرع عدائيكم فلن يلحق غباري، لقد هجتم ثائري فهلموا! إني أتحداكم جميعا، إلا لوداماس؛ فإنه مضيفي وصاحب قراي، وليس بي أن أنازل من أكرم مثواي في دار غربتي، وليس من النزق ما يحملني على شيء من ذلك. أما غيره فأنا له، وسيعلم منازلي مهما يكن مبلغ قواي؛ إنه ليس من ألعاب الناس ما يعجزني، فأنا رب القوس، وطالما صرعت الألوف من الأعداء تحت أسوار طروادة، وأبدا ما رمى أحد سهما كما رميت إلا فيلوكتيبتيس يوم حاز قصب سبقها دوني، على أنه من؟ إنني لم أبلغ من الحول بعض ما بلغ هرقل أو يوريتوس الذي نفس عليه، فإني أبلغ به المدى الذي لا تبلغه سهامكم، على أنني لا أطمع أن أبلغ خفتكم ورشاقة حركاتهم، فلقد قاسيت من الأرزاء ما قصم ظهري، وصارعت موج هذا الخضم حتى حطمني وأوهاني، ولقيت من الطوى ما براني.»
وخطرت أورورا فوق عرش المشرق وأرسلت من لدنها أمينا من الرسل يداعب جفني نوزيكا.
وصمت الفياشيون ولم ينبسوا، ثم تكلم الملك فقال: «عمرك الآلهة أيهذا النازح الكريم! لقد جلجلت في آذاننا كلماتك، فدلت على شجاعة وعنفوان، وأفحمت هذا الشاب الذي جرح عزتك وأهان كبرياءك أمام الجميع، ثم سكت عن تحديك، ولكن تعال فانظر إلى ما نريك من ضروب الخفة وفنون الرقص وفتون الغناء والسبق في العدو، ومهارتنا حين نسوس الفلك فوق أعراف الموج ورغاء الثبج، كيما تتحدث بهذا كله إلى أقرانك وبين ظهراني قومك وتحكيه لأطفالك، عمرك الله أيها الغريب المكرم! إنه لا فخر لنا في ميدان اللكم والمصارعة، بل غاية المتاع عندنا ثوب موشى وطعام ملون وقيثارة مرنة ورقصة خاطفة وحمام دافئ وفراش وثير، والآن هلموا أيها الفياشيون فالهوا أمام ضيفكم والعبوا، وأروه من رقصكم وشنفوا أذنيه بغنائكم، فلسوف يتحدث بكل ذلك في الآفاق، وحسبكم أن يذكر عنكم أنكم أمهر من ركب البحار، هلموا، ليحضر أحدكم دمودوكوس الإلهي يعزف على قيثاره ويلاعب قلوبنا بغنائه، ابحثوا عنه في بعض ردهات القصر.»
وانطلق منادي الملك يبحث عن المطرب الإلهي، وانطلق آخر يعد قيثاره، ثم نهض تسعة فياصل يمهدون أرض الملعب ويهيئون الحلقة ويزحزحون الجماهير، وأقبل المنادي والطرب يسعى بين يديه، وجلس في وسط الحلقة حيث أحدق به الولدان اليوافع اليوانع يميسون ويرقصون بسيقان تخطف كمثل خطيف البرق، بين دهشتي أوديسيوس وشدة تعجبه والمطرب فيما بين ذلك يوقع لهم النعم الحلو والموسيقى العالية، وفرغوا من رقصهم فشرع يتغنى أسطورة مارس ومعشوقته الآثمة سيتريا؛
4
إذ أغواها رب الحروب المستهتر بمعسول الكلام ومطلول الغرام، فلانت له، وكان أبوللو - إله الشمس - يرقبهما من مركبته الذهبية في علياء السماء، فطار بالفضيحة المشئومة إلى الزوج التعس، فلكان الذي استطير وثار ثائره، فراح يصنع أنشوطة كبيرة كالشرك من حلق الحديد المفرغ الذي لا يقوى عليه أحد، حتى إذا فرغ منها حملها إلى داره ودسها حول سريره، ثم ألم بالمنعرج النجس حيث أوى مارس إلى فينوس - الزوجة الآثمة، وكان مارس يغالب في عينيه أخريات غفوة الضحى، فلمح فلكان يطوي الرحب إلى أرض لمنوس أحب المدائن إلى قلب الإله الحداد، وطرب مارس أيما طرب، وأيقظ معشوقته قائلا: «هلمي فينوس، انهضي أيتها الحبيبة، لقد ذهب زوجك إلى لمنوس أرض البرابرة. هلمي إلى البيت إلى السرير الدفيء، إلى الحب، إلى نعيم الهوى.» وهبت فينوس، وانطلق الأثيمان إلى سرير فلكان، وفي قلب مارس غلة وملء جوانحه غواية وإثم، وفي دمه شبق إلى هذه الفاكهة يكاد يقتله، ولكن، وا أسفاه! إنهما ما كادا ينطرحان فوق الفراش الوثير حتى انطرحت فوقها الأنشوطة الهائلة، وأمسكت بهما إمساكا شديدا، لم يجدا منه حولا، ولم يجدا منه مخلصا، وكان أبوللو يرقبهما كذلك، وقد حدث فلكان بما رأى، فعاد الإله الحداد على عجل، ولم يكن قد بلغ شطآن لمنوس بعد، وكان قلبه يدق. لا، بل كان قلبه يكاد ينخلع فوقف في البهو الكبير، ثم أرسل صيحة مدوية يستصرخ بها الآلهة: «يا جوف العظيم! يا آلهة الخلود جميعا، انظروا، اشهدوا كيف تفضح فينوس زوجها مع عشيقها الفاجر مارس ولمه؟ لأنه وسيم قسيم قوي؛ ولأنني محطم موهون! ذنب من؟ إنها جريرة من أنسلوني وجاءوا بي إلى الحياة، انظروا كيف يتمرغ الأخبثان الأفسقان فوق فراشي، لقد تثلجت مشاعرهما فهما لا يباليان أن يأكلني الغيظ أو يقتلني الحنق، ولكن لا! حسبهما هذا الشرك الذي لن يفلتهما حتى يرى جوف فيهما رأيه؛ جوف الكبير المتعال، والد فينوس الذي أطلب إليه أن يرد إلى قناطير الهدايا الزوجية التي قدمتها باسم ابنته العاهرة كشروط لإطلاق سراحها.»
ولم يكد يفرغ من صرخته حتى اجتمع في بيت جوف ذي الأرض النحاسية جميع الآلهة، وكان أول من أقبل نبتيون رب البحار، ثم تلاه هرمز رسول الآلهة وصاحب القوس، ثم أبوللو، ثم غيرهم وغيرهم، ولم يحضر من ربات الأولمب واحدة؛ فقد احتجزهن الخجل عن شهود هذه الفضيحة، ثم ها هم الآلهة يقهقهون ويضحكون، ويتلهون بهذا المنظر العجيب، ويقول بعضهم لبعض: «يا للإثم ساق إلى أوخم العواقب، ويا للأعرج الأكسح يشائي
5
السباق المجلى، لقد استطاع فلكان أن يمسك بتلابيب مارس الذي هو من هو؛ مارس، أسرع العدائيين، إن عليه أن يؤدي الغرامة الفادحة للإله الأعرج.» ثم خاطب أبوللو - رب الشعاع الوضاء - هرمز فقال: «أيا ابن جوف، يا رسول السماء، ألك في هذه الغفوة الحلوة في حضن فينوس على أن تقع معها في هذا الشرك؟» وأجابه هرمز عابسا: «يا رب الرماة، بنفسي بنفسي، من ذا الذي يأبى حضن فينوس في شرك هو ثلاثة أضعاف هذا الشرك على أن يرمقه سكان الأرض والسماء؟» وتضاحك سكان السماء، ولكن نبتيون الذي ساءته هذه الحال خاطب فلكان فقال: «هلم فلكان ففك هذه السلاسل والأغلال، وإني زعيم لك كفيل أنه مؤد إليك كل ما تفرض عليه من غرم.» ورفض فلكان أن يطلق فريسته؛ «لأنه من يضمن ألا ينطلق مارس وهو لا يلوي على شيء غير عابئ بكل ما عساه أن يعد؟» وقال رب البحار: «ليطمئن قلبك يا فلكان؛ فوعزتي وجلالي لئن لم يف مارس لأنجزن أنا ولأؤدين عنه غرامته.» فأجاب رب الحديد الصناع: «إذن فلن يخيب رجاؤك ولن يرد طلبك.» وتقدم ففك الأغلال عن العاشقين الفاسقين، وانطلق مارس إلى مأواه بأرض تراقيه، وانطلقت فينوس إلى مرتعها الجميل بأرض بافيا، حيث تلقاها ربرب من أترابها بالبشر والترحاب، فغسلنها وضمخنها بالطيوب القدسية، وأسبلن عليها شفوف الصبا وأردية الشباب. •••
وفرغ دمودوكوس من إنشاده بين تأثر أوديسيوس وتلهف البحارة الفياشيين، ثم أومأ الملك إلى أبنائه، فوثبوا وسط الساحة، وأخذوا يرقصون في خفة، ويتقاذفون كرة غالية من صنع بوليب، فكان أحدهم يرسلها عالية حتى تدنو من السحب فيثب الآخر فيلتقطها وهو معلق في الهواء، ثم يتقاذفها أحدهم بعد الآخر بين تهليل الفتيان وتصفيقهم الشديد، وسر أوديسيوس مما أبداه أبناء الملك في الرقص، وأثنى عليهم لأبيهم، ورجاه في الذي رجاه فيه من تهيئة عدوته، فتوجه الملك إلى زعماء شعبه وقال: «يا زعماء الفياشيين وأشياخ الأمة، حري بنا أن نكرم مثوى هذا الضيف الذي بدا لكم من وقاره وحكمته، وأثير أرومته الشيء الكثير، هلموا إذن، إنكم اثنا عشر زعيما وأنا الثالث عشر، فليحضر كل منكم بدرة من الذهب وصدارا مفوفا فتكون من الجميع هدية سنية له. أما يوريالوس فعليه هدية كذلك، وعليه أن يعتذر مما فاه به.» ووافق الكل على ما اقترح الملك، وأرسلوا رسلهم يحضرون البدر والصدر، ثم نهض يوريالوس يعتذر ويقدم لأوديسيوس سيفا جرازا له مقبض من فضة وقراب مطعم بالعاج، ودعا له أن تكلأه الآلهة بعين الرعاية حتى يرى زوجه وولده وبلاده بعد كل الذي احتمل من عناء ونصب، وتقبل أوديسيوس الهدية ودعا لصاحبه بحياة الأمن والسلم والرفاهية، ثم علق الجراز فوق كاهله الضخم.
أبوللو ومارسياس وميداس.
ووصلت الهدايا الأخرى مع غروب الشمس، فنهض أبناء الملك يتسلمونها، ويحملونها إلى داخل القصر، حيث أمهم أريتا الملكة، ونهض الملك فتوجه إلى الداخل كذلك، وسأل الملكة أن تحضر ثوبا وأكسية، وأن تعد صندوقا يتسع لهدايا الزعماء ملوك البحر التي خلعوها على الضيف، وقدم هو هديته؛ كأسه الخاصة من الذهب الخالص المحلاة بأبهج الطرف وأبهى التصاوير؛ «ليذكرني بها كلما أفرغ منها الخمر تقدمه للآلهة»، وسألها أن تعد للرجل حماما ينعشه وأن تعطيه الأثواب والأكسية كيما يتدثر بها.
وأمرت الملكة خدمها فأعددن الحمام، وأحضرت هي ثوبا فضفاضا فوضعت فيه بدر الذهب وكأس الملك وسائر الهدايا، ثم تلفتت إلى أوديسيوس فقالت له: «والآن أيها السيد، هلم فغلق هذا الصندوق فهو لك؛ لتكون آمنا عليه إذا غفوت في السفينة.» ولبى أوديسيوس، وأغلق الصندوق ثم ربطه بحبل طويل عقده تعقيدا. ثم دعته ربة البيت إلى حمامه، ولله كم ألقت عيناه حين رأى الثوب الديباجي العظيم، الذي لم يلبس مثله منذ فارق كليبسو، ثم اغتسل وتدثر، وتضمخ بأحسن الطيوب وبرز كأحد آلهة الأولمب، وبينا هو يطوي الأبهاء إذا صوت جميل ذو غنة يهتف به، وإذا هي الأميرة الفينانة «نوزيكا» واقفة خلف عمود وهي تقول: «س ... س ... أيها الغريب النازح، اذكرني دائما، أنا أول من لقيك هنا.» وتبسم أوديسيوس وقال: «نوزيكا! أنت؟ ابنة أكرم الملوك ألكينوس؟! لك الله ألا وحق جوف رب الصواعق، لو صحت الأحلام ووصلت سالما إلى بلادي لظللت آخر الدهر أعبدك عبادة أيتها الجميلة العذراء، كما أعبد الآلهة أربابي.» وبلغ مجلس الملك فاستوى إلى كرسي بجواره، واجتمع الفياشيون مرة أخرى ودارت الأقداح، وأجلس المطرب الأعمى الإلهي فخر شيرا قريبا من العرش، وقدم إليه أوديسيوس جزءا من شواء حملة أحد الندل، فأقبل عليه المطرب حتى اغتذى، ثم توجه إليه أوديسيوس بالحديث فقال: «كم أنت جديري بالثناء يا دمودوكوس، بل أنت أولى به من أكثر الناس، ليت شعري هل ثقف موسيقاك عن عرائس الفنون! أم أنت قد حذقتها على أبوللو نفسه؟ لقد أنشدت ما كان من جيش الأخيين كأنك كنت شاهد عيان، أو كأن شاهد عيان قد قصه عليك، أنشد لعمرك، تحدث عن الحصان الهولة الذي صنعه أبيوس بإرشاد مينرفا، والذي حمله أوديسيوس الجبار هو وصحبه إلى قلاع طروادة، ثم اختبأ هو وهم فيه، فكانوا أول خراب إليوم! تغن، إني سوف أحمل اسمك فأنشره في الآفاق أيها المطرب المعجز الذي لا يباريه إلا عازف موسيقى السماء أبوللو تقدس اسمه.»
وتنزل أبوللو على لسان المنشد فراح يقص الوقائع الطروادية منذ حرق اليونانيون معسكرهم وبعد إقلاعهم من شطآن إليوم، وذاك الانقسام في الرأي بين الطرواديين بسبب الحصان الهولة أيقصمون ظهره أم يدقون عنقه أم يحفظونه تذكارا لهذه الحرب ونصبا للآلهة؟ على كل حال لقد نقلوا الحصان داخل أسوارهم؛ ليكون القاضي عليهم بمن فيه من هذه النخبة أولي القوة من أبطال الإغريق، وهكذا قدر عليهم في الأزل أن يهدموا قريتهم بأيديهم. تغنى الشاعر المفتن بكل هذا، وأثنى أيما ثناء على أوديسيوس الذي كان يكر كأنه مارس، ومنلوس الذي كان يفر كالصاعقة، وعلى بقية الأبطال الصناديد الذين فازوا بالنصر في ظل باللا - مينرفا - ربة الحكمة، وكان أوديسيوس ينصت إلى غناء المطرب وإنشاده ودموعه تنحدر غزيرة على خديه، والآهات العميقة تشق صدره شقا، كأنها آهات تلك الأم الرءوم التي وقعت فوق جثمان زوجها الباسل تبكيه وتنعيه، وقد سقط في الحومة يدفع عن مدينته أعداءها، وقد وقف من خلفها أبناؤها خضرا يتامى كأفراخ القطا، ثم يقبل الأعداء فيخمدون أنفاس هذه الأم بضربة لازبة فتنظر مرة إلى زوجها القتيل ومرتين إلى أبنائها التاعسين! كذاك كان أوديسيوس، وكذاك كان يخفي دموعه في طرف ردائه فلا يراها أحد إلا ألكينوس الملك الجالس قريبا منه، وقال الملك متحدثا إلى رعاياه: «أيها الزعماء والأشياخ الفياشيون، أولى للمنشد ثم أولى أن يفرغ من إنشاده؛ فلقد تصدع قلب ضيفكم ووهنت روحه مما يسمع من هذا القصص الحزين، لقد أحببناه كأخ ووهبنا له محبتنا وودنا وصافي أخوتنا لا ليحزن أو يأسى، والآن هل يسمح ضيفنا فيذكر لنا اسمه الذي يعرفه به آله ويدعونه به؟ لقد كتم هذا عنا، فهل ولد أحد ولم يحمل اسما؟ من أنت أيها العزيز؟ وما بلادك؟ وإلى أين تحملك سفينتي ويبحر بك رجالي؟ لقد منحنا نبتيون - رب البحار - الأمن في ذلك اليم، وذلل لنا غواشيه، ولكنه ليس أشق عليه من أن تحمل سفننا أغرابا مثلك لا نعرفهم فنبحر بهم إلى بلادهم، إنه يغضب علينا، وقد يغرق سفننا تشفيا وانتقاما حينما تعود أدراجها إلى بلادنا، فتهوي إلى الأعماق ثم يسحرها إلى جبل ناتئ فوق العباب قبل شيريا، تكلم أيها السيد، اصدقنا؛ من أنت؟ ومن أي البلاد قدمت؟ وأين ضربت بطون الركائب؟ وأي الأمصار شاهدت؟ وماذا يفجر هذا الأسى في أعماقك كلما سمعت عن جنود الأخيين، وكلما ترددت في أذنيك أغنيات طروادة؟ إن الآلهة تحيك من حاضر المرء طيلسان الهموم لغده، أقتل أبوك ثمة؟ أم صرع أخوك تحت أسوارها؟ أم قضى حموك في ساحتها؟ أم أودى أصدقاء لك أحباء في حلبتها كنت تعدهم كبعض أهلك أو أعز من أهلك؟ تكلم.»
النجيب الهرقلي الذي يقص أثر الأميرة ابنة الملك.
في أرض المردة (السيكلوبس)
وشرع أوديسيوس يجيب عما تساءل عنه الملك فقال: «أيها الملك تعالى جدك، لشد ما يطرب ما تغنى هذا المنشد غناء الآلهة، ولقل ما تعدل الدنيا بأسرها هذا المجلس الشادي ذا الأضياف والآكال والأشربات، على أنني مجيبك على ما بدهك من دموعي وهمومي، وما لقيت وما سوف ألقى مما قسم لي من أشجان وأحزان، إذن فاعرف اسم ضيفك الشريد الذي لا يجهل اسمه أحد؛ ضيفك اللائذ بكرمك المستذري بحماك، المتشبث بك ليصل في ظلك إلى بلاده مهما تقاصت ومهمات نأت. أنا أيها الملك أوديسيوس، أجل، هو أنا أوديسيوس ذو الذكر المعروف في السموات بالدهاء والمكر، ابن ليرتيس رب إيثاكا وملك نريوس ذي الشعاف السامقة والجزائر الآهلة حول ساموس ودلخيوم وزاسنتوس، أم الجزائر التي تصافح تباشير الصباح بكل روضة فيحاء وخميلة لفاء، وجنات ذوات شجر وثمر، صبغا لأبنائها الأوفياء؛ هناك، حيث احتجزتني عروس الماء كليبسو في كهفها وراودتني لأكون بعلها، وهناك حيث أغرتني سيرس هي الأخرى، سيرس صاحبة جزيرة أيايا، التي حاولت أن تتخذ مني خليلا، فأبيت ولم أقبل أن أضحي بأهلي ووطني ولو أصبحت زوجا لإحدى الربات الخالدات، ولكن لا، هلم قبل كل شيء أقص عليك من أنباء رحلتي منذ بارحت إليوم، ولأدع ما قبل ذلك فهو معلوم مشهور.
أقلعت بنا الفلك إلى بلد السيكون (أزماروس)،
1 (فبدا لي أن أزيد في ثروة رجالي وما فازوا به من أسلاب طروادة، فأشرت عليهم بفتح المدينة واغتنام ما فيها من كنوز وأذخار)
2
وسرعان ما تم لنا ذلك، فقتلنا العسكر وملكنا القرية، ووزعت السبي والأسلاب على جنودي، ثم أشرت عليهم بالرحيل، فعصوا أمري وعثوا في المدينة مفسدين، وعاقروا من الخمر، وعقروا من الشاة ما أذهلهم عن أنفسهم وأتاح لأعدائهم لم الشعث، ففاجئونا بجيش عرمرم منهم ومن جيرانهم، وناضلونا عن مدينتهم فأوقعوا بنا، ولم يغننا أنا قاتلناهم حتى مطلع فجر اليوم التالي، بل ظل فرسانهم الصناديد يكرون ويفرون، حتى قذفوا بنا في البحر، فوقفنا في سفائننا نناوشهم برماحنا، وصمدنا لهم حتى توارت الشمس بالحجار، فانسحبنا نجر أذيال الهزيمة والخزي بعد أن انتزع السيكون فخار النصر، وعدت إلى الجند، فوا أسفاه! لقد افتقدت ستة من رجال كل سفينة؛ سقطوا في المعركة الخاسرة.»
وأجننا الليل فجلسنا نتذاكر أسماء القتلى، وما كدنا نفعل حتى سخر علينا جوف - رب السحاب الثقال - صرصرا عاتية أثارت البر والبحر، وعصفت بمراكبنا فأطاحت قلاعها ومزقت شراعها، ففزعنا إلى المجاديف وأعملنا السواعد مستقتلين مستميتين حتى نجونا بعد لأي إلى البر، حيث تلبثنا ليلتين طويلتين في أين وإعياء، وشكاة وشقاء، نصلح القلاع ونرتق الشراع. وفي صباح اليوم الثالث تطامن البحر ونام هائجه فبادرنا إلى الفلك وأقلعنا باسم الآلهة مجراها ومرساها، وما كدنا نلمح شطآن ماليا حتى هبت زوبعة عنيفة تلاعبت بنا وحملتنا إلى جزيرة سيتيرا، وطفقنا بعدها نذرع العباب تسعة أيام أخرى حتى بلغنا بلاد «لوتوفاجي»، هذا الشعب الغريب الذي يقتات بالفاكهة فحسب، من دون ما تنبت الأرض وما يدب عليها. ورسونا ثمة وأهرع الملاحون إلى البر فاستراحوا وسمروا، ثم تخيرت اثنين من أوثق رجالي، وجعلت عليهما ثالثا رئيسا ووجهتهم إلى سكان هذه الأرض ليتعرفوا أحوالهم، فاختلطوا بهم وقابلهم اللوتوفاجي بالبشر والترحاب، ثم عرضوا عليهم من ثمر اللوتس العجيب الذي ينسى آكله ما سلف من حياته، وينبت ما بينه وبين وطنه من وشيجة فما يفكر فيه، وإذا فكر فيه فما يؤثر أن يرتد إليه، بل يصبح كل مناه أن يأكل ويأكل من هذا اللوتس العجيب، وأن يعيش أبد الدهر بين أولئك اللوتوفاجي السحراء. وتنظرت عودة رجالي، بيد أنهم لم يرجعوا، فاضطررت أن أذهب بنفسي إلى حيث سحروا، فحملتهم قسرا إلى الشاطئ بين العويل والضجيج، وقذفت كلا منهم في قمرة مغلولا مكبلا مشدود الوثاق، ثم أمرت الملاحين فأبحروا على عجل قبل أن يأكل بعضهم من اللوتس الملعون فيضلوا ضلالهم وينسوا أوطانهم، ويظلوا في هذه الأرض جاثمين.
وما عتمنا أن وصلنا إلى أرض المردة الجبابرة - السيكلوبس - الطغاة العتاة، الذين لا يخضعون لشريعة ولا يأتمرون بقانون، الذين تؤتي أرضهم أكلها رغدا، من غير كد ولا عناء، حبا وأبا وحدائق غلبا وقضبا وعنبا، تسقي مما يفيض عليها جوف من مائه المعين، يعيشون فوضى لا تربطهم رابطة ولا قوم بينها نظام، يأوون إلى كهوف موحشة وغيران سحيقة، قلل الجبال وأحيادها، يعنى كل منهم بنفسه وزوجه وأولاده وقطعانه، ولا يأبه للباقين، وتلقاء أرضهم توجد جزيرة معشبة أريضة شجراء فيها من الماعز السائم قطعان لا حصر لها، ولكنها مع ذلك بهماء
3
مضلة، لم تطأها فيما غبر قدم إنسان، ولم يرش إلى حيوانها سهم صائد؛ لأن السيكلوبس لم يحاولوا أن يركبوا البحر مطلقا، ولم يعرفوا طوال حياتهم هذه الجواري المنشآت فيه كالأعلام؛ لذلك سلمت الجزيرة بما فيها من خير وتكاثر قطعانها حتى امتلأت بها مروجها الخضر السندسية، وثمة في جون هادئ جميل ألقينا مراسينا، ونزلنا من سفائننا في ظلام الليل الدامس وفي حراسة الآلهة، بعد إذ ارتطمنا بسيف البحر. ثم نمنا على الشاطئ حتى مطلع الفجر، وأشرقت أورورا تنضر بالورد مشرق الأفق، فنهضنا نجوب الجزيرة ونتفيأ ظلال الحور، ونرى عرائس الماء ترعى الماعز، فبادرنا إلى سفننا وأحضرنا الحراب والأقواس، ثم تفرقنا ثلاث فرق، وشرعنا نصيد من هذا الحيوان، فاجتمع لنا منه الشيء الكثير، ونال كل من رجال سفائننا الاثنتي عشرة تسع أعنز، بعد أن تخيرت عشرات لنفسي، ولبثنا يومنا هذا نتغذى بكل شواء حنيذ، ونكرع كل كأس روية في غير تخمة ولا شجى،
4
وللآلهة تلك الخمر السلاف السيكونية التي افترعناها من زقاق أزماروس، ثم نظرنا ناحية الغرب فما راعنا إلا دخان كثيف يصاعد في الأرض القريبة، ورغاء وضوضاء كالرعد تنتشر في جنباتها، وإذا هؤلاء السيكلوبس المردة ينتشرون في الأرجاء، وأمامهم قطعانهم من الشاء والأنعام ... أعداد لا حصر لها، عليها إذا عد الحصى يتخلف.
ونمنا ليلتنا مروعين حتى إذا بزغت أورورا نهضنا واحتشدنا في صعيد واحد، ثم قمت في رجالي خطيبا فقلت: «أيها الإخوان، لتبق غالبيتكم في هذه الجزيرة؛ فإني ذاهب في نفر منكم نرود هذه الأرض، ونعرف من أنباء أهلها، ونعلم من أحوالهم، ونرى هل قوم ظلم وضيم ونضال، أم هم ربيون يهشون للمكرمات ويخبتون للآلهة؟»
وأقلعت في نخبة من رجالي فوصلنا طرفا من الجزيرة ناتئا في البحر، فوقه قلاع مشرفة عليه فهبطنا فيه وذهبنا نروده، حتى انتهينا إلى كهف عظيم ضارب في الصخر، وقد نما الغار الجميل على بابه الضخم، ودخلنا، وأثار دهشتنا هذه الحظيرة الكبيرة في وسط الكهف، تتسع لقطعان لا عدد لها من الأنعام والأغنام والماعز، ثم هذا الفناء العظيم المحدق بها يفصله عنها سور عتيد من الحجر الصلد مترس بجذوع الحور والسنديان، ولقد عرفنا فيما بعد أن صاحب هذه المغارة مارد جبار من أراذل السيكلوبس، لصق بهذا الطرف من الجزيرة يعسف ويظلم ويملؤه بغيا وعدوانا، ثم هو إلى الجان والشياطين أقرب منه إلى أي خلق آخر، فوجهه مربد عبوس أبدا، وهو إلى ذلك هولة تحسبه إذ تراه قطعة من الصخر نحت منها ناطور فوق ناصية الجبل ... وتوقلنا
5
وكان معي زق من خمر معتقة مما أعطانيه مارون بن إيفانت قس فوبوس رب أزماروس؛ لقاء ما أبقينا عليه وعلى زوجه وأولاده يوم غزوتنا لقريته. يا له من كاهن سمح طيب القلب! لقد نفحني بأكرم اللهى
6
وأجزل الهبات، وهل أنسى ما حييت تلك البدر السبع من الذهب الخالص، وذلك الدن من الفضة الغالية، وتلك الجرار الاثنتي عشرة من الخندريس الصرف التي تشرب باسم الآلهة؟ لقد كان يفديها بنفسه وماله، فلم يكن يعرف مخبأها أحد غيره وزوجه وأمينه ... لقد كانت كأس روية واحدة من هذه المدامة تمزج بعشرين ضعفا من الماء القراح، وهي مع ذاك سكر ولذة وروح علوي للشاربين، ثم كان معنا ركز
7
به أكل كثير، وكنا عددا عديدا من الأبطال الصناديد، ولكنا مع ذلك كانت تعترينا رعدة، وكان يشيع في قلوبنا فزع أن يفجأنا هنا الجني صاحب المكان، الذي لا يخشى فينا شريعة، ولا يرده عن أذانا قانون، ثم توقلنا كذلك، فأشرفنا على مغارة سحيقة هي مقام السيكلوب ومنامته من غير ريب، بيد أننا لم نجده عندها، فقلنا ربما انطلق بقطعانه يرعاها في المروج القريبة، ورددنا الطرف في المغارة فرأينا مصافي كثيرة معلقة، ينز الحصير
8
منها ها هنا وها هنا، فعرفنا أن السيكلوب يصنع الجبن من ألبان مواشيه، سيما وقد امتلأ المكان ببواط كثيرة مفعمة بالحصير والمخيض، وعلى مقربة منا شهدنا حظائر واسعة لصغار الشاه والحملان والماعز، وقد قسمت فرقا حسب سنها، وقد بدا لبعضنا أن نذهب بما هنالك من جبن وزبد، وأن نستاق الحملان والجذعان إلى سفائننا، غير أني - وا أسفاه - تأبيت؛ لأنني آثرت لقاء السيكلوب؛ رجاء أن ينفحني من كنوزه ويسبغ علي من آلائه؛ ولذا جلسنا ريثما يعود وأكلنا من جبنه وزبده، وأشعلنا نارا نستدفئ، ثم إذا هو طوى المروج الخضر بقطعانه، وإذا على كاهله الرحب أثقال وأحمال من الحطب وفروع الشجر اليابس، حتى إذا كان لدى الباب ألقاها في بطش، فاهتزت الأرض المكان، وانحبس وصيد الكهف، فانقذف الرعب في أفئدتنا، فهرولنا مذعورين صعقين، واختبأنا كالخفافيش في زوايا المغارة وشقوقها ... أما هو فقد أدخل قطعانه واحتجز ذكرانها في الفناء الخارجي، ثم أخذ في حلب الإناث في الرحبة الداخلية، ونهض بعد ذلك فسد مدخل الكهف بحجر واحد كبير لو وضع على عربتين عظيمتين لم يستطع عشرون ثورا ضخما أن تزحزحه عن مكانه، وجلس يحلب النعاج والماعز، وكلما فرغ من واحدة أرسلها إلى جذعانها
9
ترضع ما تبقى في ضرعها، وكان يقسم لبنه قسمين؛ فيحتفظ بأحدهما لشرابه، ويمخض الآخر لزبده وجبنه، ثم فرغ من هذا كله وأضرم نارا عظيمة ما كادت تلتهب حتى رآنا معلقين فوق نؤى الكهف، فصاح بنا: «من هنا؟ وي! من أنتم أيها الغرباء؟ ومن أي البلاد نزحتم؟ وفيم خضتم هذا العباب إلى هنا؟ آفاقيون، أم تجار، أم قرصان تعيشون في بلاد الناس؟» وزلزلنا زلزالا عظيما، وكان صوته الأجش الخشين يلقي الرعب في قلوبنا فتعتلج اعتلاجا، ثم إني جمعت ما تبقى من وعيي، وما أبقى عليه الروع والهلع من أدراكي، فقلت أجيبه: «نحن إغريقيون أيها العزيز، وقد ذرعنا البحر اللجي شرقا ومغربا، وتقاذفتنا فوقه كل ريح منذ بارحنا إليوم التي فتحها الله علينا؛ لأننا من عساكر أجاممنون الملك ابن أتريوس الكريم قاهر طروادة ومبيد الطرواديين، وها نحن أولاء قد لذنا بك بعد طول النصب، فنضرع إليك أن تفيء علينا مما أفاء جوف عليك، وأن تردنا غانمين، فيا مولانا أكرم مثوانا، فنحن الأغراب في كنف جوف أبدا، وأينما نول فإنه معنا.»
وتجهم السيكلوب الجني وقال مغضبا مستهزئا: «حسبك أيها الأخ المغفل، ما خوفت من جوف؛ فنحن السكلوبس لا نبالي جوف حامل إيجيس،
10
ولا سكان السماء قاطبة؛ أنا أقوى منهم بكثير، وأنا نفسي لن آبه لأيما نذير من جوف كبير الأولمب، ولكن حدثني قبل كل شيء؛ متى ألقت سفينتكم مراسيها في أرضنا؟ وأين هي؟ أقريبة أم قاصية من هنا؟ قل الحق ولا تخف عني شيئا.»
أبوللو حينما استوحاه أجاممنون عن يوم سقوط طروادة في أيدي اليونانيين.
وأجبته في حيطة ورفق، وقد عرفت ما رمى إليه: «لقد نسف نبتيون رب البحار مركبنا في اليم نسفا، وسلط عليها الزوابع فجرت بألواحها بعيدا من ها هنا، ونجوت مع هذا النفر من رفاقي فقط إلى شاطئكم.» ولم ينبس السيكلوب الجبار بكلمة، بل أقبل نحونا وانقض على رجالي كالصاعقة، ثم أمسك باثنين منهم وأرسلهما في الهواء، ثم ضرب بهما أرض الكهف ذات النؤى فتهشم رأساهما، وانتثر المخ فوق الحجارة هنا وهنا، وألقاهما بعد ذلك في الجمر المتأجج حتى نضجا، واستوى كالسبع الرئبال وطفق ينهشهما، ولم يمض وقت طويل حتى أتى عليهما غير مبق على عظمة واحدة، أما نحن فيالآلهة السماء! لقد كان هذا المنظر الفاجع يعصف بنفوسنا ولم نملك إلا أن نرفع الأكف فنبتهل إلى جوف أن ينجينا وأن يرحمنا، ولم يكن لنا مع ذاك من أمل في نجاة.
طرب مارس أيما طرب وأيقظ معشوقته فينوس.
وبعد أن أشبع الجبار نهمته من هذا اللحم الآدمي الغريض، وبعد أن رب من اللبن شرب الهيم انطرح بين قطعانه، وجعل يرسل في الكهف شخيرا مزعجا، وقد حدثتني نفسي أن أنقض عليه فأخوض في لبته بجرازي، ولكن فكرة سوداء طافت برأسي حينما نظرت إلى باب الكهف فأبصرت الحجر الضخم الذي لا يطيق أحد أن يزحزحه، وتذكرت الموتة الجاهلية المفزعة التي سنموتها إن فعلت، فقنطت قنوطا شديدا، وأرسلت آهات الحسرة والندامة أنا وأصحابي، وانتظرنا بقلوب فارغة تباشير الفجر، ورأينا أورورا الوردية ترسل أول أشعتها من الكوى الصغيرة، فهب السكلوب إلى قطعانه، وأخذ في حلب إناثها، وكلما فرغ من واحدة أرسلها إلى صغارها ترضع وتنخب، ثم إنه قبض على اثنين من رجالي وفعل بهما كما فعل بصاحبنا أمس، حتى إذا فرغ من إفطاره هب إلى الحجر فزحزحه في سهولة ويسر، كأنما كان يزحزح غطاء آنية، ثم استاق قطعانه وأعاد الحجر إلى مكانه، ومضى يرعى بهمه، وبقينا نحن ندعو ثبورا، وفكرت ألف فكرة في وسيلة أنتقم بها من هذا المارد الوحش، وتوسلت بمينرفا أن أستطيع، وانفرجت أساريري فجأة وأشرق وجهي بنور الأمل؛ ذلك أنني أبصرت بجذع زيتون مشذب أعده الجني ليكون عصا يهش بها على قطعانه، فقلت في نفسي: «ولم لا يكون في هذا الجذع خلاصنا؟» ثم إني أمرت رجالي ببري أحد طرفيه، وكان الجذع طويلا جدا، يصلح سارية لسفينة كبيرة يعمل فيها عشرون بحارا، فأقبلوا عليه ينحتون ويبرون، وأكببت أنا على نهاية الطرف أحدده. ثم انتهينا من عملنا وأخفينا الجذع تحت القش الكثير الملقى في الكهف، وجلسنا نتخير من بيننا أشجعنا وأكثرنا أيدا وقوة، وأشدنا استعدادا لحمله وغرزه من طرفه المحدد في عين السيكلوب، وانتهينا من ذلك إلى أربعة وكنت أنا خامسهم، ثم عاد الجني في موعده فأدخل قطعانه وأرجع الحجر إلى مكانه، وجلس يحلب الإناث ويقسم اللبن ويمخضه، ويرسل كل جذع إلى أمه، ثم نهض إلينا فبطش باثنين منا وتعشى بهما، وقبل أن يستلقي على الأرض ليستريح أفعمت كأسا كبيرة مما كان معنا من خمر مارون وتقدمت إليه وأنا أقول: «ألا أيهذا السكلوب، هاك كأسا من الخمر إذا تحسيتها بعد أكلتك الهنية من اللحم البشري عرفت أي خمر فقدنا في سفينتنا المغرقة.
لقد كنت أحضرتها تكرمة لك إذا أنت أكرمت مثوانا وأطلقت سراحنا وساعدتنا على العودة إلى وطننا سالمين، ولكن أواه إن سورتك طامية أيها القاسي الجبار، وإن أحدا من البشر لن يجسر على أن يقترب من جزيرتكم بعد اليوم.» وأخذ الكأس فعبها عبا، وسر بها سرورا كبيرا، ثم سأل أخرى فقال: «أيها الفتى ما اسمك؟ أعطني العناقيد وأنا مثيبك عليها، إن لدينا خمرا صرفا من أكرم ما تعصر العناقيد يسقيها جوف من شآبيبه، ولكنها أبدا لا تبلغ هذه الخمر البكر جودة.» وأعطيته ثانية وثالثة، وراح المجنون يشرب ويشرب، ولما شهدت النشوة ترقص برأسه قلت له في ظرف: «أيها السيكلوب، لقد تساءلت عن اسمي، ألا فاعلم أنه أوتيس،
11
وبه أسمى في بلادي، ولكنك وعدت أن تثيبني على ما قدمت لك من خمر، فماذا عساك مانحي؟» فاستهزأ السيكلوب وقال: «اطمئن يا صح، سأهب لك أن تكون آخر من آكل من إخوانك؛ هذا هو جزاؤك.» وتثاءب وتثاءب، ثم انطرح وسط قطعانه يغط في نوم عميق، وكان يصعد أنفاسه بقوة فتنقذف من بلعومه شوائب من خمر ممتزجة بقضمان من لحم بشري، وقفزنا إلى جذع الزيتون فوضعنا طرفه المحدد المبري في الخمر المتأجج حتى تأجج مثله، وبكلمات قليلة أثرت النخوة في نفوس إخواني حتى لا تخذلهم قواهم، ثم استعنت الآلهة فابتعثت فينا قواها السحرية، واستجمعنا كل ما فينا من منة اليأس، ووضعنا الطرف المشتعل في عين السيكلوب المقفلة، وحركنا الجذع وطفقت أنا أقلبه فيها من مكان عل، كما فعل السفان الصناع بمثقابه في خشب السنديان، وانبجس الدم من عين السيكلوب العمياء وجحظ إنسانها كأنه عين حمئة من دم وعلز، وقصاراي لقد كنا كالحداد الماهر الذي يطفئ سلاحا محميا في ماء بارد، ولقد صرخ السيكلوب
12
صرخة ردد أصداءها الكهف، ثم رددتها الغيران والجبال المجاورة، وذعرنا نحن فلصقنا بالشقوق والزوايا، وراح الجني الجبار يخبط في ظلام العمى بعد أن انتزع الجذع المشتعل من عينه، وهرول كالجبل نحو الباب فوقف عنده، وطفق يولول ويهتف ويصيح ويدعو جميع إخوانه السيكلوبس كلا باسمه، فاجتمعوا إليه من كل فج عميق، وقال قائلهم: «ماذا دهاك يا بوليفيم حتى تروعنا هكذا في ظلام الليل، وحتى تقض مضاجعنا بصراخك الفظيع؟ هل خفت أن يستاق أحد قطعانك؟ أم خشيت أن يقتلك أحد بقوة أو غدر؟» وقال بوليفيم وهو يتصدع: «آه أصدقائي، إني أموت ولقد قتلني أوتيس.» فقال قائلهم: «إن كان أوتيس - الذي هو لا أحد - قد ألحق بك أذى فما صنع بك هذا إلا جوف؟ تجلد يا صاح، وادع أبانا نبتيون ليساعدك؛ يأتك من أعماق اليم.» ثم تركوه وانصرفوا لشأنهم، وضحكت أنا في سريرتي؛ لأني استطعت أن أعمي عليهم بهذا الاسم الملفق المفترى، وما برح بوليفيم يبكي ويعول ويهزه الألم والأسى، حتى زحزح الحجر الذي يسد الباب وجلس عنده مادا ذراعيه ليمنع أحدا منا أن يفلت، أو أن يذهب بعض أنعامه. إنه يحسبنا بلهاء مثله، وجلسنا نعمل الفكرة ونرسم الخطط تلو الخطط لنجاتنا. حتى تاحت لي فكرة حسنة أيقنت أنها تفلتنا من هذا السجن السحيق إن كان شيء مستطيعا أن يطلق سراحنا منه، لقد فكرت وفكرت، فبدا لي أن لدى السيكلوب كباشا كنازا تستطيع أن تحملنا إذا ربط كل منا تحت بطن واحد منها.
لقد كانت الكباش سمينة حقا ذات فراء كثة وقوة كبيرة، فقمت من فوري فجدلت من أغصان الصفصاف التي كان السيكلوب الشنيع ينام فوقها، وجعلت من كل ثلاثة حبلا واحدا، ثم ربطت كل رجل تحت بطن كبش كبير قوي جعلته بين كبشين لا يحملان أحدا، بل يكونان وقاية للكبش الذي يحمل رجلا بينهما. أما أنا فتعلقت بصوف الكبش الأخير وبقيت ساكنا صامتا، ومكثنا هكذا ننتظر الفجر المقدس الرهيب بعيون واكفة وقلوب واجفة ... حتى بزغت أورورا فهرولت الذكران كعادتها للمرعى، وبقيت الإناث لكي تحلب، وتهادت الكباش بالأثقال المعلقة تحتها وهي تكاد تنوء بها، وكان السيكلوب لا يزال يعول ويشكو بثه إلى غير سميع، وكان يلمس بيديه ظهور الكباش وهو لا يدري ما تحتها، حتى إذا برز كبشي زلزلت، وسمعته يقول له وهو يتحسسه: «يا كبشي الحبيب، ما لك استأنيت هكذا وكنت دائما سباقا إلى المرعى وعلى رأس القطيع تقضم الكلأ الحلو، سباقا إلى الغدير ذي الخرير تنهل من مائه السلسبيل ، بل كنت سباقا إلى مأواك هنا، في كل مساء؟ ويحك! ويحك يا كبشي الحبيب، لقد أسيت لي وحزنت من أجلي، وشعرت بما دهى صاحبك من التعس الرجيم أوتيس وأتباعه اللؤماء المفلوكين؛ أوتيس الذي سحرني بخمره، ويل له! إنه لن يفلت من الموت اليوم، آه لو كان قلبك مثل قلبي، وآه لو كان لي بصرك الحديد فيدلني أين اختبأ أوتيس التعس؟ إذن كنت أحطم رأسه فوق هذا الصخر، أوتيس الوغد! الذي اسمه لا أحد؛ فهو لا يساوي شيئا.»
ثم أفلته المغفل فانطلق الكبش في أثر رفاقه، حتى إذا كنا بعيدين من الكهف ومن صاحبه قفزت من مكمني، وعدوت فأطلقت سراح رفاقي، وسقنا نخبة من أحسن النعاج إلى حيث سفينتنا المختبئة في الجون الهادئ، في ظلال الحور والسنديان، وأبحرنا من فورنا، فوصلنا إلى إخواننا في الجزيرة الأخرى، الذين هنئونا بقدر ما ذرفوا الدموع على ضحايا بوليفيم، واعتزمنا الإبحار فاستعد كل في سفينته، وأقلعنا لا نلوي على شيء، حتى إذا كنا على مبلغ الصوت من الشاطئ نهضت وجعلت أهتف بالسكلوب بوليفيم هكذا: «بوليفيم، لقد بؤت بما صنعت يداك وكان جزاؤك وفاقا، أيها النذل الخسيس! لقد حسبت أنك تغتال رجال قائد لا سلطان له عليك، ولا قدرة على الانتقام منك، فرحت تغتذي كالوحش بلحم ضيوفك الذين لجئوا إليك وتفيئوا ظلك، فاهنأ الآن أيها الهولة بما حل بك!» وما كدت أصمت حتى ثار ثائره وغلت مراجله، وانتزع صخرا كبيرا من شعاف الجبل وقذف به في قوة وعنفوان ناحية الصوت، فهوى الصخر على مقربة منا، وكاد يهشم سكان السفينة، وقد انفرج البحر وانشطرت أمواجه، وارتدت السفينة نحو الشاطئ حتى لكادت أن تغوص في رماله وتتحطم على أواذيه، لولا أمسكت بالسارية الكبرى وجعلت أدفع، حتى عادت السفينة إلى مكانها في البحر ... وابتعدنا قليلا، وجاهد رجالي بمجاديفهم حتى كنا على مسافة هي ضعف المسافة الأولى، وهنا حاولت أن أصيح بالسيكلوب مرة أخرى، غير أن إخواني حالوا بيني وبين ذلك، وسمعت بعضهم يقول: «ويك أوديسيوس! لم تهيج الجني بكلماتك ، وقد كاد الحجر الذي قذفه إلينا يودي بنا جميعا ويحطم سفينتنا على الشاطئ؟! أما نحمد الآلهة التي أنقذتنا من ساعديه الجبارتين؟ وهو لو سمع ركزا من أحدنا لهشمنا جميعا قبل أن نغادر غارة؟» على أنني ما أصخت لهم، بل هتفت بالمارد الجبار أقول: «أيها السيكلوب الطاغي، إذا سألك أحد عمن عماك فقل له: أعماني أوديسيوس بن ليرتيس الإيثاكي!» وتأوه المارد حتى كاد يتصدع وقال: «ويلي منك! فقد صدقت النبوءة وتحقق ما قال تلموس يوريميد النبي الذي شب بيننا، وطالما تحدث إلينا معشر السيكلوبس عما خبأ القضاء في صحف الغيب لنا، لقد قال لي: إني سأفقد بصري على يد رجل من البشر يدعى أوديسيوس، فظللت أنتظره وكنت أحسبه مخلوقا طويلا عظيم الجسم بادي القوة، فإذا هو أنت أيها القزم «اللا شيء» الذي قهرتني أولا بالخمر ثم أذهبت بصري وأطفأت النور من عيني! أوه، ولكن عد إلي يا أوديسيوس وحل علي ضيفا من جديد أكرم مثواك، وأصل من أجلك لأبي نبتيون، الفخور بي، أن يمهد لك البحر، ويطامن من تحتك الموج حتى تصل إلى بلادك سالما؛ إنه وحده هو اللطيف بي، وليست قوة في الوجود غيره تستطيع أن تشفيني وترد علي بصري.» فقلت له: «بنفسي لو استطعت فقذفت بك من حالق إلى قرار جهنم فلا يقدر أحد على رد بصرك إليك، حتى ولا أبوك هذا.» وغيظ السيكلوب وحنق، ورفع كفيه إلى السماء يصلي لأبيه هكذا: «أبتاه المحيط بالأرض، اسمع دعائي، يا صاحب الشعر اللازوردي، إذا كنت حقا أبي، وإذا كنت حقا تفخر ببنوتي، فاحرم هذا القزم المدعو أوديسيوس بن ليرتيس الإيثاكي من العود إلى بلاده، إلا أن يكون هذا في الأزل فأقم العقاب في طريقه، وشرده طويلا في البحر وأغرق سفائنه، واقبر في الأعماق أصحابه، وأحوجه إلى ذل السؤال وطلب المعونة الناس ليمدوه بمركب يعود عليه، وإذا عاد فليلق الهم والغم مقيمين ببابه؛ آمين آمين.» ولبى نبتيون ورفع السيكلوب حجرا أضخم من الأول، وجعل يهوم به بكلتا يديه، ثم قذفه هائلة فذهب يرنق فوقنا، وسقط وراءنا بمقربة من السكان، فانشطر البحر فرقين كالطود العظيم، ثم انحسر الماء فجرت السفينة إلى الشاطئ مرة أخرى، ولكنها هذه المرة أرست على الشاطئ الآخر الذي أرست عنده سفائننا الأخرى، حيث أقام إخواننا يشهدون المعركة الهائلة ويجزعون، ثم إننا نزلنا إلى البر، وفرقنا الأنصبات من نعاج السيكلوب بيننا، وكان من نصيبي ذلك الكبش المفدى الذي نجاني، فذبحته على رمال الشاطئ قربانا لجوف المتعالي، وا أسفاه! إن أكبر ظني أنه لم يقبل قرباني؛ لأن أكثر سفائننا أغرقت فيما بعد، وأكلنا هنيئا وشربنا الخمر المعتقة، وانتظرنا مد البحر، ولكنه استأنى علينا فنمنا حتى نضرت أورورا جبين الشرق بالورد، ونهضنا، ونشرنا الشراع وأصلحنا القلاع، وأبحرنا بقلوب واجفة ونفوس نال منها الهلع لائذين بالفرار.
