کلاسیکی ورثہ: ایک بہت مختصر تعارف
التراث الكلاسيكي: مقدمة قصيرة جدا
اصناف
يجعل رينولدز إحدى السيدتين تشير في تساؤل إلى الكتابة المنقوشة على شاهد المقبرة، بينما تتدبره الأخرى في تأمل عميق؛ إن عبارة «حتى في أركاديا ها أنا ذا» تظهر مرة أخرى. كانت هذه اللوحة الأولى من بين مجموعة من لوحاته التي رسمها وهو رئيس للأكاديمية الملكية (المؤسسة التي كانت من بنات أفكاره، وكانت قد تأسست رسميا للتو في عام 1768، وكانت الفكرة من ورائها تنظيم التعليم الفني لأبناء الطبقة الراقية البريطانية). ويحكى أنه عندما عرض الصورة على صديقه د. جونسون (الذي عمل منذ عام 1770 كأول أستاذ للأدب القديم بالأكاديمية)، تحير الأخير ووجد أن العبارة «محض هراء، في أركاديا ها أنا ذا.» ما الذي يمكن أن يعنيه ذلك؟ رد الفنان قائلا: إن الملك جورج الثالث تفهم فكرتها على الفور في اليوم السابق؛ إذ هتف: «نعم، نعم، حتى في أركاديا الموت موجود.»
هذه النادرة التثقيفية تبين لنا أن هذا الشعار الشهير يتجاوز كونه مجرد تعبير ناقص من الناحية النحوية. فمعناه يجب أن يقدم؛ سواء من طرف الشخص الذي يسرده، أو من طرف من يسمعونه، أو من خلال مزيج من الاثنين. فمن ناحية، هناك ذلك الحماس المرح الذي من شأن جوته أن يجاهر به في فخر؛ ففي نسخته، استولى جوته على الضمير «أنا» بحيث صار يشير إليه هو نفسه؛ إذ تخيل أن الفعل يعود على الفاعل الأول، وأعطانا المعنى الذي يقول «أنا أيضا ذهبت إلى أركاديا»، والذي عنى به «أنا أيضا ذهبت إلى الجنة». وهذا يعد بمنزلة حنين رومانسي، يضع ذكريات نعيم أركاديا في منزلة أعلى من كآبة الحاضر. من ناحية أخرى، يلعب د. جونسون دوره كناقد/باحث مهووس بالكلمات (وهو الذي، على أي حال، أنتج لنا أول قاموس منهجي للغة الإنجليزية) ويتعامى عن المعنى التصويري. إنه يعجز عن رؤية أي من الإشارات التي جعلت الملك (الذي سيقدر له أن يعيش لفترة طويلة من الخرف) على الفور يدرك أن هناك شخصا آخر مرتبطا بالضمير «أنا» الموجود على النقش باللوحة.
لقد أدرك الملك أن الصوت قادم من المقبرة؛ إذن لا بد أن الموت هو المتحدث: «حتى في الجنة ها أنا ذا»؛ إذن «لا مفر من الموت، حتى في أركاديا.» يملك هذا التأويل مزية ملاءمة موضع النقش على شاهد المقبرة. بيد أن الرسم لا يريدنا فقط أن نأخذ المعنى ونذهب إلى حال سبيلنا، آخذين معنا «تذكرة بالموت» أخرى من أجل مجموعتنا الكلاسيكية. فبادئ ذي بدء، علينا أيضا أن نتذكر دافنيس الميت في قصائد فرجيل حين ننظر إلى هذا النص، ونفكر فيه وفي شخصيته. فلو كان الراعي الميت في أركاديا يقول: «حتى في أركاديا ها أنا ذا»، فلا بد إذن أنه يعني: «حتى في أركاديا، حيث عشت حياتي، أقابل الموت بحيث لا يعود لي وجود.» فحتى أجمل الرعاة، أجمل المغنين، هو شخص فان؛ ومن ثم مكتوب علينا جميعا أن نموت.
