من تكون تلك الدولة؟ وكيف يمكن أن تتخلى لها الدول الأخرى؟ أذلك مستطاع دون عوض ما في مكان آخر غير تونس؟ وأين ذلك المكان أو تلك الأمكنة؟
معنى هذا أنه كان لا بد لتحول الرقابة الأوروبية في تونس إلى رقابة دولة واحدة من ظروف أوروبية أدت إلى مواجهة مشكلات مستقبل العالم العثماني كله، إلى وضع المسألة الشرقية - كما كانوا يقولون إذ ذاك - على بساط البحث عندئذ، وعندئذ فقط - تتحتم مواجهة الحقائق، وتبرز القوة أداة للتنفيذ، فيخضع لها من ليس مستعدا لمواجهتها بقوة تساويها.
وقد خلقت الثورات في البلقان ضد الحكم العثماني والحرب بين الروسيا والدولة العثمانية (1877-1878م) هذا الموقف الذي وصفنا، وفي هذا الموقف ولدت حماية فرنسا لتونس، كما ولد أيضا الاحتلال البريطاني لمصر، وقد بدأ بتلك الحماية الفرنسية فعل العامل الأخير في تشكيل تونس المعاصرة، ويجدر بنا وقد نشرت الحكومات الأوروبية بعد الحرب العالمية الماضية الكثير من وثائقها السرية السياسية، أن نعرض بشيء من التفصيل كيف نالت فرنسا ما كانت تصبو إليه من السيطرة على تونس، وما ترتب على ذلك من عواقب لتلك البلاد وأهلها. •••
كيف أدى التطور الذي شرحنا معالمه إلى وقوع تونس تحت السلطان الفرنسي وحده؟ لبيان هذه النهاية لا بد لنا من البحث عن أسبابها في العلاقات الأوروبية التالية لهزيمة فرنسا في سنة 1870م، وفي تأثر تلك العلاقات بالأزمة الشرقية المترتبة على هزيمة الدولة العثمانية في حربها مع الروسيا 1877م.
لقد بدأت حوادث سنة 1870م عهدا جديدا في التاريخ الأوروبي الحديث، فقد أثرت هزيمة فرنسا الكاملة وإتمام خلق الإمبراطورية الألمانية واقتطاع إقليمي الألزاس واللورين من جسم فرنسا الحي في العلاقات الأوروبية حتى يومنا هذا، ويشاء موقف الدول الأوروبية في العالم أن كل ما يجري في أوروبا يتردد صداه في أراض وبين أقوام «لا ناقة لهم فيها ولا جمل».
كان هم ألمانيا الجديدة بعد 1871م وشغلها الشاغل أن تمنع فرنسا من نقض ما تم في تلك السنة، واتجهت خطط عاهلها العظيم - بسمارك - نحو عزل فرنسا عزلة سياسية، فلا تجد حليفا أوروبيا قويا يشد أزرها في حرب ضد ألمانيا، وقد فضل بسمارك أن تقع فرنسا تماما تحت سلطان أحزاب اليسار الجمهورية؛ اعتقادا منه بأن أمل تلك الأحزاب في نيل تأييد سياسي أوروبي أقل من أمل أحزاب اليمين، وأن انتصار الأحزاب الجمهورية الفرنسية يضعف من شأن الكاثوليكية في ألمانيا، وكانت إذ ذاك في حرب شعواء ضد بسمارك.