أبوللو ومارس.
أوديسيوس يروي قصته
(أ)
أيولوس وجعبة الرياح الأربع. (ب)
في جزيرة الجبابرة. (ج)
غرام سيرس.
وبلغنا جزيرة الأيوليين حيث يحكم الملك إيولوس بن هبوتاس حبيب الآلهة، وهي جزيرة تلوح طافية فوق العباب بسورها النحاسي الهائل، وأواذيها التي يتكسر فوقها الموج، ولقد زوج الملك أبناءه الستة من بناته الست، وهو يقيم معهم في قصره المنيف في فيء وارف من حب الملكة في بلهنية ورغد، وعيش واسع مخفرج، ونعمى طائلة ولذائذ شتى ... يقضون وقتهم في لهو بريء ومرح، ويأوون إذا أجنهم الليل إلى سرر موضونة وزرابي مبثوثة، وأرائك من حرير.
ولقد لقينا الملك بالبشر والإيناس، وأقمنا في كنفه شهرا كاملا ناعمين طاعمين، ثم سألني فقصصت عليه قصة «إليوم»، وكيف سقطت في أيدينا؟ وما كان من إبحار أسطول الآخيين بعد ذلك، وما تم من رحلتنا في ذاك العباب، عاشين ضاربين على غير هدى، ثم إني ضرعت إليه أن يعيدني في حفاوته إلى بلادي، فأجاب سؤلي وأمدني بكل ما ييسر رحلتي، ثم تفضل فمشى معي إلى البحر، حيث قدم إلي جعبة مصنوعة من جلد عجل كبير جسد، خيل إلي أنه ذبح في سن التاسعة، وهي جعبة من صنع جوف سيد الأولمب، حبس فيها عظيم الآلهة رياح العالم أجمع، وأحكم رباطها بسلك فضي متين، حتى لا يفلت منها نفس واحد إلا بإذن. وانطلق الملك بعد أن أمر زفيروس - رب النسيم الحلو - فملأ شراعنا، وهب بين أيدينا، وا أسفاه! لقد كانت هباته اللطيفة الرخية عبثا، وضاعت في غفلة من رجالي سدى؛ فلقد جرت بنا الفلك آمنة مطمئنة طوال تسعة أيام بلياليها، ثم بدت لنا شطآن إيثاكا فخفت قلوبنا فرحا، واستطعت أنا نفسي أن ألمح مواطني الأعزاء يوقدون النار في شعاف الجبال، بيد أني كنت منهوكا موهونا من كثرة العمل ووعثاء السفر وطول السهر والمراقبة، فداعبت عيني سنة من الكرى؛ لأني كنت أسهر على القيادة بنفسي طيلة الرحلة، ولم أكن آمن أحدا من رجالي على الاضطلاع بها خشية الونى ومخافة التأخير. وبينما كنت نائما لعب الوسواس في صدور رجالي، زاعمين أني أحمل أذخارا من الذهب والفضة أسبغها على أيولوس الملك؛ قال قائلهم: «يا للآلهة! أبدا ما وطئت قدما أوديسيوس بلاد قوم حتى تهالكوا عليه فرحين معجبين مكبرين، وهو اليوم يعود من طروادة ومعه من طرفها وسلبها الجم الكثير، أما نحن فوا أسفاه علينا! لقد شاركناه تلك الرحلة المشئومة، وها نحن نرضى من الغنيمة بالإياب، ونعود منها أصفار الأيدي لا أمامنا ولا وراءنا، وها هو أيضا قد فاز دوننا برفد ملك الرياح أيولوس العظيم، هلموا يا رفاق! البدار إلى هذه الجعبة ننظر ما احتوت من أصفر وأبيض، وأعطيات وهبات ولهى!» وأقبل بعضهم على بعض، وامتدت أيديهم إلى الجعبة فحلوا رباطها، وا حسرتاه! لقد انطلقت الرياح الحبيسة، وزمجرت العواصف الهوج من كل صوب، وطفقت تكسحنا في شدة وعنف، بعيدا عن إيثاكا، ولقد قفزت من غفوتي خائفا مذعورا، حتى لخيل لي أن طوفانا قد غمرنا! وظللت برهة في ذهول ودهش، وطفت الأحزان على قلبي، ورانت الهموم على نفسي، وفت اليأس في عضدي، ولكنني لم أجد من الصبر بدا، فتحملت الكارثة في هدوء وصمت، وعصبت رأسي بثوب شف، وانبطحت في قمرتي، وراحت العواصف تدفع الأسطول في غير هوادة حتى بلغ شطآن الأيوليين مرة أخرى! وهناك بكى صحبي ، ولات حين بكاء! وهبطنا الشاطئ، وكان همنا أن نرتشف من ماء أيوليا العذب رشفات، ثم جلسنا نعد أكلة عجلى ونلتهمها، وتوجهت أنا وصديق إلى قصر الملك ثانية، وقد كان يجلس لوليمة كبيرة هو والملكة الحسناء المصون وأبناؤه الغر الميامين، ولشد ما بدهه أن يرانا بعد طول النأي، فحدجنا وقال: «ويك أوديسيوس! فيم عدت أدراجك؟ وأي سلطان مشئوم لوى عنانك بعد أن أرسلناك مزودا بخير زاد لتصل إلى بلادك وتلقى آلك؟ أو أي آخر؟» وكان فؤادي ينخلع حين قلت أجيبه: «تبارك الملك، لقد خانني رجالي اللؤماء، وخانني معهم طائف من الكرى، فإذا شاء الملك فليجبر ما انصدع منا، وهو لا يزال صاحب الحول والطول!» وهكذا شاءت المقادير أن أقف ضارعا إلى هذا الملك مرة أخرى، وقد تلبث أبناؤه صامتين لا ينبسون، واكفهر وجه الملك وقال: «أيها الرجل انطلق، اغرب عن جزيرتنا هذه يا أتعس الناس! انطلق فوالله إني لأستغفر الآلهة أن أكرمت مثوى رجل مثلك عدو نفسه، ممقوت من الأرباب، مغضوب عليه من السماء.» وهكذا طردني الملك شر طردة، فمضيت على وجهي ولقيت أصحابي، وأبحرنا نذرع اليم المصطخب بمجاديفنا، ونسكب في هذه الأعماق المضطربة قوانا، لا أمل لنا في الوصول إلى بلادنا، ولا رجاء في الخلاص من هذه البئوس، ووصلنا مدينة ليستريجونيا بعد نصب ستة أيام بلياليها؛ تلك المدينة الموحشة التي بناها منالاموس العظيم، والتي «تغزو الحشرات مروجها نهارا، فيخرج الرعاة بقطعان الغنم ذات الفراء الكثة التي تحمي الحيوانات من ذبابة الماشية وتدفع عنها غائلتها، فإذا جن الليل عادوا بأغنامهم إلى حظائرها، وذهبوا بالنعم لترعى في هدأة الليل، ولتكون بمأمن من غوائل الذباب الذي يكون قد غلبه النعاس.
1
وصلنا إلى هذه المدينة فألفيناها محصنة بسور عظيم من الحجر الصلد، ينحدر قليلا إلى الميناء بمضيق صغير لا تعلو فيه موجة، ولا يتحرك فيه الماء، وقد أدخل رجالي سفائنهم في هذا البوغاز، وآثرت أنا أن أظل بسفينتي عن فمه مما يلي البحر، فألقيت بربوة عالية، وأخذت أجيل ناظري في الجزيرة، ولم أقف لإنس أو حيوان على أثر، وبدت الأرض جرداء بلقعا، بيد أن دخانا كثيفا كان يتصاعد من وسطها، فرأيت أن أبعث باثنين من رجالي جعلت عليهم ثالثا رئيسا؛ ليعلموا لنا من أنباء الجزيرة، وليتحسسوا أخبار أهلها، وقد قص هؤلاء آثار العربات التي يستعملها السكان في نقل الأخشاب من الغابة إلى مدينتهم، ولقوا عند مدخل المدينة فتاة عذراء تملأ جرتها من عين ماء هنالك، فما كادوا يسألونها حتى علموا أنها ابنة الملك أنتيباتاس ملك هذه البلدة، ومشت بين أيديهم حتى كانوا في قصر الملك، وهناك لقيتهم امرأة هولة عظيمة الجسم كأنها هضبة، فلم يجسروا أن يمدوا إليها أبصارهم مما غشيهم من الفزع، وكانت هذه هي الملكة التي صاحت - عندما لمحت رجالي - بزوجها، فأقبل يهتز وتزلزل الأرض تحته، وما كاد يلمح هؤلاء الغرباء حتى أمسك بواحد منهم وخبط به الأرض فحطمه؛ كأنما أقبل ليخوض معمعة، وانطلق الآخران لا يلويان على شيء حتى بلغا سفائننا، ثم زمجر الملك بصوت قاصف كالرعد يدعو إليه رعاياه، فأقبلوا إليه من كل حدب مردة جبارين كالأغوال، لا عدد لهم ولا تقع العين على أبشع منهم، ثم تهاووا إلى الشاطئ حيث أرست سفننا، فجعلوا يقذفونها بحجارة من سجيل جعلت رجالنا كعصف مأكول، وجعلت مراكبنا حطاما كان يهوي إلى الأعماق، بينما هؤلاء الجبابرة ينشلون قتلانا بحرابهم؛ ليعودوا بهم إلى بيوتهم فرائس سائغة يملئون بها بطونهم، وهكذا استمرت المذبحة الدامية، وكنت واقفا في مركبي وجرازي إلى جانبي، فأسرعت إلى حبال المرساة فقطعتها به، وبادر رجالي إلى مجاديفهم فأعملوا فيها أيديهم. وبذلك نجونا من هذا الروع برغم الحجارة الهائلة التي كانت تتطاير فوق رءوسنا وتتهاوى عن شمائلنا وعن أيماننا، فتشيع في فرائصنا خطر الموت، وظللنا نكافح الموج ونصارعه فرحين بنجاتنا، ومع ذاك فقد كانت تعتلج قلوبنا هما وأسى على إخواننا، ثم رسونا آخر ذات عند جزيرة إيايا حيث تقيم سيرس ربة الغناء السحر ذات الشعر الكهرماني، أخت إيتيس الحكيم من أبيها الشمس، وأمها برس ابنة أوشيانوس،
2
وكأنما مشت عناية السماء بين أيدينا فرسونا في جون هادئ ساكن في غير جلبة ولا ضجيج، ثم هبطنا إلى الساحل فتلبثنا فيه يومين كاملين نستجم ونستروح مما بنا من أين وجهد، وكلنا فرائس لما في أضالعنا من شجو وهم وشجن، ثم إني تسلحت برمحي وسيفي، وحثثت خطاي في أسناد الجبل؛ كنت في ذراه الشاهقة، ووقفت ثمة أنظر وأتحسس، فلمحت في البعد دخانا يصاعد بين الدوح والزهر من قصر سيرس، وبدا لي أن أتوجه إليه من فوري؛ عسى أن أجد عنده خيرا. ولقد ترددت بعد ذلك كثيرا، وكدت أعود أدراجي إلى السفينة؛ لأرسل نفرا من رجالي يكشفون لي الطريق إلى القصر، وما كدت أخطو خطوات حتى ساق إلي أحد الآلهة ظبيا غريرا شرد من المرج المعشب الحلو؛ ليستقي مما ألح به من ظمأ، فأرسلت إليه رمحي فقصم ظهره، وسقط يتخبط في دمه، وقطعت شيئا من عساليج الصفصاف وجدلت منها حبالا، وأوثقت الغزال من أياطله واحتملته على ظهري، ومضيت قدما إلى رفاقي متوكئا في كل خطوة على رمحي، إذ لم تعد شيخوختي تستقيم لمثل هذا الحمل الكبير، وهتفت برجالي في مرح وظرف: «هلموا يا رفاق؛ فلن نقضي قبل أن تحين آجالنا، هلموا إلى ظبي فنيق وخمر عتيق، واطرحوا ما بكم من هم وضيق.» وأقبلوا فرحين وشمروا عن سواعدهم وهم يستهولون من جذل هذا القنص الغريض، وظللنا يومنا هذا نطعم ونشرب، حتى إذا أرخى الليل سدوله انكفأنا على الشاطئ نغط في سبات هادئ، وذرت أورورا ابنة الفجر الوردية فهتفت برجالي فهبوا، ثم جلسنا ساعة نتشاور، وأنا أقول لهم: «أيها الرفاق، يا إخوان الشدائد، ها نحن أولاء قد لصقنا بهذه الأرض، ولسنا ندري أيان نذهب؛ هل نشرق أو نغرب؟ أو نظل هنا أبد الدهر؟ ولكن هلموا ننظر لأنفسنا مخلصا مما نحن فيه؛ فإني حينما تسنمت ذروة هذا الجبل أجلت الطرف في أرجاء هذه الأرض، فعرفت أنها جزيرة تترامى إلى مدى البصر، ثم إني آنست دخانا يعلو في الجو من وسطها، ينبثق من سروات طوال فيها، فروا لأنفسكم أثابكم الله.» وكأنما سقط في أيديهم، وكأنما حاقت بهم ذكريات أنتيباتاس وقومه اللستريجون، وما لقوا من هول السكالب أكلة اللحم البشري، فبكوا ساعة من الزمان، ثم استرجعوا حيث لا يجدي البكاء، ثم قسمتهم فريقين؛ جعلت على أحدهما يوريلاخوس قرن الآلهة، وجعلت نفسي على الفريق الآخر، وجلسنا نقترع على من يذهب لارتياد الجزيرة، فوضعنا الرقاع في خوذتي، ثم كانت القرعة على يوريلاخوس، فمضى وتحت إمرته اثنان وعشرون من رفاقنا كانوا جميعا يذرفون الدمع خوفا وفزعا مما وجهوا إليه، وكنا نحن نبادلهم دمعا بدمع وبكاء ببكاء. ووجدوا قصر سيرس في بطيحة
3
منخفضة، فماذا رأوا؟ قصرا منيفا ممردا تحدق به تماثيل حية من سباع وذؤبان سحرتها سيرس بعقاقيرها ذات القوى الخارقة الخفية، ولم تؤذهم تلك الوحوش، بل كانت تثب على أرجلها الخلفية في دل وتلطف، ثم تبصبص بأذنابها كأنها كلاب السادة العظماء حينما تتملقهم في وليمة من أجل لقيمات. وتسمعوا فإذا سيرس تتغنى بصوتها المعجب المطرب وهي تعمل على نولها، مشغولة بنسيج سابري عبقري عجيب، ليس يقدر على مثله إلا الآلهة، وكان في رجال الفريق أمير عظيم هو عندي أربطهم جأشا فقال: «أتسمعون أيها الأصدقاء إلى هذا الغناء الحلو تردده جنبات القصر؟ إنه لا شك غناء ربة الدار التي تعمل على نولها، ولست أدري أربة خالدة هي، أم من بنات حواء؟ وعلى كل هلموا نهتف بها.» وتنادوا وأقبلت سيرس فهشت لهم وبشت، وأذنت لهم أن يدخلوا، فدخلوا، وا أسفاه! إلا يوريلاخوس؛ فقد خشي أن تكون ثمة مكيدة أو أحبولة، قادتهم إلى بهو كبير صفت فيه عروش فخمة من ذهب، ما كادوا يستقرون عليها حتى أقبل الساقي بخمر وعسل، ثم جيء بجبن وطعام آخر مخلوط بعقاقير سحرية تذهب وعي آكليها، وتنسيهم ما سلف من أمورهم، بل تسلبهم ذكريات أوطانهم، ثم ضربت كلا بعصاها السحرية بعد أن أكلوا ورووا، واستاقتهم إلى حظائرها حيث مسخوا فكانوا خنازير، وإن أبقى السحر على ألبابهم، أما طعامهم بعد هذا فقد كانوا يتناولونه من يدها مباشرة، فكانت تطعمهم جوز البلوط والشاهبلوط والكريز
4
الكلابي وما إلى هذا وذاك من أكل الخنازير الخسيسة السائبة.
وانطلقت فينوس إلى مرتعها بأرض بافيا.
وأقبل يوريلاخوس ينتفض من الذعر، وينعقد لسانه فما يكاد يبين، ثم هدأ روعه قليلا فطفق يصعقنا بأنباء ما رأى: «أوديسيوس يا ذا المجد، لقد ذهبنا نتحسس كما أمرتنا، ونرود هذا الوادي الأشب فوجدنا قصرا مشيدا فوق أكمة عالية وسط بطيحة منخفضة ذا قبة سامقة جلست تحتها امرأة أوربة - لا أدري - وهي لا تفتأ تعمل على منسج بخفة وصنعة، وترسل ألحانا حنونا حلوة، وما كادوا يهتفون بها حتى نهضت فلقيتهم بالبشر وفتحت بابها على مصراعيه فدخلوا جميعا - حاشاي - فقد أوجست خيفة، ووقر في قلبي أن ثمة شركا نوشك أن نتردى فيه، وقد راقبت رفاقي إذ هم جلوس لحظة غير قصيرة، ثم هالني ألا أراهم فجأة.» وما كاد ينتهي قفزت إلى سيفي فتسلحت به وأخذت قوسي وسهامي، وأمرته أن ينطلق بين يدي إلى حيث ذهبوا من قبل، ولكنه ركع أمامي وتعلق بساقي وجعل يرجو ويلحف في الرجاء ألا أذهب؛ «فإنك لن تفشل في إعادة رفاقنا فقط، بل قد تفشل في أن تنجو بنفسك، فانطلق بمن بقي منا، ويا حبذا لو استطعنا الفرار.» ولكني أجبته أن له أن يبقى هو فيأكل ويشرب في السفينة، ويكون بنجوة مما فزع منه، أما أنا فلم أر ضرورة لبقائي.
وانطلقت لا ألوي على شيء، ولكني قبل أن أبلغ البطيحة التي بها القصر لقيني هرمز الحبيب إله العصا السحرية، وكانت مخايل الصبا وبداوات الشباب تتدفق في بردتيه، وحمرة الورد تلتهب في خديه، لقيني فصافحني متلطفا وقال: «أيها التعس، أيان تضطرب وحدك في هذه الأرض، وقد حبست سيرس من أرسلت من رجالك في حظائرها بعد أن سحرتهم إلى خنازير شقية؟ هل أقبلت لتنجيهم؟ أم جئت لتحتجزك معهم إلى الأبد؟ ولكن أصغ إلي، إني سأحبط ما فعلت، وسأحميك وأحفظك، خذ هذا العقار،
5
ولا يهمك بعد أن تدخل قصر سيرس فإنه ينقذك من كل خطر! وهلم أعلمك ما عندها من السحر، إنها ستمزج لك كأسا من الشراب بما عندها من رجس، وستضع لك منه في طعام تقدمه لك، فكل وارو ولا تبال، فهذه البقلة العجيبة التي أعطيك ستحبط كل ما تحيك لك فلا تقدر على مسخك كمن مسخت من رفاقك، فإذا عالجتك بعصاها السحرية فاهجم عليها بسيفك غير هياب، وأرسل إليها شرر الغضب من عينيك فإنها حينذاك تنقاد لك، وتقودك إلى فراشها وتحتال عليك بصنعة الحب وتلطفات الهوى، فإياك أن تنصاع لها حتى تعطيك موثقها أن تبطل ما أنزلت برفاقك من سحر، وأن تترفق بك فلا تمسك بأذى، واحذر يا صاح أن تدنس فضل خيرك بما ركب في طبعها من شر.» وانحنى رسول الآلهة فالتقط عشبة من الأرض، ثم وضعها في يدي، وأخذ يكشف لي أسرارها ويقص علي قواها الخارقة، وذكر لي أن اسمها «مولى» وبه يدعونها في السماء، وأن الآلهة وحدهم يعرفون كيف يشفون بها رقى السحر، وكانت جذورها سودا حالكة السواد، أما زهرتها فكانت بيضاء ناصعة البياض كاللبن. وودعني هرمز ثم رف ورف وعرج في السماء، وانطلقت أنا أخبط في ظلمات من هواجسي حتى كنت لدى باب ربة السحر التي وجدتها تعمل كما ذكر لي صاحبي على نولها، وصحت صيحة عالية فأقبلت تتهادى نحوي، وفتحت مصاريع أبوابها ودعتني فدلفت وراءها، حتى كنا عند عرش عظيم ممرد فضي ذي درج، فاستويت عليه وذهبت هي فمزجت لي كأسا من الخمر بشيء من عقارها، وقدمته لي فاحتسيته، بيد أنني لم أتغير ولم أتحول عن صورتي، فضربتني بعصاها السحرية وهي تقول: «هلم إلى الحظيرة حيث تقر مع رفقائك.» ولم تكد تصمت حتى وثبت من مقعدي وامتشقت سيفي وهجمت عليها، وفي عيني جحيمان من نار الغضب، فروعت ربة السحر وزلزلت زلزالا عظيما وجرت نحوي، وركعت عند قدمي وتعلقت بساقي، وأخذت تضرع إلي وتقول في بيان رائع وكلمات باكية: «عمرك الله من أنت؟ ومن أين قدمت؟ ما ديارك؟ تكلم أنت يا من لم تسحره جرعتي الهائلة التي لم يذقها أحد وظل في صورته لحظة واحدة، ولكنك تحمل قلبا لا تجوز عليه نفثات السحر. هلم، تعال، إلي إلي أعرفك أحسن المعرفة؛ إنما أنت أوديسيوس الصناع ذو الذكر، ولقد وصلت إلى هنا من اليوم بدورك فلم يشأ هرمز ذو العصا الذهبية أن يخبرني بمجيئك، ولكن أغمد سيفك، وهلم ننعم بالعناق فوق فراشي الوثير كزوجين، وليفرخ روعك وليهدأ بالك ... اطمئن يا أوديسيوس، هلم.» وصمت لحظة ثم انطلقت أجيبها: «سيرس، كيف تتصورين أني فرخ روعي ويهدأ بالي وقد حبست في رحابك رفاقي وشركاء رحلتي بعد إذ سحرتهم إلى خنازير أيتها الربة؟ ثم تخشين إفلاتي فتخادعينني وتبهرجين علي بطلاسم الحب، داعية إياي إلى فراشك لتشوبي صفاء فضيلتي برجس رذيلتك! لا، لا إني لن أقاسمك هذا الفراش حتى تقاسميني أغلظ الأقسام ألا تلحقي بي أذى، وألا تحاولي الإضرار بي.» وراحت تحلف وتؤكد الحلف، وتقسم وتغلظ في القسم، ثم إني انطرحت في سريرها الفخم الديباجي، وأقبلت أربع من عرائس البحر خطرن من اليم وأقبلن من العيون والحرج المجاور لينهضن بخدمتنا، أما الأولى فقد أصلحت من سريرنا وطرحت عليه مطارف الخز، وأما الثانية فقد صفت الموائد ورتبت الكراسي، وجاءت الثالثة بزق عظيم من خمرة طيبة ملأت بها الكئوس الذهبية المنضدة فوق الموائد، أما الرابعة فقد أعدت لي حماما ساخنا وضمختني بأحسن الروائح والطيوب حتى انتعش جسمي الخائر وتأرجت روحي الفاترة، ثم ألبستني ثوبين غاليين من أندر الديباج، ومشت بين يدي إلى عرش عظيم مزدان بأحسن التصاوير مطعم بالذهب والفضة، فاستويت عليه واضعا قدمي على درج من لباد ناعم ... وأقبلت بعد ذلك عروس أخرى فصبت الماء على يدي من إبريق من ذهب في طست من فضة، وجاءت بمائدة حافلة بأشهى الآكال فوضعتها أمامي، لكنني ما مددت إلى شيء من ذلك يدي؛ لما كان يساورني من الهم، وما يشغل بالي من الانتقام، فلما لحظت ذلك سيرس أقبلت تميس، وأخذت تلاطفني وتقول: «ما لك تجلس ساكنا هكذا يا أوديسيوس كالذي غشي عليه؟ ما تكاد تمتد يدك إلى شيء، كأن ألف وسواس يخامرك؟ ألا تزال تخشى مكيدة فتخاف أن تتردى فيها؟ ألا ما أكبر غفلتك يا صاح! اطمئن فلقد أعطيتك موثقي وحلفت لك بأغلظ الأيمان.» وأجبتها قائلا: «كيف تمتد يدي إلى طعام أو شراب ورفاقي لا يزالون في إسار سحرك؟ أبدا لن أذوق شيئا حتى ترديهم إلى صورهم ثم ألتقي بهم.» ونهضت تحمل عصاها السحرية، وذهبت من فورها إلى الحظائر حيث أطلقت رفاقي، وكانوا لا يزالون في صور الخنازير، ثم جاءت بترياق فمسحتهم به، فعادوا إلى صورهم البشرية، وبدوا في أنضر شباب وأصباه، ثم أقبلوا نحوي يلثمون يدي، ودموع الفرح تبلل مآقيهم، وطفقوا يصيحون ويصخبون وتردد أصداءهم جنبات القصر، حتى تأثرت سيرس نفسها مما رأت، وراحت تقول: «يا ابن ليرتيس الصناع، هلم إلى مركبك فاشددها فوق البر لتكون بمأمن من غوائل البحر، ثم خبئ كنوزك وأذخارك في غيران هذه الجبال، وعد إلي مع جميع رفاقك.» وطربت لهذه الفكرة فهرولت إلى الشاطئ حيث لقيت رفاقي الآخرين يندبوننا ويذرفون دموعهم علينا، وما أن رأوني حتى أهرعوا نحوي يرقصون ويطربون ويحيون كهذه البهم التي تعود في المساء إلى حظائرهم فتتلقاها صغارها بالثغاء والرغاء والضوضاء. وهكذا تلقاني أولئك الرفاق، وبدلت دموع أحزانهم بعبرات المسرة، وخيل لهم أنهم رأوا في شخصي وطنهم المحبوب إيثاكا، حيث ولدوا وحيث نشئوا وترعرعوا ... قال قائلهم: «تالله لكأنا رأينا فيك أوطاننا يا أوديسيوس، وتالله لقد طفرت قلوبنا حين عدت إلينا فعادت أرواحنا إلى أبدانها، حدثنا أيها العزيز كيف هلك إخواننا في هذا التيه؟» وقلت لهم: «هلموا أولا نجر مركبنا على هذا السيف الهادئ، ولنخبئ أذخارنا وسلاحنا في غيران هذه الجبال، ولننطلق جميعا إلى سيرس حيث ترون جميع رفاقكم في أمنة وعز وطعام وشراب ونعيم مقيم.» وصدعوا بما أمرتهم إلا يوريلاخوس، فقد سمر مكانه، وكأنه لم يحفل بما أخبرت به، ثم حرك شفتيه فقال: «ويح لنا نحن الأشقياء البائسين، فيم ذهابنا نحن الآخرين إلى قصر سيرس وقد تمسخنا جميعا إلى سباع أو ذؤبان أو خنازير؟ ونظل إلى الأبد نحرس عرينها مرغمين! لقد ذهب كثيرون منا ضحية هوس أوديسيوس وقلة بصره، يوم حبسنا السيكلوب من أجل أطماع رئيسنا الطياش.
6 » وأوشكت أن أضرب رأسه بجرازي فيخر إلى الأرض برغم ما يربطني به من آصرة الوطن ووشيجة الغربة، لولا أن هب رجالي الآخرون يصرخون ويقولون: «أوديسيوس الكريم، لنتركه هنا ليحرس فلكنا، أما نحن فراحلون معك إلى قصر سيرس ولو كان ملئه الفزع الأكبر.» وتدفقوا من السفينة إلى الشاطئ، وانخرط يوريلاخوس بينهم منصاعا لنظراتي المتأججة. أما ما كان من سيرس حينذاك فإنها أدخلت رفاقي إلى حمامها ثم ضمختهم بأحسن الطيوب، وخلعت عليهم أفخر الملابس، ولما وصلنا وجدناهم يطعمون، فما إن رأونا حتى هبوا يعانقون صحابهم ويبكون، ثم جلسوا يستمعون إلى قصة ما حل بإخوانهم، وهم يصعدون زفرات الحزن ترددها قباب القصر، ونهضت سيرس فوجهت إلي الخطاب إذ تقول: «ابن ليرتيس العزيز، هون عليك، وليرفه رجالك عن أنفسهم ولا يستسلموا هكذا لنوبة الحزن، ولترقأ دموعهم جميعا؛ إني لا أجهل ما تجشموا من أهوال في ذلك البحر المضطرب، وما لقوا من فوادح في كل أرض بما كتب لهم في لوح القضاء. ولكن تعالوا جميعا، أنعشوا نفوسكم الخالدة بكئوس الراح، ولتستشعروا بأسكم الذي كنتم تستشعرونه يوم غارتهم شطآن إيثاكا العزيزة. إنكم إن تتناسوا آلامكم فإنها تفت في عضدكم وتوهي من قوتكم، وتكون أبدا حلفا لكم وإلبا عليكم، ولا تعودون تشعرون معها بلذة العيش وبهجة الحياة.» ووقعت كلماتها في قلوبنا فأقبلنا على الطعام والمدام، ثم إننا أقمنا عندها عاما بأكمله في أرغد عيش وأحسن حال، متقلبين في أرفه نعيم، ثم استدار الزمان وهتف بنا قانون الأزل، فدعاني رجالي إلى جلسة خارج القصر فقالوا لي: «تذكر يا مولانا وطننا الأول، فإننا نحن إليه ونتمنى لو ساقتنا المقادير إلى شطآنه.»
الحصان الذي صنعه أبيوس بإرشاد مينرفا، والذي حمله أوديسيوس الجبار هو وصحبه إلى قلاع طروادة.
وكأنما نبهوا مني غافلا، فتلبثنا يومنا هذا على مائدة ربة السحر في بلهنية وعيش مخفرج وخمر، وأقبل الليل فأوى كل إلى فراشه، وأويت أنا إلى سيرس فداعبتها ولاطفتها، ثم قلت لها في رجاء وظرف: «سيرس يا ربة، حبذا لو وفيت بعهدك فأرسلتنا فوق هذا البحر رحمة بنا؛ لنقضي حاجات الوطن، ولتنقطع شكاوى أصحابي التي مزقت نياط قلبي.» وقالت سيرس: «أوديسيوس العزيز المعروف بأصالة الرأي ورجاحة الفك، إني لن أقسرك على البقاء هنا لا أنت ولا أحدا من رفاقك، ولكنك قبل أن تفكر في شد رحالك إلى بلادك ينبغي أن تذهب في رحلة شاقة بعيدة المدى؛ إلى هيدز،
7
دار بلوتو،
8
وبرسفونية؛ حيث تلقى النبي الصديق الصالح تيرزياس، الذي احتفظ وحده في عالم الموتى بكل أسراره وقواه الغيبية الخارقة، والذي يثوي في رحاب مليكة الفناء يتنبأ لها وتستوحيه وتستشيره فيعرف
9
لك عما يهمك، ويقفك على ما ينطوي لك من صحف الغيب.» وما كادت تنتهي حتى احلولكت الدنيا في عيني، وتدفقت الهموم في نفسي وأجهشت وأجهشت، ثم استخرطت في بكاء طويل، وما كدت أصحو من هذه النوبة حتى قلت لها: «أنى لي يا ربة أن أذهب إلى هيدز؟ ومن الذي يحدوني إليها ولم يسبقني إليها أحد من أحياء البشر؟» فقالت تجيبني: «يا سليل ليرتيس العظيم ليفرخ روعك، ولا يحزنك ألا يكون لك إلى هيدز من دليل، بل هلم إلى سفينتك فأصلح قلاعها وانشر شراعها وستهب الصبا سجسجا فتدهديكم رويدا، فإذا جزتم هذا البحر المحيط، وبلغتم الشاطئ النز
10
الذي تنمو فوقه أشجار الحور والصفصاف الباسقة، ثمة باسم برسفونيه، فادفعوا إليه بسفينتكم، ثم تهاووا إلى مثوى بلوتو السحيق الذي يبتدئ عند الصخرة الهائلة التي تتكسر فوق أواذيها أمواه أشيرون
11
وستيكس وكوكيتوس، فاتركوا سفينتكم ثمة واحفروا عندها حفرة ذراعا في ذراع، ثم صبوا في جهتها الأولى قربانا من لبن وعسل، وفي الثانية خمرا معتقة من أحسن ما تعصرون، وفي الثالثة ماء قراحا، فإذا كانت الرابعة فانثروا الدقيق فوق الجميع، واصنعوا ذلك باسم الموتى جميعا، ثم انذروا لهم أن تذبحوا - يوم تعودون إلى إيثاكا سالمين - عجلا جسدا من أحسن قطعانكم، وانذروا كذلك لتيرزياس كبشا سموريا ليس في أغنامكم أسمن منه ولا أقوى جلادا، فإذا فرغتم من صلاتكم ونذوركم وأدعيتكم لجميع الموتى من كل الأمم فاذبحوا في الحال كبشا ونعجة سمورية، على أن تكون رأسا الضحيتين تلقاء أربوس، وعلى أن تشيحوا بوجوهكم تلقاء الشاطئ، فإذا صنعتم كل هذا فسرعان ما ترون أرواح الموتى تقبل نحوكم من فج، فسارعوا إلى ذبائحكم فاسلخوها وألقوا بلحومها في النار مصلين ملبين داعين؛ كيما تهدأ نفسا بلوتو وزوجته برسفونيه، ولا تسمحوا لأرواح الموتى أن تقرب أضحياتكم، وذودوهم عنها بأسيافكم حتى تلمحوا تيرزياس قادما فيلقاكم ويحدثكم ويوضح لكم ما غم عليكم من سبيلكم في هذا البحر الرجراج المتلاطم بالأمواج.» وسكتت وانبلج الصبح، فنهضت تصلح من أثوابها وتضفي عليها من شفوفها البيض كالندف، وتنثر فوق رأسها تلك الغلالة الرقيقة كالثلج، أما أنا فنهضت كذلك واكتسيت صداري ودثاري، ثم توجهت إلى رفاقي فأيقظتهم وحثثتهم على الإبحار من تونا كما رسمت سيرس، وقد هبوا جميعا إلا فتى يافعا لم يكن له يدان في هذه الشدائد، بل كان كل همه في كأس من خمر ينطرح بعدها وهو لا يعي شيئا، وكان اسمه ألينور، وكان قد غرق في سبات عميق فوق سطح القصر، وقد أفزعه ما سمع من جلجلة أسلحتنا فهب من نومه مخمورا متخاذلا، وساقته قدماه إلى حافة السطح فزلتا وسقط إلى الأرض، ودق عنقه فسبقت روحه إلى هيدز، وقلت لأصحابي لما اكتمل جمعهم: أتظنون أنا مبحرون إلى أوطاننا؟ كلا يا رفاق، فأمامنا رحلة طويلة شاقة إلى هيدز، حيث ينبغي أن نلقى تيرزياس النبي الصالح ليعرف لنا ويقفنا على صفحة مما يطوي لنا الغيب، بهذا رسمت سيرس وإنا لنصيحتها لسامعون.» وخفقت قلوب إخواني ونظر بعضهم إلى بعض، ثم جلسوا يشدون شعورهم من الحسرة ولكنهم صدعوا أخيرا، بعد إذ أيقنوا أن لا شيء غير هذا ينفعهم، وانقلبنا إلى البحر، وكانوا لا يزالون يذرفون دموعهم ويصعدون حسراتهم، وفيما نحن ذاهبون كانت سيرس تسوق إلى السفينة كبشا عظيما ونعجة سمورية، وإن كنا لم نرها قط، ومن ذا الذي تستطيع عيناه أن تريا ربة كريمة رائحة أو جائية إن لم تشأ هي أن تكشف عن نفسها؟
أرض المردة الجبارين الطغاة الذين لا يخضعون إلى الشريعة.
أوديسيوس يروي قصته: رحلة أوديسيوس إلى العالم الثاني
«وذهبنا إلى الشاطئ، وأنزلنا الفلك إلى الماء، ثم أصلحنا القلاع ونشرنا الشراع ووضعنا القرابين على السطح، وذرفنا من الدموع ما شاءت لنا الهموم والآلام، وأقلعنا، وأرسلت سيرس بين أيدينا ريحا رخاء كانت خير معوان لنا وخير رفيق في سفرتنا الرهيبة هذه، حتى لتركنا لها مقاليد الفلك، وانسدحنا
1
فوق السطح من غير ما عمل، ولم تزل تجري بنا طول هذا اليوم حتى إذا أوشكت الشمس أن توارى بالحجاب، وقارب الظلام أن يلقي أردانه على الكون الهادئ، أشرفنا على تخوم البحر الأعظم، حيث تنهض مدينة السمريين التي ينعقد من فوقها دجن
2
كثيف وظلمات داجية، فلا تنفذ إليها شعاعة من نور، ولا يحييها رسول شمس هذه الدنيا العاملة الدائبة، التي يسطع في سماوتنا ركبها الفخم، فهي أبدا في ليل متصل مدلهم، لا تنجاب عنها غواشيه، وهنا ألقينا مراسينا، وأنزلنا الكبش والشاه إلى البر، وانطلقنا فوق سيف البحر إلى حيث أمرتنا سيرس، وتركنا يوريلاخوس بن برميد عند القربانين، وعنيت أنا بحفر الوهدة فجعلتها ذراعا في ذراع، ثم شرعت أصب تقدمات الشراب باسم الموتى، فبدأت بمزيج اللبن والعسل المصفى، وأتبعته بالخمر المعتقة، وثلثت بالماء القراح، ثم نثرت على ذلك كله دقيق الشعير، وصليت من أجل الموتى، ونذرت - إن عدت إلى إيثاكا - أن أضحي لهم بعجل جسد ذي خوار يكون أسمن وأقوى ما في قطعاني أذبحه وأحرقه في نار مجللة بكل ما يشوق الأشباح من أرواح وطيوب، وخصصت الكاهن الطيبي «تيرزياس» فنذرت أن أضحي له بأحسن كباشي وأعظمها منة، ثم شمرت عن ساعدي، وذبحت القربانين فتدفق الدم في الوهدة، وهنا أهرعت الأشباح من كل فج، وأقبلت مهطعة كأسراب الدبى!
3
يا للآلهة، هنا زرافات العذارى جرعن كأس الحمام في ميعة الصبا، وهنا جموع الشباب اليانع كأفواف الزهر غالهم عادي الردى، وثمة عرائس تسربلن سواد الحزن، فاجأتهن المنايا ليلة الزفاف، وهناك أطفال كأكمام الورد لما تفتح قطفتهم أيدي المنون وعن كثب وقفت كواكب المحاربين الذين لطخوا بالدماء وجه البسيطة، والآباء والأمهات والأجداد ... أقبلوا يتدافقون نحو الوهدة صائحين صاخبين، قاذفين في قلوبنا الرعب، ثم هتفت برجالي فشرعوا يحرقون القرابين ويصلون لرب هذا الدار - بلوتو - ولزوجه، ورحت أنا أذود الأشباح الهائمة عن دم الضحايا بسيفي أضرب به ها هنا وها هنا، حتى لمحت روح رفيقي ألينور
4
الذي تركناه في أرض سيرس دون أن نقيم له شعائر الموت؛ لما كنا بسبيله من هموم! لمحت روح رفيقي فتصدعت، ثم ذرفت عبرات وعبرات، وكلمته قائلا: «ألينور يا صديقي، كيف وصلت إلى ظلمات هذه الدار الآخرة في مثل هذه السرعة ولم تحملنا إليها سفينتنا إلا بعد لأي؟ إليها عمرك الله هل سبحت في الهواء، أم طويت إليها الرحب ماشيا؟» وانهمرت من عينيه دموع ودموع، ثم قال يجيبني: «يا ابن ليرتيس النبيل، والمعروف في العالمين بالحكمة ودقة الفهم، لقد أودى بي السكر فسقطت من سطح سيرس فدق عنقي، وأسرعت من ثمة على درج الظلمات إلى هيدز؛ على أنني أستحلفك بكل عزيز عليك؛ ببنلوب بالنار المقدسة التي تتأجج عن قبسها حياتك، بولدك الأوحد تليماك أن تجمع ما تبقى من سلاحي وعتادي إذا عدت إلى سيرس، وإنك إليها لعائد حين ترجع أدراجك من عالم هيدز، وأن تحرق جثماني في نيران هذا العتاد، ثم تصلي لي وتضرع إلى الآلهة من أجلي حتى أقر هنا، وتهدأ في الظلمات روحي، وأن تغرس فوق الكومة التي تشمس رفاتي مجدافي العزيز الذي عملت به في البحر تحت إمرتك وفي ذرى سلطانك وقيادتك، حتى يذكرني في العالم الفاني الذاكرون.» ووعدته أني فاعل، ثم لم أزل أذود الأشباح عن الدماء المتدفقة، وفجأة لمحت بين أرواح الموتى شبح أمي! أمي المحبوبة أنتكليا ابنة الشجاع أوتوليكوس التي تركتها يوم يممت طروادة قوية، غريضة الصبا ريانة الشباب، وما وقعت عيني عليها حتى أجهشت وأجهشت، ثم انهمرت من مقلتي أحر العبرات، ومع ما كان يعتلج به صدري من الأسى عليها فقد ذدتها عن الدماء كذلك، وبي من الهم لتلك الفعلة ما أوهنني وأضواني، ثم أقبل نبي طيبة وكاهنها الجليل يتوكأ على عصاه الذهبية، وما كاد يحملق في قليلا حتى عرفني وخاطبني يقول: «لم غادرت الدنيا الدافئة المشرقة أيهذا التعس، وقدمت لترى هؤلاء الموتى ولتضرب في ظلمات هذا العالم العبوس؟ ولكن نح هذا السيف قليلا حتى أجرع من تلك الدماء، وإني لمحدثك حديث الصدق عما جئت من أجله.» وأغمدت سيفي وانحنى الكاهن فعب من الدماء ما شاء، ثم قال لي: «أوديسيوس، إنك تجتهد أن تعود أدراجك إلى بلادك، غير أن طريقك إليها محفوفة بالمكاره ممتلئة بالعقبات، وإن لك فيها لعدوا لدودا يتأثرك، ذلك هو نبتيون الذي أسخطته بما سملت عين ولده السيكلوب «بوليفيم» على أنك واصل بعد أهوال جسام إلى وطنك، فإنك إن كبحت جماح شهواتك أنت ومن معك فإنك واصل يوما إلى شطآن تريناشيا، وتكون قد أفلت من روع اليم وأرزائه، فإذا كنت ثمة فاحذر أن تمس قطعان رب الشمس السائمة في الجزيرة بأذى إن كنت حريصا على العودة إلى بلادك سالما مهما اقتحمت بعد ذلك من عباب وعقبات، فإذا مسها منكم أحد بأذى فويل لكم جميعا، إن فلكك تغوص إلى الأعماق ويغرق رجالك أجمعون، أما أنت فتنجو بعد جهد، وتلتقطك سفينة عابرة وتعود بك بعد شقاء وبلاء، وعناء أيما عناء، إلى وطنك الذي ينتظرك فيه ألف ويل وويل، ستجد قصرك المنيف محتلا بطغمة أشرار من عشاق زوجك الوفية لك، يريغون خيرك ويذبحون شاءك، ويغرون بنلوب بالعطايا والرشى لتختار بينهم بعلا لها، ولكنك ستنتقم منهم وتنتصف لما قدموا من سوء، وستبيد جموعهم فإذا تم لك النصر عليهم فانطلق من فورك إلى الشعب الذي لم ير البحر أحد من أهله ولم يذق الملح أحد منهم قط، وليكن معك مجداف عظيم يدلك عليهم، فإنهم إن رأوه عجبوا من منظره، وظنوه مذراة مما يذرى به القمح، فإذا عرفتهم فاغرس المجداف في أرضهم، وضح لنبتيون رب البحار بعجل جسد وكبش سمين وخنزير كناز،
5
ثم تبتل إليه وأخبت وانطلق إلى وطنك وضح بأحسن ما تملك من الشاء والنعم للآلهة، وصل لكل منها واخشع تعش آمنا غانما، وتمت بعد حياة هادئة موتة قريرة ناعمة بعد حكم عادل طويل وشيخوخة هانئة موفورة ... هذا من أنباء الحق عرفتها لك.»
