طوق النجاة
طوق النجاة
ناشر
دار التوزيع والنشر الإسلامية
ایڈیشن نمبر
الثامنة
اشاعت کا سال
١٤١٣ هـ - ١٩٩٢ م
پبلشر کا مقام
مصر
اصناف
طوق النجاة
د. مجدي الهلالي
الطبعة الثامنة
-مزيدة ومنقحة-
نامعلوم صفحہ
الطبعة الأولى ١٩٨٦ م
الطبعة الثامنة ١٤١٣ هـ - ١٩٩٢ م
1 / 2
إهداء
- إلى كل من سأل عن الطريق فلم يجد مجيبًا.
- إلى كل من أراد السير إلى الله فلم يجد دليلًا.
- إلى كل من أراد عزًّا للمسلمين فلم ير إلا ذلهم.
- إلى كل من أراد عزًّا لنفسه فأبت عليه.
- إلى الحيارى هنا وهناك نقدم؛ «طوق النجاة» لنسير معًا في الطريق إلى الله.
***
1 / 3
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
1 / 4
مقدمة الطبعة الثامنة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد ...
فها هي ذا الأيام تمضي، يزداد حال الأمة الإسلامية سوءًا ويشتد ظلام ليلها، وتتعالى الأصوات من هنا وهناك: هل لهذا الليل من آخر؟! ... هل تأخر الفجر فما ينبغي لأحد أن ينتظره؟!
هل من نهاية لهذا الذل والهوان؟!
هل ... هل ... هل ...
أسئلة كثيرة تختلج في صدور الكثير من أبناء هذه الأمة، وهم يرون مدى ما وصل إليه حال أمتهم من ذل وضياع وهوان.
فبعد أن كان أعداؤها يُسرُّون بعدائهم إليها، أصبحوا الآن يجاهرون به، بعد أن نجحت خططهم في إضعافها وتقنيتها وتمزيقها.
والآن حان الوقت -كما يقولون- للقضاء عليها والتخلص منها.
وما يحدث للمسلمين في هذه الأيام خير شاهد على ذلك.
فلقد أصبحت أخبار المذابح التي يتعرض لها المسلمون مادة أساسية في غالبية وسائل الإعلام المسموعة والمقروءة.
وما توقف يومًا سيل دماء المسلمين.
واشتد صراخ اليتامى، وبكاء الثكالى، وأنين المعذبين.
وازدادت المرارة في الحلق، وما صار للحياة طعم.
فهل من نهاية لما نحن فيه؟!
1 / 5
هل كُتب علينا أن نتجرع كؤوس الذل والهوان؟!
لقد دعونا الله كثيرًا في قيامنا وسجودنا، وفي ليلنا ونهارنا، أن يرفع ﷾ عنا ما نحن فيه، فما تغير حالنا.
هل لأننا لا نستحق تلقي نصر الله؟!
فكما نعتقد ونعلم أن الله ﷿ أغير على دينه منا، ويستطيع جل شأنه أن يغيرنا نحن، ويخسف بأعدائه، ويمكن لدينه في أقل من لمح البصر.
ولكن لمن سيكون هذا التمكين؟
لقد وعد الله طائفة من عباده المسلمين بنصرهم على أعدائهم، وتمكينهم في الأرض.
هذه الطائفة هم عباده الذين نصروه على نفوسهم، ومكنوا لدينه في قلوبهم، أخضعوا مشاعرهم وعواطفهم لربهم، فأحبوا لله وأبغضوا في الله، ووالوا من يوالي الله، وعادوا من يعادي الله، وخافوا من الله، وفرحوا بفضل الله، وتوكلوا على الله، ورضوا بما أعطاهم الله و...
باعوا نفوسهم لربهم، فما أصبح لها في أقوالهم وأفعالهم حظ ولا نصيب. فقبل الله منهم البيع، ونصرهم على عدوه وعدوهم في الدنيا، ووعدهم بالجنة ثمنًا لهذا البيع في الآخرة.
مصدقًاَ لقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ...﴾ (١).
لقد وضع الله ﷿ شرطًا أساسيًا لنُصرة عباده كما قال تعالى: ﴿إِنْ
_________
(١) التوبة: ١١١.
1 / 6
تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾ (١) وقال: ﴿وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ﴾ (٢).
وهذا الشرط هو نُصرة الله على أنفسنا ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ (٣).
فإن نصْرنا الله على أنفسنا، نصَرَنا على أعداءنا، وإن نصرناها عليه خذلنا أمامهم، وتركهم يتمكنون من ديارنا وأعراضنا وأموالنا.