تكتنف الصعوبات كل قراءة لهذه الكلمات اللاتينية القليلة. وهذا، في حقيقة الأمر، هو ما تخبرنا به اللوحتان؛ فالسيناريو الذي ابتكره بوسان، واستعاره رينولدز كي يدشن نزعة كلاسيكية استقصائية محترمة في الثقافة الإنجليزية، يصب معظم طاقته في صياغة الحكاية الرمزية التي تشير إلى أن «الكتابة» ليست شيئا ينبغي لنا أن نأخذه كأمر مسلم به. إن إحدى السيدتين في لوحة رينولدز تحتاج إلى الأخرى كي تفسر لها العلامات الموجودة على سطح المقبرة، وقد تكون رفيقتها إما عليمة تماما بالمكتوب، وإما عاجزة عن الفهم هي الأخرى، أو لا تزال تحاول حسم أمرها. وبغض النظر عن التفسير الذي تختاره، يدفع الاختلاف بين الشخصيتين باللوحة المشاهدين إلى الشعور بالمدى الذي تتدخل به «صعوبة القراءة» بيننا وبين معنى اللوحة.
وكي يعرف المشاهدون ما تنطوي عليه اللوحة، عليهم أن يدركوا أن الصورة تجسد دراميا الصيغة التي تقول: «حتى في أركاديا ها أنا ذا.» وكي تعرف السيدتان المرسومتان باللوحة ما تحتوي عليه المقبرة، عليهما أن تقرآ النقش، والأهم من ذلك أن عليهما أن تعرفا قدرا من اللاتينية. لكن عليهما أيضا أن تعرفا النوع الذي تنتمي إليه اللوحة؛ فهما تلعبان دور رعاة بوسان الأركاديين، الذين يشيرون إلى الحروف على مقبرتهم هم، إلى الأنثى الناظرة ذات المظهر المهيب. يندر أن نتوقع وجود رعاة «متعلمين»، ومع ذلك فأركاديا هي ذلك «المكان الآخر» الفرجيلي المعروف لدينا - مثل سيدتي رينولدز - من واقع قراءتنا لنصوص الشاعر عن التقليد الكلاسيكي. ومن بين هذه النصوص، كما رأينا في مستهل هذا الفصل، تلك الكتابة الموعودة لمقبرة دافنيس.
عملية التعلم
كلما زاد تعجبنا من الكيفية التي تتداخل بها الكتابة بين عالمنا وأركاديا، وجدنا أن الكتابة ذاتها التي تبعدنا عن الماضي البائد، هي أيضا ما تبقي على هذا الماضي حيا. فكر للحظة في الدارسين الذين فعلوا أقصى ما في وسعهم كي يبينوا للقرن العشرين مدى التعقيدات التي تكتنف النوع الفني التصويري الخاص بلوحتي «حتى في أركاديا ها أنا ذا». فمن ناحية، نحن نعلم الآن أن (سير) أنطوني بلانت، الذي أمدنا عمله المثابر على لوحة بوسان بالتفاصيل التي يمكننا من خلالها أن ندخل إلى التخيل الفني لصور أركاديا في القرن السابع عشر وما بعده، والذي يعد المؤرخ الفني التاريخي الأول في جيله، وخبير معاينة صور الملكة وما إلى ذلك؛ نحن نعلم أنه كان يخفي هويته السرية بوصفه جاسوسا من الدرجة الأولى للاتحاد السوفييتي. ومن ناحية أخرى، لدينا إروين بانوفسكي، الناقد الثقافي والمؤرخ الفني البارز بالولايات المتحدة، الذي منح في ثلاثينيات القرن العشرين (شأنه شأن هيرمان بروش) حق اللجوء السياسي هربا من الاضطهاد النازي لليهود في ألمانيا. وقد ارتكزت إحدى مقالات بانوفسكي الرئيسية على البحث، الذي قام به بلانت قبل الحرب، عن بوسان بهدف استكشاف القصة الكاملة لعبارة «حتى في أركاديا ها أنا ذا» منذ زمن فرجيل فصاعدا.