وقلت له: «أنا لا أكذبك يا تيرزياس فيما كشفت لي من أنباء الغيب، ولكن، جعلت فداك، إني ألمح شبح أمي جاثما بالقرب من الدم دون أن تتعطف بكلمة واحدة على ابنها الحبيب، فمن ذا الذي يشعرها أني - أنا ابنها الأوحد - قريب منها.» فقال: «لا أيسر من ذلك يا ابني، فإنك إن تركت أيا من هذه الأشباح يرشف رشفة من ذاك الدم، فإنه يتحدث إليك بعد وينبئك بما تشاء.» ثم غاب شبح الكاهن في ظلمات مملكة بلوتو، وسمرت أنا مكاني أنتظر شبح أمي التي ما كادت تتذوق الدم حتى عرفتني، وانطلقت تكلمني في ترفق وحنان: «أي بني كيف أتيح لك الضرب في دياجير هذه الدار الآخرة وأنت لا تزال حيا تدب على رجليك؟! ألا ما أشق هذا على بني الموتى من أهل الدار الأولى، إن ها هنا أنهارا من حميم يدور بعضها على بعض، وقد تطغى على شطآنها بعباب حميء، ويحيط بها البحر الأعظم الذي لا تشق أجباله فلك، بله قدم سائر عابر، أواه لقد ذرعت البحار شرقا ومغربا في رحلتك من إليوم أنت ومن معك، ولما تصل إلى إيثاكا العزيزة.» وسكتت قليلا فسألتها: «الظروف القاسية وحدها يا أماه هي التي قادتني إلى مملكة بلوتو، ليعرف لي الكاهن الصالح الطيبي تيرزياس، ولقد تجشمت الأهوال الثقال منذ توجهت مع أجاممنون للقاء أبناء طروادة، وها أنا ذا منذ ذلك اليوم لم تطأ قدماي أرض وطني، ولكن نبئيني يا أماه أية ضربة أودت بحياتك الغالية؟ هل سفك دمك أحد، أم أصماك سهم من ديانا؟ وحدثيني كذلك عن أبي السند الشيخ، وعن ولدي تليماك، وحدثيني عن ملكي وعتادي، هل غلب عليها أحد من سادات البلاد حين يئس الكل من عودتي؟ وخبري عن زوجي، ألا تزال تعيش مع ولدي مخلصة وفية لي؟ أم تزوجت من أحد أمراء هيلاس؟» وقال الشبح الكريم يجيبني: «حاشا يا بني! إنها لا تزال وفية لك، مبقية على ذكراك، مقيمة في قصرك، وإن تكن تقضي لياليها وأيامها في حزن ممض عليك، ودموع جارية من أجلك، وآلام ما تنتهي لبعدك، أما أملاكك فلا تزال لك، وما يفتأ ولدك يغلها باسمك، وما يفتأ يغشى الولائم في أبهة الأمراء ورواء الأماثل العظماء، ولم يزل أبوك مقيما في مزارعك عزوفا عن المدينة وبهرجها، وأرائك القصور وزرابيها، وهو يقضي أيامه يصطلي نار المدفأة في الشتاء قابعا على فروته الفقيرة المتواضعة، غارقا في أثماله ومزقه، فإذا جاء الصيف أو فجأه الخريف اعتكف في ناحية، وانطرح على الهشيم المتساقط من الأشجار، وراح يعالج من الحزن عليك والبكاء بسببك ما يوهيه ويضنيه طوال تلك السنين السوالف، وهكذا هلكت أنا الأخرى من طول التفجع عليك والتصدع من أجلك، فلا ديانا أصمت فؤادي بسهم، ولا اعتدى علي معتد، بل الحزن وحده يا أوديسيوس والوحشة والضنى وطول الوجد، وذكراك في كل حين، كل أولئك يا بني اختصر عود حياتي، وعجل إلي مماتي.» وما كادت تفرغ من حديثها حتى أزرفت
6
إليها أود لو ضممتها إلى صدري، بيد أني فشلت مرة وأخرى وثالثة، إذ كانت تنفتل في كل مرة من بين ذراعي كما ينفتل الظل، أو كما يسري الحلم، ولم أطق على ذلك صبرا فقلت لها: «لماذا تأبين علي عناقك يا أماه وقد نتداوى به مما بنا من شجو، ولو كنا هنا في مملكة بلوتو، أم يا ترى أرسلت إلي برسفونيه شبحا يعبث بي ويتضاحك علي؟» قالت: «أواه يا بني، يا أتعس بني الموتى، أبدا ما حاولت ربة هيدز أن تعبث بأحد، ولكنها طبيعة الموتى هنا، فهم لا عضل ولا لحم ولا عظم، ولا ما ذهبت به النار بعد الموت في الدار الأولى ... بل هم أرواح تشبه الظلال أو الأحلام في خفتها وسرعة انفلاتها، ولكن هلم فعد أدراجك إلى النور؛ فلقد جاءك من الحق ما هو حسبك.» ثم همهمت حولي أشباح العذارى والأزواج من بنات هيدز، سعين من عند برسفونيه فامتشقت سيفي وطفقت أذودهن، فلا يقربن الدم إلا بإذني واحدة بعد واحدة، لتقص علي كل منهن قصة حياتها، ولقد كلمت تيرو
7
الحسناء كريمة المحتد طيبة الأعراق، فذكرت لي أنها ابنة سالمون وزوجة كريتيوس بن أيولوس، وأن أينبوس إله السلسبيل - أعذب أنهار الدنيا - كان مشغوفا بها حبا، وأنها كانت تغشى شطآنه النضر وخمائله الخضر من أجل ذلك، وأنها كانت يوما تلعب هناك، فإذا شبح جميل كأنه شبح حبيبها يظهر فجأة ثم يأخذها بين ذراعيه، ثم يعلو طوفان من اليم فيطويهما معا، ثم تفيق فترى نفسها بين ذراعي نبتيون الجبار رب البحار الذي يشاكيها غرامه هو الآخر، ويبثها حبه ولاعج قلبه، ثم يهوي بها إلى أعماق مملكته السحيقة ويعاشرها كزوجة، ثم يرسلها بعد أن يوصيها بولديه التوءمين منها ثمرة الحب السرمدي المقدس، ويغوص في اليم وتعود هي إلى بلدها فتضع ولديها العظيمين - وزيري جوف الأكبر - بلياس ونليوس، ويشب بلياس ويضرب في الأرض فينتهي إلى مروج أياؤلخوس ويرعى ثمة بهمه وقطعانه، أما نليوس فيسكن البلقع الجدب من أرض بيساوس، وتتزوج كريتيوس بعد ذلك كله، فتنجب منه أبناءها الثلاثة الآخرين
8
ذوي الشهرة والمجد، ثم كلمت أنتيوب ابنة أسوب التي راحت تفخر بما كان بينها وبين جوف - كبير آلهة الأولمب - من هوى وصبابة وحب، وأنها أنجبت له ولديه العظيمين أمفيون وزيتوس منشئ طيبة العظيمة ذات القلاع والتلاع والأبواب السبعة، ولقيت بعدها الكمينة ابنة أمفتريون حبيبة جوف وأم هرقل الحديدي الجبار، ولقد ذكرت لي أنها تزوجت من كريون بعد، فأنجبت له ابنته ميجارا زوجة ابن أمفتريون، ولقيت الحسناء أبيكاست
9
أم أديبوس الملك التابع، الذي تزوجها وهو لا يدري أنها أمه بعد أن ذبح أباه، فصبت عليه السماء سياط عذابها، وذهب على وجهه في الأرض حيران، أما أمه فقد سبقت روحها إلى هيدز بعد إذ شنقت نفسها في سقف بيتها، تاركة ولدها لربات العذاب يسمنه الخسف ويجرعنه الأوصاب، ولقيت الغادة الحسان خلوريس التي هام بها نليوس ونثر تحت قدميها هداياه، فأسلسلت له ورزق منها أبناءه الثلاثة : نسطور وخروم وبركل الميامين ذوي المجد، ثم كلمتني ليدا زوجة تندار أم كاستور الصنديد وبوللكس الملاكم العتيد، إنهما ينعمان بنعمة زيوس أبي الآلهة؛ فهما يتبادلان الموت والحياة سنة فسنة؛ وفاء منهما ومحبة وإعزازا، ثم رأيت أفيمديا الحبيبة التي فخرت بهيام نبتيون والتي أنجبت له طفليه الجميلين؛ أوتوس وأفالث اللذين بزا بجمالهما كل من دب على وجه الأرض باستثناء أوريون. يا لهما من طفلين! لقد شبا نيران الحرب على آلهة السماء، وحاولا رفع أوسا إلى قمة الأولمب فجعلا يليون على أوسا ركاما، وقد أوشكا أن يفلحا لولا أن ذبحهما زيوس وولده أبوللو ليكونا عبرة لغيرهما، فيا للموت هذا المعتدي على شبابها الغض، فأذبل الخدود وأذوى الورود.
ورأيت بعد ذلك فيدرا، ولقيت أريادن المفتان وبروسيز اللعوب، أما أريادن فقد حملها ثيذيوس من كريت إلى فراديس أثينا، ولكن وا أسفاه إنها ما تمتعت ثمة لا قليلا ولا كثيرا فقد أصمتها ديانا الغادرة بسهامها، وشهد فعلتها المنكرة باخوس العظيم، في ديا.
ورأيت ميرا، وكليمنيه، وأريفيل التاعسة التي قبلت أن تنال ثمن روح زوجها من الذهب.
والآن وقد أوشك الليل أن يلقي علينا طيلسانه، فما أحسبني أستطيع أن أحصي زوجات الأبطال العظام وبناتهم اللائي لقيت في هيدز، فأرجو لو أمر الملك فانطلقت لأستريح في سفينتي، أو هنا إن أذن، وكلي ثقة فيكم وإيمان بالآلهة أنكم ستدبرون أمر إبحاري إلى وطني حتى الصباح.»
وسكت أوديسيوس وصمت الجمع المحتشد في الردهة الملكية فكأن على رءوسهم الطير من روعة ما حدث، حتى نهضت أريتا الملكة ذات الذراعين العاجيتين، فقالت: «أيها الفياشيون، كيف أنتم وهذا المهاجر النبيل الذي زادته الآلهة بسطة في العقل والجسم، وأضفت عليه هذا البهاء وذاك الرواء؟ إنه ضيفي، بيد أنكم تشركونني في ضيافته والاحتفاء به، فخليق بكم ألا تسرحوه على عجل كما يجب، بل حري بكم أن تسبقوه أياما حتى تخلعوا عليه، وتقدموا له أطرف الهدايا وأعز اللهى، وتفيئوا عليه مما حبتكم السماء، فكلكم غني جم الغناء، ثري واسع الثراء.» وتكلم البطل أخنيوس أكبر أمراء فياشيا وأتلدهم ذكرا فقال: «إن مليكتكم ذات المجد والكبرياء يا أصدقاء لا تبدي رغبة فحسب، بل هي تصدر عن إرادة عالية وأمر سني، فحبذا لو أصختم وصدعتم ... على أن كل شيء هو رهين بمشيئة الملك فلير إذن رأيه.» وقال الملك: «إني أوافق على ما رأت الملكة زهرة فياشيا وسيدة البحار، ليبق الضيف إلى غد إذن برغم ما يحدوه من الشوق إلى بلاده، حتى أسبغ عليه وأدبر أمر عودته التي يعنى بها الجميع.» وكأنما صادف مقال الملك هوى في فؤاد أوديسيوس فنهض وقال: «ألكينوس، يا ملك فياشيا العظيم، بودي لو بقيت هنا عاما بأكمله؛ ليتم الملك نعمته علي، وليدبر أمر عودتي سالما إلى أرض الوطن، فما أجمل أن أعود بالعطايا والهدايا والنعم؛ لأملأ عيون مواطني، ولأكسب احترامهم وأنال محبتهم بعد طول النأي وفدح البعاد!»
فأجابه الملك: «لله ما أروع ما حدثت يا أوديسيوس! وكأنما حدثت بلسان ساحر عليهم يبهرج القصص ويوشي الأخبار ويروق ويزوق في زكانة وفطانة وحذق وترتيب! أبدا ما تساكبت الموسيقى والنغم الحلو من لسان كلسانك الذرب الحبيب، ولكن ماذا عندك من أخبار الأبطال الإغريق الصيد الصناديد الذادة المذاويد؟ حدث يا أوديسيوس قل، قص علينا أخبارهم، أرأيت أحدا ممن شهد معك وقائع طروادة؟ إن الليل لا يزال في عنفوان يا صاح، وما بأعيننا من سنة فنأوي إلى فراشنا في مثل تلك الساعة، هلم فحدثنا؛ فبنا من حديثك شغف، وكلنا إليه شوق، ولو حدثت حتى مطلع الفجر إن لم ينل منك وصب أو يعيك ملال.»
وقال أوديسيوس: «بورك سيد فياشيا الملك ألكينوس لا يزال في الوقت متسع للحديث وللنوم معا، وإن شئت حدثتك طائفة من الأحاديث عن أبطال الإغريق، سواء منهم من ثوى تحت أسوار طروادة ومن أفلت من الموت ثمة فترصدته المنايا في أرض وطنه صببا من كف زوجه الأثيم الزنيم! إليك إذن، وحينما هتفت برسفونيه - ربة هيدز - بأشباح العذارى وأرواح الحسان، فتكبكبن وانثنين عني إلى ظلمات دار الفناء، بدا لي طيف أجاممنون - ابن أتريوس - ومن حوله كوكبة من أشباح الذين قتلوا معه في داره بيد إيجستوس، أهرع إلى الدماء فرشف منها رشفات ثم نهض فعرفني، وكأنما شاعت فيه رعدة من الدهشة والذعر، وتحدرت دموعه الحرار السخينة فوق خديه، ثم مد إلي ذراعيه يود لو عانقني، ولكن، وا أسفاه وهل يعانق الشبح إنسيا؟ ونال مني الحزن فبكيت من هذا المنظر الفادح الأليم، وبدأت أكلمه في أسلوب بائس وعبارة باكية: «ويحك يا ابن أتريوس يا ملك الدنيا العظيم! ماذا جرعك كأس المنايا؟ خبرني هل جرعتها في قرار اليم مغرقا بيد نبتيون، أم فوق ظهر الأرض حين كنت تسوق قطعانك، أم قتلت وأنت تحارب من أجل بنات أخايا إذ هن محاصرات خلف أسوار مدينتهن؟» فقال يجيبني: «أوديسيوس الزعيم النبيل، يا ابن ليرتس الحكيم، أبدا ما مت مغرقا بيد نبتيون، ولا فوق ظهر الأرض في حومة حرب زبون، بل ذبحني اللئيم إيجستوتس بعد أن دبر غيلتي مع زوجتي الآثمة، حين ملق
10
لي وبالغ جهده في الاحتفال بي، ثم ذبحني كما يذبح الثور في مذودة، وكر على رجالي فذبحهم كما تذبح الخنازير لوليمة في عرس أو في حفل لزعيم عظيم، أوه أوديسيوس لا جرم أنك قد شهدت ألف معركة ومعركة جندلت فيها أبطالا وراء أبطال، بيد أنها جميعا لم تك شيئا في ذلك الحديث الرهيب، لقد هوينا نتخبط في دمائنا التي ضرجت الأرض تحت أخاوين
11
حافلة بأطيب الآكال وأشهى الأشربات، ثم جلجلت في أذني الصرخة الرهيبة، صرخة ابنة بريام، فكانت ما أروع وما أفدح! لقد انبطحت على الأرض إلى جانب كاسندار قتيلا بيد زوجتي كليتمنسترا، ومع ذلك لم أفقد الأمل يا صديقي، بل حاولت أن أمتشق جرازي، لكن الخائنة انسحبت كالأفعى ولم تعبأ بي، بل لم تشأ أن تغمض عيني أو تسند ذقني، في اللحظة التي أوشكت أن أطرق فيها أبواب هيدز، ويلاه وويلي على المرأة التي طاوعتها يداها فأتت هذا المنكر، وارتكبت إثم قتل زوجها ورفيق صباها.
لقد حسبت حين عدت أدراجي أنني سأقابل بالأهل والسهل من أبنائي وأهلي وحاشيتي، ولكنها، الفاجرة الغادرة ، التي بزت بفجورها كل صنوف الفجور، قد سحبت على نفسها أذيال العار والخزي، بل هي قد سحبت أذيال العار والخزي على كل أنثى لم تر النور بعد، وعلى كل الصالحات الطيبات من بنات جنسها.»
وسكت أجاممنون، فقلت بدوري: «يا سماء، ما أقسى ما قضت يد زيوس على بيت أتريوس منذ البدء! كله من الأنثى دائما، لقد قتلنا في غير رحمة ولا رفق من أجل هيلين
12
وتدبر لك كليتمنسترا تلك الفعلة بينما أنت نازح بعيد عن ديارك.»
قال: «من أجل ذلك أوصيك ألا تلين عريكتك لامرأة قط، وألا تجعلها موضع سرك ومحل ثقتك، بل إن أسررت لها بشيء فخبئ عنها أشياء، هذا وإن تكن زوجك وفية خالصة لك لا يخشى عليك منها رهق ولا غدر كهذا الغدر؛ لأنها ابنة إيكاريوس وحسب، ذات الحصافة واللب، لقد غادرناها ولما تزل عروسا يوم غادرناها إلى اليوم، وعلى صدرها الوفي ولدك الحبيب، الذي شب ليحمل اسمك، ويعلي في الخافقين ذكرك، والذي ينتظرك لهفان ليضمك إلى صدره يوم تعود إلى إيثاكا، وإنك إلى إيثاكا لعائد، وبذا قضت الآلهة. أما أنا فوا أسفاه على أورست، ولدي المسكين، الذي قتلتني الغادرة قبل أن أتزود منه نظرة! اسمع يا أوديسيوس، أصغ إلي، إني سأفيء عليك من كنوز خبرتي وتجاريبي، عليك بالسر في أوبتك إلى وطنك، واستعن على رحلتك بالكتمان؛ لأنه لا ثقة في امرأة بعد اليوم،
13
ولكن اصدقني بربك، أين يأوي ولدي الآن؟ هل يقيم في بيلوس؟ أو يثوي في أرخومينوس؟ أم هو يستذري بذرى جدته - أمي الحبيبة - في قصرها المنيف بأسبرطة؟ إنه لا يزال حيا يرزق، ولم يأو بعد إلى دار الظلال هيدز، واعتذر إليه أني لا أعلم إذا كان حيا يرزق أو أنه غدا من أشباح هيدز.» وظللنا نتحدث شجون الحديث، ونذرف الدموع على كل ذكرى حتى وافى شبح أخيل البطل، ابن بليوس العتيد، وفي أثره شبح تربه بتروكلوس العظيم، وبمقربة منه طيف أنتيلوخوس يتدهدى مع طيف البطل المغول أجاكس الذي امتاز ببسطة الجسم وجبروت المظهر على الجميع ما عدا بيليدس وحده، وعرفني شبح العداء الكبير أياسيدس
14
فقال يخاطبني في خفة وظرف: «أوديسيوس يا رجل الدهاء والخدع، أي تدبير ليست فيه تدابيرك الماضية وحيلك السوالف شيئا ما؟ أنى لك إلى هذه الدار؟ أضيف أنت؟ أم هو طيشك وقلة مبالاتك جعلاك تضرب في دياجير هيدز الرهيبة بيت الأرواح والظلال والأشباح؟» فقلت: «أخيل يا ابن بليوس العظيم، يا أشجع أبناء أخايا قاطبة، لقد سعيت إلى هنا لألقى الكاهن الطيبي تيرزياس ليعرف كيف أصل إلى شطآن إيثاكا الصخرية؛ لأني عييت بالزوابع والعواصف في عرض اليم، فما استطعت أن أصل إلى أخايا أو أن أرسو في بلادي. إني أغبطك يا أخيل من أعماقي؛ فلقد عشت في هناء وعز، وبجلك الناس كأحد آلهتهم، وها أنت ذا تحكم هنا وتنهى وتأمر على جميع هؤلاء الموتى، فما أجدرك ألا تأسى؛ لأنك مت هذه الموتة في الدار الأولى.» وأجابني على الفور: «أوديسيوس ذا الذكر، لا تخالن عزاء يخفف من وطأة الموت، لقد كنت أوثر لو أعيش في الدنيا كأحقر الأجراء الأذلاء، وأتبلغ بلقمات قليلات لا تقيم أود الشيخ الفاني، على أن أقيم هنا مملكا في جميع هذه الأشباح والتهاويل، ولكن تعال هلم فحدثني عن ولدي الحبيب، هل وصل ما انقطع من حياتي الحربية؟ أو هجر السيف وطلق المعمعة؟ وحدثني عن أبي بليوس الكريم، ألا يزال يتمتع باحترام الناس وتبجيلهم وحب الميرميدون
15
وفدائهم؟ أم تجرد من الأبهة ونزل على حكم المشيب والكبر والأيام التي أوهنت عظامه؟ أواه يا أبتاه، ليس لك اليوم أخيل كان ينشر الرعب في جنبات طروادة، أواه لو وسعني أن أعود إليك لحظة، إذن لقسرت الناس على الخضوع لك، ولأرغمت كل جبار عصي على تمليقك وذل العبودية لك، بدل الثورة بك وقلة الاحتفال بشيخوختك.» وقلت أجيبه: «أنا لا علم لي بما كان من أمر بليوس أبيك، ولكني ذاكر لك ما ترامى إلي من أخبار ولدك نيو بتلموس؛ لأني حملته على سفائني من سكيروس إلى الجيوش الحاشدة من أخايا، ولقد كنا نجتمع للشورى
16
تحت أسوار إليوم فما كان يتكلم إلا لماما، وما كان ينطق عن الهوى إذا فعل، وإذا استثنينا نسطور، وأنا، فما كان أحد ينهض إلى مقامه، أو يقارن به من جميع الأبطال الإغريق، وكنا نكر حول طروادة ونفر، فما أعرف أن أحدا كان أجرأ منه كرا ولا أحذق فرا ... ولقد جندل من أبناء طروادة الصناديد أقرانا وفرسانا حتى ما أستطيع سرد أسمائهم جميعا، بيد أنني أذكر فيمن أذكر منهم يوريبيلوس بن تلفوس البطل الذي أغرى «بريام» نساءه بالرشى ليقنعنه بخوض غمار الحرب إلى جانب الطرواديين، فما زلن به حتى خاضها هو وجنوده السيتيون. لله ما كان أجمل وما كان أروع! أبدا ما رأيت زعيما ولا سيد قوم - باستثناء ممنون - أبهى منه ولا أصفى جمالا، وما أنسى لا أنسى يوم حصان أبيوس الخشبي، يوم قمت أتخير الصناديد المذاويد من أبناء هيلاس ليكونوا معي داخله، وكان علي أن أظل عند بابه السري؛ لأرى في فتحه أو إغلاقه ما أرى. لا أنسى ما كان من هلع أبطالنا وذعرهم وذهاب نفوسهم وتحدر دموعهم من هذه المهمة رعبا وفرقا، أما ولدك فيا ما كان أشجع ويا ما كان أربط جأشا! إن عبرة واحدة لم تنسرق من عينيه، بل إنه كان يحثني ويحرص جد الحرص على أن أختاره، حتى إذا فعلت تقدم متبخترا يجر رمحه الظمئ، ويغلي صدره بنار الانتقام يود لو يصبها على طروادة وأبنائها جميعا، وما إن فتحت علينا وأبنا منها بالغنائم والأسلاب والسبي حتى نظرت إليه قبل أن يبحر فما وجدته يشكو رمية، ولا يئن من جرح، ولا أثر في جسمه لخدش مما تصنع الحرب، وما تسجل فعال مارس.»
الملكة الحسناء والأبناء الغر الميامين.
وزهى أخيل من كثرة ما أثنيت على ولده، فراح يتخايل ويدل وسط شجر البرواق،
17
وكانت جموع من أشباح الموتى تملأ الرحب، وقد جلس كل أو هام على وجهه يبكي ويشكو بثه لغير سميع، وقد رأيت بينهم شبح صديقي التيلاموني - أجاكس - وكان يحدجني في الفينة بعد الفينة، ولكنه لم يشأ أن يكلمني ، آه إنه لا يزال ينقم علي ما شجر بيني وبينه من نزاع على عدة أخيل «بعد مقتله» وما كان من طلب ذيتيس
18
ألا يلبس دروع ولدها سواي، ثم ما كان من تأييد مينرفا للأم الرءوم فيما طلبت، لقد كان انتصارا لي، كم كنت أوثر ألا يكون؛ لأنه كان فيما يبدو سبب مقتل أجاكس المغوار الذي لم يكن فينا من هو أشجع منه إلا أخيل نفسه، ولقد وجهت إليه ألين الخطاب لأقل من ثورة غضبه، فقلت له: «أيها العزيز أجاكس، يا ابن تيلامون المجيد، أما تستطيع أن تغضي - وأنت في الدار الآخرة - عما شجر بيننا بسبب هذه العدة المشئومة؟ لعنتها الآلهة من عدة كتبت فوقها صحيفة موتك، فخسرنا فيك أشجع فرساننا وأعظم مقاتلينا، إنا ما نفتأ نبكيك ونشكو رزأنا فيك، ونعد فقدك كفقدنا أخيل نفسه ولكن لا تثريب على أحد قط؛ فجوف - كبير الآلهة - الذي ما ينفك يصب لعنته على جيوش آخايا هو الذي قضى عليك بالموت. أيها البطل، هلم نحوي كيما تسمع إلى الكلم الطيب الذي أجهد أن أترضاك به؛ لتخمد جذوة الغضب علي في نفسك، ولنحسم ما بيننا من خصام.» بيد أنه ما حرك شفتيه، بل لوى عنانه وانخرط في جماهير الأشباح الهائمة، وترك الرغبة الملحة المشتعلة في صدري شوقا إلى تكلمه تنطفئ رويدا، فقلبت نظري في الأرواح القريبة عسى أن أعرف منها أحدا فأتحدث إليه، فلمحت بينها مينوس سليل جوف الأكبر، وكان يجلس على عرش ممرد للقضاء بين الموتى، وفي يمينه صولجانه الذهبي الثمين، ومن حوله زرفت جموع سكان هيدز؛ فمنهم الواقف ومنهم الجالس، ومنهم المنتصب يشرح للقاضي شكواه ويبثه بلواه، بينا قد أهطعت الرءوس وانحبست النفوس، وتكأكأت الموتى عند البوابات الكبيرة الهائلة تنتظر دورها. ثم راعني أن أرى بين تلك الجموع أوريون الجبار يسوق قطعانه التي ذبحها بيديه في الدار الأولى، وهو يرعاها على أوراق البرواق، ورأيت فيمن رأيت تيتوس الجبار سليل هذه الغبراء، وقد كان منبطحا على الأرض بحيث يشغل فضاء تسعة أفدنة، وعلى كل من جنبيه أفعوان هائل يتغذى بمضغ من كبده الكبير الدامي، وينغب من أحشائه الغلاظ؛ جزاء بما حاول أن يستذل لانونا اللعوب الطروب عشيقة جوف سيد الأولمب، التي فرت من وجهه في بطائح بيتو إلى فراديس بانوبيوس، ثم رأيت تانتالوس في ضعف من العذاب، رأيته يتخبط في عين حمئة من حميم، وقد غاص فيها إلى ذقنه، والموج يضرب وجهه ويسفعه، وهو مع ذاك يلهث من الظمأ، لا يجد ما يبل به غلته أو يطفئ جواه وصداه، فهو إن حنى رأسه غمرته الحمم، وإذا رفع جسمه كرت الأرض على قدميه بأمر ربها فهو في عذاب مقيم، ولله أشجار الفاكهة دانية قطوفها فوق رأسه من رمان حلو وتفاح عطري وتين معسول وزيتون، كلما اشتهى أن يقطف ثمرة وكاد، هبت الرياح عاتية فذهبت الغصون عالية في السحاب، ثم رأيت سيسفوس ذا الأنياب يضنى ويشقى ويتعذب، يدفع أمامه حجرا جلمودا عظيما فيجعله في رأس جبل، حتى إذا انتهى إليه غاضت الأرض من تحته بقوة خفية فكانت بئرا عميقة، فيهوي الحجر من عل، فيعود المسكين إلى نصبه عودا على بدء، ويتحدر عرقه على جسمه العظيم، ويتبخر من رأسه كأنما ينقذف من بركان، ثم شهدت هرقل الحديدي القوي الجبار، شبحه فقط؛ لأنه هو قد منح بركة الآلهة وخلودها، فهو أبدا يحضر ولائمها في شعاف الأولمب، شهدته يحتضن ابنة جوف الجميلة المفتان، هيب، ذات القدمين الناصعتين والنعلين الذهبيتين، رأيته وأشباح الموتى ترف من حوله صافات كالطير، ثم يقبضن. وراعني أن أراه عابسا كالحا كقطعة من الظلام، وقد حملق بعينيه في الأرض وفي يديه قوسه وسهامه يوشك أن يرميها، وعلى وسطه حزامه الرائع المموه بالذهب، وقد نقشت عليه صور مئات من الدببة والذؤبان والسباع ينقدح الشرر من عيونها، دائبة في عواء وزئير وتقاتل ونهش؛ صنعة معجزة لم يقدر على مثلها أحد من قبل ولا من بعد، وما كاد يتبينني حتى عرفني، وظل يقلب في عينيه السادرتين، ثم قال لي: «آه، يا ابن ليرتيس النبيل ذا المجد ما أتعسك! ما أظنك إلا معنيا ببعض المجازفات التي كنت أشغف بها في حياتكم الدنيا. ها أنت ذا تراني هنا في ظلمات هيدز عبدا رقيقا لإله أحقر مني شأنا وأقل قدرا؛ لأنني - وأنا ابن جوف الأعظم - قد كتب علي أن أشقى هنا لأصل آلام الحياة ولأواءها، أتصدق أنه يأمرني أحيانا أن أسوق كلبة، مع ما في هذا الأمر من سخرية وتحقير! ولكني لن أنسى أني جذبته من مملكته هيدز إلى نور الحياة الدنيا بمساعدة أخي هرمز، وبمعونة مينرفا ذات العينين الزبرجديتين.» ثم هام على وجهه في ظلمات مملكة بلوتو، ثم تلبثت أنا مكاني راجيا أن ألقى غير من لقيت من أرواح الأبطال الذين عرفتهم في الدار الأولى، أولئك العظماء ذوو العزة والمجد، وكم وددت أن أرى بيريثوس وثيذيوس سليلي الآلهة. بيد أن جموع الموتى الحاشدة التي أقبلت تصرخ قذفت الرعب في قلبي، وخفت أكثر أن ترسل برسفونية ملكة هيدز رأس الجرجون من ظلمات هيدز فتفعل بي الأفاعيل، فآثرت أن أسرع بمركبي. وأمرت الملاحين فأقلعوا، وجلسوا على الظهر وحملنا تيار سريع عبر البحر المحيط بعد أن أعملنا المجاديف وقتا غير طويل.
تمام قصة أوديسيوس
(1)
السيرينات المغنيات. (2)
سكيللا الهولة. «والآن» وقد احتملنا العباب ذو الثبج، وذرعنا اليم المترامي، وعتمنا نضرب في موج كالجبال، فقد وصلنا بعد لأي إلى جزيرة أيايا المرجانية حيث ترتع أورورا ابنة الفجر الودية وتلعب، وحيث مطلع الشمس وراء البحر المضطرب، وألقينا مراسينا، وتلبثنا فوق رمال الشاطئ نرقب انبلاج الفجر، حتى إذا لاحت تباشيره أرسلت طائفة من رجالي إلى قصر سيرس فأحضروا جثمان ألينور «الذي خرج من السطح فدق عنقه»، ثم إننا بكيناه أحر البكاء، وجمعنا له من الحطب والخشب ما وسعنا، وطرحناه وسط الكومة التي صنعناها من هذا الوقود، وطرحنا معه سلاحه، وأقمنا إلى جانبه مجدافه العظيم، ثم أدينا له الشعائر الجنائزية التي أرويناها بأذى دموعنا، وأشعلنا النيران بعد أن أقمنا نصبا جليلا تحية وذكرى ولم تعلم بعودتنا سيرس، بيد أنها مع ذاك أقبلت في ربرب من وصيفاتها الحسان الأتراب يتهادين نحونا ، حاملات دنانا من أكرم الخمر، ووقفت بيننا العروس الهيفاء ثم قالت: «ويحكم أيها الأشقياء، كيف حلا لكم أن تموتوا مرتين بينما يموت جميع الناس مرة واحدة؟ ولكن تعالوا هلموا إلى طعامكم، وتحسوا من هذه الخمر لتقضوا يومكم فوق رمال الشاطئ في شراب وآكال؛ فإنكم ضاربون في ظلمات ذاك البحر فجر غد، وإني منبئتكم عما يروعكم في طريقكم عسى ألا تضل بكم، ويا ما أكثر ما تتجشمون من أهوال في البر والبحر!» ولبينا دعوة الربة المضياف، فأقبلنا على طعام شهي وشراب روي طيلة يومنا، حتى إذا توارت ذكاء بالحجاب، وشملنا ظلام الليل، تطرح رجالي فوق الرمال النائمة، ثم انتحيت أنا وسيرس ناحية، وجلست قبالتها وراحت هي تحدثني وتقول: «أما وقد أوشكت متاعبك أن تنتهي فأصغ إلي، افقه إلى ما أقوله لك وتدبره؛ فهو يوحى إليك من السماء ينفعك إذا جد بك الجد، وأزفت حولك الآزفة؛ ستصل أول ما تصل في رحلتك عبر هذا البحر إلى جزيرة السيرينات الشاديات اللائي يسحرن بغنائهن القلوب، ويخلبن بجرسهن الألباب، ويطبين
1
كل من أوصله سوء حظه إلى جزيرتهن بحلو تطريبهن وجميل شدوهن حتى ليلصق بأرضهن وينسى آله وأوطانه، ولا يخطر في باله أن يعود إلى بلاده ليهنأ بلقاء زوجه الحبيبة وأولاده الأعزاء، بل يجمد مكانه من الشاطئ حيث يكون بمسمع من السيرينات، وتكون عن يمينه وعن شماله رفات الضحايا الكثيرين الذين عرجوا من قبل ليشنفوا آذانهم بغناء أولئك العذارى فجمدوا مثله، وذهلوا عن أنفسهم حتى ذووا وذبلوا وضووا وحاق بهم الفناء، بينما تخطر السيرينات بين شجر البرواق متهاديات فوق السندس الحلو الجميل، فأوصيك أن تفرغ في آذان رجالك من سائل الشمع قبيل أن تبلغ أرضهن، فإنهم بذلك لا يسمعون شدوهن ولا يسحرون بغنائهن، أما أنت فلك أن تنصت إلى ذاك الغناء إن شئت، بيد أنه ينبغي أن يشد رجالك وثاقك في قلع سفينتك شدا قويا محكما، فيربطوا ذراعيك وساقيك بأمراس وأحبال، حتى لا يسبيك ما يشنف أذنيك من غناء وشدو فلا ترضى إلا أن تثوي بأرض السيرينات، فإذا اشتد بك الوجد من سحر ما تسمع، وطلبت إلى رجالك أن يخلوا عنك لزم أن يزيدوا في رباطك ويحكموا وثاقك أضعاف ما فعلوا بك من قبل، فإذا جزتم تلك الجزيرة وغابت مناظرها عن أبصاركم، فلرجالك أن يطلقوا سراحك؛ على أنني لا أدري أي السبل ينبغي أن تسلكوا بعد هذا؛ فهناك طريقان أحلاهما مر، وأيسرهما عناء وضر، وإني واصفة لك كليهما، وأدع لذكائك أن يختار لك؛ إنكم بالغون في سبيلكم إلى صخور هائلة ناتئة في البحر، تتكسر فوقها أواذيه، وترتطم بجلاميدها أمواجه، وتدافعه على أحيادها أمفتريت «زوجة نبتيون» الجبار، وقد أطلق الآلهة على هذه الصخور اسم «أبراتيك» وهي قلال موحشة لا يستطيع مخلوق أن يقترب منها، ولا يجسر الطير أن يهبط فيها، بل طير أبينا جوف نفسه الذي يحمل إليه غذاءه الإلهي المقدس لم يجازف مرة فحط فيها يستجم من سفر؛ لما يعلم من أنها مهلكة زلقة، ولم ترس عندها سفينة قط إلا ارتطمت فوق نتوئها وهوت إلى القاع بما حملت، أو ابتلعتها العواصف الهوج فغابت حيث لا يدري أحد ولا يعرف أحد سفينة جازت مهالك هذه الصخور إلا السفينة «آرجو» التي حاطتها جونو
2
برعايتها؛ رحمة بجاسون وحنانا من لدن سيدة الأولمب، حين أقلعت من جزيرة إيايا، وقوام تلك الصخور هضبتان شامختان شاهقتان، تمثل إحداهما صنما هولة ضخما يضرب في السماء بروقية وتتراكم فوقه منذ الأزل ثقال السحاب التي لا يذيبها خريف ولا صيف؛ لأن الشمس لم تنشر عليها أشعتها قط، ولو أن أحدا من العالمين له عشرون يدا وعشرون رجلا ما استطاع أن يرقى عليها أبدا؛ لأنها ملساء ناعمة كأنما صقلتها يدا مثال صناع، وإن في سنده الغربي لكهفا سحيقا نقر ثمة باسم «أربوس»،
3
وإني لأحذرك أن تقترب منه حين تجوز به يا أوديسيوس، بل كن بنجوة منه بعيدا بقدر ما تستطيع، أو على الأقل على مرمى سهم مراش من سفينتك إلى وصيده؛ ذاك لأنه مأوى سكيللا المخيفة التي تدوي بصوتها وعوائها، ويفرق الناس والآلهة من وجهها المكلثم القبيح، وحسبك أن تعلم أن لها اثنتي عشرة قدما كلها أمامية، وأن لها ستة أعناق طوال ينتهي كل منها برأس كبير فظيع، سلح بثلاثة صفوف من أنياب حداد أصلها ثابت وحشوها سم زعاف، وهي تربض في غور كهفها السحيق، بينما رءوسها بارزة من فوهة الكهف تبحث في الماء عن الدلافن وكلاب البحر ودواب الماء وجميع حيوان مملكة أمفتريت، وليس يجسر بحار أن يفخر بأنه نجا مرة من شرها؛ فهي تنقض كالصاعقة على السفينة العابرة، وتلتقم بأفواهها الستة الجائعة ستة من بحارتها مرة واحدة تقضمهم قضما، وتلقاء هذه الهضبة هضبة أخرى على مرمى سهم أوديسيوس، وقد نمت فوقها تينة برية كبيرة ذات أفنان وعساليج حانيات فوق الماء، وتحتها عين خاربديس الحمئة التي يغتص فيها ماء البحر كله، ثم تعود فتمجه ثلاث مرات في اليوم، ويك أوديسيوس خذوا حذركم، فوالله إنكم إن دنوتم منها فإنها تبتلعكم، ولا يستطيع نبتيون نفسه بعد ذلك أن ينجيكم، وإني أرى أن تدنو من الصخرة الأولى فتلتقم سكيللا ستة منكم؛ فهو خير لكم من أن تغرقوا جميعا.» وسكتت سيرس، وقلت أسائلها: «بحق الآلهة عليك يا ربة أن تخبري، أما أستطيع أن أنقذ رجالي المساكين من سكيللا إذا نجونا من خاربديس؟» فقالت تجيبني: «أيها التعس، أما تفتأ تحن إلى مجازفات الحرب وخوض غمار الوغي؟ إنه لا سلطان للآلهة نفسها على سكيللا، وهي ليست مخلوقا مما يجوز عليه الفناء، بل هي غول سرمدي شديد المراس، شكس شديد الشراسة، لا يغالب أحدا إلا غلبه، فأطلق سفينتك للريح، ولذ منها بالفرار، وإياك أن تفكر في التسلح لها، فهي لا بد ملتقمة ستة من رجالكم، وإذا حاولت مدافعتها فإنك منهم، فإذا بعدت فاضرع إلى كرافيس، أم هذه الهولة التي هي إلى الأبد طاعون للبشر، أن ترد كيد ابنتها عنكم فلا تتبعكم في سبيلكم ولا تلتقم منكم أكثر مما فعلت، وإنكم بالغون «تريناشيا» بعد هذا حيث ترعى الربتان الحسناوان، لمبتيا وفيتوزا ابنتا هيريون من عروس الماء نيرا، قطعان أبيها السبعة التي يشمل كل منها خمسين شاة ذوات صوف ناصع كالثلج، وكل هذه الشاء ترعى ثمة باسم رب الشمس العظيم، فإذا كنتم حقا تتشوفون لبلادكم، وتتحرقون شوقا إليها فاحذروا أن تصيبوا تلك القطعان بسوء، فإنكم إن فعلتم غرقت بكم سفينتكم وذهب رجالك أباديد، أما أنت فتنجو بعد لأي وبعد نضال وأهوال، فتصل إلى بلادك ملوما محسورا.»
هؤلاء الجبابرة ينشلون القتلى بحرابهم.
وتنفس الصبح الندى الرخي فذهبت تتبختر وتجرر أذيالها إلى قصرها المنيف، وذهبت أنا إلى الشاطئ فأيقظت رجالي، وأمرتهم فجروا السفينة حتى استوت في الماء ورفعت مراسيها، ثم جلس كل إلى مقعده، وأعملوا أيديهم في مجاديفهم فتدافعت الفلك في البحر، وما هي إلا لحظة حتى أرسلت سيرس - الربة المقدسة - نسيما رخاء كان خير رفيق لنا، إذ كفانا عناء التجديف، فتطرحنا في المركب، واشتدت الريح في غير عصف فأسرعت بنا دراكا، ثم كلمت رجالي وفي قلبي وجيب فقلت: «أيها الأصدقاء، تعالوا أحدثكم عما تنبأت به سيرس لنا في رحلتنا هذه، فإنه سيان إن أفلتنا من العذاب أو تردينا فيه، بل أردت أن أطلعكم على ما خبأته المقادير لنا؛ لتأخذوا حذركم وتبرموا أمركم، ويكون كل على نفسه وكيلا، لقد حذرتني أن يستمع أحدكم إلى غناء السيرينات الشاديات وحلو تطريبهن، وأجازت لي وحدي أن أصغي إليهن، بيد أنها أوصتني أن أخبركم أن تشدوا وثاقي بأمتن الأمراس في سارية السفينة فلا تطلقوا سراحي حتى نبعد عن جزيرتهن، وكلما رجوتكم أن تخلوا عني شددتم وثاقي أكثر فأكثر، هذا إن أردتم أن نكون بنجوة من الهلك في تلك الأرض الملعونة.» وهكذا نبهت غافلهم بتحذيري، ثم إننا انطلقنا في اليم، وأخذنا نقترب من جزيرة السيرينات، وعرفت ذلك لما هدأت الريح فجأة ونام الموج وخفتت أنفاس الطبيعة، وشمل الركود كل شيء حولنا، كأنما مسحت يد مقدسة علوية كل هذا الوجود الرحب، ونشط الملاحون إلى مجاديفهم، فالتمع تحتها بساط الماء، ثم نشطت أنا إلى قدر من الشمع فعالجته بسكين، ثم قومته براحتي، وتركته كي يلين قليلا في أشعة الشمس، ثم جعلت منه في آذان رجالي واحدا فواحدا، واستسلمت لهم بعد هذا فشدوا وثاقي في شراع السفينة شدا محكما، وجلس كل إلى مجدافه، وانسربت الفلك في الماء تشقه وتجرجر فيه ... وصرنا على مدى ما بلغ الصوت من الجزيرة إلى آذاننا فأصغيت وأصغيت، وإذا السيرينات الشاديات يتغنين هكذا:
أوديسيوس أيها الزعيم، يا من لهج بذكره كل لسان،
ألق في جزيرتنا مراسيك يا فخر اليونان،
تلبث عندنا أيها العزيز وشنف أذنيك بأغانينا؛
فما من أحد جاز بجزيرتنا حتى عرج يتزود من هذا الغناء،
ثم يقلع أسعد ما يكون وأفطن ما يكون،
ذلك ونحن نعلم من أنباء ما أصابك كل شيء،
ما خضت من معمعان طروادة، وما أصابتك الآلهة من مصيبة، وما لقي قومك في كل مكان،
تعال تعال، هلم نحدثك؛ فعندنا علم كل شيء.
وهكذا شرع العذارى يسكبن إرنانهن الجميل في قلبي، وكأنما كن ينفثن فيه السحر فيصغي ويصغي وتلح عليه الرغبة في الإصغاء، ورحت أن أضرع إلى قومي أن يفكوا قيودي ويطلقوا سراحي ويخلوا بيني وبين السيرينات المطربات، فلم يسمعوا لإشاراتي ولم يستجيبوا لتوسلاتي، بل هب يوريلاخوس وبرميديس فضاعفا أغلالي وشدا علي حبالي، ثم بعدنا، وظللنا نبعد ونبعد حتى إذا كنا حيث لا يصل إلينا من شدو السيرينات شيء؛ نهض رجالي فأزالوا ما كنت قد جعلته في آذانهم من الشمع، ثم عمدوا إلي فأطلقوا سراحي، وما كادوا يفعلون حتى أبصرت في ظلام البعد موجا كالجبال كأنه ظلمات بعضها فوق بعض، ودخانا كثيفا ينعقد في الجو، ثم إذا بي أسمع رعدا قاصفا يصم الآذان وقد ذهل رجالي عن أنفسهم، وطارت المجاديف من أيديهم فلم تجدهم نفعا، ووقفت السفينة كأنها الأرجوحة على رءوس الموج، وذهبت أنا أشجعهم رجلا فرجلا: «أيها الرفاق، ها نحن نلقى أولى عقباتنا، وهي ليست على كل حال أشد هولا من مصيبتنا يوم حبسنا السكلوب في كهفه السحيق، وكيف احتلت لفرارنا من وجهه، وسيأتي يوم نذكر تلك الشدة المفاجئة بمثل الغبطة التي نذكر بها الشدائد والسوالف. هلموا إذن فاثبتوا في أماكنكم، واصمدوا لهذا اللج المصطخب، واضربوا فيه في جلد وصبر؛ عسى أن يكلأكم جوف ربكم فينجيكم منه، وأنت أيها الربان أصغ إلي، إنك تقبض على ناصية الحال فتحاش أن تقترب من هذا الدخان وتلك الأمواج الثائرة، ابتعد ما استطعت عنها، وخذ سبيل هذه الصخرة؛ ذلك أدنى ألا تقذف بنا في حمأة الخطر، وظللت أنفخ فيهم روح الصبر حتى فاءوا إلى أمرهم فاستقتلوا في مجاهدة الأمواج استقتالا. وتسلحت أنا بكل ما استطعت من عدة، وجعلت في يدي رمحين طويلين، ووقفت أرقب سكيللا الهولة من بعد، ولم أجسر أن أذكر كلمة عنها لرفاقي حتى لا تفرغ أفئدتهم فرقا فيهربوا من عملهم ويكتظوا في بطن السفينة مخافة أن يمسهم منها أذى. وشرعنا نعبر البوغاز، ولشد ما أفزعني أن أرى سكيللا ترمقنا وتتلمظ، وقد انتصبت كالموت على الشاطئ القريب، ثم أرى في الوقت نفسه خاربديس على الشاطئ الآخر تحشرج في حلقها الرحب الفظيع عباب الماء ثم تمجه، فكأنما تقذف من جوفها ماء فائرا يعلو في الجو كالحميم، ثم ينهمر وبله في كل فج، وتعود فيفيض في البحر من بلعومها ثم تقذفه، وهكذا دواليك ... يا للروع ويا للفزع الأكبر! تالله لقد كنا ننظر ما تبدئ خاربديس وما تعيد في جزع وفي هلع، بينما كانت سكيللا تتوثب وتتوثب ثم ترسل رءوسها الستة فتلتقم ستة من رجالنا كانوا وا أسفاه أشجعهم جميعا، وكان قلبي يتمزق حين راحوا يهتفون بي وينادونني باسمي وأنا كالذي أسقط في يديه ما أستطيع شيئا فأصنعه، بل أنظر إلى أذرعهم وأرجلهم تتقلب في الهواء وهم يصيحون ويعولون، وأنا ساكن ذاهل أقلب كفي ولا أفعل شيئا آخر، وا حزناه! ما كان أشبه سكيللا المتوحشة بصائد السمك الذي أطعم سناره، وأرسلها من فوق صخرة تداعب السمكة المسكينة، حتى إذا حان الحين جذبها إلى عل تترنح هنا وهناك، هكذا كانت هذه اللعينة التي جذبت إلى كهفها أشجع رجالنا وراحت تقتات بهم بين الصراخ والبكاء وبين التوجع والأنين، وكلهم يمد إلي ذراعيه مستنجدا مستغيثا في قنوط ويأس، أبدا ما وقعت عيناي في جميع مخاطراتي على منظر أبعث للأسى وأمض للنفس وأجرح للفؤاد من ذلك المنظر الرهيب.