وما حالنا وما وصلنا إليه إلا ترجمة عملية لخذلان الله لنا، فقد نسيناه ونصرنا أنفسنا عليه، فنسينا وخذلنا أمام أعدائنا.
فإن كنا نبغي حقًا النجاة لأنفسنا والعزة لديننا، فلنرفع راية الجهاد ولنعلن الحرب على نفوسنا، ولنجاهدها في جنب الله حتى ننصره عليها، فنصبح مؤهلين لتلقي نصره كما قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ
_________
(١) محمد: ٧.
(٢) الحج: ٤٠.
(٣) الرعد: ١١.
1 / 7
آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ﴾ (١).
وفي هذا الكتاب حاولت -بفضل الله ومنته- إلقاء الضوء ما أجملته في هذه المقدمة.
فتحدثت عن النفس وأنها أعدى أعدائنا، وتحدثت عن ضرورة إصلاحها وكيف يكون.
وتحدثت أيضًا عن الدعوة إلى الله وأهمية القيام بها، وفرضيتها في هذا الوقت.
وفي النهاية تحدثت عن كيفية الجمع بين إصلاح النفس ودعوة الغير، ولا أستطيع أن أدعي أنى بهذه الصفحات قد بينت معالم الطريق كاملة بل هي بعضها والتي يمكن للمسلم من خلالها أن يخطو خطواته الأولى في طريقه إلى الله، ولقد وفقني الله -بفضله وتأييده- لجمعها فالخير فيها من الله والشر فيها من نفسي وما أبرئها، والله من وراء القصد وهو الهادي إلى سواء الصراط،،
القاهرة ١٤١٣هـ - أغسطس ١٩٩٢م
_________
(١) المائدة: ٥٤ - ٥٧.
1 / 8
مقدمة الطبعة الأولى
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا .. من يهده اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا، وَأشْهَدْ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ .. صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد
فإنه لا يختلف اثنان على أن الهدف الذي يعيش من أجله كل منا هو رضا الله ﷿، والنجاة من النار، والفوز بالجنة.
ولذلك كان لزامًا على كل عبدٍ مؤمن، طالب دخول الجنة، والنجاة من النار، والقرب من مولاه، أن يطلب ذلك بالأسباب الموصلة إلى رحمة الله وعفوه ومغفرته ...
ولكن .. هل يعرف كل منا هذه الأسباب؟؟ أو بعبارة أخرى .. هل يعرف الطريق المؤدي إلى النجاة يوم القيامة؟؟
الكثير منا لا يعرف هذا الطريق بأكمله .. والذي يعرفه سار فيه يضع خطوات ثم توقف ولم يستطع التقدم ..
1 / 9
فمعرفة الطريق وحدها لا تكفي للوصول إلى الهدف .. ولكن السير الدؤوب في هذا الطريق، والانتباه إلى منحنياته ومنزلقاته والإعراض عن المثبطين، وقبل ذلك كله طلب العون والمدد من الله هو الذي يكفل استمرارية السير في هذا الطريق ..
وهذا الطريق كالصراط المستقيم .. في بدايته خلق كثير وفي نهايته عند قليل،، وبين البداية والنهاية يتهاوى الكثيرون.
ولقد يسر الله بفضله ومنته، وبحوله وقوته أن أجمع في هذه الصفحات معالم كثيرة لهذا الطريق .. أحسب أنها تكفي بإذن الله للبدء في السير -والله أسأل أن يتقبل مني هذا العمل وأن يجعله في موازين حسناتي وحسنات إخواني يوم القيامة.
ورجائي من كل قارئ لهذه الصفحات أن لا ينساني من صالح دعواته .. فليدع لي ولإخوانه بالمغفرة والرحمة والنجاة .. فإن الذنب كبير وإن العمل قليل .. ولا حول ولا قوة إلا بالله .. وليكن هذا عهدًا بيني وبين من يقرأها ..
يا نفس ويحك قد أتاك هداك ... هذا نداء الحق قد ناداك ..
كم قد دعيت إلى الرشاد فتعرضي ... وأجبت داعي الغي حين دعاك ..
المؤلف
***
1 / 10
الطريق
الطريق الذي نحسب أنه يؤدي إلى رضا الله ومحبته يتلخص في جملة واحدة تحتاج إلى تفصيل .. وهذه الجملة هي:
«أصلح نفسك ... وادع غيرك ..»
والذي يطمئننا أن هذا الطريق هو المسلك السليم ما جاء في كتاب الله تعالى من آيات كثيرة هذا ومنها سورة العصر .. ﴿بسم الله الرحمن الرحيم ..
﴿وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ (١).