تلقى بلانت تعليمه الكلاسيكي في كلية مارلبورو، وكان زميلا وصديقا للشاعر لويس ماكنيس. لاحظنا بالفعل السخرية اللاذعة التي تهكم بها ماكنيس على تدريبه على اللغتين اللاتينية واليونانية بالكلية. وقد قادته النزعة نفسها غير الموقرة إلى أن يكتب في يومياته بعد زيارة جامعية إلى المتحف البريطاني أنه ذهب إلى حجرة باساي وشاهد المنحوتات الرخامية الفيجالية «المريعة». على مدار حياته المهنية ارتكن شعر ماكنيس على نحو عريض على موضوعات كلاسيكية، علاوة على أنه استكشف المخاوف التاريخية الفنية التي تقاسمها مع بلانت في وقت لاحق من حياته. وهو يخاطب تحديدا القضايا التي نستكشفها في هذا الفصل على نحو جزئي على غرار عبارة «مات بندار» الساخرة؛ حيث يرى هذا الشاعر الإغريقي الذي يعد من أصعب الشعراء من حيث اللغة وقد اختنق بفعل الجلبة المنحطة للحياة الحديثة: «هناك مسافرون متجولون على الطرقات | - مات بندار - | تهدر مضخات البترول في صخب وهي تؤدي عملها ...» و«بوسان» العذب، حيث تبدو «السحب التي يرسمها مثل الشاي الذهبي ...» و«قصيدة أمام البوابة ذات القضبان الخمسة»، حيث يخبر الموت راعيين مشدوهين قائلا: «لا طريق هنا، أيها الراعيان، اقرآ اللافتة الخشبية، | طريقكما مسدود، وكل الأرض ملكي ...»
من الصحيح أن ماكنيس يستنكر تعليمه الكلاسيكي، لكنه حين يستنكر العالم المعاصر الذي لا يستطيع أن يجد فيه لهذا التعليم الكلاسيكي دورا، فإن عمله يؤكد بالمثل - في تضارب تام ومقصود - على وصف ذلك العالم المعاصر بأنه بربري وكريه، وسبب هذا تحديدا هو أنه لا مكان فيه للتراث الكلاسيكي. بل إنه يصوغ هذا بكلمات تعيد على نحو مباشر إحياء الأنماط الكلاسيكية لاستنكار العالم. فالشاعر يرى أن الثقافة الحديثة مليئة بالمخلفات والبقايا والمهملات الكلاسيكية. وهو يعرف أيضا أنه مبرمج كي يجد هذا، وهو يتفهم أن الأمر عينه ينطبق على كل شخص متعلم في الغرب يعرف أن الخلفية الثقافية للماضي هي وحدها القادرة على توفير إطار يمكن داخله هذا الشخص أن يرسخ أقدامه ويتعرف على ذاته. وهناك صورة أخرى للدرس عينه موجودة ضمنا في النطاق الواسع من المعارف الموظفة في استقصاءات بلانت وبانوفسكي الخاصة بعبارة «حتى في أركاديا ها أنا ذا».
درس بانوفسكي التراث الكلاسيكي في شبابه هو الآخر، وإن كان وفق نموذج ألماني أكثر توقيرا من ذلك الذي درس وفقه بلانت وماكنيس. وهو يرسم في براعة صورة المدرس التقليدي في عصره بوصفه «رجلا ذا عيوب عديدة، أحيانا يكون مغرورا وأحيانا أخرى خجولا، وكثيرا ما يهمل مظهره، ويجهل في أريحية نفسية الشباب الصغار.» وكل ما يريد قوله عن الرجل الذي درس له اللاتينية هو أنه كان متخصصا من الدرجة الأولى في خطب شيشرون، أما اليونانية فقد علمها له «متحذلق محبوب». وقد اعتذر هذا المدرس عن إغفاله فاصلة موضوعة في موضع خاطئ في فقرة لأفلاطون كان التلاميذ يترجمونها قائلا لهؤلاء التلاميذ البالغ عمرهم 15 عاما: «إنه خطئي، ومع ذلك كنت قد كتبت مقالا عن هذه الفاصلة تحديدا منذ عشرين عاما، والآن علينا أن نعيد الترجمة مرة ثانية.» ظلت هذه القصة حية في عقل بانوفسكي، بل في الواقع جعل منها قصة عنه هو نفسه. وهذه القصة تخبرنا أن نتلمس طريقنا ونجد هناك الحب الموسوس للتعلم، علاوة على السخافة المتحذلقة، ثم بعد ذلك نتبين الموضع الذي نقف فيه. وعموما، تبين القصة أن المعلمين يدرسون لتلاميذهم بالطريقة عينها التي تعلموا هم بها، سواء اختار التلاميذ أن يحاكوا هذا النموذج أو يعدلوه أو يرفضوه. ونحن نتعلم من بانوفسكي أن ما يتعلمه التلاميذ هو «عملية» التعلم ذاتها. إن بلانت وماكنيس وبانوفسكي، بطرقهم المختلفة، كانوا واعين تماما للدور المعقد والحيوي الذي استمرت دراستهم للتراث الكلاسيكي في لعبه في أعمالهم وتفكيرهم.
نامعلوم صفحہ