وما كدنا نفلت من سكيللا وخاربديس بعد تلك الفاجعة حتى اقتربنا من أرض الشمس، حيث ترعى قطعان هيبريون
4
الجميلة الكثيرة ذات الفراء الناصعة، ولقد كنت أسمع ثغاءها ورغاءها؛ إذ أنا على ظهر سفينتي في عرض البحر، وسرعان ما ذكرت ما قاله لي الكاهن الطيبي الأعمى، تيرزياس في هيدز، عن هذه القطعان، ثم ما أنذرتني به سيرس سيدة أيايا من وجوب الابتعاد عن هذه الجزيرة التي كانت منذ الأبد غواية البشر، حتى قمت في رجالي فجعلت أحذرهم وأقول: «أيها الرفاق، اسمعوا؛ هذه هي جزيرة الشمس الهائلة التي حذرنا تيرزياس الكاهن الطيبي من الرسو بها أو الاقتراب منها، وكذلك حذرتني منها سيرس ربة أيايا، فإن كان ما لقينا من أهوال ليس شيئا من الهول الذي يحيق بنا إذا حللنا بها، فاسمعوا نصحي، وسيروا بنا نذرع هذا البحر؛ نسلم من شر مستطير، وبلاء لا يجيرنا منه مجير.» وكانوا يصغون إلي في حيرة وذهول، وما كدت أفرغ حتى انتصب يوريلاخوس يرد علي في جفوة وضيق: «أوديسيوس، أيها القاسي الطاغية، أما أوهنت كل تلك الشدائد جلدك؟ أمخلوق أنت من حديد فما ترق وما تلين؟ أتأبى على رجالك الموهوبين المكدودين أن يرسلوا بهذه الجزيرة الفيحاء المعشبة ليربعوا مما بها من آلاء، وليطعموا من خيرها الكثير؟ أتصرفنا عنها بنزقك وقلة بصرك لنخبط طول الليل في هذا البحر الأجاج خبط عشواء، مع ما تكون الريح عليه حينئذ من شدة وعنف؟ خبرنا أيها الأحمق، ماذا نصنع إذا عصفت بنا نكباء من الجنوب تحطم فلكنا ولا ينجينا من بطشها أحد حتى الآلهة؟ أليس الأفضل لنا أن نرسو في هذه الجزيرة فنقضي بها ليلنا، حتى إذا انفلق الإصباح أقلعنا منها على هدى؟»
وحبذ الملاحون ما قال، فدار في خلدي أن لا بد مما ليس منه بد، وأن لا بد من وقوع القارعة الكبرى، فقلت في كلمات يائسات: «لا ضير يا يوريلاخوس! وليس بي من بأس أن أخضع لما ترى الجماعة، ولكن تعالوا جميعا فأعطوني موثقكم ألا تذبحوا شاة ولا تجزروا نعمة مما هنا من هذه القطعان مهما ألح عليكم السغب، وأضواكم الجوع، بل يكون حسبكم ما حملتم من آكال من عند سيرس.»
وأقسموا أغلظ الأقسام أن يفعلوا، ثم يمموا بالفلك في جون هادئ ترتفع في وسطه نافورة رائعة، فأرسوا ثم وتدفقوا الشاطئ وراحوا يعدون وجبة المساء، بيد أنهم سرعان ما نسوا مسغبتهم حين تذكروا إخوانهم الذين غالتهم سكيللا، وراحت تتغذى بهم أمام كهفها السحيق فأخذوا يبكونهم ويذرفون عليهم دموعهم حتى غلبهم النعاس فناموا، وفي الهزيع الثالث من الليل - حين عبرت النجوم فكانت في كبد السماء - ساق جوف رب السحاب الثقال ريحا جابت البر والبحر، وغمرتها بماء منهمر، ثم عقد في الكون ظلمات فوق ظلمات يتدجى بعضها في بعض، ثم أشرقت أورورا الوردية، فنهضنا من مراقدنا، وسحبنا الفلك إلى غار كان لبعض عرائس البحر يرقصن به أو يسترحن فيه، وما كاد شملنا يجتمع ثمة حتى نهضت في رجالي أقول: «أيها الرفاق إننا ما ينقصنا غذاء، وما بنا من حاجة إلى أكل؛ فمعنا من ذلك الشيء الكثير، فإياكم أن تمسوا هذه القطعان بأذى، وحسبكم أن تعلموا أنها ملك خالص لربة الشمس التي تراكم أينما كنتم.» وهكذا أيقظت في نفوسهم النخوة، ثم إنا لبثنا في هذه الجزيرة شهرا ما نريم عنها، وما كان لنا إلى غيرها متحول؛ ذلك لأن الدبور
5
ظلت تهب من الجنوب في صرامة وشدة، فإن هدأت لم تهدأ إلا لتهب ريح شرقية أشد منها عنفا، لم يمسوا قطعان الجزيرة السائمة بأذى ما دام لم ينفذ ما كان معهم من طعام، فلما تناقصت ميرتهم راحوا يتلمسون صيد البر والبحر، أما أنا فكنت أجوس خلال الجزيرة عسى أن ألقى إلها أضرع إليه فيجعل لنا من أمرنا مخرجا، وبينما أنا أجوب الجزيرة إذا بي أبعد كثيرا عن رفاقي، فبدا لي أن أسكن إلى منعطف دافئ هادئ على سيف البحر، فأغسل
6
يدي مما علق بهما من قذر، ثم جلست أصلي للآلهة، وأدعو واحدا بعد واحدا أن تهيئ لنا من شدتنا مرفقا، ولكنها جميعا - وا أسفاه - أصمت آذانها عن دعائي، ثم أرسلت علي طائفا من الكرى، فنمت نوما عميقا، بينما كان يوريلاخوس التعس يوسوس إلى رفاقه فيقول: «أيها الأخلاء، أنا أخوكم في البلاء فاسمعوا وعوا، ليس أشنع من الموت إلى النفس، ولكن الموت جوعا هو أشنع أنواع المنايا التي يرتجف منها الإنسان، هلموا لنذبح من هذه الشاء والنعم، ولنضح للآلهة أضخم ثيران الشمس، ولننذر أن نبني للرب المبارك هيبريون هيكلا عظيما حالما نصل سالمين إلى إيثاكا، ولننذر أيضا أن نجعل في الهيكل من الطرف والتحف ما يرضي الإله ويكفر عن سيئاتنا. أما إذا آثر أن يغرق فلكنا، وتضافرت معه جميع الآلهة على ذلك؛ لأننا ألحقنا أذى بعدد من قطعانه، فإني أول من يجاهر بقبول الموت مرة واحدة في أعماق هذا اليم على أن أموت هذا الموت البطيء جوعا.» وزين لهم ما قال، فاستاقوا أسمن ما في القطعان التي كانت ترعى العشب قريبا منهم، ثم أطعموها أنضر أوراق الشجيرات الباسقة إذ فرغ كل ما لديهم من الشعير، ثم صلوا للآلهة، وجزروا الحيوانات البائسة ثم سلخوها، وفصلوا الأفخاذ والشحم، وقذفوا بها إلى النار تقدمة للآلهة وقربانا، ولم يكن معهم خمر ليتموا بها الشعائر القدسية، فقذفوا في النار بدلا منها ماء قراحا، وجلسوا بعد هذا يعدون شواءهم من الحوايا
7
والكبد وما إلى ذلك مما في جوف البهيم، حتى إذا طعموا ملء بطونهم انطرحوا في مراقدهم، بينما استيقظت فجأة من سباتي، ونهضت لأنطلق في طريقي صوبهم، وما كدت أشرف عليهم حتى ملأ خياشيمي قتار
8
ما فعلوا؛ فوجمت وجوما شديدا، ثم أجهشت، ثم استخرطت في بكاء طويل، وضرعت إلى الآلهة وظللت أقول: «أهكذا يا أرباب السماء، تلقون علي ذلك الطائف من الكرى، فيفعل أصحابي ما فعلوا إذ أنا أغط في نوم عميق؟» وطارت لمبتيا بالخبر المشئوم إلى إله الشمس ثار ثائره، وطفق يصخب ويهتف بالآلهة ويقول: «يا جوف العلي» وأنت يا آلهة السموات اثأري لما فعل السفهاء من رجال أوديسيوس، لقد اجترءوا فجزروا من نعمي وشائي التي هي بهجتي وأنسي، والتي أرمقها أبدا من علياء السماء، فإن لم تنتقم لي فوعزتي لا أهبطن بشمسي إلى هيدز فأنير آفاقها وأضفي أضوائي على الأشباح ثمة، «وأدع هذا العالم المشرق الجميل يضرب في دياجير ما مثلها دياجير.» وأجابه رب السحاب الثقال فقال: «يا إله الشمس، على هينتك، بل ظل مشرقا على بني الموتى الدائبين في تلك الأرض، وإني مسخر صواعقي على سفينتهم في لمح البصر فتذهب بها وبهم أباديد.» أما من أخبرني هذا فقد حدث به هرمز رسول الآلهة، ثم وقفت فيهم أنتهرهم وأنعي عليهم، ولكن، وا أسفاه أي انتهار وأي نعي وقد سبق السيف العذل؟ ثم حدثت المعجزة وبدأت السماء تشهد آياتها فقد تحركت الجلود الملقاة على الأرض وزحفت نحونا، ثم سمعنا مضغ اللحم الغريض سواء ما ظل منها دون أن يمس وما علق منها بالسفافيد، وقد أرسلت ثناء وخوارا كأنها لا تزال على قيد الحياة، وهكذا ظل رفاقي يجزرون كل ثور حنيذ من ماشية إله الشمس ويغتدون بحواياها طوال ستة أيام، حتى إذا كان السابع أمر جوف العاصفة فهدأت والبحر فتطامن، فأهرعنا إلى الفلك فأنزلناها في اليم ونشرنا الشراع، وأقلعنا حيث لا ندري ماذا يراد بنا؟ ثم غابت الأرض عن الأنظار، ولم يكن إلا البحر من ورائنا وأمامنا وعن شمائلنا وأيماننا، ثم السماء من فوقنا، ثم شرع زفيروس
9
يهب ويهب، ويقلب اللج من حولنا، ثم اشتد واشتد، وصار ريحا عاصفا هوجاء كسرت قلاعنا وحطمت سكاننا، وذهبت بقلب الربان المسكين فلم يعد له صبر ولا جلد، ثم سلط علينا جوف صواعقه فقصمنا، وحطم سفينتنا فترنحت أول الأمر، ثم غاصت إلى الأعماق، وطفونا على سطح البحر الغاضب بلا أدنى أمل في أي شيء، بله العودة إلى بلادنا، ولقد كنت أرقب حطام الفلك يطفو معنا ويغوص، حتى عن لي أن أعلق بالهراب القريب مني، فطويت عليه قطعة من الشراع الممزق، وجعلته لي ثماما لصقت به، بينما نامت الشمال لسوء حظي ، وأخذت الجنوب تهب في عنفوان وبأس.
خفقت القلوب ونظر بعضهم إلى بعض، ثم جلسوا يشدون شعورهم من الحسرة.
وتدفعني بقسوة وقوة حتى خيل إلي أنها ستنتهي بي إلى عين خاربديس الحمئة، يا للهول! لقد مضى علي ليل أيما ليل، حتى إذا أشرقت ذكاء، رأيتني ويا للأسف عند صخرة سكيللا، وعلى مسافة من عين خاربديس، ولحسن حظي كانت اللعينة قد ابتلعت كل مياه الشاطئ، ثم دفعتني موجة من الأعماق، فاستطعت أن أعلق بأحد أغصان التينة الهائلة النامية فوق صخرتها، فبقيت لاصقا به كالخفاش لا يمكنني أن أهبط أو أن أتسلق؛ لعظم ما كانت الأغصان تبتعد من الأرض وتمتد من حولي؛ ولأنها كانت تعرش من فوق خاربديس، حتى كنت أرتعد من فزع وهلع عندما كنت أبصر تحتي فأرى العين الحمئة الملعونة تبتلع الموجة إثر الموجة، ثم رأيت الهراب وقطعة الشراع التي كنت عالقا بهما ينقذفان نحوها ويكونان تحتي، فطربت، ولو أن هذا جاء متأخرا حتى ريع قلبي ووهنت قواي، وغمرني شعور الذي انفرجت أزمته، وكشفت عنه غمته، فهويت إلى الماء، وتعلقت بهما بقبضتين مستميتين، ويلاه! أواه لو لمحتني سكيللا الهائلة طافيا هنالك إذن ما استطاع إنقاذي رب الأرباب نفسه من مخالبها وأنيابها، ثم بقيت هكذا تسعة أيام بلياليها يصرعني البحر وأصرعه ويناضلني الموج وأناضله، حتى رثت الآلهة لحالي فساقتني في العاشر إلى أوجيجيا، جزيرة عروس الماء كليبسو، فرسوت ثمة في ليلة ليلاء، مظلمة طخياء، وقد نالني من كرم العروس وجميل معروفها ما رد إلي قواي، وأثابني عما لقيت من شقوة وأرزاء.
ولكن لم هذا؟ لقد سمعتم قصتي مع كليبسو من قبل؛ إذ رويتها للملك ولزوجه أمس، وإني لأكره الحديث المعاد.»
أوديسيوس يصل إلى إيثاكا
وفرغ أوديسيوس من حديثه، وجلس القوم في الردهة ذات الظلل مسبوهين مشدوهين من روعة ما حدث ومن غريب ما روى، حتى تكلم الملك فقال: «أوديسيوس، يا أيها العزيز، صفا بالك وطاب حالك واستذريت من ذرى هذه القبة الشماء بركن ركين، فلن ينالك أذى بعد اليوم، ولن تقدر عليك الرياح الهوج في رحلتك الآمنة إلى بلادك، وإن يكن مثلك لا يبالي الحدثان، ولا يأبه لصروف الزمان بعد إذ رضع لبانها، وتقلب طويلا في أحضانها، وإنه والله ليس أحب إلينا من أن تقيم آخر الدهر عندنا فتتحسى معنا من أكرم هذه الخمر، وتشنف أذنيك بما يتغنى مطربنا الحبيب الإلهي، وإلا فذاك صندوقك العزيز وفيه أذخار الهدايا وأعز اللهى؛ من مطارف الديباج، ومكنون الذهب الوهاج، ولكن على رسلك، هلموا يا معاشر الفياشيين فليحضر كل منكم للنازح الكريم طرفة من أبر الطرف، وتحفة من أجل التحف، ولتكن ركيزة من الذهب وأصيصا صغيرا للزهر، وليسهم الشعب في هذا؛ ذلك أدنى ألا تطيقوا ثمنها.»
1
وصادفت مقالة الملك هوى في قلوب السادة زعماء الفياشيين، ثم نهضوا فتفرقوا إلى منازلهم يلتمسون الراحة وينعمون بطيب المنام، ونضرت أورورا ابنة الفجر جبين المشرق بأفواف الورد، فهب الزعماء العظام من مراقدهم، وبادروا إلى السفينة بهداياهم التي وصف الملك، وقد كان ألكينوس نفسه ينتظرهم ثمة، وكان يتناول كل هدية بيديه فيضعها موضعها الأمين تحت مقاعد المجدفين حتى تكون بنجوة من ضرر يصيبها أو أذى يلحق بها، حين يكون الملاحون مشغولين فيما هم بسبيله من عمل البحر ومصارعة الموج، حتى إذا أسلموا تذكاراتهم عادوا مع الملك إلى قصره المنيف لوليمة الوداع الفاخرة، وقد قرب إلى جوف الكبير المتعال، رب الأرباب ورب السحاب الثقال، بثور جسد عظيم، وأعد من فخذيه شواء شهيا أقبل عليه القوم يأكلون ويروغون،
2
بينما يسكب في آذانهم غناء ديمودوكوس مطربهم الحذق الحبيب، وكان أوديسيوس يرنو بطرفه المشتاق إلى الشمس يود من أعماقه لو عجلت إلى خدرها، وكان يضجره منها جريانها الوئيد، فهو دائما يرقب مغيبها بعيني الزارع الشقي الجوعان الذي أجهده طول النصب في حرث حقله، فعلق بصره بالشمس يتمنى لو هبطت فجأة في المغرب ليلوي أعنة بهائمه إلى كوخه؛ وليتبلغ هناك بلقيمات. وما كادت تتوارى بالحجاب حتى وجه الخطاب لزعماء الفياشيين في شخص الملك، فقال: «مولاي الملك الجليل ألكينوس، يا فخر شيرا وعماد الفياشيين، تمنيت لو أديت الصلاة الخمرية يا مولاي، وتفضلت فأذنت لي في وداعكم؛ ما دمتم قد أعددتم لي الهدايا واللهى، والأبطال الصناديد من رجالكم الملاحين، وإني لأضرع إلى الآلهة أن ترعاني في رحلتي في اليم، وأن أصل إلى بلادي فألقى فيها آلي وعشيرتي سالمين، كما أسأل أرباب الأولمب أن ترعاكم وأن تقر أعينكم جميعا بذويكم، وأن تفيء عليكم من نعمائها، وتحفظ بلادكم من عاديات الزمان وملمات الحدثان.» وسر الجميع من مقالته فهتفوا له، ورجوا الملك أن يأذن له في السفر، فالتفت ألكينوس إلى مشيره وقال: «هلم يا بنتون فأدهق الزق واحمل الخمر إلى جميع أضيافنا؛ ليريقوها خالصة لوجه سيد الأولمب؛ كي نتأذن لأوديسيوس بالرحيل إلى دياره.» ولبى المشير وأخذ كل كأسه، ولم ينتظر أوديسيوس حتى يصل الندمان إلى الملكة المبجلة الوقور، بل هب مسرعا وقدم إليها كأسه الهائلة، وقال: «وداعا يا مولاتي الملكة آخر الوداع، وداعا إلى آخر العمر، وليكن عمرا موفورا مخفرجا تقرين فيه بمولاي الملك والسادة النجب أبنائك المحبوبين وشعبك.» وحيا وبيا، ثم أهرع إلى المرفأ ومشير الملك يسعى بين يديه، وثلاث من وصيفات الملكة يتهادين في أثره؛ أما أولاهن فكانت تحمل الثوب الديباجي الموشى، وأما الثانية فكانت تحمل الصندوق الثمين ذا الأذخار، وحملت الثالثة مئونة حافلة من أشهى الآكال وأطيب الشراب، حتى إذا كن عند السفينة سلمنا ما حملنا للملاحين الشجعان، وانثنينا من حيث أقبلنا، واشتغل بعض البحارة بإعداد فراش وثير في قمرة خلفية من أجل أوديسيوس، الذي آوى إلى منامته واستغرق ثمة في سبات لذيذ، بينما كان الملاحون دائبين في فك الحبال ورفع المرساة من صخور الشاطئ، حتى إذا انتهوا توزعوا إلى مجاديفهم وأعملوا فيها أيديهم، فهمت الفلك واحتواها الماء، وأقلعت تشق الأمواج، وتأخذ سبيلها في البحر سربا ... هذا بينما كان النائم البريء قد استسلم لطائف من الكرى يشبه طائف المنون، وعمرك الله هل رأيت أربعا من صافنات الجياد تتبارى في حلبة وقد أذن المؤذن فاندفعت تنهب الرحب، وأرسلت في الهواء أعرافها؟ لقد كانت السفينة تتواثب على أعراف الموج مثلها ، والعباب الزاخر يصطخب من ورائها، واللجة من بعد اللجة تجيش وتضطرب تحتها، كأنما تتحدى اليم في طمأنينة وثبات، أو تسابق في الجو البواشق البزاة، وكيف لا وقد حملت رجلا لا كالرجال وبطلا بز الأبطال، وحكيما تربا
3
للآلهة في المكرمات وعظيم الفعال، وقرنا ليس كمثله قرن في يوم كريهة أو نزال، لم يغف من قبل هذه الغفوة الناعمة التي باعدت بينه وبين ما تجشم من آلام وأحزان وأشجان ...
وتلألأت في الأفق الشرقي نجمة الفجر الصادق حينما كانت الفلك قبالة الأرض الموعودة؛ إيثاكا، بعد إذ أتمت رحلتها الخاطفة في جنح الليل، وهناك في شاطئ المدينة أنشئ مرفأ أمين باسم فورسيز رب الأعماق يدخل إليه بين حاجزي أمواج ممتدين على مدى الجون الجميل بين ذراعي الميناء، فما تستطيع ريح أن تعبث بما فيه من سفين وقد بسقت أشجار الزيتون على الشاطئ وامتدت امتدادا هائلا إلى كهف حريز تأوي إليه طائفة من عرائس البحار يقال لها النياد. وثمة - أي في هذا الكهف المقدس - صفت أباريق من حجر وجرار كثيرة، يأتي النحل فيودع فيها شهده، وقامت فيه أيضا عمد من حجر يقال إن عرائس الماء تنسج عليها أثوابها العجيبة، وفيها أيضا عيون من ماء زلال تسقي ساكنيه، ويؤدي إلى الكهف طريقان عظيمان، أحل أحدهما للناس يضربون فيه ما يشاءون، أما الآخر فلا تطؤه إلا قدم إله كريم، ويعرف بطريق الجنوب المقدس.
أرسلت سيرس بين أيدينا ريحا رخاء كانت خير معوان لنا وخير رفيق في سفرتنا الرهيبة.
ويمم البحارة بفلكهم شطر الميناء ثم أرسوا فيه، وجنحت السفينة بنصف حيزومها على رماله، وحملوا أوديسيوس الزعيم دون أن يوقظوه ووسدوه على فراش
4
وطئوه على الشاطئ، ثم حملوا كل متاعه وأذخاره فجعلوها إلى جانبه خلف زيتونة ضخمة تحجبها عن أنظار المارة؛ حتى لا يعبث بها عيار إذ هو مستغرق في نومه العميق، وركبوا الفلك بعد هذا وعادوا أدراجهم إلى شيرا، وأحس نبتيون الجبار رب البحار وعدو أوديسيوس الأكبر بما فعل الفياشيون فثار ثائره، وقال يعتب على زيوس: «أيها الإله الأعظم الأبدي، أبدا ما أحسبني أنال نصيبي من التقديس والتبجيل بين الآلهة منذ اليوم، ما دام شعب فياشيا لم يأبهوا أن يحقروني أن يبالوا بي، فقد كنت عولت على ابتلاء أوديسيوس بأروع صنوف البلايا قبل أن تطأ قدمه أرض بلاده، ولم يكن في تصميمي أن أحول بينه وبين العودة إليها؛ لأنك كنت قد وعدت بتمهيد السبيل لهذه العودة، ولكنهم حملوه على فلكهم غارقا في أحلى المنام، حملوه إلى الشاطئ الإيثاكي بما معه من العطايا والأذخار وطرف النحاس وتحف النضار ومطارف الديباج، وما حمل من كنوز لم يكن يحمل شيئا منها حتى لو عاد بنصيبه من أسلاب طروادة! وا أسفاه وا أسفاه!» وقال يجيبه رب السحاب الثقال: «ماذا تقول يا مزلزل الشطآن والخلجان، يا ذا الملكوت والجبروت، يا أيها العظيم نبتيون؟! لا عليك يا أخي لا عليك، فإنه لن تحقرك الآلهة ولن تستخف بك، فإذا استخف بك ملأ ضعيف من بني الموتى - عبادنا البشر - فما يضيرك؟ أليس في يديك ألف ألف فرصة للبطش بهم والانتقام منهم؟ اربع عليك يا نبتيون وصل ملاذك؛ فإنك لست عبدا لأحد.» قال نبتيون: «جوف يا رب السحاب إنه ليس أحب إلي من أن أبطش بهم كما أشرت، ولكني لا أخشى إلا تحديك لي دائما بغير حق، وإني أرجو أن أعصف بسفينتهم في دأمائي اللجي حتى لا يحملوا ضاربا في البر والبحر مثل أوديسيوس مرة أخرى، وإني مقتف آثارهم الآن فضارب فلكهم اللعين، فساحره في الحال إلى طود عظيم ينهض بروقية أمام مدينتهم ليحجبها عن كل سارب في البحر فلا يراها أحد أبدا.» فقال جوف يجيبه: «هلم يا أخي فاصنع ما بدا لك، وافعل فعلتك التي رسمت، وليكن ذلك حينما يقتربون من مدينتهم حتى يرى أهل شيرا ما يحل بسفينتهم؛ لتكون لهم آية.» وانطلق مزلزل الأعماق في أثر الفياشيين حتى إذا كانوا قاب قوسين من الشاطئ أرسل يده تحت فلكهم فضربها ضربة هائلة أرسلتها في الهواء وهوت بها إلى اللج، ثم تركت مكانها جبلا عاليا أشم ، ولوى عنانه إلى أرجاء ملكه الرحب.
ووقف الفياشيون - ملوك البحار - على شاطئ البحر مسبوهين دهشين يسأل بعضهم بعضا: من ذا الذي أرسى هذا الجبل الهائل مكان سفينتهم تلقاء المدينة حتى لحجبها عن أنظار السفن العابرة في اليم؟ والتفت الملك وكان واقفا بينهم فقال: «يا للآلهة! لقد ذكرت نبوءة قصها علي والدي فيما غبر من الزمان؛ فلقد ذكر لي أن شعبنا المجيد مأذون له من نبتيون أن يحمل الناس من كل فج، من ضل سبيله منهم إلى بلادهم مهما تناءت، وقد ذكر أيضا أن سفينة من سفننا بعد إذ ترتد من رحلة لها إلى بلد رجل غريب نازح ستغرق في اليم، ويبسق مكانها جبل عظيم شاهق يحجب شيرا عن البحر، وها قد تحققت النبوءة، فهلموا نقرب لإله البحار نبتيون باثني عشر عجلا جسدا تكون أعظم عجولنا وأعلاها قيمة؛ عسى أن يرثي لنا فيكشف عنا هذه الغمة، ولا يحول بين البحر وبين مدينتنا بهذا الطود الكبير الراسي.» وتفزع زعماء الفياشيون وبادروا إلى عجولهم فجزروها باسم نبتيون وتكبكبوا حول مذبحة فصلوا له وسبحوا بذكره، أما أوديسيوس فقد هب من نومه وهو لا يدري أين هو، ومع أنه كان ينام ألذ النوم فوق شاطئ بلاده فإنه لم يعرفها لطول ما شطت به النوى؛ لأن مينرفا الكريمة - سليلة جوف العظيم - كانت قد ألقت حوله ظلالا تحجبه عن أعين المارة؛ مخافة أن يعرفه أحد منهم قبل أن تلقنه من حكمها ما هو ضروري له في حالته هذه؛ كأنما أرادت ألا يستبينه أحد من مواطنيه ولا من أصدقائه وذويه، حتى يبطش البطشة الكبرى بالعشاق الفساق الذين استباحوا عرضه، واستحلوا بغير الحق زاده وخيره، وعمروا كالشياطين داره؛ لذلك موهت مينرفا كل شيء في عيني أوديسيوس، فالطرق مستقيمة مستطيلة والموانئ رحبة مترامية، والجبال ذاهبة في السماء، والدوح باسق يطاول الجوزاء، وكل شيء ليس مما عهده البطل في بلاده، ووقف يقلب عينيه في المشاهد المحدقة به، ثم تنهد من أعماقه، وبسط كفيه إلى السماء، وضرب بهما في برم على فخذيه ، وأنشأ يقول: «وبلاده علي وألف ويل! أي شعب من الشعوب يقيم بهذه الأرض يا ترى؟ أأجلاف ظلمة هم؟ أم أطهار أخيار يخبتون للآلهة؟ ليت شعري أين أخبئ هذه الكنوز والأحراز؟ وي! بل أيان أذهب أنا؟ لعمري لقد كنت أوثر ألا أنال شيئا منها من هؤلاء الفياشيين على أن أكون قد حللت بأرض ذي نخوة وذي نجيزة من ملوك الأرض غير ألكينوس هذا، فكان يرسلني آمنا سالما إلى بلادي، ماذا أصنع يا ربي؟ أأترك هذه الثروة الطائلة هنا؟ أأدعها فريسة حلالا لغيري من الناس، وأهيم في هذه البطحاء على وجهي؟ وا أسفاه! أهكذا يغرر بي فيلقوني في شاطئ غير شاطئ بلادي، وقد وعدوا أن يهبطوا بي مرفأ إيثاكا الأمين؟ اللهم يا جوف العظيم، يا من إليه بحار أبناء السبيل والمهاجرون والمساكين، انتقم لي يا رب الأرباب من هؤلاء الخونة المبطلين! ولكن يجدر بي قبل كل شيء أن أحصي أذخاري لأرى هل سلبني منها هؤلاء اللصوص شيئا؟» ثم راح يحصر كنوزه، فما وجد شيئا منها ناقصا أو غير موجود، وزاد ذلك في أشجانه، فأخذ يندب حظه، ويبكي على ما لقي من زمانه، وينشج نشيجا مؤلما لهذه الهجرة الظالمة عن أوطانه، وجعل يروح ويغدو على سيف البحر المضطرب وحيدا معنى، ويرسل دموعه وزفراته حتى بدت له آخر الأمر مينرفا في صورة راع صغير غض الإهاب عجيب الثياب جميل المحيا كأبناء الملوك، ملتفعا حول عنقه ومن فوق صدره بشفيف
5
صفيق طوي حولهما طيتين، وفي قدميه نعلان متواضعتان، وفي قبضته حربة ناعمة لامعة، وكانت مفاجأة سارة فوجئ بها أوديسيوس، فخطا خطوات عاجلة إلى الشاب وراح يسائله: «مرحبا أيها الغرانق الجميل، لقد كنت أول إنسي ألقاه هنا، فبحق هذا عليك أن تحميني وتحمي أذخاري هذه، وألا تلحق بأينا أذى، إني أتوسل إليك كما لو كنت أتوسل إلى أحد الآلهة أن تصدقني فيما أسألك عنه: أية بلاد هذه؟ وأي قوم يعيشون فيها؟ أهي جزيرة آهلة؟ أم حدور من بلاد مترامية؟ أخبرني بأربابك أيها الفتى.»
وقالت مينرفا - ذات العينين الزبرجديتين - تجيبه: «أيها الغريب اللاجئ، كم أنت ساذج! كيف تسائل عن هذه البلاد كأنك لست من أهلها؟ إنها بلاد ذات ذكر في المشارق والمغارب، ومنها وإليها تصدر الركبان إلى كل فج، ثم هي ليست بهماء مجهولة، بل هي جنة مأهولة، زاخرة الخيرات موفورة البركات، ففيها أنضر سهول القمح، وأبهج عرائس الكروم، وأخصب المراعي الخضر الحافلة بقطعان النعم والشاء، تسقى من ماء معين وأنهار وعيون، هذه يا رجل إيثاكا؛ إيثاكا المباركة التي استطالت شهرتها، واستطار ذكرها حتى ملأ الخافقين وجاوز طروادة ذات المجد التي لا تبعد شطآنها من أخايا.»
وشاع البشر في نفس أوديسيوس لما سمع الراعي الجميل يؤكد في لهجة قاطعة أن هذه البلاد هي إيثاكا الموعودة، وهز السرور أعطافه لما رأى من زهو الشاب وافتخاره بها، بيد أنه مع ذلك راح يتجاهل ويبدي عدم معرفته لهذه البلاد، ويحاول أن يخدع الفتى عن نفسه، وما يخدع إلا نفسه هو؛ قال: «أجل، لقد سمعت عن إيثاكا في أقاصي البحار، والناس يعرفونها حتى في كريت التي وصلت منها اليوم بعتادي هذا، تاركا فيها أبنائي وذوي رحمي، فارا بنفسي من الفعلة الهائلة التي فعلت. يا ويح لي! لقد قتلت العداء المعروف أرسيللو بن أيدومين العظيم الذي لم يكن يباريه في سرعة عدوه أحد. لقد حدثته نفسه أن يسلبني ما غنمت من كنوز طروادة وأسلابها، وما حصلت عليها إلا بعد قتال شديد، ولظى حرب، وركوب أهوال في ذلك اليم؛ وذاك لأني أبيت أن أقاتل تحت لوائه أو لواء سيده ومولاه، بل قدت فيلقا من الجند، فظفرت وانتصرت فكبرت عليه هذه، وحفظها لي، وأضمر في نفسه الغدر، فلما عدنا أدراجنا إلى أرض الوطن، حاول أن يسرقني كنوزي فأقصدته برمحي فأرديته، وكان معه زميل له شرير، فذبحته واستعنت عليهما بدجى الليل ودجنته، ثم هربت تحت أستار الظلام بأحرازي إلى الشاطئ، حيث حملتني سفينة فياشية رجوت ملاحيها أن يبحروا بي إلى شاطئ بيليا، أو إلى مرفأ إيليس، لكنهم وا أسفاه اضطروا إلى الإرساء هنا؛ لأن ريحا عاصفا قسرتهم على ذلك، فوصلنا هنا برغمنا في جنح الليل البهيم، ولقينا عناء عظيما في النزول بالمرفأ الأمين، ومع شدة حاجتهم إلى الطعام فإنهم لم يستأنوا بل تركوني وحدي، وأبحروا على عجل بعد إذ نمت على الشاطئ من الإعياء، وبعد إذ حملوا إلي هنا متاعي، وهم الآن في طريقهم إلى سيدونيا، وها أنا ذا وحدي هنا لا أعرف أيان أذهب ولا أين أمضي؟»
أوديسيوس يروي لبنلوب.
وسكت أوديسيوس، ولكن الراعي الشاب الجميل أخذ يتحول في فنون وسحر إلى صورة خلابة أخرى، لقد أصبح امرأة حسناء هيفاء، وها هي ذي، تلك المرأة الحسناء الهيفاء، تبدو في صورة مينرفا - ربة الحكمة - التي اقتربت من البطل في تبسم وظرف، وأخذت تعبث بلحيته الكثة الشعثاء في دلال وسخرية، وراحت بدورها تجيبه: «مرحى أوديسيوس، مرحى مرحى! ما أحسب أن أحدا - أحدا من الآلهة - يفوقك في مكرك وبراعة حيلتك يا ابن ليرتيس، أما أن تقلع عن مراوغاتك التي حذقتها مذ كنت يافعا وعن توشية الأحاديث الملفقة التي حذقتها واشتهرت بها في العالمين؟ ولكن تعال، ليدع كلانا ما يحاول أن يزوق به كلامه؛ فكلانا بارع في ذلك صناع؛ أنت بفصاحتك، ودقة فهمك وطريق حيلتك بين الناس، وأنا بحكمتي وقوة تدبيري بين الآلهة، وما أحسبك تجهل مينرفا ابنة جوف الأكبر، التي كانت رائدك ورفيقك في كل ما حاق بك من مكروه، فقد كنت أقذف الشجاعة في قلبك في مواقف شدتك، كما كنت أثير الحمية في أفئدة الفياشيين الذين وصلوا بك إلى هنا، وها أنا ذي طويت إليك فدافد الرحب لأخلو ساعة لك؛ ولأن لي حديث نصح معك، بودي أن أمحضك إياه، وقبل هذا ينبغي أن تخبئ كنوزك التي أسبغت عليك بمشورتي، ثم إني محدثتك عما يتحيفك من أرزاء، وما يدبر لك من كوارث تحت سقف بيتك، ونصيحتي أن تحتمل ما يصيبك أول الأمر بقلب جليد وصبر ثابت وطيد، واحذر أن يعلم أحد - رجلا كان أو امرأة - بوصولك إلى إيثاكا وحيدا شريدا لا حول لك كما وصلت، بل اصمت كلما حاول أحد أن يتعرفك، واحتمل الأذى كلما امتدت به يد إليك.» وقال أوديسيوس وقد أسقط في يده: «لله درك يا ربة! ما أبرعك في تغشية العيون وتضليل الأبصار والتشكل في أي صورة شئت! بيد أنك برغم ذلك حليمة رحيمة كعهدي بك دائما، ألا كم نصرت أبطال أخايا المذاويد، وأظفرتهم بأعدائهم في ميدان طروادة، ولكني لن أنسى مذ أقلع أسطولنا من مياه تلك المدينة بعد سقوطها في أيدينا أنك لم تظهري لنا قط، ولم تبادري مرة إلى إنقاذي من إحدى الرزايا التي كانت تحيق بي، والتي كنت أحتملها بقلب حديد وصبر شديد، حتى رثت الآلهة لحالي فجعلت لي منها مخرجا وأنقذتني إلى بر فياشيا، حيث أثرت في صدري النخوة وأوليتني الشجاعة، وكنت دائما دليلي ورائدي، ولكن اصدقيني بأبيك يا ابنة جوف، هل وصلت حقا إلى إيثاكا؟ أم أنا في صقع سحيق عنها، وإنما أنت تسخرين مني وتعبثين بي؟ اصدقيني بأبيك يا ربة، هل هذه بلادي العزيزة إيثاكا؟ هل هي حقا؟» وقالت ذات العينين الزبرجديتين تجيبه: «دائما حذر يا أوديسيوس، وإلى الأبد يملأ الوسواس صدرك برغم ما أوتيت من حكمة وتبيان ورجاحة فكر وسلامة جنان، بيد أنك معذور يا صاح، إذ أي رجل يتشوف لرؤية زوجه وأبنائه ولا يتحرق شوقا للقياهم بعد هذا النوى الطويل والبعد الممض والأهوال الجسام الجمة؟ غير أنه أفضل لك ألا تعلم شيئا ولا تسأل عن شيء حتى تلمس بنفسك مقدار ما تكنه لك من الحب، تلك الزوجة الوفية المخلصة التي ذهب شبابها عليك حسرات، والتي زرفت دموعها من أجلك آناء الليل وأطراف النهار طوال تلك السنين الباكية الحزينة الموحشة.
إني لم أتركك يا أوديسيوس كما تظن، بل كنت أعلم أنك راجع دون ما ريب إلى بلادك، وإن فقدت كل رجالك ورفاق سفرك الطويل الشاق، غير أنني أشفقت أن أثير حنق نبتيون - عمي وشقيق أبي - الذي يحز الأسى في قلبه من فعلتك التي فعلت بعين ابنه السيكلوب، ولكن هلم، إني سأقطع الشك باليقين، وسأدلك على علائم تؤكد لك أنك في إيثاكا؛ فهذه هي ميناء فورسيز حكيم البحار، وها هي الزيتونة الكبرى عند رأس المرفأ وعلى مقربة منها ذلك الكهف المقدس الإلهي الذي تأوي إليه عرائس البحر المعروفة باسم النياد، وقد طالما كنت تجزر القرابين والأضاحي باسمهن عند وصيده، وهاك جبل نيربتوس وهذه غاباته الشجراء.» ثم رفعت ربة الحكمة الغشاوة عن عينيه، فعرف دياره ولم ينكر شيئا منها، وهكذا شاءت العناية أن يشهد البطل المكدود بلاده الحبيبة مرة أخرى، وهكذا خر أوديسيوس جاثيا يقبل ثرى الأرض المقدسة، ثم رفع يديه يصلي لعرائس الماء كسابق دأبه: «يا عرائس البحر، يا بنات جوف الأعظم، لقد قنطت قبل هذا من أن أراكن، فها أنا ذا أعود إليكن بألف نذر وألف تحية وسلام، من القرابين الغوالي إذا مدت أختكن - مينرفا الحكيمة - في أيامي، وباركت رجولة ولدي ومعقد أحلامي.»
وقالت ابنة جوف تؤيده: «تشجع يا أوديسيوس، لا طائل لهذه الوساوس التي تعذبك. هلم! البدار البدار، لنخبئ هذه الكنوز في أغوار ذلك الكهف السحيق؛ لتكون في مأمن من عبث عابث، ثم هلم أدبر الأمر معك.» وانطلقت الربة في ظلمات الكهف تتكشفه بينما حمل أوديسيوس أذخاره فوضعها حيث أشارت مينرفا، ثم حملت بيديها الجبارتين صخرا عظيما فأحكمت به غلق المدخل الرهيب، وجلسا عند أصل زيتونة باسقة، وشرعا يرسمان الخطط ويحكمان التدبير لهلاك العشاق الفساق المعاميد، فقالت مينرفا: «أوديسيوس، يا ابن ليرتيس المجيد، هلم فأعمل فكرك الآن في الوسيلة التي تبيد بها أعداءك الذين لا يستحون، أولئك العشاق الذين استبدوا بأسرتك طوال أعوام ثلاثة واستباحوا حماك، وتكالبوا حول زوجتك كل هذه السنين يغرونها بالوعود، ويزخرفون لها الأماني، ويعسلون لها كلمة الفسق، وهي ما تزداد إليك إلا تحرقا، وما ترقأ دموعها من أجلك فتحتال لهم، وتعد هذا وتوشي المنى لذاك معللة نفسها بعودتك لتسحقهم جميعا.» واستعبر أوديسيوس قليلا وقال: «أوه! كأن القضاء الذي أسكت نأمة أجاممنون يكاد يحيق بي أنا الآخر في صميم داري! ولكن وي! أضرع إليك أيتها الربة أن تشيري علي وتنصحي لي وتلقنيني كيف أثأر من هؤلاء الطغاة؟ وأتوسل إليك أن تقذفي في قلبي الشجاعة كما قذفتها فيه تحت أسوار طروادة، فإني بعونك أدوخ المئين من أعدائي، وما دامت يدك فوق يدي فإني مستأصل شأفتهم جميعا.» قالت مينرفا: «اطمئن يا أوديسيوس فسأكون معك وإن لم يمتد إلي طرفك حتى تغتالهم أجمعين، وحتى تطيح رءوس أكثرهم على أرض قصرك، ولكن تعال ألق بالك إلي، إني سأغير من صورتك، وأحور من شكلك حتى لا يعرفك منهم أحد؛ فهاتان الوفرتان
6
تستطيلان حتى تغطيا كتفيك وحتى تتصلا باللمة،
7
وسأدثرك بدثار مرقع رث، يثير التقزز في نفوسهم فلا يمدون أبصارهم إليك، وسأحدث أوراما حول عينيك تزيد في تنكرك، حتى ليحسب من ينظر إليك من أعدائك أنك وأهلك بعض المساكين الذين لا يفتئون يضربون في الأرض؛ على أنه ينبغي أن تلقى راعيك الأمين «أيبومايوس» الرجل الوفي الذي لا يزال يخلص لك ويفي لابنك، ويؤثر بأصفى وده زوجك، فاذهب إذن إلى جبيل كوراكس المطل على نبع أريثوزا تجد قطعانك ترعى العشب الحلو ثمة، وتسقى من السلسبيل المجاور، وتجد راعيك الشيخ يتشوف إلى رؤيتك فحيه واجلس إليه، واسأله عن كل ما تريد أن تعرف من أنباء بيتك وأهلك وعقارك، وتلبث معه حتى أعود إليك بابنك من أسبرطة؛ ابنك تليماك الذي ذهب يذرع الرحب سائلا عنك، متحسسا أخبارك حيث حل ضيفا كريما على الملك منلوس الذي أرسله إلى ليسديمون ليرى هل لا يزال أبوه حيا يرزق.» قال أوديسيوس «وا أسفاه عليك يا ولدي! ولم أيتها الربة المحيطة بكل شيء لم تخبريه أنني حي أرزق وأنني لا بد عائد إليه؟ فكنت كفيته بلاء الرحلة في تيه البحر، بينما هؤلاء الكلاب يستنزفون ثروته وماله.» فقالت تجيبه: «لا تأس على ولدك هكذا يا أوديسيوس، لقد أرسلته أنا ثمة ينشد الشرف وينشر ذكره بين الناس؛ إنه لا يلقى عنتا هناك، بل هو ينعم بالرعاية في قصر إنريدس، وأعلم أن فريقا من عشاق بنلوب يتربصون به ويترصدونه في طرقه ابتغاء أن يقتلوه قبل أن يبلغ أرض الوطن، ولكن لا ، خاب فألهم، إنهم لن يمسوه بأذى حتى تكون الأرض قد رويت من دمائهم، وغيبوا جميعا في بطونها، أولئك السفلة الذين يستحلون زادك وعتادك الآن، ثم مسته بعصاها السحرية فبدت عليه بدوات الكبر؛ فهذا جلده قد تغضن، وهاتان وفرتاه ولمته قد استطالت حتى بلغ شعرها قدميه، وها هي ذي تضفي عليه الدثار المرقع الرث، وها هي ذي تحدث الأورام حول عينه وتزوده بمزق قذرة علق بها التراب والسخام،
8
وها هي تضفي عليه بعد ذلك جلد ظبي قديم غليظ وتدفع إليه بعكازة طويلة يتوكأ عليها، وتمده بمزود
9
تدلت منه أوشية قبيحة، وأحيط بسيور من جلد عتيق.»
وافترقنا؛ فهو إلى حيث يلقى راعيه، وهي إلى حيث تلقى تليماك في مملكة ليسديمون.
لتقص على كل منهن قصة حياتها.
مع الراعي
وسلك سبيله في طريق وعر محفوف بالأشجار الباسقة إلى مأوى صديقه الراعي الشيخ الأمين، فوجده جالسا وحده في مدخل الحظيرة الشاسعة القائمة وسط المرج المعشوشب النضير.
ولقد سورها يومايوس - إذ سيده غائب في أقصى الأرض - بسور عظيم ضخم من حجارة قوية نحتها من محجر قريب، وجعل على السور فروعا من قتاد وشوك، وجذوعا من سنديان، حتى صارت أمنع من عقاب الجو ... كل ذلك دون أن يساعده أحد، ثم قسمها اثني عشر زربا،
1
جعل في كل منها خمسين خنزيرة كنازا، أما ذكران الخنازير فقد تركها سائبة في الخارج ليرسل منها إلى العشاق المعاميد ما يأكلون منه وما يريغون، وقد بقى منها بعد تلك الأعوام الطوال ستون وثلاثمائة، وربضت لدى الباب كلاب أربعة كسباع البرية تلحظ الحظيرة بأعين كالجمر، وجلس الراعي يعمل لنفسه نعالا من جلد ثور مدبوغ، بينما انطلق خدمه ومعاونوه الأربعة يعملون ويدأبون هنا وهناك، وكان رابعهم على وشك أن يترك الحظائر إلى المدينة، حاملا لحم خنزير حنيذ يذهب به برغمه إلى العشاق الفساق، ولمحت الكلاب أوديسيوس فأهرعت إليه، وظلت تعوى وتنبح، وترغي وتزبد، وأوشكت أن تفتك به، لولا أن هب يومايوس فكسر شرتها بما رماها به من الحجارة، ولولا أن ترك أوديسيوس عكازه يسقط من يده؛ لأن الكلاب لا يغيظها إلا أن يمسك لها أحد عكازا ... قال الراعي: «أيها اللاجئ العجوز، سلمت، خطوة واحدة وكانت هذه الكلاب قد مزقتك إربا، وكانت قد لحقت بي سبة لا تبيد! ألا كم ترسل علي الآلهة من كروب! وكم ترميني به من آلام! أنا هذا العجوز الهالك الذي أمضني الحزن وشفني الأسى من أجل سيدي ومولاي، ها أنا ذا أسمن قطعانه وأرعاها لينعم بها غيره، بينما هو نازح غريب يجوب الآفاق ويشتهي كسرة يتبلغ بها إن كان لا يزال حيا يرزق، أوه تعال أيها الصديق! هلم فاتبعني إلى داري أطعمك ما تيسر، وأسقك كفايتك من الخمر، وتخبرني بعدها من أنت؟ ومن أين أقبلت؟ وماذا وراءك؟» وانطلقا وقدم إليه الراعي الكريم حشيته التي كان يجلس عليها، والتي اتخذها من جلد عنز حشاه بالقش، فشكره أوديسيوس، ودعا له بما يحب وبكل ما تصبو إليه نفسه، فقال الراعي يجيبه: «أيها الصديق، ليس أمقت إلي من أن أذود لاجئا إلى داري، وإن يكن أرث منك حالا؛ لأن أبناء السبيل جميعا هم ضيوف زيوس رب الأرباب، وأنا مع ذاك أعتذر إليك إذا لحظت أن زادي قليل، وأن حالي رقيقة، فلقد مضى زمن العز والعيش الواسع المخفرج، وأصبحنا نعاني القل والفاقة، والعيش النكد تحت إمرة هؤلاء الرؤساء الأصاغر، آه يا مولاي يا زين الحياة ومؤدب الناس أين أنت وأين أيامك وخيرك الوفر؟ ليتها دامت، وليتك ظللت فعشنا في كنفك، وليت هيلين وكل من في بيت هيلين فداؤك، هيلين التي قتلت سادات هيلاس
2
ممن أبحروا مع أجاممنون؛ لينيلوه النصر في ميدان طروادة.» ثم لملم دثاره وذهب إلى الزرب الأول فجاء بخنزيرتين سمينتين، فذبحهما وسلخ جلديهما وجعلهما إربا إربا، ثم أشعل نارا عظيمة فسوى على جمرها السفافيد المثقلة باللحم، وجاء بالشواء فوضعه أمام أوديسيوس، ثم نثر عليه من الدقيق، وأحضر زق الخمر وجلس قبالته وقال: «هلم يا ضيفي العزيز فكل وارو، لا تؤاخذني إذا رأيت الشواء لا سمينا ولا حنيذا؛ فكل سمين حنيذ يذبح أولا فأولا، ويرسل إلى العشاق السفلة الذين لا يرعون في الآلهة إلا ولا ذمة، ولا يخافون سماء ولا بشرا! بالله من هؤلاء الفجرة! ألا يلمون شعثهم ويغيرون بخيلهم ورجلهم على بلد قاص فيثوبوا بأسلاب الغزو وسخط الآلهة؟ أم تراهم أوحي إليهم بموت مولاهم فهم هنا قائمون ما يريمون، ولزاده آكلون ومن خمره شاربون حتى فرغت الجرار وخوت الدار، وضؤل الزرع وجف الضرع! أبدا ما ملك أحد مثل ما ملك مولاي، لقد كانت ثروته تعدل ما يملك عشرة أو عشرون أميرا، ولا أزال أذكر مما ملكت يداه اثني عشر قطيعا من الأنعام كانت ترعى العشب في مروج الشاطئ
3
المقابل، وكثيرا من قطعان الأغنام وأرعال
4
الخنازير وأسراب الماعز، عليها أجزاء وخدم ورعاة لا يحصون، ورجال مخلصون يزرعون في حقوله الشاسعة ويحصدون، ورجال يجلبون من قطعانه كل كناز للذبح ... أما أنا، فقد عهد إلي بهذه الأرعال التي ترى، أطعمها وأعنى بها، وا أسفاه! وأرسل إلى العشاق كل يوم بخيارها.»