فأقسم سبحانه على خسران نوع الإنسان إلا من كمل نفسه بالإيمان والعمل الصالح، وكمل غيره بوصيته لها بهما، ولهذا قال الشافعي ﵀: لو فكر الناس كلهم في سورة العصر لكفتهم.
ومنها قوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ (٢).
_________
(١) العصر: ١ - ٣.
(٢) فصلت: ٣٣.
1 / 11
ولقد فهم الصحابة هذا الأمر جيدًا ... وهذا من أسباب تفوقهم على غيرهم ولهذا قال بعضهم: «مَا سَبَقَكُمْ أَبُو بَكْرٍ بِكَثْرَةِ صَوْمٍ وَلَا صَلَاةٍ .. وَلَكِنْ بِشَيْءٍ وَقَرَ فِي صَدْرِهِ ..» والذي كان في صدر أبي بكر ﵁ المحبة لله والنصيحة لعباده (١).
ويصف الحسن البصري هذا العبد الذي أصلح نفسه بعمل الصالحات ودعا غيره إلى الله فيقول: هذا حبيب الله، هذا ولي الله، أسلم لله وعمل بطاعة الله، ودعا الخلق إليه (٢).
فإصلاح النفس ودعوة الغير إلى الله هما وسيلتا المسلم في طريقه للوصول إلى رضا الله.
...
_________
(١) جامع العلوم والحكم.
(٢) رسالة إلى كل مسلم: ١٩.
1 / 12
١ - أصلح نفسك
يقول الله ﷿: ﴿فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى﴾ (١).
فقد علق الله ﷿ الفلاح على تزكية النفس، والخسران على تركها مهملة ..
نظرة إلى الواقع:
المتأمل لأحوالنا يجد أننا تركنا نفوسنا مهملة وقلوبنا خربة، عشعش فيها الشيطان وباض وفرّخ ...
أصبحنا كالبيت العفن .. خارجه مزركش وداخله نتن .. السجدة أصبحت بغير خشوع، والصلاة صارت بلا روح .. المصاحف تشكو هجرها، والكتب التي نتبارى على شرائها تشكو أكوام التراب التي تعلوها ..
السَّحر يئن من قلة القائمين ...
ندعو الله فلا نجد استجابة .. ونذكره فلا نلمس لهذا الذكر أثرًا ..
لا يقيم أكثرنا من الطاعات إلا الصلوات المكتوبة ..
_________
(١) الليل: ٧ - ١٠.
1 / 13
من منا يحاسب نفسه قبل النوم؟؟
من منا يختم القرآن مرة على الأقل في كل شهر؟؟
من منا يصوم خلاف شهر رمضان؟؟ كالاثنين والخميس؟؟
من منا يقوم الليل؟؟ كم ليلة قمناها بعد رمضان؟؟
من منا يزور القبور للاعتبار؟؟
من منا إذا ذكر الله خاليًا فاضت عيناه؟؟
من منا لا يفتر لسانه عن ذكر الله؟؟
من منا إذا أصبح لا ينتظر المساء وإذا أمسى لا يتوقع في الصباح أن يكون مع الأحياء؟؟
من منا لا يفارق ذكر الموت قلبه؟؟
من منا يحب لأخيه ما يحب لنفسه؟؟
من منا غلب حب الله ورسوله حب ما سواهما؟؟
من منا .. من منا ..؟؟
ليسأل كل منا نفسه هذه الأسئلة وغيرها ..
سيفاجأ بإجابات قاسية .. يفاجأ بأنه أصبح كالآلة يؤدي الفروض بغير روح، وهذا أقصى ما يربطه بالإسلام ..
قلوبنا منغمسة في حب الدنيا .. في الدراسة .. الوظيفة .. الزواج .. وآخر ما يخطر ببالنا هو التفكير في أمر الآخرة .. وكأن النار قد خلقت لغيرنا، أما نحن فقد ضمنا الجنة وأمنا مكر الله!!!
كأن القلوب ليست منا، وكأن هذا الكلام يعني به غيرها وكأن
1 / 14
آيات ذكر النار في القرآن وما أعده الله لأهلها لا تخصنا!!!
لم هذه الغفلة؟؟ ماذا ننتظر؟ ومتى نفيق؟؟
هل نسوّف ونؤجل حتى تفاجأ بملك الموت يقبض أرواحنا ونكون ممن يقولون يوم القيامة ﴿رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ﴾ (١) أو يقولون: ﴿أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ * قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ﴾ (٢).
إن الموت أقرب إلى أحدنا من شراك نعله، ومع ذلك ضعف هذا اليقين في قلوبنا، وبات طول الأمل هو المسيطر على حياتنا فانعكس ذلك على تصرفاتنا وأفعالنا .. فملأ الحسد قلوبنا ..