أفيمويا الحبيبة التي فخرت بهيام بنتيون.
وصمت الراعي بينما كان أوديسيوس يصغي ويلتهم طعامه، ويفكر ألف فكرة، ويدبر ألف تدبير لسحق هؤلاء العشاق المفاليك، حتى إذا انتهى قدم إليه يومايوس كأسه دهاقا، فتقلبها وشرب ما فيها وقال: «ترى ماذا كان اسم سيدك أيها الصديق؟ لا بد أنه كان مشهورا ذا ذكر؛ لما وصفت من واسع ثرائه وسمو جاهه وبسطة ملكه، لقد قلت: إنه ذهب إلى طروادة مع أجاممنون، فهل تتفضل فتذكر لي اسمه؛ عسى أن أقص عليك أنباءه؟ لقد ذهبت أنا الآخر ثمة وسافرت في بلاد شتى، ومحال ألا أعرف العظماء الذين جاهدوا مع أجاممنون.» فأجابه الراعي: «وا أسفاه أيها الأخ العجوز أبدا لا تنطلي الأنباء الملفقة عن مولاي على زوجه أو ولده، فكم من جواب آفاق مثلك محتاج إلى لقمات أو سراول، قد لقي الزوجة المسكينة فلفق لها قصصا مكذوبة عن رجلها، ثم دلت الأيام على كذبه وزخرفه، والزوجة في كل ما تسمع تذرف الدموع وتصعد الآهات كأحسن ما تصنع زوجة وفية من أجل زوجها الذي قضى في بلد بعيد، وأكبر ظني أنك تطمع في كساء تخلعه عليك هذه الزوجة المفئودة الرءوم، فاربع عليك؛ فالرجل قد قضى، وليس بعيدا أن تكون كلاب البرية وسباعها قد اغتذت به، أو أنه قد غرق فأكله السمك ولفظت عظامه على سيف البحر لتذروها الرياح تاركا وراءه قلوبا تأسى عليه، أحزنها عليه قلبي! تالله ما وودت أن أرى أبوي اللذين غادرتهما منذ أحقاب كما أتشوف اليوم إلى رؤية هذا الرجل، آه يا أوديسيوس أين أنت؟ إنك مهما شطت النوى وشخطت الدار فلن أبرح أذكرك وأسبح باسمك وأوقرك بما أحسنت إلي وعنيت بشأني، يا من فراقك عندي آلم لي من فراق أعز إخوتي وأشقائي.»
وحدجه أوديسيوس وقال: «أيها الصديق لم تيئس من عودة مولاك هكذا؟ لم يخامرك الشك في أن رجوعه محتوم لا ريب فيه؟ إذن فأنا أقسم لك قسما لا أحنث فيه أنه عائد لا محالة، ومعاذ الآلهة أن أقسم وأؤكد الأيمان لأنال القميص الذي ذكرت، أو الدثار الذي أنا في شدة الحاجة إليه، بل ليبق القميص والدثار حتى يتحقق قسمي وتبر يميني فأتسلمهما منك؛ فإني أمقت الكاذب الحانث في يمينه كما أمقت أبواب الجحيم، والله على ما أقول وكيل! اطمئن إذن يا صاح، وثق أن أوديسيوس لا بد عائد هذه السنة إلى إيثاكا، بل ربما عاد هذا الشهر، ولن يمضي شهر آخر حتى يكون قد ثأر لعرضه من أعدائه وبطش بهم جميعا؛ أولئك الفجرة الأشرار الذين جسروا على استباحة حماه وإهانة زوجه، وعدم المبالاة بولده.» وسخر الراعي وقال: «أهكذا تقسم وتؤكد القسم يا صاح؟ أبدا لن تنال الرهان أبدا؛ فقد أودى أوديسيوس ولن يعود بعد. هلم هلم، تحس كأسك الروية ودع هذا الحديث؛ فإنه يحزنني ويثير شجوني. خل قسمك، وليقدم أوديسيوس في خيالك أو في الحقيقة؛ فأنا وزوجه وأبوه وولده ... كلنا نشتهي ذلك ونتمناه على الآلهة! يا ويح لك يا تليماك الحبيب! لقد كنت أرقص طربا كلما رأيتك تنبت كما نبت أبوك، وتشب على الفضائل التي شب عليها ، أين أنت؟ لقد ذهبت إلى ملك بيلوس تتحسس أخبار أبيك، وها هم العشاق يترصدونك ويتربصون بك ليغتالوك في الطريق، ألا طاشت أحلامهم وحماك جوف الأعظم من مكرهم، وحفظك لبيت أرسسياس يا أعز الناس، ولكن تعال أيها الضيف الكريم، قل لي بربك واصدقني في كل ما تقول: من أنت؟ ومن أين أقبلت؟ وفيم قدمت؟ وما بلدك؟ وأين يقيم أبواك؟ وأي سفينة حملتك إلى شاطئنا؟ فلعمري إنك لن تدعي أنك وصلت إلينا سائرا على قدميك!» فقال أوديسيوس يجيبه: «سأقص عليك من أنبائي التي لا يأتيها الباطل ما لو لبثت عندك عاما بين هذه الخمر وذاك الطعام، بينما يكد الآخرون من أجلنا ويجهدون، ما فرغت من قصها عليك؛ فهي أنباء باكية وآلام متصلة، شاءت السماء أن أقاسيها وأن أجرع غصصها؛ إذن فأنا ابن كاستور هيلاسيد أحد سراة كريت، من سريته المحبوبة التي كان يعزها كزوجة، ولم يكن أبي يفرق بيني وبين إخوتي من زوجه، بل كان يولينا حبه على السواء، وكان الناس يبجلونه كأحد آلهتهم لثرائه الواسع وحسبه الضخم ولأعماله الناجحة، فلما مات اقتسم أبناؤه كل ما ترك، وكان نصيبي منزلا متواضعا ومالا كثيرا وزوجة غنية ذات مال وجمال، ولم يحاول إخوتي أن يدعوني أو يأكلوا تراثي؛ لما كنت عليه من كريم الخصال وحميد الفعال، وجمال المنظر ووسامة المظهر - لا كما تراني الآن - وا أسفاه على ما فات من نضارة الشباب! تالله لن تستطيع ولن يستطيع أحد أن يحدس كم شقيت وكم بليت؟ وكم من الآلام والضنك وأوضار الحياة تحملت؟ فلقد كنت لا أرهب الردى، وكنت دائما أخوض غمار المعامع في حمى مارس ومينرفا، فأشك قلوب الأعادي وأبهر القادة والزعماء بجلائل الأعمال، ولم يكن من دائي أن أشغل نفسي بأكلاف البيوت ومشاغل الحياة المعيشية الدنيا التي هي بالأحداث والغلمان أولى، بل كنت مشغوفا أبدا بركوب البحار وخوض غمار الوغى وملاعبة الأسنة، وما إلى ذلك مما جعلته السماء غراما وفرحا لي، وضراما وفزعا في فؤاد سواي، والناس كما تعلم فيما يعشقون مذاهب، ولست أرسل القول على عواهنه؛ فلقد قدت إلى طروادة تسعة جيوش ظفرت بفيالقها قبل هذه الحرب الضروس الأخيرة بينها وبين هيلاس، ولقد حزت الثراء الجم والغنى الوافر من جراء هذه الحروب، فأصبحت بين شعب كريت المفضل المبجل، ثم كانت الحرب الأخيرة التي قتل بسببها مئات من السادة الصناديد من رجال الإغريق، فاختاروني أنا وصاحبي أيدومين قائدين للأساطيل، ثم حاربنا حول طروادة تسع سنين حافلات مثقلات، وفي العاشرة سقطت المدينة في أيدينا، وعدنا أدراجنا نطوي اليم لا ندري ماذا خبأت لنا المقادير؟ ومن ثمة بدأ جوف يرسل صيبا من الرزايا فوق رأسي، حتى إذا وصلت إلى كريت سالما لم ألبث طويلا هناك، ولم أمتع النفس بالأهل والوطن إلا شهرا واحدا، ثم أقلعت في نخبة من رفاقي بأسطولنا إلى مصر بعد أن أولمت لهم وقربت القرابين.
وقد أرسلت العناية لنا ريحا جرت بسفننا رخاء كأنما أبحرنا مع تيار نهر لا جبار ولا عنيد، ولم يحدث لأي من جوارينا سوء حتى بلغنا شطآن مصر في اليوم الخامس، واتخذت سفننا سبيلها في النيل عجبا، ثم حدث ما لم أود أن يحدث؛ إذ سطا رجالي بعد خلف في الرأي وشجار بينهم عنيف على حقول الفلاحين، فاستاقوا أنعامهم وسبوا نساءهم، واسترقوا أطفالهم ثم ذبحوا رجالهم ... بيد أنهم لم يسلموا مع ذاك من شر المصريين؛ إذ استيقظت المدينة على صراخ الجرحى وأنين القتلى وتصويت النساء فأقبل أهلها كالجراد بين فارس وراجل، وكل يحمل السيف البتار أو الرمح السمهري، فأعملوا فينا ضربا وتقتيلا واستنقذوا السبي كله، وشفوا حرد صدورهم منا ... أما أنا، فيا ليتني قتلت فيمن قتل واسترحت من هذه الدنيا التي جرعتني ضعف هذه الآلام بعد! لقد كنت أشهد رجالي يهوون إلى الأرض، وأعلم أن جوف قد أنزل هذا البلاء بهم جزاء لهم وفاقا، فلما رأيت أني لا محالة شارب بالكأس التي شرب بها رفاقي ألقيت سيفي، وجريت أعزل من السلاح إلى حيث الملك الكريم؛ فركعت بين يديه، وقبلت الأرض إجلالا له، وبكيت ما شاء جوف أن أبكي ، ثم سألته العفو والمغفرة؛ فرق لي ورثى لحالي، وأمر بي فأخذني في جملة خدمه وخوله إلى المدينة، وقد رام رجاله أن يقصدوني برماحهم لولا أن صدهم مخافة من الله الذي أمن اللائذين به المستذرين بظله، ثم لبثت في أهل مصر سبع سنين هانئا سعيدا محبوبا من الجميع، وحدث في السنة الثامنة أن قدم إلى المدينة رجل فينيقي جواب آفاق، ما زال بي حتى أقنعني بالفرار إلى بلاده، وأغراني بأن له ضياعا وأملاكا ومالا ففعلت، ولبثت معه حولا بأكمله، ثم حدث أن كلمني بعد هذا الحول في رحلة لا أعرف إلى أين، كانت أكبر الظن للسطو والقرصنة، أو على الأقل لأباع في بلد قصي بيع الرقيق فينتفع بثمني، ورحلنا، ولكن عاصفة جبارة هبت علينا وتلاعبت بنا، وعبست السماء وكلح الدأماء
5
وتمرد من تحتنا الماء، ثم أرسل جوف صواعقه على السفينة فقصمها، وغرق الملاحون جميعا، وأكرمني الله العلي اللطيف فبعث إلي بقلع السفينة الأكبر فتعلقت به، ولبثت الصبا تقذف بي نحو الجنوب أياما تسعة، وفي ظلام الليلة العاشرة دفعتني على شطآن تسبروتيا حيث أكرم مثواي ملكها العظيم البطل فيدون وعني بشأني؛ وذلك أن ولده رآني طريحا على الشاطئ أكاد أموت من البرد والجوع، فحملني إلى قصر الملك حيث ردت إلي الحياة، وأعطيت دثارا وصدارا، وخصصت لي غرفة فسيحة ذات أرائك، وهناك سمعت عن مولاك النازح البطل أوديسيوس، ورأيته بعيني رأسي وقد ذكر لي عن فضل الملك وإكرامه مثواه ما برهنت عليه أعماله، ثم أراني أوديسيوس كنوزه من الذهب والنحاس وطرف الحديد التي جمعها في أسفاره، والتي تكفي للنفقة على أسرته عشرة أحقاب، وكأن الملك يحفظها له في غرف كثيرة في قصره إعزازا له وتكريما، وذكر لي أنه ذهب إلى ددونا النائمة بين أحضان الحور والسنديان؛ ليستوحي كاهن جوف الأكبر عما إذا كان خيرا له أن يذهب إلى بلاده متنكرا، أو في صورته الصريحة الحقيقية بعد هذا الغياب الطويل عن أهله، وقد أكد لي الملك أن المركب الذي سيحمل أوديسيوس إلى بلاده - إيثاكا - معد في المرفأ، ولولا أني أبحرت قبله لشهدته بعيني يركب الفلك؛ ذلك أن فلكا آخر لملاحين من جزيرة دلشيوم كان راسيا في الميناء، فأمرهم الملك أن يحملوني معهم ويذهبوا بي بأقصى ما يمكنهم من السرعة إلى الملك أكاستوس. ولكنهم وا أسفاه تألبوا علي في عرض البحر، وتآمروا بي ونزعوا صداري، ونضدوا دثاري، ثم انتهزوا فرصة المد فأرسلوا بي إلى شاطئ إيثاكا، بعد أن ألبسوني تلك البزة القبيحة التي ترى، ولكيلا أقاوم أدنى مقاومة ربطوا ذراعي وساقي وشدوا وثاقي في السارية، فلم أبد حراكا! بيد أن الآلهة رأفت بي وحلت وثاقي فقذفت بنفسي في الماء، وسبحت إلى الشاطئ حيث وجدتهم يعدون عشاءهم ويلتهمونه سراعا، وقد اختبأت في الأدغال الكثيفة فلم يروني، وهالهم ألا يجدوني حيث شدوا وثاقي، فذهبوا يبحثون عني حتى إذا لم يقفوا لي على أثر أقلعوا عجلين، ونجاني الله منهم، وساقني إلى الرجل الصالح الطيب الذي وصل حياتي وأكرم مثواي.»
سعيت إلى هنا لألقى الكاهن الطيبي تيرزياس؛ ليعرف كيف أصل إلى شطآن إيثاكا الصخرية.
فتبسم يومايوس وقال: «تالله لقد أثرت في فؤادي مقالتك أيها الضيف الكريم، وأشجاني ما لقيت من أهوال، ولكنك - كما يبدو لي - لم تكن جادا فيما رويت من أنباء أوديسيوس، فلم أيها الأخ - وعليك من سيما النبل ومخايل الفضل ما عليك - تلفق مثل هذه الترهات المضحكات؟ أما والله إنه إن يكن قد نجا من الموت في ساحة طروادة بما ألب عليه من سخط الآلهة أجمعين، فأكبر ظني أنه قد غدا جزر السباع وكل نسر قشعم، وا أسفاه عليه! ألا ليته قتل في سبيل بلاده في حرب عوان يحمي في وغاها بيضة الوطن؛ إذن لبكاه جميع الإغريق، ولاجتمعت هيلاس كلها تتنافس في صنع لبنات قبره وتخليد ذكره، ولأورث ولده المجد والخلود، ها أنا ذا يا صاح ثاو في هذا المكان، لاصق بذلك البيت العتيق، يفد علي في كل آنة غرباء مثلك يروون لي القصص، ويلفقون الأحاديث عن مولاي؛ فبعضهم يبكيه ويتحسر عليه، وبعضهم يوشي الأكاذيب ليغنم بعض الرفد وينال بعض العطاء، حين أقدمه للملكة الحزينة الكاسفة بنلوب، ولعمري ما انطلت علي يوما أحاديثهم، ولا خدعت مرة بما روقوا وزوقوا، أفتحسبني أصدق ما زخرفت أنت الآخر عن أوبة مولاي مثقلا بأحمال الذهب من كريت، واهما أنني بهذا أبالغ في إكرامك، وأحرص على التلطف بك؟ لم تصنع هذا أيها الرفيق بعد أن ترفقت بك الآلهة وهدتك إلى شاطئنا؟ أما والله إني إنما أكرمتك حبا لجوف ورهبة من بطشه، ولما جاش في صدري من الشفقة عليه والرثاء لك والتألم من أجلك.» وقال أوديسيوس يجيبه: «لشد ما أوتيت قلبا أفعمته الوساوس، ونفسا ساورتها الشكوك أيها الشيخ! هبها أنباء ملفقة فما يميني التي أقسمتها لك إذن؟ تعال هلم نتقاسم يمينا تكون آلهة الأولمب عليها شهداء أنه إن آب مولاك إلى بيتك هذا في أقرب ما تظن من الزمان، فيكون لي عليك صدار ودثار أصلح بهما شأني حين أعود أدراجي إلى دلشيوم، فإن لم يؤب كما عاهدتك فتجتمع أنت ورجالك وعمالك وتقذفوا بي من رأس قلة عالية سامقة يخشى أحقر الآفاقيين أن يتربع عليها.» وأجابه راعي الخنازير: «جميل والله أيها الغريب اللاجئ، تكون ضيفي وتؤاكلني وأؤاكلك على مائدتي وتطمئن إلي وتأتمنني، ثم أقذف بك من حالق؟! جميل والله هذا! وتضيع صلواتي ونسكي لدى جوف العلي! صه. هلم هلم، العشاء يا صاح، لقد آن وقت العشاء. البدار قبل أن يدهمنا عمالنا، فيزحموا المائدة ولا تجد لك مكانا بينهم.»
وهكذا تشقق الحديث بين الرجلين، ثم وصلت رعال الخنازير وأهرعت إلى حظائرها حيث ارتفع قباعها
6
وعلت ضوضاؤها، وهتف الراعي بأحد غلمانه فأمره أن يحضر واحدا من أسمنها لعشاء الضيف ولعشاء الرعاة؛ «أفما تستحق واحدا منها ما تلتهم بطون غيرنا الذين ينعمون بثمار كدنا ونصبنا؟»
وجيء بخنزير جسد، وأججت النيران واتقد الجمر، وصلى يومايوس للآلهة، ودعا لمولاه بالخير وتمنى له العود؛ أحمد العود، ثم أهوى بشاطوره على عنق الحيوان فخر يتلبط في دمه، وسلخوه بعد ذلك، وهم به يومايوس فقطعه ووضع إرب اللحم على صبغ الشحم، ونثر من الدقيق على كل ذلك، ووضع الجميع في الجمر، وكلما نضج شيء وضعه الغلمان على المائدة، حتى إذا فرغوا تولى الراعي العجوز توزيع الأنصبة، فجعل لابن مايا
7
سبعة أسهم، ولعرائس الماء سهما واحدا، وجعل لكل من عماله نصيبه بعد أن أتحف أوديسيوس بأجزل الأنصبة جميعا، ثم كان يمده بعد ذلك بإمدادات جمة؛ مما أطلق لسانه له بالشكر وعليه بالثناء، ورد عليه الراعي في أدب وافر: «إن الله هو مانح كل شيء، يعز من يشاء ويذل من يشاء، ويعطي ويسلب، له الملك لا شريك له.» ثم أدوا صلاتهم الخمرية فأهرقوا المدامة للآلهة، وكذلك صنع أوديسيوس، وهم ميسولوس مولى يومايوس وخادمه الذي اشتراه بماله، فوزع الخبز، ولبث يخدم ويسقي، ويجيء ويروح، حتى إذا فرغوا نظف المائدة وأعاد كل شيء إلى مكانه، وانصرف القوم إلى مضاجعهم ليناموا ليلة ليلاء ممطرة شديدة القر، عظيمة البرد، ونام أوديسيوس قريبا من مضيفه، ولم يكن عليه من الغطاء ما يقيه هول القرس،
8
فلفق هذا الحديث للراعي الشيخ ولمن نام معه من عماله: «لله ما تصنع خمركم بالألباب يا قوم! لقد أوشكت أهذي وأنتفض وأملأ شدقي بالضحك! ولولا هذا القر لقمت فرقصت، ولكنني محدثكم حديثا من أحاديث الشباب فيه هذيان وفيه ثرثرة، وفيه من حميا سلافكم ما فيه، ألا ما أحلى أيام الشباب وما أروعها لو رجعت! إن لها لصدى في نفسي يتردد، وإني ما عشت لن أنسى تلك الليلة القارسة الشاتية التي قضيتها في صدر الشباب وريعان الصبا مع صديقي أوديسيوس ومنلوس في كمين تحت أسوار طروادة، في مستنقع آسن ذي قصب، ترقب من عدونا فرصة تظفرنا به وتنصرنا عليه، مقنعين في الحديد والزرد، صابرين لما يصفعنا به بوريس
9
من ريح عاتية وبرد، ويسفعنا به من قر وبرد حتى انعقد الصقيع على دروعنا، وكدت أنا أجمد ويجمد الدم في عروقي؛ لأني وا أسفاه استهنت أول الأمر بما أنذرت به الحال من هذا المآل، فخرجت في عدتي وسلاحي، ولم ألبس معطفي ولم ألتفع ربطتي،
10
بينما قد احترز رفاقي فتدثروا بكل ثقيل، وخفت أن أصبر لهذا البرد فتكون القاضية، فهتفت بأخي أوديسيوس: «أدركني يا ابن ليرتس النبيل، فقد أشفيت على الهلاك من ذلك الزمهرير، أدركني بأربابك؛ فإني قد استخففت بالفصل الذي نحن فيه فلم أحضر معي معطفا، ويكاد يقتلني البرد ويهرؤني الصقيع.» وأسكتني أوديسيوس خشية أن يسمعنا أحد فلا نفلت من الموت، وقال لرفاقه: «أيها الإخوان، رأيت رؤيا بودي لو يذهب أحد إلى أجاممنون فيطلب لنا مددا؛ فلقد بعدنا عن الأساطيل، ولسنا بخير لما ترون من قلتنا.» وانبرى لها أندريمون فخلع معطفه وأطلق ساقيه للريح، وأشار أوديسيوس الخبيث إلي، فلبست المعطف واستدفأت به وحمدت الآلهة، «أفليس فيكم أيها الأجاويد رجل رشيد فينزل لي عن معطفه أتقي به هذا البرد الشديد وأنا في مثل سني وأنتم في ميعة شبابكم؟ ألا تفعلون! لتكن لكم هذه اليد علي تفضلا أو تأدبا؟» وقال يومايوس يجيبه: «لا عليك يا ضيفنا العزيز؛ إنك لن تشكو بردا ولا تقصيرا عندنا، وليس لدى كل منا إلا دثاره وصداراه ومعطفه، وليس لدينا منها كثير نباهي به، ولسوف يعود تليماك ابن سيدنا ومولانا فيخلع عليك من الملابس ما يسرك ويبهجك، ولكن رويدا فسأكفيك عادية القر برغم هذا، وبرغم ما غمزت في حديثك ولمزت.» ثم نهض فجمع شيئا كثيرا من فراء الغنم وجلد الماعز، فجعله ركاما بالقرب من المدفأ، ثم جعل عليها ظهارة
11
من الصوف، فصلحت بذاك أن تكون لأوديسيوس وسادة وثيرة ليس بها من بأس، نام فيها فاستراح، والتحف بفراء آخر، وبات ليلته والابتهاج يغمر نفسه؛ لما رأى من حرص راعيه على ذكراه وحنينه للقياه وعنايته بقطعانه. أما الراعي العجوز الشيخ فكأنما أثرت فيه مقالة أوديسيوس فهب فألقى عليه سلاحه، وأضفى على كاهله دروعه بعد أن خلع معطفه، واتزر بجلد عنز، ثم أجلس بازيه الباشق على كتفه الشعيف، وحمل حربته التي يذود بها الناس والسباع عن رعاله، وانطلق في العراء حيث جلس على صخرة مشرفة على السهل، وذاك ليحرس القطيع النائم، غير عابئ بقرس الريح ولا وحشة الليلة الليلاء .»
عودة تليماك
ثم رفت مينرفا رفتين أو نحوهما، فكانت في وادي ليسديمون الخصيب حيث حل تليماك ضيفا كريما على الملك منلوس، وحيث وجدته يتقلب على فراش السهد والأرق، لا يستطيع أن يغمض عينيه من هول ما يفكر في أبيه، بينما نام ابن الملك نسطور ملء عينيه نوما هادئا عميقا على سرير مقابل لسرير الفتى المحزون.
ووقفت الربة عند رأس تليماك وأنشأت تقول له: «إلام تظل هنا في مهاجرك بأقصى الأرض نائيا عن وطنك يا تليماك؟ أوهكذا رضيت أن يأكل العشاق الفساق تراثك، ويذاهبوا بنعماء السماء عليك، ثم لا تلبث أن تثوب إليهم من تطوافك بالآفاق بقبضة من هواء، وخيبة من رجاء! هلم هلم، سل الملك أن يأذن لك في السفر من فورك؛ فقد ألح جدك وأخوالك على أمك أن تتزوج من الأمير يوريم؛ لما أنفق عليه من مهر ضخم وتقدمات وافرة أضعاف ما وعد الآخرون، هذا فضلا عما يوشك أن يسلب من القنى العزيزة عليك من بيتك التي تنقص من هنا لتزيد فيما هناك، فإنه ليس أحب من هذا إلى فؤاد المرأة، وهي سرعان ما تنسى أطفالها من زوج شبابها ورفيق صباها من أجل زوجها الثاني الذي تود لو تهبه كل شيء. فالبدار البدار إذن، وعد أدراجك إلى بلادك لتحفظ تراث أبيك ينفعك حيث تكون لك زوجة صالحة وذرار أنجاب ببركة السماء ورعاية الآلهة، ثم خذ حذرك يا تليماك؛ فلقد اختبأ زعيم العشاق في ثلة من رجاله بين ساموس وإيثاكا يتربصون بك ويترصدونك ليغتالوك قبل أن تصل إلى شاطئ الوطن، وإن فألهم لخائب، ولن يفعلوه حتى يهال تراب الموت عليهم جميعا. ألا فارحل يا بني في ظلام الليل، واجنب سفينتك أن تسلك سبيل ساموس، وابعد ما استطعت عن الجزائر القريبة منها، وسيرعاك بعض الآلهة ويسخر لك ريحا رخاء تسارع بك إلى بلادك، فإذا بلغت أول الشاطئ الإيثاكي فانزل إلى البر، ولتسلك الفلك سبيلها من دونك، ولتذهب أنت إلى يومايوس راعي قطعانك الذي يحبك فأرسله إلى أمك كي تقر عينيها بأوبتك .» وما كادت تفرغ حتى زفت
1
إلى الأولمب، وهب تليماك فأيقظ رفيقه من نومه قائلا: «هلم بيزاستروس هلم فأسرج الخيل ولنرحل من فورنا.» وقال له ابن نسطور يجيبه: «هلم إلى أين يا صاحبي؟ كيف نخبط في هذا الليل الدامس؟ ألا نصبر حتى تشرق ذكاء وحتى يلقاك الملك فيخلع عليك ويحسن وداعك؛ لتظل ذكراه الحسنة ماثلة إلى الأبد في روعك؟»
سكيللا الهولة تدوي بصوتها وعوائها.
وانبلج الصبح فنهض منلوس الملك من حضن هيلين الدافئ، ويمم شطر الغرفة التي نام فيها تليماك ورفيقه. وما كاد تليماك يلمح في غبشة الفجر صورة الملك حتى هب مسرعا، وأضفى عليه طيلسانه الفاخر، واتزر فوقه بمئرز آخر، ثم دلف نحو الباب فلقي الملك ثمة وقال له: بورك الملك تعالى جده! تالله لقد آن لي أن أعود إلى إيثاكا، وبودي لو أذن الملك بذلك، فقال الملك: «إنا لا نستطيع أن نحجزك إذا كانت رغبتك أن تشد رحلك يا تليماك، وإنه ليس أشق علينا أن يقيم ضيف لدينا برغمه أو أن نعجله على الرحيل من عندنا، بيد أنه يحسن أن تنتظر قليلا حتى نهيئ لك أفخر الهدايا وأعز اللهى، وحتى نعدها لك في عربتك، وسآمر نداماي فيعدون لنا فطورا يليق بوداع ضيف كريم عزيز مثلك، لا بد به من أكلة حافلة تصبر لسفر طويل يزمعه، فلو أن سفرك هذا كان خلال هيلاس وكنت من أجله ستجتاز آرجوس شرقا لغرب إذن لسافرت معك، ولجزت بك مدائن شتى، ولأهرع إلينا عمال الأقاليم يقدمون إلينا الهدايا والتحف من صحائف الذهب ورمائز الإبريز وكل كأس ثمينة، ومن كل دابة مطهمة وجواد كريم.» وأجاب تليماك في أسلوب الفطين الحذر: «مولاي أتريدس، منلوس العظيم تالله إنه لآثر إلي أن أرحل لساعتي، فلقد تركت ورائي بيتا لم أدعه في صيانة أحد، وحطاما لست آمن عليه أحدا، وأخشى يا مولاي أن أقضي في رحلتي هذه وراء أبي، فلا أكون قد أبقيت على نفسي، ولا رعيت تراثه الذي تركه لي.» وأمر الملك خدمه فهيئوا الخوان، وزودوه بما بقي من عشاء أمس بعد أن أضرم رئيسهم أيتون نارا أسخن عليها ما ينبغي أن يكون منها حارا، وتوجه الملك إلى غرفته، فلقي فيها زوجه وولده، فتناول كأسا من الذهب الخالص، ودفع لولده بدلها من الفضة، أما الملكة فنهضت إلى خزانتها فأحضرت ساجا
2
عملت فيه يدها الصناع فزخرفته وزركشته حتى بدا كسماء التمعت فيها نجوم، وعاد ثلاثتهم إلى حيث ينتظرهم تليماك وكلمه الملك فقال: «ذاك تذكاري إليك يا ابن أوديسيوس بودي لو تقبلته، وهو كأس عجيبة من صنع فلكان، أهداها إلي البطل فيديم ملك سيدون حين حللت عليه ضيفا، هذا وأنا أدعو لك أن يكلأك جوف في رحلتك بعين الرعاية، وأن يكتب لك السلامة والتوفيق.» ثم قدم إليه الكأس العظيمة وكذاك فعل ابنه، أما هيلين فقدمت إليه الساج، وتبسمت عن فم ألذ من أقحوانة، وقالت له: «وأنا أيضا أدعو لك يا بني، وأقدم إليك سدوسا
3
من أنفس الديباج حبذا لو جعلته قنية تذخره لك أمك حتى تقدمه بدورك لعروسك ليلة زفافها إليك.» وكان لكلماتها في نفسه نشوة، فأخذ الطيلسان وناوله ابن نسطور الذي عني به ووضعه بمكانة من العربة، ثم يمموا المائدة الكبرى، وصبت الماء على أيديهم جارية ذات حسن وأناقة وظرف، وأخذوا بعد ذلك في فطورهم، بينما وقف ابن الملك يدق الكئوس ويشرب الخمر، حتى إذا فرغوا نهض تليماك ورفيقه فسلما وودعا، وركبا العربة الفخمة المثقلة بأثمن الهدايا، وتناول الملك كأسا من الخمر، وسار حتى دنا من الخيل، فصبها صلاة للآلهة من أجل الراحلين وقال: «لكما الصحة والصفاء أيها الشابان اليافعان، تحياتي إلى نسطور أخي الذي كان يرعاني كأحد أبنائه تحت أسوار طروادة.» فأجابه تليماك: «لا غرو أيها الملك، فسنقص عليه آية كرمك وعظيم سخائك، وأرجو لو وصلت إلى إيثاكا فلقيت أبي أوديسيوس ثمة؛ إذن لقصصت عليه هو الآخر ما غمرتنا به من حفاوة وكرم وعطف.» وما كاد ينتهي من كلمته حتى بدا عن يمينه نسر عظيم يحمل في مخالبه أوزة كبيرة بيضاء وقد حلق في الهواء، وجرى حوله الخدم والحشم من أهل المدينة، بيد أن النسر فاتهم جميعا، وقد زعج الملأ الواقف لتوديع تليماك، وبدأ الهلع في وجه بيزاستراتوس، فسأل الملك فقال: «ليتفضل الملك فيحدثنا عن هذه العلامة إذا كانت من أجلنا أو من أجل مولانا.» ولكن الملك لم يحر جوابا لفرط دهشه. فلما لحظت حيرته هيلين زوجته تكلمت فقالت: «أيها الملأ اسمعوا واعوا، فإني أحدثكم كما علمتني الآلهة؛ تالله إن هذه الآية، فكما غلب ذاك النسر أولئك الناس وذهب بتلك الأوزة البيضاء فهي له، فكذلك يعود أوديسيوس من تجواله وطويل ترحاله إلى إيثاكا، فيبطش بأعدائه الذين استباحوا عرضه وعشقوا زوجه، ويخلو له وجه بنلوب.» وانتفض تليماك من شدة ما أثرت فيه كلمات الملكة فقال: «ألا حبذا أن يتم هذا! اللهم يا جوف المتعال، حقق النبوءة أعبدك، واكتب لأبي السلامة أخبت لك، واكتب لي أن أعود إلى بلادي فألقاه ثمة تكن لك صلاة دائمة وذكر متصل، إله السموات.» ثم حيا الملك وألهب الجياد فانطلقت تنهب الرحب.
ولم يزالا على سفر طوال يومهما حتى بلغا قصر ديوكليس مع مغيب الشمس، فاستضافهما وباتا ليلتهما عنده، وما كادت أورورا تنضر جبين الشرق بالورد حتى هبا مسرعين، وودعا مضيفهما الكريم وواصلا رحلتهما، وكان ابن نسطور قد أخذ بأعنة الخيل فجعلها تنساب حتى لكأنها تسابق الريح. ولما بلغا أبواب بيلوس قال تليماك لصاحبه وهو يحدثه: «أنت عذيري يا أعز الأصدقاء، إذا سألتك أن تصل بي إلى السفينة من غير أن أتوجه إلى بيتكم للقاء أبيك، فقد يكبر علي أن أرفض نزله، وأستأني بذلك عنده في وقت أنا في أشد الحاجة إلى العودة إلى الوطن! على أنني سأحفظ لك في أعماقي ذكرى خالدة لا تمحى، زادتها هذه الرحلة الحزينة جمالا، وعقد أواصرها ما بين أبوينا من الود وما بيننا من اتفاق السن وصفو المودة وجميل الإخاء.» وتردد ابن نسطور أول الأمر، بيد أنه لم يستطع إلا أن يلبي رجية تليماك، فثنى أعنة الخيل إلى الشاطئ حيث كانت تنتظره الفلك فنقل فيها متاعه، ثم ودعه صديقه وعقرت القرابين باسم مينرفا، وصلى لها الجميع وسبحوا سبحا طويلا، وإنهم لكذلك إذا شاب طويل مفتول العضل يتقدم إلى تليماك فيخبره أنه قاتل آبق
4
وأنه يلوذ به، وأن اسمه تيوكلمين، وأنه يرجوه في أن يسافر معه، فهش له وبش، وأخذ سلاحه فألقاه في السفينة، وأذن له في الركوب، وجلس الرجل مع تليماك عند مؤخر السفينة، في حين كان الملاحون يهيئون القلاع وينشرون الشراع، ثم أقلعت الفلك وأرسلت مينرفا بين يديها سجسجا تدفعها في رفق وتطوي تحتها الماء في حدب، وكانت الشمس تتوارى بالحجاب، وكان الليل يلقي سدوله فوق الكون، وما هي إلا عشية حتى مرت السفينة بفيريا، ثم بإيليس، وجوف في كل ذلك يحرسها ويرعاها.
هذا ما كان من أمر تليماك الفتى. أما ما كان من أمر أوديسيوس وراعيه، فقد كانا يلتهمان في هذا الوقت طعامهما، وما كادا يفرغان من ذلك حتى أحب أوديسيوس أن يرى لنفسه إذا كان الراعي قد ضاق به ذرعا فينطلق من لدنه، أو هو كريم ذو نخوة ونجيزة فيبقى عنده، فنهض يقول: «أيها الراعي يومايوس، وأنتم أيها الأصدقاء الرعاة، اسمعوا وعوا؛ تالله إني لأخشى أن أرهقكم بضيافتي أو أثقل عليكم بلبثي عندكم طويلا، فرجائي إذا انفلق الإصباح أن يقودني أحدكم إلى المدينة لأستجدي وأتكفف، فلن أعدم فيهم من يتفضل علي ببلغة أو كسرة أو جرعة ماء ... ولسوف أيمم شطر بنلوب، وعسى أن أستطيع لقاءها لأبلغها أنباء أوديسيوس، فإذا لم أستطع فلن أعدم عملا في خدمة العشاق؛ لأني - والله المحمود - ولي من أولياء هرمز رسول السماء ونصير الضعفاء، ولن أضيق بتكسير الخشب أو إضرام الحطب أو حمل الكاس والطاس، أو القيام على الشواء ... أو ما إلى هذا وذاك من عمل الفقراء البائسين.» واهتز يومايوس إشفاقا وقال: «أيها الرجل، ماذا تقول؟ أتجازف بنفسك فتلقي بها إلى التهلكة وسط هؤلاء الناس؟ من أنت أيها الفقير حتى تحسبك تقدم الخمر لهم أو تخدمهم ولهم خدم شباب غرانيق، وندامى كالكواكب نضرة وجمالا، وحشم يلبسون أحسن الوشي وأفخر الحرير والديباج! لتبق معنا أيها الشيخ، فلن نضيق بك، وحين يعود سيدي تليماك فإنه يكسوك ويسبغ عليك، ويبعثك مكرما معززا أنى شئت.» وشاع البشر في أعطاف أوديسيوس فقال: «شكرا لك يا يومايوس ألف شكر، وجزاك الله عني أجزل الخير بما كفيتني شر السؤال وذل الاستجداء، وليس شرا منهما على نفس أبية قاست الأهوال ولا تزال تقاسي! بيد أن لي مسألة عندك بودي لو جلوتها لي: ألا يزال والد أوديسيوس حيا يرزق؟ وهل لا تزال أمه بخير؟ أو أنهما اليوم من أهل الدار الآخرة؟ لقد غادرهما أوديسيوس يوشكان أن يطرقا باب هيدز، فهل عندك من أخبارهما شيء؟» قال الراعي: «وما لي لا أصدق أيها الشيخ؟ إن ليرتيس - أبا مولاي - لا يزال على قيد الحياة؟! لكنها حياة شاقة انقضت بالموت، إنه قد فقد أحسن آماله حين فقد حامي شيبته الذائد عن شيخوخته، ولده أوديسيوس، وقد عجل له الشقاء موته، وحياته هو من بعده، فهو ما يني يبكيه، وما ينفك يساقط نفسه حسرات عليه، أما أمه فقد قضت من أسى وحزن وطول بكاء قضاء ما قضى مثله صديق ولا عدو، إنني حزين عليها يا صاح، بل أنا أفتقدها كأعز من أمي؛ لأنها نشأتني صغيرا ورعتني كبيرا، وكانت تحبني كمحبة ابنتها ستيمينا التي تزوجت أحسن زيجة في ساموس من كفء مهرها أحسن مهر وأعلاه، أبدا لا أنسى أنهم ألبسوني أحسن اللباس، وأعطوني نعلين جديدتين فرحا بزواجها، ثم أرسلوني إلى الحقل، ولكنهم لم ينقصوا من محبتي. لقد عاشت مولاتي بعد أوديسيوس معيشة شقية كلها آلام، وكنت أواسيها وأعزيها، ولكنها ما انتفعت قط بعزاء، ولا استروحت إلى سلوة حتى ماتت، وها أنا ذا أبكيها كلما ذكرتها وقل أن أنساها، على أني أحمد السماء على ما أولتني من خير، وأسبغت علي من نعم، هي حسبي الضيف الذي يغشاني، على أني أعذر مولاتي وسيدتي بنلوب، إذ لم أر منها عطفا علي؛ لأنها في شغل بحالها وسط هؤلاء الأوغاد المعاميد، وهي بالرغم من ذلك تولي خدمها المقربين منها نصائح غالية تنفعنا جميعا ، ثم هي لا تنسى أن تنفح الكثيرين منهم ما يفرحون به من آلاء وأعطيات غير ما يأكلون وما يشربون.» وكأنما أراد أوديسيوس أن يتهكم عليه ويسخر به، فسأله عن بلده ووالديه، وعن القوم الذين أخذوه عنوة، وفي أي سفينة جاءوا به، وبكم باعوه لأهل أوديسيوس، فقال الرجل: «أيها الصديق، أعرني أذنيك وارشف خمرك أقص عليك قصتي؛ فالليل طويل وفي جنحه يحلو السمر، وليس أشهى من أن يروي ذو أشجان، وأنتم أيها الإخوان من كان منكم في حاجة إلى النوم ليصحو مبكرا فليذهب ولينعم بالكرى، ثم أحسبك سمعت أو عرفت جزيرة سيريا التي عند أورتيجيا، إنها جزيرة صغيرة، لكنها غنية بأغنامها وماشيتها وقمحها وأعنابها، كما اشتهرت بهوائها العليل ومناخها الجميل وصفوها وطيب رباها ... لذلك لا تعرف أبدان أصحابها الأوصاب، بل يعمرون حتى يأتيهم أبوللو
5
فيصميهم بسهامه، وتعجل أرواحهم إلى هيدز، ويقتسم أرض الجزيرة أهل مدينتين عظيمتين كانتا تخضعان لسيطرة أبي الزعيم العظيم ستزيوس أورميند، وحدث أن أرسلت في شاطئنا سفينة فينيقية محملة بالطرف والتحف وبلعب الأطفال من صناعة الفينيقيين، وحدث أن كانت في بيت أبي جارية قسيمة وسيمة ذات حسن وذات دلال كانت تقف على سيف البحر لبعض شئون المنزل، فرآها بعض ملاحي المركب واستطاع أن يخدعها بكلام معسول ذي طنين وذي رنين، ثم سألها من هي، ومن أي البلاد أقبلت إلى هذه الجزيرة، وكان الخبيث يمزج ألفاظه بنظرات الأبالسة، وغمزات الشياطين وابتسامات الغزل؛ فانقادت له ضعيفة كبني جنسها إذا نصبت لهن شراك الهوى وجذبتهن أحابيل الغرام، وقد أخبرته الغادة أنها من سيدون المشهورة بصناعة الصلب والنحاس، وأن أباها أربياس الفلاح، وأن بعض القرصان قد اختطفها حين كانت عائدة أدراجها من حقله، وباعها لصاحب تلك الجزيرة بأبخس الأثمان، وقد أغراها الملاح بالعودة معه إلى بلدها على فلكه، وبالفرار من حياة الرق والعبودية للقاء الأهل والأحباب والأبوين الثريين اللذين كان لا يزالان حيين يرزقان، فاستحلفته المسكينة إذا كان جادا فيما قال، فحلف لها، واستقسمته إذا كان أمينا غير ذي غرض أو لبانة ، فأقسم لها، ثم تعاهدا على ذلك وقالت له: «والآن فلا يذكر أحد من أمري معكم شيئا لأي من أهل المدينة، حتى لا يفشو السر ويعلم به صاحبي، فيكون في ذلك وبالي ووبالكم وهلاكي وهلاككم، بل امضوا في بيع بضاعتكم وشراء ما يلزمكم، ثم إذا عزمتم أن تفعلوا فابعثوا أحدكم إلي بقصر صاحب الجزيرة فإني مرضع ابنه وهو الآن يحبو بل يدرج، وإني محضرته معي فإنه سينفعكم، بل تستطيعون بيعه في أحد البلاد ببعض المال، وسأحضر معه كل ما تستطيع يدي أن تحمل من آنية وأكواب من خالص الذهب وغالي الفضة، مما يخف حمله ويغلو ثمنه.» وعادت البائسة إلى قصر أبي. ولبث الملاحون عامهم كله في مرفئنا يبيعون ويشترون، حتى إذا حال الحول أو كاد حضر واحد منهم إلى بيتنا يبيع بنيقة
6
من ذهب وكهرمان، فالتفت حوله وصيفات القصر، ثم حضرت أمي فاشترت بضاعة الرجل الخبيث، الذي استطاع أن يومئ ايماءته المتفق عليها إلى مرضعي، فلما انصرف من في القصر من أضياف، وذهب الخدم إلى شغلهن قادتني مرضعي التاعسة من يدي فمرت بي في غرفة الزائرين حيث كانت أكواب الشراب لا تزال على المائدة، فدست منها ثلاثة في ثيابها ثم ذهبت بي - وأنا طفل لا أدرك - إلى المرفأ، حيث ركبت معها في سفينة الفينيقيين، فأقلعوا ساعة الغروب، ودفعتنا ريح عاصف طيلة ستة أيام، وفي صبيحة اليوم السابع أرسلت ديانا سهامها مسمومة إلى صدر المرأة - مرضعي الآبقة - فماتت لساعتها، ووضعوا جسمانها في سأب،
7
ثم قذفوا بها في اليم طعمة غير سائغة للأسماك، ورحت أنا - لفرط حبي لها - أبكيها وأعول في أجلها، ثم دفعتهم الريح والموج إلى شاطئ إيثاكا، حيث ابتاعني صاحبها العظيم ليرتيس، وبقيت فيها إلى اليوم.» وتألم أوديسيوس لما قص الراعي وتوجع، وواساه بكلمات طيبات؛ «فلقد وصلت في رعاية جوف إلى سيد رحيم ورجل بر، كفل لك الهناءة والحياة الهادئة، أما أنا فلا أزال موكلا بفضاء الأرض أذرعه، وببلد ألبسه وآخر أقلعه.» ولما يناما طويلا، فقد قطع حديثهما حبل الليل.
عازف موسيقى السماء أبوللو.
أما ما كان من أمر تليماك ورجاله، فقد وصل ملاحوه سالمين إلى الشاطئ الإيثاكي، وأرسوا ثمة وربطوا حبالهم في أوتاد المرفأ، ثم اجتمعوا إلى فطورهم فأكلوا وشربوا، فلما فرغوا أمرهم تليماك أن يذهبوا هم إلى المدينة، «أما أنا فذاهب لبعض شأني في المراعي القريبة وسأعود قبيل الغروب، وفي الغد سأسقيكم سلافة الأوبة التي تذهب عنكم وعثاء هذا السفر.» ونهض تيوكلمين (الشاب الآبق) فاستأذن في الذهاب بالبشرى إلى والدة تليماك، ولكن تليماك قال: «كلا يا تيوكلمين، لا أريد أن تعلم أمي بقدومي اليوم، فابق مع رجالي هؤلاء حتى ولا تقع أبصار العشاق المناكيد عليك، وإن شئت فاذهب إلى أحدهم - يوريماخوس - فهو أعظمهم قدرا وأنبههم ذكرا، وهو الذي يحاول جاهدا الزواج من والدتي، والجلوس على عرش أبي، فاربط حبالك بحباله. أواه يا أرباب السماء! حنانيك يا جوف! بعدا لهذا الزواج، وبعدا لمن يحلمون به.» وما كاد يفرغ من حديثه حتى بدا إلى يمينه باز باشق - هو من غير ريب رسول أبوللو الأمين، وقد أمسك في مخالبه حمامة بيضاء، فظل يدوم ويرنق حتى إذا كان بين الفلك في البحر وتليماك في البر نثر خوافيها في الجو، فنزلن بالقرب من تليماك، وهنا تكلم تيوكلمين فقال: «تالله إنها لآية من السماء يا سيدي، إنك ابن أعظم من في هذه الأرض، وإن بيتك أعرق بيوتها، وستظفر كما ظفر آباؤك.» وشكره تليماك وتمنى لو صدقت نبوءته، ثم أوصى به أعظم رجاله وأخلصهم له - كليتوس - فاهتزت أريحية الرجل، ووعد أن يكون له كسيده «تليماك» حتى يئوب، وسلم تليماك، ومضى للقاء يومايوس، ثم أقلعت السفينة بمن عليها إلى المدينة.
أوديسيوس يلقى تليماك
لقد كانت هدأة الفجر الساكنة الجميلة حينما هب يومايوس وضيفه من نومهما ليلبسا ثيابهما ويعدا فطورهما، وليرسل الراعي عماله وراء قطعانه النائمة بين السهل الصامت الوديع، وحينما أقبل تليماك أهرعت إليه الكلاب تلحس ثيابه وتلعق قدميه، وتهتز في نشوة وطرب؛ لأنها رأته بعد طول الغياب، وقد لحظ أوديسيوس ذلك فقال يتحدث إلى الراعي: «يومايوس ، هذا أحد معارفك أو الأوداء إليك مقبل، لشد ما تملقه الكلاب التي أوشكت من قبل أن تعقرني! لا تنبح ولا تكثر، بل تقعي في أثره ذليلة.» وما كاد يفرغ من حديثه حتى كان ولده واقفا أمامه في رحبة الدار، وما كاد يومايوس يلمحه حتى هب من مقامه مسبوها مرتبكا، وحتى انقذفت الكئوس التي كان يمزج فيها الخمر من يديه، بيد أنه ذهب إليه يقبله ثم يقبله، ويبالغ في تقبيله، كأب مشوق لقي ولده فجأة بعد بضع سنين من مرارة البعد وألم الفراق، ثم قال يكلمه: «أواه تليماك! أهو أنت يا نور عيني؟ أنت نفسك؟ أوقد عدت؟ تالله ما كان يخطر بخلدي أنك عائد من سفرك بعد الذي دبروا لك، هلم يا حبيبي، تعال يا بني؛ فلقد عادت روحي من سفر سحيق برؤيتك! تعال تليماك فما أندر ما تزورنا هنا لطول اشتغالك بالمعاميد المناكيد!» وقال تليماك يجيبه: «أجل أيها الصديق، غير أنني أتيت لأسألك عن أمي؛ ألا تزال مخلصة لذكرى أوديسيوس قائمة على عهده، أم أنها هجرت مهاده لتقع في شرك من شراك العناكب المحدقة بها؟!» وأجابه الراعي فوصف له ما تلقاه الأم المحزونة من الضنى والحزن، وما تذرف من الدموع في جنح الليل لما يرميها به الحدثان. ثم دخل تليماك بعد أن أخذ الراعي حربته، فنهض أوديسيوس ليخلي لولده مقعده، فأبى تليماك؛ «لأن المكان فسيح، ولأن يومايوس يستطيع أن يعد لنا مقعدا آخر، فوالله لتجلس أيها اللاجئ الكريم.» وهيأ الراعي لسيده مقعدا من الحشائش الغضة والحلفاء الرطبة جعل عليها فروة كبيرة مما عنده، وجلس تليماك، وأحضر يومايوس فطوره في أطباق من أطباق أمس وشيئا من الخبز والخمر، ونثر الصحاف على الخوان أمام مولاه، وأخذ الثلاثة يلتهمونها أكلة مريئة هانئة. حتى إذا فرغوا، توجه تليماك بالحديث إلى راعيه فقال: «من ضيفك يا أبتاه؟ ومتى وصل إلى إيثاكا؟ وكيف؟ وأي الملاحين حملوه إلى شاطئنا؟» قال الراعي: «والله يا بني ما أستطيع أن أخفي عنك ما قال، فهو يدعي أنه من نسل الأماثل الأمجاد من أمراء كريت، وأنه طوف في الآفاق، وسافر في البلاد ورأى من المدن ما لا عين رأت، وهو يقول: إن فلكا قبرصيا حمله إلى شاطئنا قبل أن تحمله رجلاه إلى كوخي هذا، ولكن لم هذا؟ ولم أتولى أنا الإجابة؟ إنه أمامك وأنا أدع أمره لك، فاصنع به ما تشاء، إنه لائذ بك قاصد بابك، وأحسب أن له حاجة عندك؟» وبدا الألم في محيا الشاب فأجاب: «تالله لقد آلمني حديثك أيها الأب يومايوس، أنت تجعله لائذا بي قاصدا بابي، وأنت تعرف من حالي ما تعرف، وتعلم أنني مرزأ بهذه الطغمة، مشغول بوالدتي التي لا أستطيع أدفع عنها إصر هؤلاء الأنجاس المناكيد الذين طال لبثهم حولها وتوقحهم بسببها، حتى لأخشى أن تضيق بهم فتختار مرغمة أفضلهم بعلا لها أو أكثرهم عطاء وأوسعهم ثراء ... بيد أنني أوثر أن أمنحه دثارا وصدارا ونعلين وسيفا جرزا، ثم أرسله إلى أي أقاليم العالم شاء في حمايتي، وإن أحب فليبق في ضيافتك أنت، وسأرسل إليه ما هو حسبه من طعام وشراب؛ خشية أن يرهقك وأن تضيق به؛ أما أن يصحبني إلى القصر الذي تعلم من أمره ما لا تعلم فذاك ما لا أرضاه له، فقد يغمزه أحد بكلمة فيجرحه، وأجرح أنا بسببه، وأنت لا يخفى عليك أنني صغير لا أستطيع مهما أوتيت من الشجاعة أن أرد عادية هؤلاء الأوغاد.» وتولى أوديسيوس الإجابة فقال: «أوه أيها الحبيب الطيب القلب! لشد ما تتمزق نياط قلبي لما سمعت من أمر هؤلاء العشاق الأشقياء الذين يستبيحون منزل فتى كريم مثلك! ولكن قل لي - إذا أذنت أن أتكلم في هذا الشأن - هل عن رضا منك لصقوا بمنزلك فما يريمون، أو برغمك أيها العزيز؟ أليس لك إخوة يسندونك ويشدون أزرك فتطردهم من بيتك؟ أواه لو عاد لي شبابي الآن، وأواه وآه لو عاد الآن أوديسيوس، تالله لو أنني في حالك هذه لآثرت أن أشهر سيفي في وجوههم فإما أن أطهر بيتي منهم، وإما أن أخر قتيلا بينهم فلا تقع عيني على ما يصنعون ، ولا أنظر إلى عيثهم وعبثهم بكل ما في منزل أبي من خير وميرة السنين الطوال.» فقال تليماك: «ليس سرا أيها اللاجئ الكريم ما بيني وبين قومي، وليس منهم من يضمر لي عداوة أو يطوي جوانحه لي على حقد ... أما الإخوة والأشقاء فليس في أسرتنا من رزق هذه النعمة، بل هذا دأب عائلتنا منذ القدم، ذلك أرسباس لم ينجب غير ليرتيس، ولم ينجب ليرتيس غير أوديسيوس، وهذا لم ينجب غيري أنا، هذا المرزأ المحزون الموجع القلب؛ من أجل ذلك طمع هؤلاء الطامعون فينا، وتكالبوا على بيتنا من كل فج، فأقبلوا من ساموس ودلشيوم وزاكتوس وأطراف إيثاكا، ومن الجزر الكثيرة المنتشرة في هذا البحر؛ كل يرغب في أن تكون أمي له من دون العالمين زوجة يرغمها، فهم مقيمون لا يريمون آكلين ناعمين، يستنفدون غلة ما ترك أوديسيوس، آتين على كل ما في بيته وخزائنه، ويوشكون أن يأتوا علي أنا الآخر.» ثم أمر يومايوس أن يذهب إلى القصر فيخبر أمه بعودته سالما من بيلوس، فذكره يومايوس بجده الضعيف الشيخ الذي امتنع عن الأكل والشراب منذ أن رحل تليماك يسائل عن أبيه؛ وذلك مما أضواه من الهم، واستأذنه في أن يمر عليه فيخبره بعودة مولاه حتى يطمئن هو الآخر، ولكن تليماك أمره بأن يذهب من فوره إلى القصر فيخبره، وانطلق يومايوس وكانت مينرفا تنتظر ذهابه لتبدو لأوديسيوس في صورة حسناء ذات وقار وحسن سمت، وقد أخذت الكلاب بروعة مرآها فتكبكبت في أحد أركان الحظيرة، وراحت توقوق وتهر
1
مما شدهها من منظر مينرفا، وقد لفت فعلها أوديسيوس فهب مسرعا إلى ربة الحكمة التي قالت له: «الآن ينبغي لك أن تكشف نفسك لولدك فتقفه على حقيقة الأمر، ثم تذهب معه إلى المدينة وفي قبضتك الموت الزؤام تجرعه صابا ويحموما للعشاق، وسأكون دائما معك وسأشرف على المعركة بنفسي.» ولمسته بعصاها السحرية فارتد إلى صورته الحقيقية، وعاد إلى الكوخ في حلته الضافية التي كانت عليه من قبل، فلما رآه تليماك شده وفرق وقال له: «أيها النازح الغريب ، ماذا أصابك؟ لقد تبدلت أيما تبدل، خبرني أرجوك وأتوسل إليك، أأنت إله كريم فتعقر لك القرابين، وتذبح من أجلك الأضاحي؟» قال أوديسيوس: «ليفرخ روعك يا بني، فما أنا إله، إن أنا إلا بشر، وإن أنا إلا أبوك الذي ذهبت تذرع الدنيا من أجله، والذي بسببه غصصت بكل هذه الآلام، وصبرت للؤم هؤلاء الناس.» ثم ضم إليه ولده وطفق يقبله ويذرف دموعه على خديه، بيد أن تليماك لم يصدق وراح بدوره يقول: «أبي؟ لن تكون مطلقا أبي، بل أنت إله تنزل من السماء ليعبث بي، وليزيدني شقوة وأشجانا، أي بشر يستطيع أن يصنع ما صنعت وكنت منذ لحظة عجوزا محدودب الظهر مجعد الوجه غائر العينين، تلوح في مزق وأسمال، ثم تخرج هنيهة وتعود في هذا البدن الفينان وذاك المظهر الفتان الذي لا يكون إلا للآلهة؟» فقال أبوه: «أي بني، أنا أوديسيوس ولن يرجع إليك أوديسيوس آخر سواي، اطمئن فقد صنعت مينرفا ما رأيت بأبيك، وما صنعته أنا بنفسي، إنها ربة، ولها القدرة على كل شيء؛ ففي وسعها أن تظهر من تشاء في صور شتى، وليس هذا على مينرفا بعزيز.» وأحس تليماك ما كان يشيع في كلمات أبيه من حرارة وإخلاص لا يصدران إلا عن قلب أب، فانطلق يبادل والده عناقا بعناق ودمعا بدمع وقبلات بقبلات، ثم سأله كيف عاد إلى الوطن بعد كل تلك السنين الطوال؟ فقص عليه قصته ثم قال له: «ولكن حدثني أنت عن أمر أولئك العشاق الأوغاد ما عددهم؟ وهل نستطيع، كلانا، أن نقف لهم فنظفر بهم؟» فأجاب تليماك: «أبتاه لقد سمعت الثناء على شجاعتك وسعة حيلتك وجليل حكمتك في كل ملحمة وبكل نقع؛ ثناء يلهج به فم الدنيا جميعا، بيد أنه ينبغي ألا نجازف هذه المجازفة التي لا نعرف ماذا وراءها؛ إذ ماذا يصنع اثنان بعشرين ومائة من خيرة صناديد إيثاكا وما حولها؟ الرأي أن نفكر في أنصار يشدون أزرنا ويكونون عونا لنا.» فقال أوديسيوس وهو يبتسم: «وما قولك يا بني في اثنين الله - جوف العلي - ثالثهما ، ومينرفا نصيرتهما على القوم الظالمين، إذا كان هذان معنا أفنحتاج إلى عون آخر؟» فقال تليماك: «بلى. تعالى جوف وجلت مينرفا، إن لهما لأيدي فوق أيدي الناس؛ لأنهما يحكمان من فوق عرشهما الممرد فوق السحاب في الأرض وفي السماء على السواء.» وقال أبوه يزيده طمأنينة: «وسيكونان معنا في الحلبة حين يجد جدها، فإذا كان الصباح فاذهب إلى القصر واختلط بالعشاق، وسيقودني راعينا الأمين إلى هنالك متنكرا في صورة الشحاذ الفقير الذي رأيت، فإذا فرطوا علي فلا تأس، حتى ولو كان فرطهم بالضرب والسباب، ويسرني أن تحتمل وتصطبر، فإذا زادوا فاصرف عني أذاهم بكلمة طيبة حتى يحكم الله بيني وبينهم حين يحين حينهم، واحذر أن تخبر أحدا بعودتي حتى ولا أبي، بل على الأخص أمك بنلوب، أو هذا الراعي يومايوس؛ إذ ينبغي أن نستعين على أمرنا بالكتمان حتى نعرف أصدقاءنا ونخير أعداءنا.» وطمأنه تليماك وأكد له كل شيء. ثم وصل يومايوس إلى بنلوب فأخبرها بعودة تليماك، وذاع النبأ بين العشاق فذعروا لفشل مؤامراتهم ضده، وانتشروا خارج القصر، واعتزموا أن يبعثوا نفرا منهم بهذا النبأ إلى الطغمة التي ذهبت تتربص بالفتى لتغتاله إذ هو عائد من بيلوس، ثم اجتمعوا يمكرون السيئات، ويدبرون قتل تليماك حين تتيح فرصة أخرى، وكان ميدون قريبا منهم فاسترق سمعهم، وطار به إلى بنلوب التي هالها ما مكروا وما دبروا، فذهبت في جميع وصيفاتها إلى رحبة القصر، حيث اجتمع أعداؤها إلى شياطينهم، فصاحت بزعيمهم أنطونيوس من وراء حجابها قائلة: «أنطونيوس، تبت يداك يا ألأم الناس! أنت يا من يدعونك التقي الصالح وأنت أسفه مما يظنون طوية وأخبث سريرة، كيف حدثتك نفسك بهذا التدبير السيئ فترسم لأشرارك قتل ولدي الذي لم يعد لي في الحياة رجاء غيره؟ ألأنه ضعيف بنفسه؟ ألا فاعلم أنه قوي بالله الذي ينتقم لعباده من الظالمين. أيها اللئيم، أبمثل هذا تجزي جميل أوديسيوس الذي حال مرة بين أبيك وبين أعدائه معرضا بنفسه للتهلكة ولولاه لظفروا به، ولولا أن قتل منهم من قتل وصرع من صرع لعجلت روحه إلى نيران هيدز وبئس القرار، أفلم يكفك ما تأكل بغير حق من زاده، وتعبث غير عابئ بعتاده فترسم لأشرارك غيلة ابنه؟» وانبرى يوريماخوس يهدئ من ثورتها ويطمئنها أن أحدا من العالمين لا يستطيع أن ينال تليماك بأذى ما دام هو حيا يدب على قدمين، وكان يتكلم برغم ما كان ينطوي عليه قلبه؛ لأنه كان من أكبر المتآمرين على حياة ابنها العزيز الحبيب. وبعد أن توارت أورورا عاد الراعي إلى حظائره يدب على عكازه، وكانت مينرفا قد لمست أوديسيوس بعصاها السحرية فعاد إلى صورة الفقير الشحاذ، وعادت إليه مزقه وأسماله، فوجد سيده وضيفه الفقير يعدان عشاءهما، ولما لمحه تليماك قال له: «ما وراءك يا يومايوس الصالح؟ أعلمت عن الطغمة التي استأنت في ساموس تتربص بي شرا؟» فأجابه الراعي: «تالله لا علم لي بشيء يا مولاي، فأنا لم أنتظر طويلا في المدينة لأتسقط الأبناء؛ لأنك أمرتني أن أرتد على عجل بيد أنني لمحت مركبا يطوي البحر إذ أنا عائد ويدخل المرفأ، وفيه من العدة والعدد ما يبهر النظر ويخطف البصر، وأحسب أنهم هم الأمراء الذين تعني، غير أنني لا أجزم بهذا.»
ونظر تليماك إلى والده متبسما محاذرا أن ينتبه الراعي إلى شيء.
أوديسيوس في قصره
ونضرت أورورا جبين الشرق بالورد، وخضبته بالشفق، فهب تليماك من نومه الهادئ الهانئ الموشى بالأحلام، فلبس وانتعل، واخترط سيفه، ثم قال لراعيه: «أيها الأب الصديق، إني متوجه إلى المدينة لألقى أمي، فأكبر الظن أنها لن يرقأ لها دمع ولن تخفت لها آهة حتى تراني. أما هذا اللاجئ، فرأيي أن ينطلق إلى المدينة فليسأل الناس وليطرق الأبواب، ولن يعدم إذا تكففهم أن ينال رزقه ويحصل على لقمات يتبلغ بها، إن لدي من المتاعب والمشاق ما يشغلني عن كل جواب آفاق؛ امض به إلى المدينة إذن فإذا آلمه هذا فهو حر؛ إني رجل لا أعبأ أن أقول الحق.»
فنهض أوديسيوس ليقول: «يا سيدي، إني لم أبلغ أن أتلبث هنا؛ فليس لشحاذ فقير مثلي أن يلتمس رزقه في الحقول والغيطان ، بل إني منطلق إلى المدينة، ولست مقعدا أو ضعيفا، فلا أقوى على عمل يؤجرني عليه أحد أمرائها. تفضل أنت فاذهب لطيتك، وسأمضي أنا مع خادمك حين تمتع الشمس قليلا؛ فأنا كما ترى رجل شيخ، وأخشى أن يقتلني برد الصباح وصقيعه، وليس ما يحفظني منها إلا ما ترى من مزق مضى أصلها وبقي رقعها.» وانطلق تليماك فبلغ القصر، ولقي أول من لقي مرضعه يوريكليا، حيث كانت وأترابها ينشرن فراء على كراس وحمالات مبعثرة في الردهة، فلما رأته عجلت إليه ورحبت به وسلمت عليه، وانطلقت الدموع من عينيها فانعقد لسانها وانحبس منطقها، ثم اجتمع الجواري يقبلن تليماك ويحدقن به حتى لفتن نظر الأم المعذبة المحزونة المطلة من إحدى شرفات القصر، فهرعت من عل وأخذت في حضنها المحب الرحيم أعز الأبناء، وأمطرت جبينه وخديه بالدموع والقبل، ثم جعلت تقول له: «أوقد عدت إلى الوطن يا نور عيني تليماك، تالله لقد وقر في قلبي أنني لن أراك بعد أن أبحرت إلى بيلوس برغمي وعلى غير علم مني، لتتسقط أنباء أبيك، ولكن خبرني يا بني ماذا عساك سمعت؟!» فقال الفتى: «أماه لم تعودين بذاكرتي إلى عبوس الحياة وقد أفلت من الموت، أولى لك ثم أولى أن تضفي عليك من أفخر أثوابك، ثم تصلي للآلهة أن تهيئ لنا يوم انتقال عادل لا يبقي ولا يذر، بيد أنه ينبغي أن أذهب الآن لألقى ضيفا كريما عزيزا جدا علي - عزيزا جدا يا أماه - حضر معي في سفينتي أمس، وقد أرسلته مع من يضيفه عني حتى أعود فأضيفه أنا نفسي.» وذهبت بنلوب فصلت طويلا للآلهة، وانطلق تليماك فلقي تيوكلمنوس وعاد معه إلى القصر، وجلسا يتحدثان بينما أحضر أحد الخدم مائدة حافلة بألوان الطعام وأطيب صنوف الشراب فوضعها أمامهما، وأقبلت بنلوب فجلست لدى الباب تنسج ثوبها الذي لا ينتهي، فلما فرغا من طعامهما أقبلت فقالت تخاطب تليماك: «يبدو لي أنك لن تقص علي الآن ما سمعت من أنباء أبيك دائما بدموعي منذ فارق أوديسيوس، فإذا انصرف الأوغاد المعاميد وفرغت من شغلك بهم فاحضر إلي لتقص علي من أنبائه.»
ولكن تليماك قال: «أماه، لم لا أقص عليك ما سمعت، وما سافرت إلا لأطمئنك وأطمئن نفسي؟ لقد سافرت إلى بيلوس وحظيت بلقاء نسطور الذي هش لي وبش، وفرح بي كأنما أنا ابنه الذي افتقده طويلا وعاد فجأة إليه، غير أنه لم يذكر لي عن أبي قليلا أو كثيرا لعدم علمه بشيء من أنبائه؛ ولذلك بعثني مع واحد من أبنائه إلى ملك أسبرطة لأسأله عن أبي، وقد لقيني منلوس فأحسن لقائي وأكرم مثواي، ورأيت زوجه هيلين الحسناء المفتان التي شبت بسببها حروب طروادة، والتي لقي من أجلها أبطال الإغريق أنكى ألوان العذاب، ولما سألني الملك فيم قدمت، نبأته بأنباء العشاق المعاميد، ووصفت له ما يجرون على بيت أبي من الخراب، فأرغى وأزبد، ولعنهم أشد اللعن، وتوسل إلى الآلهة أن ترد إليهم أوديسيوس، فيبطش بهم ويعيد إليهم صوابهم، ثم قص علي ما سمعه من أحد أرباب الماء - بروتيوس - الذي أخبره أن أبي لا يزال حيا يرزق في إحدى الجزر النائية، وأن عروسا من عرائس الماء تحجزه عندها في تلك الجزيرة برغمه؛ لأنها تحبه وتهواه، وأنه لا يجد سفينة يثوب عليها إلى الوطن. هذا يا أماه كل ما علمته عن أبي من الملك منلوس، وقد أذن لي في العودة، فأبت في رعاية السماء وحفظ الآلهة.» وكانت بنلوب تصغي وثورة من الحزن تجتاح نفسها، ولظى من الوجد يفتك بقلبها، فلما فرغ تليماك التفت تيوكلمنوس المتنبي إلى السيدة الرءوم فقال: «يا زوج أوديسيوس، أعيريني سمعك، أصغي إلي فسأتنبأ لك أن ابنك هذا لم يسمع عن أبيه أي نبأ يقين، أما أنا فقد بدت لي أمارات، وشهدت في السماء علامات، ومحال أن تكذب علامات السماء! أقسم لك بجوف العلي رب الأرباب، وأقسم بهذا البيت، بيت أوديسيوس، أن زوجك هنا وفي إيثاكا، وهو يعلم كل صغيرة وكبيرة من أنباء العشاق وخياناتهم، وإنه ليدبر لهم عقابا هائلا لن يفلت أحد منهم.» وسكت المتنبي، وأقبل العشاق من لعبهم فخلعوا عباءاتهم ، ثم نشطوا إلى الشاء والخنازير، فجزروا لطعامهم.
وليمة الوداع الأخيرة.
هذا ما كان من أمر تليماك وأمه، وما كان من أمر العشاق، أما ما كان من أمر أوديسيوس فقد مضى في الطريق إلى المدينة بخطى متعثرة والراعي بين يديه، وعلى كاهله حقيبته وفي يده عكازه، وكلما لقيهما أحد صعر خده، وشمخ بأنفه تقززا من منظر هذا الشحاذ الفقير القذر. ثم أتيا إلى نبع يتفجر في الطريق فيستقي الناس منه، وقد بسقت من حوله أشجار الحور والسنديان، وترقرق الماء فوق الحصباء كاللجين يتدحرج من حيد أكمة هناك، أقام الصالحون فوقها مذبحا لعرائس الغاب، حيث يتقدم الناس بنذورهم ويعقرون أضحياتهم، وقد لقيا هناك راعي ماعز الملك - ملانتيوس - يسوق قطيعا من أسمن ما يرعى لأجل ولائم العشاق، ولقد كان ملانتيوس هذا من أذنابهم ومتملقيهم، وكان يصنع كل ما يحببه إليهم ويضمن له عطفهم، فلما رأى الفقيرين - وأحدهما زميل له - انطلق يهوي ويصخب، ويسب ويخر، ويغمز الرجلين غمزا شديدا موجعا، حتى غلى الدم في رأس أوديسيوس: «انشملا أيهذان المسخان، طاعون يجتاحك يا راعي الخنازير القذر، حقا إن الطيور على أشكالها تقع، كلب يقود آخر إلى أين؛ إلى حيث يلتقط فتات موائدنا! عجبا ألا تطلقه معي إلى المزارع ينظف الزرائب ويحمل العلف ويحرس الغلة، ويشرب ما شاء من اللبن الحازر
1
والمخيض، ويكسو عظامه المعروقة بإهاب من اللحم؟! ولكن هيهات فقد بلدت طباعه فلا يصلح لعمل شريف.» وهكذا ظل الراعي الشرير يقيء من هذا البذاء، وركل أوديسيوس آخر الأمر ركلة قوية في ساقه، فلولا ما حرص الملك عليه من كتمان أمره لحطمه بسببها، ولمسح به ظاهر الأرض، ولقد هاج هائج يومايوس فدعا آلهته لتنتقم لرفيقه الضعيف وطفق يقول: «يا عرائس هذا النبع المقدس، اسمعي بحق ما عقر لك أوديسيوس، وباسم ما ضحى أن ترديه إلى بلاده فينتقم من أمثال هذا الوغد الزنيم الذي لا يحسن إلا أن يتملق أعداء مولاه، وإلا أن يغشى رحابهم، بينما قطعانه سائمة في المرج لا راعي لها ولا قيظ.» فصاح الراعي الوقح : «هاه! أجيبي يا عرائس دعاء كلبك الأمين! أواه لو أستطيع أن أحملك في فلك أحد هؤلاء السادة فأبيعك بيع الرقيق في بلد سحيق؛ أوديسيوس ماذا أيها البهيم! لقد أودى أوديسيوس ولن يعود إلى الحياة قط. وبودي لو لحق به ابنه تليماك!» قالها وانطلق، حتى بلغ القصر وغشي مجلس العشاق يطرفهم بما حدث له مع راعي الخنازير؛ أما أوديسيوس وأمينه فقد سارا رويدا حتى أتيا بوابة القصر فتلبثا عندها.
وتناول أوديسيوس يد الراعي وقال: «يومايوس، لا ريب أن هذه سراي الملك، انظر ها هي ذي الحجرات يتلو بعضها بعضا، وهاك الرحبة الكبرى ذات العماد وذات الأبواب، وإني أحدس أن هناك أضيافا اجتمعوا لوليمة، وهذا قتار اللحم يملأ خياشيمي، وأرنان القيثار يجلجل في أذني.» فقال يومايوس يجيبه: «أنت ذكي شديد الذكاء، إنه هو المكان بعينه، والآن هل تذهب أنت وحدك فتستعرض الأمراء وتعود؟ أو تنتظر حتى أذهب أنا فأخطف نظرة إليهم؟ على أنك يجب ألا تتلبث هنا طويلا؛ فقد يراك بعضهم فيؤذيك ويطردك من هنا شر طردة.» وقال أوديسيوس: «بل انطلق أنت وإني منتظرك هنا فإذا لكمني أحد أو لكزني أو ركلني، فلشد ما أحتمل هذا وذاك، وهل هو إلا بعض ما احتملت في حروبي الطويلة؟» وبينما هما يتحدثان إذا كلب كبير رابض يقف فجأة فيبصبص بذنبه وينصب أذنيه، ويحدق بصره في أوديسيوس، ويظل مسحورا ذاهلا، آه إنه الكلب العزيز أرجوس الذي رباه الملك قبل أن يرحل إلى طروادة، لقد أهمل أمره فهو رابض هكذا في حمأة من الروث والقذر والقمل أمام بوابة القصر، كالشاعر العجوز الذي يجتر ذكرياته، لقد عرف صوت مولاه برغم السنين الطوال، فبكى وهر وأرسل الدموع حرارا تسقي صدغيه، وقد تأججت في قلبه الحيواني ثورة من الحزن الطارئ المفاجئ، فلم يوان يزحف ليمسح بلسانه قدمي مولاه، وقد لحظ أوديسيوس ما أصاب كلبه العزيز فبكى هو الآخر تأثرا، وسجل هذه الآية من الوفاء للحيوان على الإنسان، وأشاح بوجهه عن الراعي حتى لا يدرك ما بعينيه من دموع، فلما مسحها بكمه قال يحدث يومايوس: «أليس عجيبا ومؤلما معا يا صديقي أن يتركوا هذا الكلب الذي تبدو عليه سيماء النبل فوق هذه الكومة من الروث، قد يكون أقعده الضعف عن متابعة الصيد، وقد يكون إبقاؤهم عليه من أجل منظره وحسن سمته.» فأجابه الراعي: «أوه، بلى أيها الرفيق، أما والله لو شهدته في أثر مولاه أوديسيوس لعجبت لعظم قوته وشدة جبروته، أبدا لم يخلق الله وقتئذ كلبا أتبع لصيد أو أقوى حاسة شم منه، وأبدا لم يكن عندنا كلب كأرجوس هذا الرابض يساقط نفسه أنفسا، إنه يبكي مولاه الذي قضى وتركه من ورائه لإهمال الوصيفات وقلة اكتراثهن، أما عبيد هذا القصر فهم كالوصيفات حذوك النعل بالنعل، فهم لا ينشطون لعمل كما ينشطون وسيدهم بينهم، ثم هم قد فقدوا بالعبودية وذلة الرق نصف آدميتهم ورجولتهم.» ثم مضى أوديسيوس نحو صديقه وخدن صباه، فبكى وذرف دموعه وكذلك فعل الكلب حتى مات! ولكن بعد أن رأى سيده تارة أخرى.
ولمح تليماك راعيه فأومأ إليه وأخذه جانبا، ثم أمده بنصيب جزيل من طعام الوليمة، وبعد لحظات أقبل أوديسيوس في صورة الشحاذ الفقير وجلس على الأرض، فأرسل إليه ولده شيئا من اللحم والخبز مع يومايوس، وأسر إليه أن يرسله بين الأمراء يتكفف، وبالأحرى ليتعرف، فلما فرغ من طعامه نهض فسار بينهم يسأل هذا ويحدق فيه، وينصرف إلى ذاك ويحدجه، ويمد يده من أجل لقمة كما يصنع الشحاذون، وقد رثى له كثيرون فأمدوه بلقمات ومضغ من اللحم إلا أنطونيوس، فقد استهزأ به وبمن أحسن من الأمراء إليه وغيرهم بأنهم يتصدقون بما ليس لهم، ثم هاج وماج، ورفع كرسيا أوشك أن يحطم به رأس أوديسيوس، وأمره أن ينصرف فلا يعكر عليهم صفوهم أكثر مما فعل، ولكن الكرسي صدع كتف الملك وأعفى رأسه، ووقف أوديسيوس كالصخرة لا يتحرك ولا ينبس ببنت شفة، ولكن ألف ألف فكرة سوداء كانت تكظ فؤاده وتزحم تفكيره، ثم مضى فجلس حيث كان من قبل، وهتف بالعشاق في صوت جهوري فقال: «سادتي الأمراء، اسمعوا، تالله لو أنها ضربة في حرب بين كفأين لما حملت لها موجدة في نفسي، ولكن أنطونيوس رأى من سلطان الجوع والضعف ما جرأه وأثار نحرته، وأنا مع ذاك أترك جزاءه لله، وأضرع إليه - جل ثناؤه - أن يقبضه قبل أن تزف إليه عروسه.» وكأنما خجل العشاق مما فعل أنطونيوس فجعلوا يلومونه ويتلاومون فيما بينهم، قال قائلهم: «من يدري؟ ألا يحتمل أن يكون أحد آلهة السماء جاء ليبلونا، والويل لك يا أنطونيوس إذا صدق حدسنا! ألا تعلم أنهم طالما يتنزلون فيغشون مدننا في صور الشحاذين ليروا بأعينهم ما نأفك وما نمين؟» ولم يبال بهم ولم يأبه لما قالوا، وكان تليماك يتميز من الغيظ، ويسر في نفسه أوجع الألم؛ لما نال أباه من الضرب، بيد أنه غلب غضبه وحبسه في أعماقه، كما حبس في عينيه وابلا من الدموع، وكانت بنلوب تطلع من شرفتها وترى ما حل بالرجل من إيذاء، فهتفت بيومايوس أن يرسله إليها كيما تسأله عن أوديسيوس؛ لما يبدو عليه من أثر السفر وجوب الآفاق، قال الراعي: «أجل يا مولاتي، إنه رجل من كريت، وقد خاض ألف مكروه قبل أن تحمله الصدفة إلى بلادنا، ثم هو محدث ساحر الحديث على الرواية، حتى ليخلب سمع من يصغي إليه بأشد مما يستطيع منشد مطرب أن يفعل، وكلما طال حديثه لذت طلاوته، كثرت حلاوته فلا تمله أذنان، ولا يضيق به مصغ إليه، وأعجب ما ذكره مرة لي أنه رأى أوديسيوس وعرفه في أبيروس، بل يزيد فيؤكد أن مولاي عائد أدراجه إلينا حاملا معه كنوزا من الذهب، وأذخارا لم تر العين مثلها ولم تخطر على قلب بشر.» فتنهدت بنلوب وقالت: «انطلق إذن فأحضره، ودعه يحدثني بما روى وجها لوجه، وسأهبه صدارا ودثارا إذا توسمت في قوله الحق، وآنست في روايته الصدق.»
وادعى أوديسيوس أنه يخشى أن يجوز وسط الأمراء مرة أخرى، وفضل أن يلقى الملكة فيتحدث إليها إذا جن الليل بجانب المدفأ، ووافقت الملكة وصوبت رأي الرجل، وكان الوقت أصيلا فقصد الراعي إلى تليماك واستأذنه في الانصراف إلى حظائره، فأذن له ولكن بعد أن أمره بالتزود لعشائه، ففعل يومايوس ثم مضى ليسهر على خنازيره.
أوديسيوس يتشاجر مع شحاذ
وبينما كان أوديسيوس جالسا يزرد طعامه، إذا شحاذ ضخم الجسم شائه المنظر يدخل فجأة، فيلتفت إليه جمهور العشاق، ويعرفون فيه الفقير إيروس، المشهور بنهمه الذي لا يوصف، وبإقباله الشديد على أردأ ألوان الشراب، وكانت له عليهم دالة، وليس في الجزيرة كلها من يجهله. فلما لمح أوديسيوس جالسا يتبلغ بلقماته، نظر إليه نظرات المغيظ المحنق وقال له: «انصرف عن الباب أيها العجوز القذر وإلا جررتك من عقبيك، ولو أنني أترفع عن مقارعة أمثالك!» وحدجه أوديسيوس وقال: «أيها الصديق، إني ما آذيتك، وإن في المكان متسعا لكلينا، أرجو ألا تثيرني أكثر مما فعلت وإلا فلا يغرنك هرمي وتقدم سني؛ فتالله لأرينك كيف أضربك ضربا تقول منه الهامة: اسقوني. اجنح للسلم هو خير لك وأصغ إلى نصحي وإلا فلن تدخل قصر أوديسيوس بعد اليوم.» وغيظ الشحاذ إيروس وقال: «اسمعوا ماذا يهرف هذا الشره المخرف، ألا ما شبه بزوجة حمقاء تثرثر أمام كانون، تالله ليخيل إلي أن أنقض عليه فأنفض ثناياه، هلم أيها الرجل استعد للقاء، وليشهد السادة كيف أمثل بك؟» وقهقه أنطونيوس وقال: «أيها الأصدقاء، اشهدوا أن إيروس يتحدى هذا الفقير، والفقير بدوره يتحداه فهلم نجعل حولهما حلقة لنرى هذا العراك المضحك.» وسكت أنطونيوس وقال: «اسمعا إذن، ها هنا كعكات ليس أجود منها، وإنها خالصة لمن يتفوق منكما على قرنه، ولمن فاز أجر عندنا عظيم؛ إنه سيجلس معنا في جميع ولائمنا منذ غد، ولن ندع أحدا من الشحاذين يضايقنا بعد هذا اليوم.» وتخابث أوديسيوس وقال: «يا سادة، من الظلم أن يتبارى رجل عجوز ضعيف مثلي مع هذا الهولة، ولكن الجوع يدفعني إلى البطش به مع ذاك، بيد أن لي رجاء ألا يساعده أحد علي فيلكمني مثلا أو يلكزني حينما أكون مشغولا به.» فقاسموه ألا يفعلوا، وتقدم تليماك ابنه فقال: «أيها الرجل، إذا وسعك أن تناضل هذا الزميل فلا تخش من هؤلاء رهقا ؛ إني مضيفك وليس أحب إلى أنطونيوس ويوريماخوس من أن يشهدا هذا اللقاء الفذ بينكما.» ثم إن أوديسيوس شمر عن ساعديه وفخذيه، وكشف قليلا عن صدره؛ عامدا ليظهر الأمراء على عضله المكتنز وقوته الخارقة، وقد صدق حدسه؛ فقد بهت العشاق ونظر بعضهم إلى بعض يقولون: «وا عجبا أي عضل وأي ساعدين وفخذين يخفي هذا الرجل تحت أسماله ومزقه البالية؟ مسكين إيروس ماذا يبقى منه بعد هذا اللقاء؟» أما إيروس فقد انتفض واقشعر بدنه مما عراه من الذعر، ولكن الخدم لم يتركوا له أن يفر من اللقاء الذي دعا هو إليه، بل شمروا له عن ساعديه وفخذيه كما فعل غريمه، ثم جروه إلى الحلقة برغمه، وود أوديسيوس أن يبطش بالرجل فيحطمه بأول لكمة، غير أنه آثر ألا يفعل خشية أن يكتشف العشاق من هو، فلما امتدت الأيدي تصنع الدفاع، وأقبل وأدبر، وكر وفر، ثم أهوى على أذن الرجل بضربة سحقت عظامه وطرحته على الأرض، ولبث المسكين لا يبدي حراكا من هول ما حل به، بيد أن أوديسيوس جره من عقبيه إلى ساحة القصر، ثم عرج به نحو جدار كبير حيث سنده إليه، وجعل في يده عكازه وقال: «البث هنا ولا تغش منازل الملوك بعد، وذد بعصاك الخنازير السائبة، فذلك خير من أن تصيب بها الغرباء أمثالي، فإن عدت إلى مثل حماقتك فلن يصيبك إلا شر مما رأيت!» وتركه وانثنى إلى حيث كان، فوجد العشاق يضحكون حتى كاد يقتلهم الضحك، وهتفوا له ثم قالوا: «حقق الله آمالك، وأنالك أمانيك أيها الغريب اللاجئ، بما خلصتنا من هذا الشحاذ النهم الملحاح.» وسمع أوديسيوس دعاءهم، وابتهل إلى الآلهة أن تستجيب، ثم وضع أنطونيوس بين يديه كعكة كبيرة، وزوده أمفيتوموس بخبز وخمر صبها له في كأس كبير من ذهب، ودعا له بخير، وآنس في أوديسيوس طيبة ودماثة خلق فقال له: «هيه هلم أيها العزيز أمحضك نصيحتي وأحدثك عن تجاربي؛ ألا ما أضعف الإنسان! إنه إذا ما مسه ضر دعا الله فإذا كشف عنه الضر فهو مقتصد ناء بجانبه كأن لم يمسسه ضر! فأنا مثلا لقد كنت في عنفوان صباي أعيث في الأرض مغترا بقوتي وفتوتي حتى أسقط الكبر في يدي ففئت إلى أمر السماء، ولكن بعد أن كتب علي الشقاء، وهكذا أولئك الأمراء الذين غرتهم الأماني وأضلهم جبروتهم، فأقاموا بهذا القصر غارين آمنين، لا يظنون أن له صاحبا قد يفاجئهم بعودته فيستأصل شأفتهم ويذهب بريحهم، وإني والله أيها السيد لأرى أنه عائد ليس من هذا بد، وأنه عائد قريبا، فتقبل أنت نصيحتي ولا تقم معهم، بل انطلق إلى بيتك وأهلك، ولا تستأن حتى يدهمك معهم فيحطمنكم أجمعين.» وشرب أوديسيوس، ودفع الكأس إلى الأمير الشاب الذي بدت عليه أمارات الهم مما قال الرجل، ولكن، وا أسفاه! لقد كتب عليه الشقاء، فلم يصغ لنصيحة أوديسيوس.
وبدا لبنلوب أن تذهب في بعض وصيفاتها فتخطر بين العشاق ليروها، ولترى ماذا يكون، وقبل أن تفعل ألقت عليها مينرفا نعاسا وأمنة، وبدت لها في الرؤيا كأنما تعطيها لهى عجيبة، ثم إن الربة أضفت عليها رواء كرواء الآلهة ونضرتها بنضرة الشباب والجمال فربا جسمها واستطال، وزانته لمعة عاجية وسناء، فلما هبت من نومها مرست عينيها متعجبة، وشدهتها تلك الغفوة الطارئة التي جلبت لها السعادة في دنيا من الهموم، وتمنت لو أراحها الموت من حياة اتصلت أشجانها وباعدت بينها وبين إلفها بمفاوز من الآلام والأحزان، وانطلقت في سرب من وصيفاتها، فأشرفت على العشاق وقد ضربت بخمارها الشف على وجهها المتألق الناصع، فذهل الملأ وزاغت أبصارهم، وأحسوا أن شيئا يخلع قلوبهم، فما منهم إلا من تمنى أن يكون صاحب هذا الجمال الرائع، والحسن الباهر، والفتنة المتقدة، ونهض يوريماخوس فقال يخاطبها: «يا ابنة إيكاروس بوركت، تالله لو رآك كل من في هيلاس لاجتمعت حولك قلوب غيرنا من العاشقين، ولأقبلوا من كل فج فازدحموا حولك ها هنا، في ذلك القصر العتيد.» فقالت بنلوب: «يوريماخوس، تالله لقد ذهب الآلهة بجمالي الذي تصف يوم رحل عني زوجي أوديسيوس فيمن رحل إلى طروادة، وما أنسى لا أنسى ما قال لي وهو قابض على يميني يودعني: «زوجتي، إن أكثر من ترين من هذا الجيش لن يعودوا إلى ديارهم؛ ففي طروادة محاربون صناديد، وملاعبو أسنة لا يشق لهم غبار وذادة ورماة، وإني لا أدري ماذا يكون من أمري هنالك؛ ولذا أكل إليك كل ما أودع ورائي، وإني موصيك أول ما أوصيك بأبي وأمي، فاعني بهما كأحسن ما كنت تعنين وولدهما معك، فإذا شب ولدي وترعرع فلك أن تتركي هذا القصر إن شئت وتتزوجي ممن تختارين من الأكفاء والأنداد.» هذا وإني أرى أن هذا اليوم العصيب قد حان، ولكن وا أسفاه إنكم اجتمعتم هنا لتأكلوا وتشربوا وتعيشوا بكل ما ترك صاحب القصر، وكنت أظنكم تقيمون في منازلكم وترسلون إلي هداياكم؛ لتكبروا عندي ولا تهزل مكانتكم لدي! ألا ساء ما تزرون.»
وتبسم أوديسيوس من قولها، ووثق من إخلاصها، وعجب من شدة ما سحرت ألباب العشاق ومما أخذتهم به من حزم. أما أنطونيوس فقد أجابها بقوله: «أما هدايانا يا ابنة إيكاريوس فلا أحب إلينا من تقديمها إليك، على أننا لن نريم عن هذا القصر حتى تختاري لنفسك بعلا يكون كفؤا لك.» وأيد العشاق ما قال قائلهم، فنهضوا ليحضروا هداياهم، وسرعان ما عادوا يحملونها، وتقدموا بها إلى بنلوب؛ فهذا ثوب ثمين من قاقم موشى بالذهب تزينه اثنا عشر زرارا ذهبيا، وهذا عقد حليت خرزاته بقطع من الكهرمان الحر، وتلك أساور من ذهب وشنوف كثيرة وأقراط.
1
وعادت بنلوب ومن خلفها وصيفاتها يحملن الهدايا واللهى، وأخذ العشاق كدأبهم في القصف واللهو، والعبث والغناء، حتى أقبل الليل، فقدم الندامى بمجامر من نحاس بها وقود يشتعل، وطفقن يلقين فيها من الند والرند والعود ذي العرف، وطفق البخور يعبق في أرجاء البهو الكبير ... وهنا نهض أوديسيوس وتوجه إلى البنات يقول: «أيها العذارى، أولى بكن ثم أولى بكن أن تذهبن إلى سيدتكن فتسلينها وتواسينها، وسأقوم بالنيابة عنكن على هذه النار حتى ينصرف العشاق، ولن يئودني أن أقوم عليها حتى مطلع الفجر، ولن أضيق بجمعهم مهما عبثوا بي، فأنا رجل ذو تجارب.» فتضاحكن به ، وقالت ميلانتو التي هي أجملهن وأقلهن احتشاما تعبث به: «ماذا أصابك الليلة أيهذا النازح الغريب؟ انطلق إلى حداد المدينة فنم في دكانه؛ فهو خير لك من أن تسهر ها هنا وتثرثر! هل غاب صوابك يا شيخ؛ لأنك ظفرت بالشحاذ إيروس؟ اربع عليك؛ فقد تبتليك السماء بمن يبطش بك كما بطشت به ويطردك من هنا.» ورشقها أورديسيوس بعينه وقال: اسكتي يا هناة!
2
والله لأحدثن بنا حدثت الأمير تليماك فليقطعن لسانك وليمزقن جسدك.» وذعر العذارى وولين هاربات، وقام أوديسيوس على النار وجعل يلحظ العشاق وفي قلبه ضرام، وما فتئ يفكر في ألف خطة للانتقام منهم والبطش بهم، ولم تشأ مينرفا أن تنهي هذا الشقاء الذي ضربته على أوديسيوس، بل تركته يستهزئ به العشاق، ويسخر به يوريماخوس فيضحك العشاق إذ يقول: «ما أظن إلا أن الآلهة قد أرسلت إلينا هذا الرجل ليكون حامل مشاعلنا وحامي قبسنا؛ انظروا إلى رأسه النحاسي، أليس يصلح أن يكون مشعلا يضيء لنا؟» ثم التفت إلى أوديسيوس وهو يقول: «إذا استأجرتك لتسوج مزرعة لي بعيدة من هنا وتغرس بها أشجارا، على أن أطعمك وأكسوك وأنقدك مالا فإنك ترضى؟ ولكن لا؛ إني لأظنك تنسرق منها طواعية لغرائزك وخبث جبلتك فتنطلق إلى المدينة لتستجدي وتتكفف.»
ووقف الفياشيون ملوك البحار دهشهن يسأل بعضهم بعضا من الذي أرسى الجبل مكان سفينتهم.
وتخابث أوديسيوس وقال يجيبه: «يوريماخوس، تالله إنه ليس أحب إلي من أن أباريك في فلاحة في يوم من أيام الربيع حين يطول النهار من مشرق الشمس إلى مغربها، على ألا يذوق أحدنا طعاما ولا يسيغ شرابا، أو أن يعهد إلى كل منا بأربعة أفدنة في أرض جبوب وثورين حنيذين ذوي خوار في ذلك اليوم؛ لترى أينا يصمد لحرثه ويفلح أرضه؟ بل إني لأتمنى إذ نحن في هذه الأرض أن يدهمنا عدو بخيله ورجله وتكون لي درع سابغة وخوذة من نحاس ورمح في يدي؛ لترى كيف لا يحول الجوع بيني وبين أقراني؟ وكيف أضرج بدمائهم الأرض وأتركهم في البرية جزر السباع وكل نسر قشعم ! أيها اللكح الوقح، والله لو أن أوديسيوس رب هذا البيت قد فجأك الآن لضاقت عليك الأرض بما رحبت. أنت أيها المغرور المتعاظل الذي غره أن يكون شجاعا بين نوكى لا حول لهم.»