وانشغالنا بعيوب الناس وتركنا عيوبنا ..
يرى أحدنا القذى في عين أخيه ولا يرى الجذع في عينه .. أكثر ما يجمعنا هو اللهو والضحك، فإذا نادى المنادي أن هلمّوا إلى ربكم وهيا بنا نؤمن ساعة .. نقر ونختلق المعاذير للتهرب من الالتقاء على الطاعة.
من صور عذاب أهل النار:
ليسأل كل منا نفسه: أيحب أن يكون من أهل النار مع إبليس
_________
(١) فاطر: ٣٧.
(٢) المؤمنون: ١٠٥ - ١٠٧.
1 / 15
وجوده؟ ومع فرعون وهامان؟؟
ليتخيل كل منا نفسه وهو يُسحب في النار على وجهه، تخيل الجلد وهو يُشوى، ألم ترى قبل ذلك شاة تُشوى؟! أسمعت أزيز جلدها عندما يلامسه النار سيصدر من الجسد مثل هذا الصوت عندما تلامسه النار، تخيل النار وهي تخيط بصاحبها من بين يديه ومن خلفه، وعن يمينه وعن شماله ومن فوقه ومن تحته، طعامه نار وشرابه نار، ولباسه من النار ونومه على النار، يتفجر الصديد من فمه، ويتساقط اللحم من فوق عظامه .. أقصى ما يتمناه أن يموت .. ولن يموت ...
الوجه أسود، والجلود ممزقة والعظام مكسرة، والأيدي مغلولة إلى الأعناق .. وهو يبكي ويولول ويصرخ، ويتمنى أن يرجع إلى الدنيا ولو ساعة ليكون أخشى الناس ...
تخيل هذا كله يا أخي جيدًا .. فهذا وصف مبسط لحال أهل النار -والعياذ بالله-، فمن منا يرضى لنفسه بهذا المصير، فإن كنا لا نريد لأنفسنا أن نكون من أهل النار، فلماذا لا نعمل من أجل البعد عنها؟!
عن أبي ذر ﵁ قال: قرأ رسول الله ﷺ: ﴿هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ .......﴾ [الإنسان: ١] (١) حتى ختمها ثم
_________
(١) رواه الحاكم واللفظ له وقال: صحيح الإسناد ورواه البخاري باختصار والترمذي (إلا أنه قال: ما فيها موضع أربع أصابع).
1 / 16
قال: «إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ، وَأَسْمَعُ مَا لَا تَسْمَعُونَ، أَطَّتِ (١) السَّمَاءُ وَحُقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ، مَا فِيهَا مَوْضِعُ قَدَم إِلَّا مَلَكٌ وَاضِعٌ جَبْهَتَهُ سَاجِدًا لِلَّهِ، وَاللَّهِ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا، وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا، وَمَا تَلَذَّذْتُمْ بِالنِّسَاءِ عَلَى الفُرُشِ، وَلَخَرَجْتُمْ إِلَى الصُّعُدَاتِ (٢) تَجْأَرُونَ إِلَى اللَّهِ، واللهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي شَجَرَةً تُعْضَدُ».
لولا الذين لهم وِرْدٌ يقومونا ... وآخرون لهم سِرْدٌ يصومونا
لدُكدكت أرضكم من تحتكم سَحَرًا ... لأنكم قوم سوء لا تخافونا
خوف الصحابة والسلف من الحساب:
والمتأمل لأحوال الصحابة والسلف يجد أن ذكر الموت والخوف من الحساب كان يُورق مضاجعهم ويسيل مدامعهم ...
- فهذا عثمان بن عفان يقول: وددت أني إذا متُّ لا أبعث.
- وهذا أبو عبيدة بن الجراح يقول: وددت أني كبش فيذبحني أهلي فيأكلون لحمي ويحسون مرقي ..
- وبكى عبد الله بن رواحة فقيل له: ما يبكيك؟! قال: أنبأني الله أني وارد النار ولم ينبئني أني خارج منها.
- وبكى النخعي عند موته وقال: انتظر رسول ربي ما أدري أيبشرني بالجنة أم بالنار؟!
_________
(١) أطت: أن السماء من كثرة ما فيها من الملائكة العابدين أثقلها حتى سُمع لها صوتًا وهو الأطيط.
(٢) الصعدات: الطرقات.
1 / 17
- وكانت امرأة أبي محمد حبيب الفارسي، توقظه بالليل وتقول: قم يا حبيب فإن الطريق بعيد، وزادنا قليل وقوافل الصالحين قد سارت من بين أيدينا ونحن قد بقينا ...