وجن جنون يوريماخوس، وأخذ متكأ ثقيلا وقذفه شطر أوديسيوس، ولكن البطل انفتل بعيدا وسقط المتكأ على الساقي المسكين، فخر إلى الأرض يئن ويتوجع، وغيظ العشاق أيما غيظ، وعلا لغطهم وودوا لو يسحقون أوديسيوس لولا أن تقدم تليماك وحال بينه وبينهم، وهو يقول: «يا سادة، إني كصاحب هذا القصر لا أستطيع أن أطرد الرجل منه بعد إذ آويته وضيفته، والرأي أن تقطعوا سمركم هذا، وتذهبوا من فوركم إلى منازلكم حتى يتصرم الليل.» وأيده الأمير أمفينوس، ووقفوا جميعا فاحتسوا الكأس الأخيرة ثم انقلبوا إلى منازلهم، وفي يوريماخوس من الهم ما تنوء بحمله الجبال.
المرضع العجوز تعرف أوديسيوس
وهكذا خلا الجو لأوديسيوس وولده، فقال يحدث تليماك: «أي بني، ينبغي أن نخبئ أسلحة القوم في مكان حريز، فإذا سألوك عنها فقل لهم إنك تحفظها لهم حتى لا تتأثر بالدخان والغبار وتقلبات الجو. وامتثل تليماك ودعا المرضع العجوز يوريلكيا فقال لها: «أماه ليقر الوصيفات في مضاجعهن حتى أنقل أسلحة أبي إلى مكان حريز؛ فقد تراكم عليها الوسخ وأتلفها الدخان.» وقالت يوريكليا معجبة: «أجل يا بني، إنه ينبغي أن تعنى بكل ما يتعلق بأبيك وبكل ما ملكت يداك، ولكن قل لي؛ من يحمل لك المصباح حتى تنقلها إلى حرزها؟ ألا أدعوهن فيحملنه لك؟» وشكرها تليماك، وذكر لها أن الرجل الغريب سيحمله، وأهرعت يوريكليا إلى داخل القصر، وهب أوديسيوس وولده يحملان الخوذ والدروع والرماح، وبدت مينرفا الكريمة تحمل بين يديها مصباحا ذهبيا كان يشع سناء عجيبا ونورا لم تقع عينا تليماك على مثله، فقال لأبيه وقد أخذه العجب: «أبتاه، ما هذا النور المنعكس على الجدران والعمد والقوائم والعوارض، حتى ليكاد يجعلها تلتهب! أبدا ما رأيت مثل هذا أبدا؛ لا بد يا أبي أن إلها معنا هنا.» وقال أبوه: «اخزن عليك لسانك يا بني، واملأ قلبك بما ترى؛ فإنه من نور السماء، وهذا دأب الآلهة، والآن لتصعد أنت فلتنم ملء عينيك كي تستريح. أما أنا فباق هنا؛ لأنه لا بد لي من أن أكلم أمك وخدمها.»
وانطلق تليماك إلى مخدعه، وأقبلت بنلوب وأقبل في أثرها سرب من خدمها، فأعددن لها عرشا ممردا من ذهب وعاج استوت عليه، وأسندت قدميها العاجيتين إلى متكأ جميل، فبدت كإحدى الآلهة.
وجلس أوديسيوس على كرسي صغير بثت عليه فروة غليظة، ثم كلمته الملكة فقالت: «والآن أيها الغريب الكريم، قص علي من أنبائك، وخبرني من أنت، ومن أي البلاد قدمت.» فقال أوديسيوس: «أيتها الملكة، تعالى جدك وصلح حالك! إن لك في العالمين لذكرا يعبق كالعطر، واسما كريما ليس لملك عظيم يحكم أمة عظيمة بالعدل وتجزيه بالمحبة! إنني يا مولاتي رجل كرثه الزمان وعصفت به يد الحدثان، فإذا سألتني ما اسمي وما بلادي، فإنك تثيرين في أعماقي ذكريات عنيفة تدمي فؤادي، وتفجر الدموع في مآقي، فأعفيني أيتها الملكة من ذكر ذلك؛ فإنه ليحزنني أن أجلس بين يديك باكيا متصدعا مهموما.» وبدا الهم على وجه بنلوب وقالت: «أواه أيها الغريب، ما أقسى ما ذبلت حياتي وذوت زهرتي منذ رحل زوجي المحبوب إلى طروادة، تاركا لي الهم ومخلفا لي الحسرة! ألا ما أقسى ما يحن قلبي إليه، ولشد ما يخفق من أجله! لقد أسلمني بعاده لليل من الآلام، فما أدري منذ فارق كيف أهش لضيف مسكين مثلك، ولا كيف أبش لأحد من العالمين، وهؤلاء الأمراء اللؤماء الذين تكبكبوا حولي يريدون أن يرغموني على اختيار أحدهم بعلا لي من دون أوديسيوس لا أدري كيف أذودهم، ولا أعرف السبيل لدفع أذاهم! لقد مكرت بهم طويلا، ولكنهم مكروا بي السيئات، فلا أدري كيف أنقذ نفسي منهم؟ وهذان أبواي يريدانني على هذا الزواج البغيض إلي، وهذا ابني قد شب وهو يضيق بعشاقي ذرعا، وإن في صدره حرجا منهم؛ لأنهم يهلكون ثروته ويعيثون في قصره، ويخوضون في عرض أبيه، ولكن حدثني بأربابك من تكون، ومن قومك، وأي بلاء من الدهر شردك عن وطنك ... تكلم أيها العزيز ولا تحزن.» وأرسل أوديسيوس آهة عميقة، ثم تكلم فزخرف حديثا طويلا موشى، ولفق قصة حزينة متقنة، وذكر للملكة أنه رجل مرزأ من جزيرة كريت، كانت له نعمه الخفرجة التي كانوا يحيونها، وذكر أنه عرف أوديسيوس أول ما عرفه حين غرقت به الفلك وقذفه الموج على الشاطئ الكريتي، فهرول إليه وتلطف به وأخذه إلى داره حيث أكرم مثواه واحتفى به أبواه. ولم يكد أوديسيوس يفرغ من حديثه حتى ترقرقت الدموع في عيني بنلوب، وانطلقت تبكي على زوجها الذي لم تدر أنه جالس إليها يحدثها ويوشي لها أطراف الكلام، وتأثر هو من بكائها فكادت عيناه تفيضان بالدمع لولا أن ملك حاله، وهيمن على عواطفه، فحبس العبرات التي أوشكت تنهمل بأجفان من حديد. ثم أرادت الملكة أن تمنحه إن كان صادقا فقالت: «وهل تذكر أيها العزيز ماذا كان يلبس يوم لقيته؟ أتستطيع أن تصفه لي وتصف رفاقه الذين صحبوه في هذه الرحلة المشئومة؟» تخابث أوديسيوس فقال: «مولاتي، ليس من اليسير على شيخ كبير مثلي أن يذكر أحداث ما قبل عشرين عاما، بيد أنني سأحاول أن أرسم لك الظلال الضئيلة التي لا تزال تنطبع من صورته في رأسي؛ أذكر يا مولاتي أنه كان يلتفع بثوب أرجواني موشى بالذهب، وقد رسم فيه بالذهب أيضا صورة كلب صيد معروف يحمل في بوطيله
1
ظبيا مرقطا، وأذكر أنني رأيت قميصه ولمسته، فلا أذكر أنني لمست في حياتي أنعم ولا أرق ولا أثمن منه، وكان يسعى بين يديه مشير أكبر منه جسما وسنا ذو كتفين مستديرتين وبشرة سنجابية وشعر مفلفل، وكان أوديسيوس يوقره ويبجله أكثر مما كان يبجل سائر أصحابه.»
موهت مينرفا كل شيء في عين أوديسيوس.
وصمت أوديسيوس وبكت بنلوب فاستخرطت في البكاء، ثم قال: «لشد ما كنت أرثي لك أيها الغريب النازح الجواب، أما الآن فإني أحترمك وأعطف عليك، بل أحبك، تالله لقد صنعت له هذا الثوب بيدي، وأنا التي وشيته بالذهب، وا أسفاه عليك أوديسيوس! إنك لن تعود إلي يا حبيبي، بعدا ليوم نزحت فيه عن وطنك إلى هذا البلد اللعين المشئوم؛ طروادة!» وهش أوديسيوس وقال: «خففي عنك يا مولاتي، ولا تتلفي قلبك بطوال هذا البكاء، ثم لماذا تيئسين من أوبته وقد سمعت عنه أخبارا سارة حين كنت في أبيروس؟ لقد مات عنه كل أصحابه، ولقد غرقت سفينته في أعماق اليم لغضب صبته الآلهة عليه، بيد أنه نجا مع ذاك، وهو الآن سليم معافى يوشك أن يصل إلى إيثاكا بخير، وأنا لا أرسل ما أقول حديثا ملفقا، بل أحلف عليه وأقسم بأغلظ الأيمان أنه سيصل إليكم في عامكم هذا، بل ربما كان بينكم قبل أن يتم القمر دورة هذا الشهر!» فتأوهت بنلوب وقالت: «ويك أيها الضيف! تالله إن قلبي ليكذب ما تسمع أذناي، وإنه لا يصدق أن صاحبي عائد يوما إلى إيثاكا، ولكن هلم، إني سآمر وصيفاتي فيغسلن قدميك ويعطينك ثيابا وكسوة، ويهيئن لك فراشا وثيرا هنا، فإذا كان الغد فستجلس مع تليماك على مائدة الأمراء، ولن يجسر أحد منهم أن يكلمك كلمة أو أن يمد يده إليك بأذى.» وشكر لها أوديسيوس وقال: «مولاتي، لقد اعتدت أن ألتحف السماء إذا نمت، وأن أفترش الغبراء، ولن تمسني وصيفاتك؛ فقد يذعرن من خشونة قدمي، ولكن إذا كان فيهن واحدة مخلصة شربت من كئوس الزمان مثل ما شربت من محن وآلام، فلا بأس أن تغسل لي قدمي على أن تكون عجوزا حيزبونا.» وسرت بنلوب وقالت تجيبه: «أبدا ما علمت أحزم منك ولا أوفر ذكاء وعقلا أيها الضعيف الكريم، لك ما سألت؛ فإن عندنا خادمة أمينة طاعنة في السن كانت موكلة بمولاي أوديسيوس إذ هو طفل تغسله وتسهر عليه، وهي التي ستغسل لك قدميك. يوريكليا ... يوريكليا، أقبلي فاسهري على هذا الرجل العجوز الذي له مثل سنك وتجاربك! إن له سحنة كسحنة أوديسيوس وسيماء كسيمائه. اغسلي قدميه وقدمي له كسوة تليق بضيف حل بيتنا.» وكأنما هاجت ذكرى أوديسيوس شجون المرأة فترقرق الدمع في عينيها الملوزتين وقالت: «آه يا أوديسيوس! لشد ما ينزع فؤادي إليك ويخفق لذكراك! تالله لم أر رجلا أخبت للآلهة كما أخبت، وضحى لها كما ضحى، ومع ذاك فقد ناموا جميعا عنه فلم يتأذنوا برجوعه إلى وطنه ومن يدري؟ فقد يكون غريبا كهذا الغريب جواب آفاق في بلاد نائية، ومن يدري؟ فقد تكون نسوة تعبث به كما عبث نسوة هذا القصر بهذا الرجل. هلم أيها الضيف الكريم، لا أحب إلي من أن أغسل قدميك هكذا، يا للآلهة، أبدا ما رأيت من أضياف هذا البيت العتيق أشبه بأوديسيوس منك صورة وصوتا وخطرانا.» وتأثر الملك وأنشأ يقول: «ربما يا أماه، لقد قال مثل ما قلت كثيرون ممن رأوني ورأوا أوديسيوس.» وذهبت يوريكليا فأحضرت طسا
2
به ماء، وانتهز أوديسيوس انشغالها عنه فابتعد عن الموقد؛ لأنه ظن أن المرأة قد ترى الندوب التي بقدميه الباقية ثمة من عضة خنزير بري كان قد بطش به في حداثته فتكشف ما حرص هو عليه من كتمان أمره، بيد أنها لمست الندبة
3
الكبرى في ساق سيدها إذ هي تغسلها، وكانت الظنون قد ساورتها لما سمعت من صوته، واستذكرت من صورته، فلما تحسست الندبة زاغ بصرها، وحملقت فجأة في وجه مولاها، وسقطت يداها من غير وعي فانقلب الطس النحاسي محدثا صوتا مرنا مدويا، وسال الماء، وانحبس الدمع والمنطق في عيني العجوز ولسانها، ثم عالجت المفاجأة السارة المحزنة في صدرها، وصرخت تقول: «أنت! هو أنت! والله إنك لأوديسيوس، لقد عرفتك؛ هذه هي الندبة التي أحدثها الخنزير بساقك! لقد لمستها بيدي.» وأهرعت العجوز مذهولة نحو بنلوب لتزف إليها البشرى الهائلة، ولكن مينرفا كانت أسبق منها، فقد سحرت عيني بنلوب وسمعها، وعجل أوديسيوس إلى العجوز فأطبق بكفه على فمها، وقال: «يوريكليا، اصمتي، أنا هو، ولكن اصمتي؛ إن كلمة واحدة منك تقضي علي، لقد غذوتني ونشأتني في حضنك صغيرا، فهل تكونين نكبتي وشاحذة سكيني كبيرا؟ وبعد أن وصلت إليكم بعد يأس وقنوط من عودتي! اصمتي، أنا هو، ولكن اصمتي، إن كلمة واحدة منك تقضي علي هنا، وإلا، فتالله لن أرحمك - ولو أنك مرضعي - يوم يجد الجد .»
وارتعدت يوريكليا، وقالت تجيبه: «أي بني، لم تكلمني هكذا؟ أتشك في ثباتي وحفاظي؟ اطمئن يا بني فسأكون أصمت من الحجر الصلد، وأستر لسرك من الحديد.» فحدجها أوديسيوس وقال: «اصمتي إذن ولا تفسدي تدبيرنا، ولنتوكل جميعا على الله.» وذهبت فأحضرت ماء آخر، وأخذت في غسل رجليه العظيمتين، فلما فرغت ضمختهما بأفخر الطيوب، ووقفت تقلب عينيها في مولاها بينما كان هو يربط لفائف على ندوب ساقيه، وأخذ أوديسيوس كرسيه، وجلس قريبا من الموقد تلقاء بنلوب التي شرعت تحدثه وتقول: «أيها الضيف، ما أرى بأسا في أن أسألك إذا كنت أبقى هنا مع ولدي أو أختار أحدا من أولئك الأمراء فيكون لي بعلا، على أن رؤيا رأيتها لا تزال تضطرب في خلدي ولا أعرف كيف أعبرها؛ ذلك أنني كنت أقتني عشرين أوزة بيضاء، وكنت أحبها وأرعاها بنفسي، فرأيت فيما يرى النائم نسرا قشعما انقض عليها من الجو، فافترسها جميعا بينما كانت تأكل طعامها من المعلق الذي أعددته لها، ولما رأى النسر شدة حزني والتياعي على أوزي وقف على نتوء قريب، ثم أنشأ يكلمني ويقول: لا تحزني يا ابنة إيكاريوس على الأوز؛ فإنه يمثل عشاقك الفساق. أما أنا فأمثل زوجك النازح الذي سيعود من سفره فجأة فيبطش بالطغمة العاتية التي استباحت قصره، وولغت كالكلاب في عرضه. ألا يا ابنة إيكاريوس اسعدي. واستيقظت من نومي مسبوهة، ونظرت إلى أوزي لأطمئن عليه فوجدته سالما، فهل تستطيع أن تعبر عن تلك الرؤيا أيها العزيز؟»
فقال أوديسيوس: «أيتها السيدة الفاضلة، لقد فسر لك الرؤيا زوجك بلسانه، وهي لا تعني غير ما قال؛ إنه قادم وشيكا لا ريب، وإنه حامل إلى العشاق مناياهم.»
واثاقلت بنلوب ثم قالت: «أبدا، إن هي إلا أضغاث أحلام! إذا كان غد فإني ذاهبة إليهم فذاكرة لهم شرطا إن استطاعوه نالني أقواهم، فذهبت من فوري إلى بيته، وتركت كل هذا القصر الذي دخلته زوجة لخير زوج؛ ليكون حلما جميلا يزخرفه لي الماضي؛ وذلك أنني شارطة عليهم أن يحملوا قوس أوديسيوس بها غرضا يخترق السهم إليه اثني عشر «دنجلا»
4
فإن أصابه أحدهم فإني له.»
وهش أوديسيوس وأيد فكرتها: «لأن واحدا منهم لن يستطيع أن يوتر قوس أوديسيوس قبل أن يحضر أوديسيوس فيحطمهم جميعا.» وأشارت بنلوب إلى خدمها فأعددن لأوديسيوس متكأ وفراشا وثيرا، وذهبت بنلوب لتذرف في مخدعها دموعا من بلور.
نذير من السماء
طفق أوديسيوس يتقلب في فراشه على أحر من الجمر، وطفق رأسه يغلي كالقدر، بل يفور كالتنور بطائفة ثائرة صاخبة من الأفكار والوساوس، وهو لا يدري ماذا يصنع بهذه العصبة أولي القوة من أولئك العشاق المفاليك وهو وحده! ومهما يكن شجاعا صنديدا فقد يتكاثر الذباب على الأسد فيقتله.
هبطت من السماء مينرفا اللطيفة في صورة حسناء هيفاء ممشوقة القد بارعة القسمات، فجعلت تواسيه وتطمئنه وتبشره بأن الأولمب كله من ورائه، فلا يخاف ولا يأسى. «هذا حسن أن يكون الأولمب وتكوني أنت يا ربة الحكمة من ورائي، حتى أنتصر على أولئك الجبارين، فكيف لا أخشى أن يهب من ورائهم قبائلهم وذراريهم واللائذون بهم يثأرون لهم، فيحل بي بطش شديد؟» فتقول مينرفا: «الذي يحفظك منهم غدا يحفظك من غيرهم بعد غد، ولو جمعوا لك جحفلا أضعافا، فلا عليك أيها العزيز! خل عنك الوساوس إذن، ونم ملء جفنيك، واترك للسماء قيادك؛ فهي حسبك.» قالت هذا وزفت في الأثير اللانهائي إلى الأولمب، تاركة وراءها القصر العتيد بمن به من نوام وغير نوام.
مسكينة بنلوب! لقد كانت هي الأخرى شاردة اللب موزعة القلب، ما ترقأ لها عبرة، ولا تغفى لها عين، ولا قر لها قرار؛ لقد لبثت ليلها كله تتشوف إلى أوديسيوس، وتبكي عليه، وتستذكر أيامه، وترثي لهذا الفتى اليافع تليماك، ثم تدعو الموت كي يخمد أنفاسها، ويوفر عليها أحزانها، ولكن المنايا نوافر لا تستجيب لدعاء أحد، وهب أوديسيوس عند مطلع الفجر، فانطلق إلى المذبح الكبير حيث جثا متضرعا لهفان، يسبح باسم زيوس العلي ويصلي له، ويهتف به أن يجعل له علامة يطمئن قلبه بها، وليعلم أن كبير الآلهة لا يزال يحميه ويكلؤه، كما كلأه في شدائده في البر والبحر، وكان أوديسيوس يزكي صلاته بأطهر الدموع وأحرها، وكان سيد الأولمب يصغي لدعائه من علياء السماء، فما إن فرغ الملك المحزون حتى أرسل زيوس في الأرجاء زلزلة عظيمة مدوية رجعت أصداءها جنبات القصر الساكن، وأحياد الجبال الشامخة، وكانت خادمة بائسة تسهر طوال ليلها عاملة في طاحونها ناصبة، فلما وقرت في سمعها الزلزلة ذعرت وروعت، وأزاحت طرف الستر لتنظر إلى السماء فلم تجد فيها سحابة واحدة، بل وجدتها مشرقة بتباشير الصباح مضيئة بنور ربها، فجعلت تجأر إلى الله وتقول: «زلزال وليس في الأفق سحاب! أما والله إنه لنذير، أما والله إنها لغضبة السماء على هؤلاء المناكيد القساة، الذين يقسرونني على هذا العناء وذاك النصب طوال الليل كأنني من حديد! يا جوف العلي، إن يكن ما سمعت حقا، فإني أسألك بحق أسمائك أن يكون هذا الدقيق آخر ما يأكلون من زاد هذه الدنيا.»
وتبسم أوديسيوس من قولها، وتوسم فيه وفي تلبية السماء خيرا له، وشاع في أعطافه شعور قدسي بما دنت ساعة الانتقام، وكانت الوصيفات الأخريات يوقدن نار المدفأ في الردهة الكبرى، بينما برز تليماك من مخدعه مخترطا سيفه ورمحه يختال من خلفه، حتى إذا بلغ وصيد الباب الكبير هتف بالمرضع العجوز يوريكليا يقول: «كيف حال الغريب النازح يا أماه؟ بودي لو أنكن عنيتن به كما ينبغي؛ لأن والدتي على ما جبلت عليه من خير ولطف لا تهش لأمثاله من النازحين الغرباء.» وقالت يوريكليا تجيبه: «يا بني، لا تثريب على والدتك في هذا السبيل؛ فقد احتسى ضيفك من الخمر ملء بطنه، حتى لقد أبى أن يذوق طعاما بعد، وقد أبى إلا أن ينام على فراش خشن في الردهة الكبرى، ولا أدري لماذا تشبث بهذا.» وانطلق تليماك إلى المدينة يتبعه كلباه، ثم أقبل الراعي يومايوس يسوق بين يديه ثلاثة خنازير كناز من أسمن قطعانه، وما إن رأى أوديسيوس - الشحاذ الفقير في حسبانه - حتى قصد إليه، ولبث يسائله عما لقي من العشاق، فذكر له أوديسيوس ما كان من وقاحتهم، وبينا هما كذلك إذ أقبل الراعي السفيه سليط اللسان ميلانتيوس وهو يحدو قطعانه وماعزه، وطفق كدأبه يسب أوديسيوس، ويرسل عليه وعلى يومايوس ما نزح به فمه من شتائم؛ تحرشا بالرجل الشحاذ الفقير، ولكن أوديسيوس لم يحرك ساكنا. وأقبل راع آخر يقود بقرة صفراء لا ذلول ولا فارض، يدعى فليوتيوس، فوقف عند زميله يومايوس يسائله عن صاحبه الفقير الشيخ، وكأنما راعته ملامحه وحسن سمته: «إن له سيماء كسيماء الملوك برغم أسماله ومزقه.» ثم صافح أوديسيوس وقال له: «مرحبا أيها الأب! خفف الله عناءك ووضع عنك وزر ما تشكو، يا للسماء! إن مرآك يفجر الدموع في عيني؛ لأنك تذكرني بمولاي أوديسيوس الذي وكل إلي رعي قطعانه وأنا بعد صغير حدث، فكبرت كما كبرت وتضاعف عددها، ولكني وا أسفاه لا أفرح بسمنها ووفرة عددها، بل إن الحزن ليرزح على نفسي؛ لأنها تسمن فتكون غذاء لا مباركا ولا هنيئا لأولئك الظالمين، ولولا رجائي في السماء، وأملي الكبير في عودة مولاي أوديسيوس للذت من زمن بعيد بسيد آخر أخدمه؛ لأن الصبر على خبائث هؤلاء البغاة الطغاة لم يعد في طوق أحد، وا أسفاه عليك يا مولاي! أين أنت اليوم؟ ألا ليتك تعود فتبطش البطشة الكبرى بهؤلاء الجبارين!» واغتبط أوديسيوس بما سمع من كلام الراعي فقال له: «الله ما أشجعك أيها الصديق! ولكني أبشرك وأطمئنك، وأقسم لك أن مولاك عائد ما في هذا شك، وهو عائد عما قريب، وستشهد عيناك هاتان مصارع البغاة الطغاة.» وبينما هما يتحدثان إذا بالعشاق يقبلون أفواجا فيملئون البهو، ويجلسون إلى وليمتهم، فيشير تليماك إلى أبيه فيجلسه معهم ويعد له مائدة ومقعدا، ويحضر له من الشواء والخبز والشراب ما هو حسبه، ويقول له بمسمع من الجميع: «اجلس أيها السيد، ولا تخش رهقا؛ إني أمقت أن أسمع شغبا اليوم، فالبيت بيت أوديسيوس وإني لصاحبه.» وغيظ أنطونيوس فقال: «دعوه، فقد حق له أن يقول ما شاء، فتالله لولا أن حال جوف بيننا وبينه لأسكتنا إلى الأبد أنفاسه.» وقال سفيه آخر: «طب نفسا يا تليماك خوس، وقر عينا؛ فهاك منحة لضيفك مضغة مشتهاة.» ثم تناول عظمة من السلة القريبة فقذف بها أوديسيوس الذي انحرف عنها فلم تصبه، وعندئذ قال تليماك غاضبا: «تالله لو أصابته لأقصدتك برمحي هذا، فنفذ في صدرك وخرج من ظهرك، ولانقلب العرس الذي تحلم به إلى مناحة تؤز بيتك! إني لم أعد صبيا بعد فلا ترهبوني، سترون كيف أستطيع أن أضع لكل حدا بعد إذ طفح الكيل.» وهنا هب لئيم آخر فحبذ في سخرية مقالة تليماك؛ «لأن من حقه أن يحمي ضيفه، ولكن اسمع يا تليماك خوس، لم لا تمضي إلى أمك وقد يئست من عودة أبيك فتطلب إليها أن تحضر فتختار البعل الذي يروقها من بيننا؟» فتعمل تليماك الكلام وقال: «هي حرة مطلقة الحرية، إني لا أقف في طريقها ولا أقسرها على شيء.» وما كاد يفرغ حتى انفجر المناكيد يضحكون ويضجون.
ثم حدثت المعجزة!
لقد تضرجت وجوه القوم بحمرة الدم، ولقد تحركت قطع اللحم فوق الخوان فهي تقطر دما أحمر كأنه ينبثق من غلاصم قتلى، ثم امتلأت عيونهم بدموع غزار حرار، ثم طفقت دموعهم تعلو وتهبط، وتنشق عن تنهدات تصعد من سويداءات القلوب، ثم هذا تيوكلمنوس - الكاهن الآبق - يشهد المعجزة ويرى النذير، فينهض فيهم قائلا: «تعسا لكم أيها الأنجاس! لقد سيء بكم! ماذا تخبئ المقادير يا ترى؟ ما هذه الظلمات كأنها قطع الليل تغطش رءوسكم وتزلزل أقدامكم؟ وما هذه الدموع تتصبب من عيونكم فتشوي خدودكم؟ انظروا إن استطعتم ما هذه الدماء التي تضرج جدران القصر؟ ما هذه الأشباح التي تكظ البهو الخالد؟ إنها تتهاوى إلى عالم الفناء فويل لكم! أوه! وتلك آية أخرى؛ لقد كسفت الشمس فجأة، توارت بالحجاب، الضباب الضباب! ما أروع الضباب ينتشر فيملأ ما بين الأرض والسماء!»
لقد قتل العداء المعروف أرسيللوب أيدومين العظيم الذي لم يكن يباريه في سرعة عدوه أحد.
وبالرغم مما أنذر الكاهن فقد أغرق القوم في الضحك، ولم يزدادوا إلا خبالا، وقال قائلهم، وإنه ليوريماخوس: «ما أحسب إلا أن به جنة. خذوه فغلوه، ثم في السوق صلوه، عسى أن يجد ثمة ضياء يمشي فيه، إنه لا يجد ضياء هنا.»
وتلبث الكاهن فقال: «اربع عليك يا يوريماخوس فإن لي عينين وأذنين، وإني لأرى وأسمع، وإني نذير لكم من بلاء يحل بكم فلا يبقي ولا يذر، أيها الأفاكون المفسدون.» وانطلق الكاهن من القصر، ولمز أحد العشاق تليماك فقال: «ألا ما أتعسك في كل من ضيفت من ضيف يا فتى! أما كان بحسبك هذا الفقير الشحاذ القذر الذي تطعمه، ما عليه من سبيل، حتى تجلب هذا المتفيهق الذي يدعي النبوة ويرجم بالغيب؟»
وصمت تليماك فلم ينبس، وظل ينظر إلى أبيه، ويرقب ساعة الجد.
وما رميت إذ رميت ...
وكانت بنلوب جالسة في الحريم تسمع إلى ضجيج القوم وعجيجهم، فبدا لها أن تضع حدا لهذا العبث العقيم الذي استمر كل هذه السنين الطوال، فأمرت بعض وصيفاتها، فتبعتها إلى المخبأ الذي حفظت به أذخار الملك وعتاده، والسلاح الذي فرقت له قلوب وارتعدت له قلوب، وارتعدت له فرائص وزاغت من هوله أبصار.
لله ما كان أشجاها ذكريات حافلة بأروع ضروب المجد! ها هي ذي تلك الرماح التي طالما لاعب بها أوديسيوس الأسنة، والسيوف التي طالما انتزع بها الأرواح، والدروع السابغات التي كانت تدرأ عنه وتحميه، وتحفظه وتفتديه، ثم ها هي ذي تلك القوس العظيمة معلقة فوق الحائط تلمع، وترقص من حولها المنايا؛ القوس ذات الذكر التي أهداها إلى أوديسيوس أحد المعجبين به، ها هي ذي بعد هذه السنين الطوال لم يحملها أحد غير أوديسيوس؛ لأن أحدا غير أوديسيوس لا يستطيع أن يثني قوس أوديسيوس وفيها الوتر العرد، الذي لا يلين ولا يبين ولا يرد، إلا إذا كلمه أوديسيوس، وتناولت بنلوب كنانة السهام التي طالما قذفت المنون في قلوب الأعادي، وجلست تنثرها في حجرها وتنتقي منها، وتبكي أحر البكاء؛ لأن كل سهم منها كان يهيج في قلبها ذكريات زوجها البطل، وأشارت إلى وصيفاتها فحملن القوس العظيمة، وحملن «الدناجل»، ثم حملت هي السهام وسارت أمامهن وعلى وجهها نقابها السادر الحزين، حتى إذا كانت عند الأمراء هتفت فصمتوا ، ثم قالت لهم - وفي صوتها نبرة الحزن وموسيقى الآلام: «ها هي ذي قوس أوديسيوس، وتلك هي سهامه أيها السادة الأمراء، فمن استطاع أن يثنيها فيرسل عنها سهما يخترق الدناجل الاثني عشر فإني له وهو صاحبي، وعسى أن تبطل السماء حجتكم؛ فقد طالما ذهبتم بخير هذا القصر، وأرغتم من زاده بحجة أنكم عشاقي، كما استبحتم أن تسموا أنفسكم، فإليكم القوس فانظروا ماذا تصنعون!» وأشارت إلى الراعي يومايوس فتسلم القوس العظيمة، وحملها معها زميله راعي الضأن فيلوتيوس، ثم إن الراعيين لم يطيقا ذكريات سيدهما التي هاجتها فيهما القوس فذرفا دموعهما ثم استخرطا في البكاء، وانتهرهما أنطونيوس فقال: «تبا لكما أيها الفلاحان القذران! فيم هذا البكاء؟ ألتهيجا الشجو في فؤاد سيدتكما؟ انطلقا أيها المسخان فابكيا بعيدا؛ فتالله ما أحسب بكاءكما إلا يزيد في صلابة القوس، وتالله ما أحسب أحدا منا ببالغ منها مأربا، وي! من منا له بأس أوديسيوس؟ لقد كنت طفلا بل كنت وليدا حينما رأيت رجلا ذا صولة وفتوة يهديها إلى البطل، أجل رأيت هذا بعيني هاتين.» وكان في كل ما قال ساخرا؛ فقد هيأ له الغرور أنه بقليل من العناء سيثني القوس ويرسل السهم ويحظى ببنلوب.
ونهض تليماك فقال: إنه سيسهم في الرماية، فإذا استطاع فإنه سيبقي أمه لديه ولا يتركها تغادر منزل أبيه أبدا، ثم حفر حفرا على خط مستقيم، فجعل في كل منها دنجلا، وثبت حولها بالحجارة والتراب، ثم إنه تناول القوس العظيمة وألقمها السهم، وجمع قواه وطفق يشد، وفشل مثنى وثلاث وكانت القوس تشمخ عليه فلا تكاد تنثني، حتى إذا حاول الرابعة وأوشك أن يظفر أومأ إليه والده ففهم ما يريد: «أوه، إنه لا يقدر على هذه القوس إلا من هو أقوى مني وأكمل جسمانا وأتم بنية، فليتقدم لها من شاء منكم حتى نرى.»
وقال أنطونيوس: «إنهم جميعا مشتركون في التجربة حسب مقاعدهم حتى الكاهن.» فنهض هذا ويمم شطر الوصيد وحمل القوس الرهيبة، وحاول مائة مرة أن يثنيها فلم يستطع، فألقاها وقال: «أيها الرفاق، ما أحسب هذه القوس إلا موئسة للجميع، لقد أوهتني وذهبت بمنتي! ألا فلتحملوا بامرأة أخرى غير بنلوب، فوالله ثم والله إنها للرجل الذي كتبتها المقادير له، الذي يحضر إليها بما ليس في وسعكم من كنوز ومن أذخار.»
وغضب أنطونيوس وتجهم للكاهن ثم قال: «ألا ساء ما تقول أيها الرفيق! أحسبت أننا نيئس من هذه القوس لأنك لم تقدر عليها؟ ومتى كنت رجل جلاد وجهاد؟ ومتى ثنيت قوسا أو أرسلت سهما؟ اربع عليك؛ ففينا الكثيرون الذين يستطيعونها بالقليل الأقل من الجهد.» ثم أمر راعي الضأن ملانتيوس أن يحفر حفرة ويوقد فيها نارا يجعل بها وعاء من شحم؛ ليعالجوا به القوس عسى أن تلين قبل أن يدلوا دلوهم، فلما كان هذا أخذ الأبطال كل بدوره يحاول أن يثني القوس، ولكنها استعصت عليهم جميعا، ولم يبق إلا أنطونيوس ويوريماخوس، وهما أكثر هذا الجمع قوة وأوفرهم فتوة.
ثم نهض راعي الخنازير، يومايوس، ونهض في إثره صديقه الراعي الآخر، فحثا الخطى خارج البهو لما شاهدوا من يأس القوم، وقد تبعهما أوديسيوس، فلما كانوا بعيدا قال لهما: «أيها الحبيبان، وإذا أرسلت العناية أوديسيوس في هذه اللحظة ليبطش بهؤلاء المناكيد، أفتحاربونهم معه؟ أم تحاربونه معهم؟» فرمقه فيلوتيوس وقال: «يا للسماء! تالله لو صحت أحلامك لرأيت كيف أفتديه منهم نفسي ومهجتي، وتالله لرأيت كيف يهتز سلاحي فيحصد رءوسهم ويبعثر أشلاءهم.» وقال يومايوس مثل هذه المقالة، ولما وثق من إخلاصهما كشف لهما عن حقيقته، فقال: «إذن فاعلما أنني أنا أوديسيوس، وهذه هي الندوب التي أحدثها الخنزير في ساقي، وقد أبت إلى وطني فجأة فلقيتكما أول من لقيت، وأكرمت مثواي يا يومايوس وأنت لا تعرفني، ولم أشأ أن أبدو للقوم حتى أعرف عدوي من صديقي.» ولم يكد يفرغ من قوله حتى انحنى الرجلان يشهدان الندوب، فلما استيقناها ذهلا عن نفسيهما، وجثوا عند قدمي مولاهما، وطفقا يقبلانهما ويغسلانهما بدموعهما، ثم نهضا فألقيا سلاحهما عليه، بيد أنه أمرهما أن يصمتا حتى لا يفضح أمرهما أحد، وقال لهما: «لا بد أن نعود أدراجنا إلى البهو وسأنطلق أنا قبلكما، وسأطلب منك يا يومايوس أن تعطيني القوس لأقوم بنصيبي في التجربة، وسيرفض القوم أن أفعل، ولكنك يجب ألا تبالي، بل تناولني القوس، ثم تسرع بعد هذا إلى الحريم فتخبر النساء فيه ألا يذعرن إذا سمعن ضجة أو عويلا في البهو، أو شهدن حربا وقتالا. أما أنت يا فيلوتيوس فتسرع إلى باب البهو فتوصده وتحكم إغلاقه حتى لا يفلت منهم أحد أبدا.»
مينرفا ربة الحكمة التي اقتربت من البطل في تبسم وظرف، وأخذت تعبث بلحيته الكثة الشعثاء في دلال وسخرية.
ثم مضى فجلس مكانه لدى الباب، وتبعه الراعيان، وفي هذا الوقت كان يوريماخوس يحاول محاولته، وكان من وقت إلى آخر يذهب بالقوس العظيمة فيعرضها للنار عسى أن يسهل عليه ثنيها، لكن القوس أبت مع ذلك أن تلين، فلما بلغ من يوريماخوس الجهد ألقى بها يائسا وقال: «تبا لها من قوس عنيدة! والعار الأبدي لنا جميعا يا رفاق! ما لنا ولهذا؟ إن في إيثاكا حسانا، وإن فيهن أزواجا تربا أبكارا لمن يشاء، أوه يا للخزي! أواه لو لم تقل الأجيال المقبلة إننا دون أوديسيوس قوة وأقل منه فتوة حين عجزنا أن نثني قوسه، يا للخزي! يا للخزي!»
وروع أنطونيوس وذهل عن أمره، ولم يشأ أن يخزي نفسه بأن يحاول كما حاول غيره، فوقف فقال: «ما أحسب القوس عنيدة ولا مستعصية كما تزعمون، ولكن اليوم يوم عيد أبوللو رب القوس العظيم، فأنى لنا أن نحمل قوسا اليوم، دعوها واتركوا الأهداف مكانها، فلن يجسر أحد أن يدخل بهو أوديسيوس فيمضي بها، وفي بكرة الغد يحضر ميلانتيوس من قطعانه عنزات سمانا فنضحي بها لأبوللو، ثم نتم محاولتنا.»
ولكن أوديسيوس هب من مجلسه فقال: «يا سادة ما دمتم لن تحاولوا الرماية اليوم، فأرجو أن تدفعوا إلي هذه القوس لأجرب أنا أيضا، ولأرى هل لا تزال بقية من منة الشباب مخبوءة في أعصابي أو أنها ذهبت بها جميعا متاعب الحياة وكثرة التجوال في أطراف الدنيا.» وجن جنون القوم لما قال أوديسيوس هذا، وعجبوا كيف يجسر شحاذ فقير مثله أن يطلب أن يشارك السادات في مباراتهم، ومن يدري؟ لعلهم ذعروا أن ينجح هذا الفقير فيما فشلوا هم فيه! قال أنطونيوس: «اخزن عليك لسانك أيها السليط الوقح، ألا يكفيك أن يسمح لك بوجودك بين هؤلاء السادة الأخيار من أقيال البلاد حتى تطلب أن تباريهم؟» وكانت بنلوب تطلع فلم تحتمل أن يؤذى ضيف ولدها هكذا، فقالت: «أنطونيوس، أنى لك أن يؤذى تليماك في ضيفه؟ بل ينبغي أن يحاول الرجل كما حاولتم، فإما أنك تخشى أن يظفر فيما فشلتم فيه، فلا ضير! إنه لا جرم، ليس يحلم مثلكم بأن أكون زوجة له، فليفرخ روعك إذن ولتطمئنوا جميعا.» وقال يوريماخوس: «يا ابنة إيكاريوس، ما دار بخلدنا قط أن تكوني زوجة له إذا ظفر، ولكنا خشينا أن يفضحنا في الناس فيقول: «عجبا لسادات إيثاكا وما حولها، يطمعون أن يتزوج أحدهم امرأة البطل العظيم أوديسيوس، ثم لا يستطيعون رمي سهم عن قوسه، ويأتي رجل شحاذ فقير، فيثني القوس ويرمي السهم، وهم مع هذا لا يستحيون.» هذا ما خفنا أن يكون يا ابنة إيكاريوس، أو هذا ما خشينا أن يذهب بشرفنا.» فقالت بنلوب: «لتطمئن يا يوريماخوس؛ فليس في مثل هذا يضيع شرفكم، ولكن الرجل ذو جسم طويل ومظهر جبار، وقد ذكر آباءه فعلم كريم العنصر طيب الأرومة عريق المحتد، فلم لا يعطى القوس لنرى ما يكون؟ وإنه إذا ظفر فسأخلع عليه وأدفع له سلاحا وأرسله أنى شاء.» ثم نهض تليماك فقال: «أماه، إن القوس قوسي وإني لصاحبها، أعطيها لمن أشاء، وأصونها عمن أشاء، ولن ينازعني حقي أحد من العالمين، ولو شئت لأعطيتها الرجل فتكون حقا خالصا له، وما سمحت لأحد أن يمنعني. تفضلي أنت فغلقي عليك أبواب الحريم، وانظري في أعمال البيت، وصرفي شئون الخدم، وخذي في غزلك ونسجك، وسننظر - نحن - أمر القوس، وسأرى أنا لمن تكون النوبة؛ فإني هنا سيد لا مسود.» وشدهت بنلوب قليلا إلا أنها عرفت أن ابنها قال حقا، فانسحبت وغلقت عليها أبوابها، وانطرحت في فراشها حيث وافتها مينرفا فسكبت في عينيها غفوة هادئة لذيذة، فاستسلمت لسبات عميق.
وتقدم يومايوس فحمل القوس، وأوشك أن يذهب بها إلى أوديسيوس، لكن الأمراء زأروا غاضبين فخشي الراعي، وألقى القوس ثانية فصاح به تليماك: «هات القوس هنا، أيها الرعديد، لشد ما أود أن أخلص منك ومن هؤلاء السادة الذين ترهبهم!» وسخر الأمراء وضجوا ضاحكين، ولكن الراعي تقدم إلى مولاه، وانطلق بعد هذا إلى الداخل، فنادى المرضع يوريكليا وقال لها: «إن مولاي يأمرك أن تغلقي جميع الأبواب، ويقول لك: إنه إذا سمع النساء ضجة في البهو أو قتالا، فليجلسن حيث هن ولا ينزعجن، وليأخذن في عملهن، أتسمعين؟»
وغلقت المرضع الأبواب وبلغت رسالة مولاها، ثم هم فيلوتيوس فغلق باب البهو وأحكم أقفاله وربطه بسلب
1
طويل كان لسفينة وألقي لدى الباب، وعاد فجلس مكانه وعيناه لا تريمان عن مولاه، وتناول أوديسيوس القوس فجعل يفحصها ويبحث في أجزائها، مخافة أن يكون السوس قد نخرها إذا هو ناء عن بلاده، وزاغت أبصار القوم، وجعلوا يبرقون في الشحاذ الفقير ويقولون: «الهلوف
2
الزنيم! إن له لعينا فاحصة كأن لها عهدا بالرماية، وإنه ليبحث القوس كأنه يقتني أمثالها!» ثم قبض أوديسيوس على القوس، وشد طرفها في سهولة وفي يسر، كما يشد الموسيقي وترا من أوتار قيثارة، ونظر إلى الأهداف المتراصة أمامه، وأرسل سهما اخترقها جميعا، وسمع له صوت كسقسقة العصافير.
يا عجبا! لقد أراش أوديسيوس السهم، وأرسل زيوس العلي زلزلة ورعدا مدويا وثب له فؤاد البطل، وطارت منه ألوان القوم، وانقذف الرعب في قلوبهم.
ثم أخذ أوديسيوس سهما آخر فثبته، ثم أراشه فاخترق الأهداف مرة أخرى.
قال أوديسيوس: «تليماك أيها العزيز، إن ضيفك لم يخيب رجاءك ولا أضاع عشمك،
3
ولقد أصبت الأهداف كلها على حداثة عهدي بالرماية، والآن هلم؛ إن النهار يوشك أن يولج، وإنه لينبغي أن نعد وليمة المساء للسادة الأمراء، ولن يعدموا بعدها ما دأبوا عليه من رقص وعزف، وقصف وغناء.»
وهم تليماك فألقى حمائل سيفه على كاهله، وتناول رمحه العظيم ... وسنرى!
الانتقام الهائل
وألقى أوديسيوس أسماله، واطرح مزقه ، وبرز للملأ أوديسيوس القوي الحديدي الجبار، وتناول كنانة الأسهم التي تهمهم فيها المنايا وتغمغم، والقوس العتيدة العنيدة، ووقف عند الوصيد حتى لا يفر أحد من أعدائه فينجو من الموت الذي هو ملاقيه، ثم نثر الكنانة عند قدميه وهتف بالعشاق يقول: «وهكذا يا سادة تتم فصول المأساة، وهكذا أيضا تنتهي المباراة التي لم يفز فيها واحد منكم، والآن انظروا، إني لن أسدد سهامي إلى هذه الأهداف بعد، بل إني مسددها إلى غرض آخر!» وشد الوتر العرد، وأرسل إلى حلقوم أنطونيوس سهما مراشا عجل به إلى هيدز، وكان العلج يوشك أن يحتسي كأسا ذهبية من أعتق الخمر، فسقطت الكأس من يده الذاهلة، وسقط هو يتشحط في دمه ويلفظ أنفاسه، وذعر الآخرون حينما رأوا أخاهم يسقط إلى الأرض رمة لا نفس فيها ولا حراك، فهاجوا وماجوا، وهبوا يبحثون عن أسلحتهم، ولكن هيهات! لقد أخفاها أوديسيوس وولده ليلة أمس، فأنى لهم بها! وصاحوا بأوديسيوس: «أيها المجنون، لقد أخطأت المرمى! ماذا أصابك؟ إنك تسدد إلينا، لقد قتلت أنبل شباب إيثاكا، ثكلتك أمك! أبدا لن تحمل بعد هذه قوسا أبدا.»
وانكشف الستر وعاد إلى الشحاذ الفقير عنفوانه، وانقذفت من فمه الحمم، فقال: «أيها الكلاب، قال
1
ما زعمتم أن أوديسيوس لن يثوب! ها أنا ذا أيها العبيد، لقد استبحتم حمى بيتي، وأذللتم قدسه الحرام، وأوضعتم في الفتنة فاعتديتم على نسائي، ولم تبالوا أن تتعشقوا زوجي، بينا رجلها حي يسعى على قدميه، غير عابئين بمن يطلع عليكم في السماء وهو بكم محيط، ولا مبالين بما تضج به الرفات الكريمة في ثرى هذه الأرض من فعالكم، فويل لكم! لقد حان حينكم.»
وارتعدت فرائص الكلاب، كما دعاهم أوديسيوس، وطارت حمرة الخمر من خدودهم، ووقف يوريماخوس متخاذلا وهو يقول: «إن كنت حقا ملكنا أوديسيوس فكلنا نعتذر عما ارتكبناه من الإثم في بيتك، ولقد تكلمت فقلت الحق كل الحق، ولكنك قد أرديت أنطونيوس الذي دعانا إلى كل ذلك، والذي كان يطمح أن يتربع على عرشك ويملك كما ملكت، فاعف عنا واصفح عن خطايانا ، فنحن بالرغم من كل ما حصل شعبك الأمين، ورعاياك الأوفياء؛ على أننا سنعوضك عما استبحنا؛ مالا بمال، وعتادا بعتاد.» فقال أوديسيوس: «يوريماخوس أيها النذل، إنكم مهما ملأتم يدي بالذهب فلن تشفوا حردي ولن تذهبوا غلتي حتى أنتقم منكم جميعا؛ لما صدر عنكم من إفك، وما ارتكبتم من أزوار، فاختاروا لكم؛ الحرب التي جدت بكم فجدوا بها، والقتال الذي لا محيص منه ولا محيد عنه، أو فالفرار الفرار، ولن تجدوا إلى الفرار سبيلا.» وزلزل الجميع زلزالا شديدا، وجفت ألسنتهم في حلوقهم فما عرفوا ماذا يحيرون! ثم هتف فيهم يوريماخوس فجأة يقول: «أيها الإخوان، لقد تحجر قلب هذا الرجل فلن يعرف سبيلا إلى الرحمة، وها قد قبض على القوس بكلتا يديه، ووقف عند الوصيد يذودنا عن الباب، ولم يفلت أحد منا من سهامه قط، بل إنه سيقنصنا واحدا بعد واحد، ولا أدري إلا أن تفزعوا إلى سيوفكم فتخترطوها، وإلى المناضد فتدرعوا بها، ثم نهجم عليه كرجل واحد عسى أن نزحزحه عن الباب فننجوا بأنفسنا، ونلوذ بالفرار، فإذا بلغنا المدينة فإننا سالمون.» ثم فرغ من صيحته واستل سيفه، وهجم على أوديسيوس مرعدا مزمجرا، ولكن أوديسيوس أصماه بسهم في صدره، فصرعه، وخر اللئيم يعالج سكرة الموت، وانتشرت ضبابة الفناء الأبدي على وجهه المقبوح فأطبقت عينيه، وهنا هاج الأمير أمفينوم وماج، وهجم على أوديسيوس بسيفه الذي تقطر من حده المنايا، وكاد اللئيم ينال من خصمه منالا، لولا أن قفز تليماك برمحه العظيم فأغمده في صدره ورده عن أبيه، وعاد مكانه دون أن ينتزع الرمح مخافة أن يتكاثر عليه الأعداء، وقال تليماك لأبيه: «هلم يا والدي، وهات ما استطعت، فشد ما أخشى أن تفرغ هذه السهام فلا أستطيع أن أدفعهم عن الباب!» وانطلق تليماك إلى غرفة السلاح، فأحضر ما مست إليه الحاجة من رماح وسيوف وخوذات، وادرع بما هو حسبه منها، ثم ألبس الراعيين الأمينين درعين سابغتين،
2
وزودهما بسيفين بتارين، ووقف الثلاثة إلى جنب البطل العظيم يمنعون تكاثر العشاق عليه، بينا هو يرسل سهامه فتخترقهم وتستأصل شأفتهم واحدا فواحدا، حتى إذا فرغت سهامه وقف الأبطال الثلاثة يذودون من دون الباب حتى لبس أوديسيوس دروعه، ووضع على رأسه خوذته، وأخذ رمحين عظيمين في كلتا يديه، وعاد إلى كفاحه، وكانت في الجانب الآخر من البهو بوابة صغيرة لم يفطن العشاق إليها، فأرسل أوديسيوس راعي الخنازير ليحرسها وليحول بين العشاق وبينها، وضاقت الدنيا حتى غدت ككفة الحابل في أعين القوم، وتجهمت لهم حتى غدت كالليل إليها ألقى غواشيه فوق رءوسهم، وناء بكلكله على صدورهم، فقال قائلهم: «ألا يستطيع أحد أن يمرق من البوابة فيصيح بأهلنا ويستنجدهم لنا؟»
فانبرى له ميلانتيوس
3
يجيبه: «هذا عبث لن يكون وراءه طائل؛ فإن رجلا واحدا يستطيع أن يقفنا جميعا لو فعلنا، دون أن نبلغ الباب، بل لدي فكرة؛ إني أعرف أين خبأ أوديسيوس وابنه أسلحتنا، وسأنطلق فأحضر لكم منها ما يقيكم منهما.» ثم تعلق بحبال مدلاة من كوة في السقف وتسلق عليها حتى نفذ ثمة، وانطلق إلى غرفة السلاح، فأحضر اثنتي عشرة درعا، ورماحا كثيرة وخوذات، وظل يلقي بها من الكوة، فيتلقاها رفاقه ويدرعون بها ... ولو كان مع أوديسيوس سهم واحد يرسله إلى هذا العلج قبل أن يتعلق بالحبال لما استطاع أن يحضر هذه العدد. قال أوديسيوس: «أي بني، لقد خاننا بعضهم ودل القوم على غرفة السلاح، فانظر كيف يتضاعف عناؤنا ويزيد بلاؤنا!» فقال تليماك: «كلا يا أبتاه، إنه لم يخنا أحد، والذنب ذنبي؛ فقد تركت باب الغرفة دون أن أوصده! يومايوس، انطلق فغلق باب غرفة السلاح وأحضر مفتاحها، وانظر هل خاننا أحد؟ أو أن هذا من فعل ميلانتيوس كما أحدس.» وانطلق يومايوس فرأى ميلانتيوس ذاهبا إلى غرفة السلاح ليحضر عددا أخرى ورماحا، فقال الراعي: «ها هو ميلانتيوس الوغد منطلق إلى الغرفة كما حدس مولاي.» وهتف بتليماك: «ها هو ذا، هل أحضره حيا ليلقى جزاءه، أو أقتله حيث هو؟» فقال أوديسيوس: «بل اذهب أنت وأخوك الراعي فشدا وثاقه، واحبساه في الغرفة حتى يلقى جزاءه، وسأبقى أنا وتليماك لنذود دون الباب.» انطلق الراعيان فوقف كل منهما خلف مصراع من باب الغرفة حتى إذا برز ميلانتيوس انقضا عليه وكبلاه ودفعاه داخل الغرفة، ثم ربطاه في عمود هناك، وقال له يومايوس: «اهنأ يا صاح، وارقد هنا إلى الصباح، وأكبر ظني أن الشمس لا تشرق عليك إلا وروحك في عالم الظلال والأشباح، فلا تراك قطعانك بعد اليوم!» وأغلقا الباب وعادا أدراجهما إلى مولاهما وولده، ووقف الأربعة يناضلون جحفلا بأكمله. ثم بدت مينرفا الحكيمة في زي منطور وطيلسانه، فعرفها أوديسيوس وفرح بها قلبه، وهتف بها قائلا: «منطور أيها العزيز، معونتك وتأييدك؛ فنحن صديقان منذ القدم!» وهتف العشاق ينادون: «احذر يا منطور وإلا فتلقى حتفك بعد أن نظفر بهذا الوغد.» ولحظت مينرفا ذعر أوديسيوس مما رأى من تسلح القوم فقالت تؤنبه وتحثه: «ما هذا التقاعس عن الحلبة يا أوديسيوس؟ هل فقدت شجاعتك وعنفوانك؟ إنك ما أحجمت مثل ما تحجم اليوم طوال عشر سنوات حاربتها في طروادة من أجل هيلين، فهل يشق عليك أن تلقى هذه الحفنة من عشاق بنلوب في بيتك بل في عقر دارك؟ هلم! قف إلى جانبي وانظر إذا كان منطور قد عق الصداقة القديمة.»
وحاربت معه ساعة، ولكنها تركته ليعمل للنصر بمفرده، وانسحرت فكانت عصفورا من عصافير الجنة جعل يرف ويرف في سماء البهو، حتى وقف على إحدى خشباته، وفرح العشاق لما رأوا من مفارقة منطور، وعادت إليهم بعض شجاعتهم لما رأوا المحاربين الأربعة يقفون وحدهم في مدخل الباب الكبير.
وقال أحدهم يخاطب الباقين: «هلموا فليقذف ستة رماحهم قذفة واحدة إلى صدر أوديسيوس.» ولكن هيهات! إن واحدا منهم لم يصب غرضا من الصدر العظيم، وهنا هتف أوديسيوس برفاقه، فانقض الأربعة على أربعة من المهاجمين، فجعلوا في صدورهم رماحهم، ورد الله كيدهم في نحورهم، فقتل كل مهاجميه، وروع الآخرون فارتدوا على أعقابهم، وانزووا في الركن السحيق من البهو، وبهذا استطاع أوديسيوس ورفاقه انتزاع الرماح من صدور المقتولين، ولم يهتم الراعيان بما أصابهما من جراح بالغة، بل وقفا يناضلان ويفديان سيديهما، ولما رأت مينرفا ما يلقى المحاربون الأربعة من تكاثر الأعداء رفت في الهواء، ثم كشفت عن درعها الهائلة التي تجلب الموت إلى كل من يراها، ووضعت خوذتها الرائعة ثم انبرت للقوم، وهجم المحاربون الأربعة يطاردون الأعداء، والأعداء يجرون من ها هنا وها هنا مذعورين ذاهلين مما رأوا من درع مينرفا، وجعل أوديسيوس ورفاقه يصطلمونهم أربعة بعد أربعة، حتى لم يبق إلا المنشد المسكين فيميوس، الذي قسره العشاق على الإنشاد لهم، وتطريبهم تطريبا لم يؤثره ولم يؤجر عليه! لقد فزع المنشد المسكين من هول المجزرة، وانطرح تحت قدمي أوديسيوس يقول: «مولاي أوديسيوس العظيم، ارحمني واعفني؛ فقد قهرني القوم على ما رأيت، اصفح عن المنشد البائس الذي يدخل السرور على أفئدة الآلهة، ويذهب الحزن عن قلوب الناس.» وهتف تليماك بأبيه يقول: «اصفح عنه يا أبي؛ فإنه لا تثريب عليه ولا لوم، وهلم ننقذ المنادي إن كان لا يزال به رمق، فلقد كان يعنى بي إذ أنا صبي في المهد.» وكان المنادي قد فزع مما رأى، وخبأ نفسه تحت مقعد كبير، ثم طرح عليه جلد ثور، فلما سمع تليماك يقول لأبيه هذا القول برز من مكمنه، وتعلق برجلي تليماك، وأنشأ يتوسل ويتضرع، ويبكي ويتصدع، فقال له أوديسيوس: «لا تجزع أيها الرجل، فلقد أنقذك ولدي كما أنقذ المنشد! اذهبا فانتظرا في الرحبة؛ فعندي ما يشغلني عنكما الآن.» وانطلق الرجلان وهما لا يصدقان أنهما نجوا، وجلسا عند المذبح ينتظران قتلتهما في كل لحظة. ثم مضى أوديسيوس يبحث في البهو وتحت المناضد عمن يكون به رمق من الحياة فيجهز عليه، بيد أنهم خروا جميعا مضرجين بدمائهم في التراب، وقد تكبكبوا فوق بعضهم كالسمك فوق الساحل يقذف به الصياد في يوم صائف. ثم قال لابنه أن يدعو المرضع العجوز يوريكليا، فأقبلت ورأت أوديسيوس واقفا كالمارد بين القتلى، وقد لطخت الدماء يديه ورجليه وصدره، فكادت المرأة تجن من الفرح لهذا النصر المبين الحاسم، وأوشكت أن تصيح وتزغرد، لولا أن ردعها أوديسيوس عن ذلك: «أيتها المرضع العجوز، اكتمي فرحتك، فإنه ينبغي ألا تكون شماتة فوق جثث القتلى وألا يكون صياح؛ لأنها إرادة السماء قد نفذت فيهم بما أسرفوا من قبل وكانوا من المفسدين!» ثم أمر بالجثث أن تحمل خارج القصر وبالدماء أن تغسل، فتم ذلك في أقصر وقت، والتفت إلى المرضع يحدثها ويقول: «أرأيت؟ اذهبي الآن فأحضري نارا وكبريتا كيما نطهر المكان، ثم أخبري بنلوب أن تلقاني ها هنا.»
فقالت العجوز: «سمعا وطاعة لك يا بني، سأفعل ما أمرت، ولكني سأحضر لك ثوبا تلبسه قبل كل شيء؛ فإنه لا ينبغي أن تظل واقفا، وهكذا في أسمالك هذه.» بيد أن أوديسيوس أمرها أن تفعل ما أخبرها من فورها، فانطلقت العجوز وعادت بالنار والكبريت، وأخذ أوديسيوس في تطهير البهو الكبير.
بنلوب، وأخيرا ... بنلوب!
وهرولت المرضع العجوز فصعدت إلى الطابق العلوي، حيث كانت سيدتها المحزونة تتقلب على فراش الهموم والأحزان، فهتفت بها وهي تضحك، وتكاد تجن من الفرح: «يا بنيتي، فاشهدي بعينيك كيف حققت الآلهة أحلامك واستجابت لصلواتك! هلمي، لقد عاد أوديسيوس وبطش البطشة الكبرى بأعدائه، فقتلهم عن بكرة أبيهم بعد ما كان من خباثاتهم، وبعد ما استباحوا من حرماته، وما أراغوا من خيره وهزئوا بولده، انهضي.»
ولم تصدقها بنلوب، وقالت مستهزئة بها: «لشد ما عدوت طورك وغبت عن صوابك أيتها المرضع العزيزة حين توقظيني بمثل هذا العبث وذاك الحديث الملفق! لقد حرمتني من غفوة يا لها من غفوة! لم تكتحل عيناي بأهدأ منها ولا أروح منذ أن فارقنا أوديسيوس إلى الأرض المشئومة! تالله لو حصل مثل هذا ممن هن دونك سنا ومنزلة من الخدم لكان لي معهن شأن آخر، ولكن لا عليك يا يوريكليا!» فتبسمت المرضع ثم قالت: «وي! تالله إنه للحق! ولا مرية فيما أقول؛ إنه هو الشحاذ الفقير الذي كلمك، والذي عبث به القوم، وقد كان يعرف تليماك كل ذلك، ولكنه جعل سرا بينه وبين أبيه حتى يثأر من الأمراء ويستأصل شأفتهم.» فوثبت بنلوب من سريرها مسبوهة ذاهلة، وطوقت بذراعيها عنق يوريكليا، وأنشأت تقول: «خبريني بالله عليك أيتها العزيزة، خبريني بالله عليك ... إذا كان ما تقولين حقا فأنى لأوديسيوس أن يلقى وحده كل هؤلاء؟ وأنى لواحد أن يهزم فيلقا من مئة أو يزيدون؟» فقالت المرضع: «لعمرك ما رأيت كيف حدث هذا الأمر، ولكني سمعت بأذني هاتين أنين القتلى؛ لقد كنا جميعا جالسات داخل القصر، وفرائصنا ترتعد من الفرق، وكانت النوافذ كلها مغلقة بأمر سيدي، حتى أقبل تليماك فدعانا إلى البهو، حيث رأينا أوديسيوس واقفا بين الرمم، وهو الآن يطهر البهو من أدرانهم بالنار والكبريت، والمدفأ يتأجج بلظى كالجحيم، ولقد أرسلني لأدعوك إليه حتى يفرح بك ويطمئن قلبك بعد طول العذاب.» وكانت العجوز تتكلم وهي ما تنقطع عن الضحك والمرح، فقالت لها بنلوب: «أيتها المرضع العزيزة، لا يقتلك الفرح والضحك! تالله إنه لن يفرح بأوديسيوس اليوم أحد كما أفرح به أنا وولدي تليماك! هذا إن كان ما قلت حقا! على أنني لا أصدق ... لا جرم إنه إله كريم أقبل لينتقم لنا من هؤلاء العرابيد جزاء ما أنزلوا بنا من هوان، فأبادهم جميعا. أما أوديسيوس فلا، لقد قضى أوديسيوس، وقضى أوديسيوس إلى الأبد.» فقالت يوريكليا: «ألا تزالين غير مصدقة يا طفلتي العزيزة؟ ألا فاسمعي، هاك دليلا آخر، بينما كنت أغسل قدمي الرجل الفقير اللاجئ تحسست يداي ندبة في ساقه ذكرتني بالندوب التي أحدثها الخنزير البري في ساق سيدي أوديسيوس، فلما كشفت عنها تبينتها وتأكدت أنه هو، وأردت أن أصيح بك لأخبرك، وأزف إليك البشرى، لكنه أطبق يده على فمي فلم أستطع أن أنبس ... تعالي هلمي معي الآن وانظري بعينيك لتري إن كنت كاذبة، تعالي جعلت فداك!» وانطلقتا معا وأطافت الذكريات برأس بنلوب، ولم تدر ماذا عساها فاعلة إذا كان ما أنبأت به المرضع حقا، فلما دخلتا البهو جلست بنلوب على مقعد كبير قريب من المدفأة، ثم طفقت تحدق بصرها في أوديسيوس، وكان جالسا وظهره إلى عمود من عماد البهو، وعيناه تبحثان في الأرض، وكأنه كان ينتظر أن تتكلم بنلوب قبل أن يفوه هو بكلمة ... بيد أنها لم تنبس، بل كانت ذاهلة شاردة، تنظر إليه مرة فتوشك أن تعرف فيه بعلها الحبيب، ولكنها كانت إذا نظرت إلى مزقه وخرقه والأسمال التي لا تستر بعض جسمه الهائل عجبت، وتولاها الدهش، وانعقد لسانها فما يكاد يبين.
وقال تليماك آخر الأمر: «أماه، لشد ما تحجر قلبك وغلظت كبدك! لم لا تنهضين فتعانقي أبي؟ أية زوجة ينحبس لسانها كما انحبس لسانك؟ فما تكلم زوجها الذي آب من سفر سنين كلها أشجان وكلها أحزان، وكلها آلام متصلة ومتاعب تنوء بحملها الجبال.» فقالت أمه تجيبه: «تالله يا بني لقد ذهلت عن نفسي وإني لفي تيه فما أكاد أبين، ولكن إذا كان حقا أوديسيوس، إن لنا علامات هي سر ذات بيننا، ولا يعرفها أحد سوانا.» فتبسم أوديسيوس وقال: «لا عليك يا بني! دعها فستستبين حقيقتي حين أخلع هذه الأسمال.» ثم انتحى وولده ناحية، وأسر إليه أنهما ينبغي أن يتهيآ لما عسى أن يكون من تألب الإيثاكيين عليهما وشغبهم؛ لما كان من قتل ساداتهم، وما يتوقع من قيامهم بثورة عامة لا تبقي ولا تذر للانتقام من القاتل. وذكر أوديسيوس أنهما يجب أن يقيما في البهو فيأخذا مثل ما كان العشاق يأخذون فيه من قصف وعبث ومجانة.
بروتسيلوس البطل.
وحسب المارة أن بنلوب قد اختارت بعلها من بين الأمراء؛ «فهي لم تعد تطيق الوحدة، ولا تحتمل الترمل، ولا تقوى على حياة الآمال الكواذب التي تجرعت غصصها مدى عشرين عاما.» أما أوديسيوس فقد مضى فاستحم وتضمخ بأحسن الطيوب، وأضفى عليه من كل سابري وفوف موشى، ثم تنزلت مينرفا فنفخت بيديها الكريمتين على وجهه المجعد ذي الأسارير فأشرق وتألق، وهدلت شعره على كتفيه غدائر فاحمة كقطع من الليل البهيم. ثم إنه انطلق إلى البهو فجلس تلقاء بنلوب، وأنشأ يقول: أيتها الزوجة المعجبة، والله لقد ركبت الآلهة بين جنبيك قلبا ليس كقلوب النساء، وأي امرأة تنبذ من زوجها مكانا قصيا كما تنتبذين يا بنلوب، بعد إذ عاد إليك من تجوال عشرين سنة كلها قلاقل وأهوال؟ يوريكليا، هلمي فمهدي لي فراشا بيديك الضعيفتين، ما دام الحديد البارد الذي خلق منه قلبها لا يلين .» ومع كل هذا فقد كان الريب يرين على فؤاد بنلوب، فقالت تختبره: «مولاي، إني وأيم الحق لا معجبة ولا بي خيلاء، ولكني أذكر أحسن الذكر كيف كنت يوم همت بك سفينتك الجبارة إلى طروادة ... يوريكليا، اذهبي أيتها المرضع، فأحضري سرير زواجنا من المخدع، واجعلي عليه الوسائد والحسبانات ليستريح عليه مولاك كما أمرك.» وعجب أوديسيوس لما تكلمت به زوجته. فقال: «إنك يا زوجتي تمزقين نياط قلبي بما تقولين، أنى لأحد ما من العالمين أن يحرك سريري، بله أن يحمله؟ إن لم تكوني قد أطلعته على سره؟ لقد صنعت مخدعي واتخذت سريري في جذع الزيتونة الهائلة، فهل لا يزال سرير في موضعه ثمت؟ أو أن أحدا قطع الجذع العتيد واحتمل السرير إلى مكان بعيد؟» وهنا مادت الدنيا برأس بنلوب، وتأكدت أن الرجل زوجها من غير شك، فخفق قلبها خفقانا شديدا، وانطلقت تعدو نحوه، ثم طوقت عنقه بذراعيها، وراحت تبكي وتنتحب، وتقول له: «لا تنقم علي إذن يا أوديسيوس، ولا يحزنك أنني لم أعرفك منذ أول نظرة! أواه أيها العزيز! لقد قضت الآلهة أن نفترق وأن تتعذب كل هذه السنين، وما كان من شكي فهو أثر من احتراسي خشية أن يخدعني أحد فيدعي أنه أنت، ويزخرف علي ويبهرج حتى ينالني بالخداع والحب، ولكن ما دمت قد ذكرت لي سر المخدع والسرير والزيتونة، وهو ما لا يعلمه أحد غيري وغيرك وغير يوريكليا، فالآن فاهنأ، ولأهنأ أنا، وليطمئن قلبي؛ قلبي الوفي الذي أرده إليك كآخر عهدك به، لا ينطوي إلا على حبك، ولا يضمر غير الوفاء لك.» وعانقها أوديسيوس، وضم إلى صدره صدرها، والتف حول عنقه ذراعاها البضتان البيضاوان، وجمد عاجهما الناعم الأملس حول كاهله، ووقف أوديسيوس على شاطئ الذكرى كما يقف السباح المتعب المنهوك على شاطئ اليم وقد بلغه بعد جهد؛ فأعضاؤه متراخية، وأعصابه موهونة، وقلبه خفق، وروحه نشوى، وذراعاه مع ذاك معلقتان بالشاطئ وقد سمرتا فيه ... وقال بعد لأي: «والله يا زوجتي العزيزة إنا ما بلغنا بعد نهاية أشجاننا وأحزاننا، وإن أمامنا لأمدا بعيدا وهموما أخر تنبأ لي عنها الكاهن تيريزياس حينما رحلت إليه في هيدز، وإني لا أدري ماذا يكون من أمري، ولكن لا ... لننطلق الآن إلى مخدعنا العزيز الطاهر؛ فإن بي حاجة إلى الراحة والاستجمام، وإن بي لشوقا مبرحا ونزوعا شديدا إليك.» فقالت بنلوب: «المخدع الطاهر النقي معد في أيما لحظة أردت يا أوديسيوس العزيز، بيد أنك أثرت شجني وفزعت شجوي بما ذكرت عما يتربص بنا من هم جديد، فهلا ذكرت إلي ماذا زعم لك تيريزياس في العالم الآخر؟ إني مشوقة إلى ما قال، اذكره بحق الآلهة عليك.» فأجاب أوديسيوس: «عمرك الله، لم تسألين عن أمر إن يبد لك يسؤك؟ ولكن لا ضير سأذكر لك ما نبأني به تيريزياس.» ثم وجم قليلا وقال: «لقد أشار أن أحمل مجدافا عظيما على كاهلي، ثم أنطلق مهاجرا إلى ممالك نائية وأصقاع سحيقة، حتى أكون في قوم لم يسمعوا عن البحر قط، ولم يروا في حياتهم مجدافا ولا سارية، فإذا لقيت أول من يسألني عما أحمل، وهل هو مذراة مما ينسف به القمح، غرست المجداف في الأرض، ثم تقربت إلى إله البحار نبتيون الجبار بقرابين تمحو ما بيني وبينه، وتعقد بيننا أواصر السلام والوئام، كما تقربني إلى أعوانه الآخرين من آلهة الماء، فإذا فعلت استرحت من لأواء الحياة، ونأت عني أرزاؤها، وعدت إلى شعبي وإليك، وإلى ولدي وقصري، فعشت بينكم بسلام حتى يأتيني الموت، هادم اللذات، من أعماق البحر، ولكنه سيكون موتا طيبا لا مخوفا ولا مرهوبا، بل سكرة بين أمنة ونعاس، بعد إذ الجسم موهون، والقلب فارغ، والرأس مشتعل، والروح سالية قالية.»
وهكذا ظل الحبيبان المشوقان يتحدثان قطعا من الليل، بينما كانت المرضع وخادمة أخرى تمهدان الفراش على ضوء المشاعل، ثم أقبلت الوصيفة فذهبت تمشي بين أيديهما إلى المخدع، وفي أيديهما المشعل المقدس يفيض نورا ولألاء كما أفاض منذ عشرين سنة.
ولفهما ظلام الليل وستر الهوى. وسكن البهو بعدما ضج بالعزف والقصف، وهدأ القصر في سدول السعادة.
أوديسيوس يصل إلى إيثاكا
وهتف هرمز بأرواح القتلى فهمهمت، ثم أشار إليها بعصاه، فسحر الكرى مقلها، ثم أشار كرة أخرى فأهرعت في أثره كما تهرع الخفافيش في أثر دليلها.
وانطلق حبيب الآلهة فعبر عباب البحر المحيط، وعبرت الأرواح الهائمة في أثره، وجاز صخرة لوكيديا وبوابة الشمس الخالدة، ثم انطلق والأرواح الهائمة من خلفه في تيه الأحلام، وعبر بها في مروج أسفوديل ذات الأشباح، حيث لقي القتلى أرواح ذويهم وأبطالهم من رجال هيلاس الذين سقطوا تحت أسوار طروادة، وهناك وقفوا طويلا يتناجون، وكلم ابن بليوس قائد الهيلانيين أجاممنون، ورثا له، فكلمه أجاممنون وتحسر عليه، ورأوا روح بتروكلوس حبيب أخيل زعيم الميرميدون، وروح أخيل نفسه، وروح أجاكس العظيم ... وعرف أجاممنون روح أمفيديون العاشق المحروب الذي قتله أوديسيوس فيمن قتل من عشاق بنلوب، فكلمه، وكلمه أمفيديون فقص عليه ما كان من مأساتهم الغرامية وما كان من أوبة أوديسيوس المفاجئة واختلاطه بهم في صورة فقير شحاذ ... إلى آخر القصة الدامية المشجية التي انتهت بقتلهم جميعا، وما كاد يفرغ حتى بدا العجب في محيا القائد أجاممنون، وطفق يثني على وفاء بنلوب وشجاعة صديقه أوديسيوس، ثم راح ينعى على زوجته الآثمة كليتمنسترا ما كان من غدرها، وتدبير غيلته مع حبيبها الفاسق إيجستوس ...
وهكذا انتهت الأشباح الآثمة إلى ظلمات هيدز؛ إلى مملكة بلوتو، حيث تلقى جزاءها العادل من مخالب سيربيروس الحادة وأظفاره القواطع.
هذا ما كان من أمر تلك الفئة الباغية.
أما ما كان من أمر أوديسيوس فقد استيقظ في بكرة اليوم التالي، واستيقظت معه بنلوب السعيدة، وهب من فراشه فارتدى ملابسه، ووضع عليه سلاحه، ثم أمر زوجه ألا تخاطب من الناس إنسيا حتى يعود، وأن تغلق عليها أبواب القصر؛ لأنه منطلق إلى أبيه ليزف إليه البشرى بنفسه، ودعا إليه تليماك ليصحبه، وليصحبه الراعيان المخلصان الوفيان، بعد أن يسبغ كل منهما عليه دروعه، ويستعد بسلاحه.
وانطلق الأربعة يطوون شوارع المدينة التي خيم عليها الصمت دون أن يشعر بهم أحد من أهلها، حتى بلغوا الخلاء، وما زالوا يذرعونه حتى كانوا عند المزرعة المصون الناضرة ، وهناك نظر أوديسيوس - بعينين مشوقتين وقلب ملتاع خفق - إلى البيت الصغير الذي يؤوي أباه الضعيف الشيخ، حيث يقضي أيامه في أسى ليس بعده أسى، ويجتر همومه في صمت الموتى، ويذرف دموعه في قنوط وسكون ... لا يراه أحد، ولا يشكو بثه إلى مخلوق، إلا هذه المرأة العجوز الحيزبون التي تخدمه في رضا، وتسهر عليه في حب له، وإشفاق من أجله. وكان ليرتيس - الأب المحزون - يتلهى بالعمل في بستان قريب، يشذب شجيراته، ويهذب زهيراته، فأمر أوديسيوس ولده وراعييه أن يبقوا في المنزل ليعدوا غداء فاخرا وشواء سمينا؛ لأنه يحب أن يلقى أباه في البستان وحده.
وانطلق أوديسيوس إلى البستان، فوجد الفلاحين قد انصرفوا إلى أعمالهم، ووجد أباه يجوس خلال الأشجار كالشبح، ويهوي بفأسه فيحتفر حولها بين الفينة والفينة يصلح من لباسه الخشن الذي اتخذه من جلد عنز، كما اتخذ منه قفازيه وجوربيه ... ووقف أوديسيوس تحت كمثراة باسقة وطفق ينظر إليه، ويقلب في السنين الطوال التي يرزح تحتها عينيه، ثم يتعجب للقلب الكبير الذي صمد لحدثان الزمان ولإيواء الأيام فلم يتصدع ولم يهن، وإن كان بعض حزنه لتنوء منه الجبال.
وانبجس الدمع من عيني أوديسيوس، وانهمر على خديه وأوشك أن يمضي نحو أبيه فيأخذه في حضنه ويفاجئه بالبشرى القاتلة، لولا خيفته على تلك الشيخوخة المتداعية أن تنقض حين لا تحتمل النبأ العظيم؛ نبأ عودة قطعة القلب والكبد، بعد يأس دام عشرين عاما! لهذا آثر أوديسيوس ألا يفعل، وآثر أن يلقى أباه كرجل غريب جواب آفاق ويحدثه؛ ليعلم ما في قلبه، فذهب إليه، ووقف عن كثب يكلمه. «أيها الشيخ، ويكأنك لا علم لك بأمور هذا الزرع، وإن أثمر بستانك وآتى أكله حقا، إني لا أرى عشبا في الأرض، ولا شجرة إلا وهي مثمرة، ولا زهرة إلا وهي مسفرة نامية، وما ذاك إلا لسهرك عليها ... بيد أنه لن يسوءك أن لاحظت أنك تعنى بهذا البستان أكثر مما تعنى بنفسك، مع ما أنت فيه من تقدم السن ولفحة الشمس ووطأة المرض، وما أحسب مولاك إلا قاسي القلب عليك، قليل الاحتفاء بك والتوجع من أجلك، مع ما لك من سيماء النبل ومظاهر الملوك، فما كان أحجى بك - وأنت في هذه السن - أن تستحم وتتضمخ وتنام ملء عينيك، لا يزعجك عمل ولا تئودك أكلاف الحياة، ولكن قل لي بالله عليك أيها الشيخ، لمن تنصب كل هذا النصب، وبستان من هذا؟ خبرني لا تخف علي أيها الأب؛ فلقد لقيت من سألته فلم يأبه لي ولم يعن بمسألتي، ولقد ذرعت الرحب حتى وصلت هذه الأرض، إيثاكا؛ لأني كنت أقدم فيما مضى من الزمان فأحل ضيفا على أمير عزيز فيها، وما أعرف إن كان حيا يرزق، أو مضى لا قدر الله إلى هيدز، ولقد كان هذا الصديق يزورني في وطني، فأكرم مثواه كما يكرم مثواي، ولقد كان يحدثني الأحاديث عن أبيه ليرتيس بن آزيرياس، وما أنسى أيام كان يحمل إلي الهدايا فأردها إليه أضعافا مضاعفة، فمن ذلك أنني نفحته مرة بسبع بدر من خالص الذهب، وبحمالة من فضة مزدانة بأفواف الزهر واثني عشر صدارا، واثني عشر دثارا، ومثلهن من أكرم البسط، وشيء كثير من ثياب القاقم والسنجاب، ثم أهديت إليه أربع جوار كنس أبكار، اختارهن بنفسه، مثقفات مهذبات، يتخايلن في الخز، ويرفلن في الديباج.»
وازدحمت الدموع الحرار بكل الذكريات المشجية في عيني الرجل الشيخ، وقال يجيب أوديسيوس: «أيها الأخ، لقد بلغت مناك، فهذه هي إيثاكا، بيد أنها، وا أسفاه، نهب مقسم بين فئة باغية ظالمة لا تخضع لقانون ولا تعرف شريعة ... أما صديقك فوا أسفى عليه، ويا ألف أسى على هداياك! من لك به اليوم ليردها عليك أضعافا مضاعفة يا صاح؟ ولكن قل لي بربك واصدقني: منذ كم سنة لقيت صديقك التاعس الذي هو ابني؟ إيه! له الله ما أحسب إلا أن السمك قد اغتذى به، أو أنه غدا يوما جزر السباع وكل نسر قشعم! أواه عليك يا أوديسيوس يا ولدي! هكذا قضيت ولم أذرف على ثراك عبرة، ولم تكتحل عينا أمك قبل أن تموت برؤياك، ولا بنلوب! ولا بنلوب أيضا كانت إلى جانبك لتغمض بيدها أجفانك، ولكن ... ولكن قل لي أيها الأخ من أنت؟ ومن أي البلاد قدمت؟ وابن من من الكرام الأكابر؟ وفي أي الرفاق وصلت إلى إيثاكا؟ وفي أي السفائن؟ أم وصلت بك إحدى الجواري المنشآت ثم غادرتك في إيثاكا؟»
وقال أوديسيوس وهو يلفق ما يقول: «أما من أنا، ف... أنا أبيريتوس بن أفيداس بن بوليبمون من أمراء أليباس، من أعمال صقلية، ولقد هبت على سفينتي عاصفة هوجاء فدفعتنا نحو بلادكم، وألقينا المراسي في مينائكم. ولقيت أوديسيوس لآخر مرة منذ خمس سنوات، وقد افترقنا وكلنا أمل أن نلتقي لنتبادل تذكارات المحبة وهدايا الصداقة والوفاء والود.»
أخيل الذي أصبح ملء السمع والأفواه، بطل هيلاس الذي وعدت الآلهة بفتح طروادة على يديه.
وانعقدت سحابة مظلمة من مرارة الحزن، فحجبت الضوء عن عيني ليرتيس، ثم إنه أهوى إلى الأرض، فقبض قبضات من التراب وراح يحثوها على رأسه، ويئن أنينا مؤلما. ولم يحتمل أوديسيوس أن يرى أباه في هذه الحال، بل كاد صدره ينشق من حسرة عليه، فهرول وأخذه ملء ذراعيه وجعل يضمه إلى صدره ويقبله ويقول: «أبتاه! أبتاه! هو أنا ذا! أنا أوديسيوس، عدت إليك بعد عشرين عاما، فافرح وهدئ من روعك، ولتنته آلامك، وإليك أحسن البشريات؛ لقد قتلت أعدائي العشاق جميعا، قتلتهم في بيتي، وانتقمت لك ولي ولبنلوب.»
بيد أن ليرتيس وقف ذاهلا عن نفسه، ثم نظر إلى ولده وقال: «إن كنت حقا ولدي أوديسيوس، فهات برهانك الذي يقطع شكي.»
فقال أوديسيوس: «ألا تصدق! إذن فانظر إلى الندوب الخالدة التي أحدثها في ساقي خنزير الفلاة إذ أنا حدث، يا أبي، ألا تذكر يوم كنا على جبل برناسوس، وكان جدي أوتوليكوس معنا ثمة، وكان يتحفني بالهدايا واللهي؟ وهاك دليلا آخر يوم مشيت معك في هذه الحديقة، ورجوتك أن تجعل بعض هذه الأشجار باسمي، فمشيت معك، ورحت أنت تسميها لي بأسمائها، فجعلت لي ثلاث عشرة كمثراة، وعشر تفاحات، وثلاثين تينة، وخمسين صفا من الكروم الناضرة التي كان يزرع القمح بين عرائشها والتي كانت تتدلى منها العناقيد من كل لون.»
وانجاب الشك عن فؤاد ليرتيس، فأخذ ولده بين ذراعيه المرتجفتين، وراح يضمه ويقبله، ويصعد في صدره الرحب القوي أنفاسه، حتى إذا وهنت قواه أرسله، وأخذ يحدثه فيقول: «يا للآلهة! يا أرباب السموات الخالدة في شعاف الأولمب! هكذا قضيت آخر الأمر أن ينصب جام غضبك وحمم نقمتك على هؤلاء الكفرة الفجرة، ولكن لشد ما أخشى أن يتألب الجمهور علينا فيهرعوا إلى هنا، ويطلبوا ثأر ذويهم!»
فتبسم أوديسيوس وقال له يطمئنه: «لا عليك يا أبي! هلم الآن فلنذهب إلى بيتك الجميل، فلقد أرسلت تليماك ثمة ومعه الراعي ويومايوس الوفي؛ ليعدوا لنا طعاما سريعا خفيفا.»
فينوس وأدونيس.
وأعد الطعام، ومزجت الخمر، وذهبت الخادم العجوز فأعدت حماما لسيدها الشيخ، ثم ضمخته وأضفت عليه ملابس نظيفة، وتنزلت مينرفا الكريمة فمشت بيديها الإلهيتين على جسم ليرتس، فتدفق الشباب في عروقه، وعاد إليه رواؤه وحسن سمته، فلما خرج من الحمام تعجب أوديسيوس وقال له: «تالله يا أبت إني لا أشك في أن بعض الآلهة قد رد إليك صباك، وخلع عليك بردة الشباب من جديد.»
ولم يكن عجب ليرتيس بأقل من عجب ولده؛ «تعاليت يا جوف، وتقدست يا مينرفا، وسما جدك يا أبوللو! لقد كسوتموني نضرة الشباب التي كانت لي يوم ملكت مدينة نريكوس بمعونة السيفالينيين الشجعان، أواه لو قدر لي أن أقف إلى جنبك أمس يا بني؛ ليكون لي شرف مجالدة الأوغاد الذين قتلت، إذن لحظيت بكوكبة منهم أضرج أديم الأرض بدمائها، فأشفي منهم حردا في صدري، وغلا في حشاشتي.»
وأكلوا هنيئا وشربوا مريئا، ثم جلسوا على الأرائك متقابلين، وكانت الخادمة العجوز قد انطلقت إلى المزارع، فدعت كبير الفلاحين دوليوس، فأقبل في رجاله الذين كدهم العمل وأنهكتهم المثابرة، فلما رأوا ما ارتد إلى سيدهم من شبابه، وهذا الرجل الغريب الذي يجلس بين العائلة المقدسة وقفوا مسبوهين مشدوهين لا يعرفون ماذا يقولون، وحدجهم أوديسيوس، ثم بدأ يكلمهم في لطف وخبث ويقول: «اجلس أيها العجوز دوليوس، فكل أنت ورجالك؛ فليس ثمة متسع لدهش أو عجب. اجلس قبل كل شيء، فاملأ بطنك وبطون رجالك، لقد انتظرناكم طويلا، لكنكم استأنيتم!» ولكن سرعان ما عرف دوليوس مولاه حين سمع صوته فأقبل عليه، وتناول يديه، وطفق يغمرهما بالقبل الباكية ويقول: «أوه يا مولاي! هكذا والله تستجيب السماء، لقد طالما جأرنا، ولقد طالما دعونا، فلها الثناء إذ ردتك إلينا! واسلم وسر وابتهج، ولكن، هل علمت الملكة بقدوم مولاي؟ ألا ننطلق من فورنا فنزف إليها البشرى؟»
وطمأنه أوديسيوس، فجلس الرجل مبتهجا مسرورا، وجلس أبناؤه معه وأخذوا في أكلهم وشرابهم، وأخذ أوديسيوس يلاطفهم ويداعبهم. وهكذا عاد الحبور مرة أخرى إلى بيت ليرتيس. •••
وقرع آذان الناس في المدينة ما كان من قدوم أوديسيوس، وما حاق بالأمراء المعاميد من نكبة على يديه الجبارتين، فأهرعت جموعهم إلى قصره صاخبة ناعبة، ثم انطلقوا إلى حيث كدست أجساد القتلى، فحرق كل قتيله، وأرسلت جثث الغرباء إلى ذويهم في أوطانهم في سفن الصيادين من كل فج لتحرق ثمة، واجتمعوا بعد ليتشاوروا بينهم فيما ينبغي أن يكون، فنهض يوبيتيس والأسى يزلزل حوانجه، وأنشأ يقول: «أيها الرفاق، لقد كان هذا الرجل الطاغية حربا دائمة عليكم، فلم يصبكم منه إلا الشر، ولم تثمر لكم فعاله إلا الندامة؛ فلقد ساق شبابكم وخيرة أبطالكم إلى طروادة المشئومة حيث قتلوا أجمعين، وها هو ذا ينقلب إليكم اليوم، فيذبح ساداتكم وذوي الصولة فيكم ... فهلموا إذن، وروا رأيكم فيه قبل أن ينطلق إلى بيلوس فيطلب العون عليكم، وتصبحوا على ما قصرتم نادمين، إنا إن لم نثأر لضحايانا فأي عار يسمنا؟ وأي خزي يصمنا يا قوم؟ وأية حياة هذه التي تحيونها بعد ما حل بكم من هوان ومذلة؟ لخير لكم أن تذبحوا أنفسكم فترحلوا إلى هيدز مع أرواح قتلاكم، ولن تكونوا على ذلك من الآسفين.» ثم جلس وهو يتصدع من الحزن على صاحبه أتينوس الذي كان أول ضحايا أوديسيوس، وقام ميدون المنشد التاعس فقال: «أيها المواطنون، أعيروني آذانكم، تالله إن أوديسيوس لم يرم سهامه إذ رمى، ولكن بعض الآلهة كان يرسم له وينافح عنه ، ولقد رأيته بعيني هاتين في صورة منطور، ووالله ما هو منطور، ووالله لقد كان يمشي بين يديه ها هنا وها هنا، فيراع العشاق وتفزع قلوبهم ويسقط بعضهم فوق بعض، فتأخذهم سهام أوديسيوس، ويروي من دمائهم سيفه.» وما كاد يفرغ ميدون - وكان فيهم أمينا صادقا - حتى طارت ألوانهم وامتقعت وجوههم، ونظر بعضهم إلى بعض وادارءوا طويلا، ثم وقف هاليتير بطلهم القديم ابن مسطور، وكانت له دراية بكشف أستار الماضي والحاضر والمستقبل، فصعر خده وقال: «أيها الإخوان، يا أبناء إيثاكا، اسمعوا وعوا، تالله لقد طالما مهدتم للفتنة، وإنها لثمرة أنتم غارسو شجرتها، وأنتم اليوم جناتها! أتذكرون يوم رجوتكم فألحفت عليكم في الرجاء - أنا وصاحبي ميدون هذا - أن نذهب فنمنع القصر من شبابكم، ونصون عرض أوديسيوس من أبنائكم، ونصرفهم عن ولده وزوجه، ومتاع هذه الحياة الدنيا، فأبيتم أكبر الإباء، ورفضتم أقبح الرفض، وجعلتموها فتنة كنت أستعيذ بالآلهة منها؟! فعلام تغلي مراجل صدوركم يا قوم؟ وفيم ائتماركم بالرجل وقد ثأر لعرضه؟ ألا فاسمعوها كلمة مخلصة أسديها إليكم؛ الرأي ألا تذهبوا، وألا تجعلوها فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة، بل اقعدوا ها هنا آمنين، ولا تكونوا كالذي سعى إلى حتفه بظلفه، وأبطأت عليه المنايا فسعى قدما إليها.» وما فرغ حتى زمجر القوم وتصايحوا به، وضجوا من كل مكان، ثم إنهم سمعوا إلى شيطان يوبيتيس، ففزعوا إلى أسلحتهم، وأسبغوا عليهم من دروعهم، وانطلقوا إلى المدينة، فنظموا فيها صفوفهم، وأقاموا يوبيتيس قائدا منحوسا عليهم، وما جعلوه كذلك إلا ليلقى حتفه بيد ليرتيس والد أوديسيوس، وتعجل روحه إلى النار.
ومضت مينرفا إلى سيد الأولمب، جوف العلي، فوقفت ببابه تقول: «أبتاه، أبن عن سريرتك، واكشف عن مكتوم قلبك ومكنون نفسك؛ هل يحل على هذه الفئة الظالمة غضبك، أو أنك مانحها محبتك، ومحصنها بحمايتك؟» فتبسم من قولها وأنشأ يجيب: «وفيم هذا التساؤل يا ابنتي؟ ألم تقدري أنت أن يعود أوديسيوس إلى وطنه فيذبح بيديه أولئك العتاة الطغاة، ويريح وجه الأرض من خباثاتهم؟ ليكن ما تشائين اصنعي ما بدا لك ، ولكن نصحي أمحضك إياه يا مينرفا؛ ما دام أوديسيوس قد ثأر لنفسه من أعدائه، فليكن السلام على الأرض، وليحل الأمان في ربوعها، وليتقاسم الملأ على الود والصفاء، وليحكم أوديسيوس بين الناس بالعدل، وعلينا نحن أن ننزع ما في صدورهم من غل فينسوا سخائمهم ويطرحوا ثاراتهم، ثم لتكن لهم من أنفسهم أمنة، ولتجر البركات عليهم أجمعين، وليصبحوا بحولنا أصفياء متحابين.»
وزفت مينرفا من السموات العلى إلى إيثاكا.
وفرغ أصحاب أوديسيوس من أكلهم، فأمرهم أن يتحسسوا آثار القوم، فانطلق أحد أبناء دوليوس إلى المدينة، فرأى من استعداد أهلها ما رأى، وجاء إلى مولاه على عجل، فقال له: «مولاي، لقد تسلح الإيثاكيون وهم موشكون أن يقدموا إليك.» فنهض أوديسيوس فادرع، وادرع أبوه وابنه وخادماه وأبناء دوليوس الستة، وادرع دوليوس كذلك، وادرع الفلاحون الآخرون، وحمل كل سلاحه، وبرزوا إلى الطريق وفي مقدمتهم أوديسيوس.
وبدت مينرفا في صورة منطور وفي طيلسانه، فلما رآها أوديسيوس فرح واستبشر، والتفت إلى تليماك فقال: «أي بني، عليك أنت أن تحمينا اليوم؛ فقد عرفت ما خاض أبوك من معامع، وسنرى من يحارب خيرا من صاحبه اليوم.» فقال تليماك يجيبه: «اطمئن يا أبي، فسترى كيف يحمي العسلوج فرعه، وكيف يشب الفرع على أصله. تالله لن أفضحك فيما وكلت إلي، ولن يخيب رأي أهلي في.» وفرح الوالد بمقالة ابنه، وشكر الآلهة وأثنى عليها.
خيول ديوميداس.
واقتربت مينرفا من ليرتيس، وهي لا تزال في صورة منطور، فقالت له: «أوه أيها الجد الوقور! صل لمينرفا وابتهل، وتوسل إلى جوف، أن يمنحاك القوة والجلد، ثم اهجم بحربتك على يوبيتيس فروها من دمه؛ فالسماء كلها معك.» ولمسته بيدها فتدفق شبابه في قلبه، وكان جيش الأعداء قد اقترب منهم، فطار ليرتيس إليهم برمحه، وأقصد يوبيتيس بضربة في صدره، فخرج سنان الرمح يلمع من ظهره، ورأى أوديسيوس ذلك فطار إلى الملأ بسلاحه ورماحه، وانقض تليماك في أثره، وهجم الآخرون في أثر تليماك، ولم يطل القراع؛ فقد فزع الأعداء، واختلط نظامهم، فولوا الأدبار، ولكن هيهات! لا نجاة اليوم؛ فلقد سد عليهم أوديسيوس ورفاقه الطرق، وأخذوا عليهم المسالك، فهم في ضيق، وهم ذاهلون.
وهتفت ابنة جوف العذراء بأوديسيوس ورجاله تقول: «السلام عليكم أيها المحاربون، السلام السلام! قبل أن تجري دماؤكم أنهارا.»
ثم بدت مينرفا في صورتها الإلهية المقدسة، فارتعدت فرائص القوم، وتخاذلوا فيما بينهم حتى أصحاب أوديسيوس! لقد ارتجفت أعصابهم وعصف الذعر بسواعدهم، وكادت سيوفهم ورماحهم تنتثر على الأرض. ولم يعبأ أوديسيوس، بل هجم كالنمر على القوم المنهزمين يود لو يصعقهم، وطفق يبرق ويرعد، ويزأر بصوته المدوي العظيم؛ فغضب سيد الأولمب، وأرسل إحدى صواعقه نذرا من لدنه إلى مينرفا، فعجلت إليه ذات العينين الزبرجديتين، وزجرته عن الناس وهي تقول: «لا يا أوديسيوس، لا يا ابن ليرتيس النبيل، لا يجدر هذا بماضيك، ضع حدا لهذه المجزرة المروعة أو تجلب عليك غضب جوف العلي.»
وخبت أوديسيوس وسرت مينرفا، وعقد منطور الصلح بين الفريقين، ودخل الناس في السلم كافة!
نامعلوم صفحہ