- وهذا رجل من أصحاب سفيان الثوري يقول:
إذا جلسنا إلى الثوري، فكأن النار قد أحاطت بنا، لما نرى من خوفه وجزعه.
- وقال الحجاج لسعيد بن جبير: بلغني أنك لم تضحك قط .. قال: كيف أضحك، وجهنم قد سعّرت، والأغلال قد نصبت والزبانية قد أعدت؟!
- وهذا رجل منهم يقول: ما رأيت أخوف من الحسن وعمر بن عبد العزيز كأن النار لم تخلق إلا لهما.
- ورُئَي الحسن يومًا وهو يبكي فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: أخاف أن يطرحني غدًا في النار ولا يُبالي.
- وهذا حبيب أبي محمد الفارسي يقول لامرأته: إن متُّ اليوم فأرسلي إلى فلان يغسلني، وافعلي كذا وكذا، فقيل لامرأته، أرى رؤيا؟! قالت: هذا يقوله كل يوم (١) ..
فهذه بعض أحوال الخائفين، صبروا أيامًا قليلة، فأعقبتها راحة طويلة ...
_________
(١) هذه الأخبار وغيرها من كتاب إحياء علوم الدين للإمام أبي حامد الغالي، وكتاب صفة الصفوة للإمام ابن الجوزي.
1 / 18
أما والله لو علم الأنام ... لِمَا خلقوا لما غفلوا وناموا
لقد خلقوا لما لو أبصرته ... عيون قلوبهم تاهوا وهاموا
مماتٌ ثم قبرٌ ثم حشرٌ ... وتوبيخٌ وأهوالٌ عظام
ليوم الحشر قد عملت رجالٌ ... فصلُّوا من مخافته وصاموا
ونحن إذا نهينا أو أمرنا ... كأهل الكهف أيقاظ نيام
ومن تأمل هذه الأمور حق التأمل أوجب له القلق، فإن ابن آدم متعرض لأهوال عظيمة من الموت، والقبر، وأهوال الموقف كالصراط والميزان، وأعظم من ذلك: الموقف بين يدي الله ﷿ ودخول النار والخلود فيها إذا سُلَب إيمانه عند الموت، ولا يأمن المؤمن شيئًا من هذه الأمور .. ﴿فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ﴾ (١).
(فيا أيها المطرود بإصراره وطغيانه وغفلته وخسرانه، وتماديه وعصيانه، .. لقد عظمت مصيبتك بغضب الله وهوانه، فأين مُقلتك الباكية؟ وأين دمعتك الجارية؟ وأين زفرتك الرائحة الغادية؟؟ لأي يوم أخّرت توبتك؟ ولأي عام ادخرت عودتك؟؟ إلى العام القادم والحول القابل؟؟ كلا .. كلا .. فما إليك مدة الأعمار، ولا معرفة الأقدار، فكم مَن أعد طيبًا لعيده جُعل في تلحيده؟؟ وثيابًا لتزيينه صارت لتكفينه؟؟) (٢).
_________
(١) الأعراف: ٩٩.
(٢) من كتاب الغنية لعبد القادر الجيلاني.
1 / 19
أيها العبد الآبق: عد إلى مولاك، مولاك يناديك بالليل والنهار: من أتاني يمشي أتيته هرولة، وأنت عنه معرض، وعلى غيره مقبل، لقد غُبنت أفحش الغبن، وخسرت أكبر الخسران ...
انتبه أيها الغافل!! فإنما أنت أيام معدودة، فإذا ذهب يوم ذهب بعضك، ويوشك إذا ذهب البعض أن يذهب الكل، وأنت تعلم فاعمل، فمازال باب التوبة مفتوحًا (١).
إلى العمل:
فلنبدأ من الآن قبل فوات الأوان، ولنشمر عن سواعدنا لإصلاح أنفسنا، ولنفتش عن عيوبها من كبر وغرور وحسد ورياء وعجب وركون إلى الدنيا وحب الرئاسة والشهرة، والشح والحرص وحب المال و...
ولنشتغل بإزالة هذه العيوب والتخلص منها في ضوء الكتاب والسنة وتجارب المربين وتوجيهاتهم.
وقد كتب القدماء كتبًا كثيرة في هذا الموضوع، فعلينا القيام بدراسة أحد هذه الكتب ولنزن أنفسنا من خلالها فنحدد الداء لنعرف الدواء فنتعاطاه ...
ومن هذه الكتب كتاب «مختصر منهاج القاصدين» لابن قدامة المقدسي.
_________
(١) من كلام الحسن البصري ... انظر صفة الصفوة.
1 / 20