ولم يكن بسمارك بالسياسي الذي يكتفي بالإجراء السلبي، أو الذي يعتقد بإمكان قمع أمة كالأمة الفرنسية إلى الأبد، بل هناك ما يثبت أنه أدهشته سرعة نهوض فرنسا من كبوتها في السنوات التالية لسنة 1871م، وأنه اعتقد أنه ينبغي أن يضع نصب أعين زعمائها أهدافا يجدون في تحقيقها منصرفا للهمم القومية وغسلا لعار الهزيمة الكبرى، واستعادة لمركزهم القديم بين الأمم، وإبعادا لهم عن فكرة «الانتقام» المتملكة العقول - لذلك كله عرض بسمارك على فرنسا في أكثر من مرة بسط سلطانها على تونس، ولم يكتف بهذا بل أدرك أن إرضاء المطامع الأوروبية في أنحاء البلقان والشرقين الأدنى والأوسط، ما يكفل صيانة ما تم في أوروبا نفسها، ويحول دون قيام محالفات أوروبية لقلب الحالة القائمة، فلم يكره امتداد النفوذ الروسي في الدولة العثمانية على شرط أن تنال الإمبراطورية النمسوية المجرية ما يرضيها في البوسنة والهرسك، وعلى شرط قبول الحكومة الإنجليزية أن توطد أقدامها في مصر وغيرها من المناطق الشرقية التي تهمها بالذات.
ولم تصب السياسة البسماركية في السنوات الواقعة فيما بين 1870-1877م إلا قدرا محدودا من النجاح. فلم تبد بوادر تدل على أن تسوية 1871م قد أصبحت نهائية بالمعنى الصحيح. أو أن فرنسا أو إيطاليا أو الروسيا أو النمسا والمجر أو إنجلترا مستعدة للتسليم تسليما خالصا بالوضع البسماركي للأشياء.
ولكن عندما تشتغل الثورات في بعض ولايات الدولة العثمانية في البلقان، وتأخذ الدولة العثمانية الثائرين وغير الثائرين بما درجت عليه من ضروب الشدة الوحشية، وتغزو الدولة الروسية أراضي السلطان في أوروبا وآسيا، عند ذلك وجدت الدول الأوروبية أن لا بد من مواجهة حقائق الأشياء، وتلمست كل منها في الشهور السابقة لصلح سان استيفانو كما في الشهور التالية حلا يصون مصالحها الخاصة، ويكون في نفس الوقت أساسا لتسوية شرقية عامة - أما فرنسا فأمامها مشكلتها الكبرى، أمامها أن لا طمأنينة حقيقية إلا إذا وجدت لنفسها حليفا قويا، وما لم يتيسر لها ذلك، فلا بد من تجنب الأزمات والابتعاد عن مواطن الزلل، فابتعدت بقدر الاستطاعة عن الأحاديث والمفاوضات المتعلقة بالمسألة الشرقية، وترددت في قبول الدعوة لمؤتمر أوروبي يستعرض صلح سان استيفانو، ويحيل هذا الصلح من اتفاق روسي عثماني إلى تسوية ترضاها أوروبا. ثم اشترطت لقبولها ألا يبحث المؤتمر إلا ما اتصل مباشرة وطبيعيا بالحرب بين الروسيا والدولة العثمانية، وفسرت هذا بألا يعرض على المؤتمر أي شأن من شئون غربي أوروبا، أو من شئون مصر وسورية والبقاع المقدسة [رسالة من وزير خارجية فرنسا لسفرائها في برلين ولندن وروما ... إلخ بتاريخ 7 مارس 1878م - الوثيقة رقم 262 من المجلد الأول من الوثائق السياسية الفرنسية]، ولما ضمن لها هذا قبلت الدعوة لمؤتمر برلين.
وأما الحكومة البريطانية، فيمكن القول بأن حوادث السنوات 1876، و1877، و1878م قد هدمت فيها خطة المحافظة على الدولة العثمانية وأحلت محلها خططا أخرى متناقضة، إحداها خطة الأحرار «وهم في المعارضة» القاضية بأن يكون رائد الحكومة الرائد الإنساني المسيحي؛ أي تحرير الشعوب العثمانية المسيحية المغلوبة على أمرها، وخطة ثانية: هي خطة رئيس الوزارة «اللورد بيكونز فيلد»، وهي تتكون من عناصر شتى: من السياسة التقليدية البريطانية، ومن القيام بمغامرات حربية وسياسية من أشباه ما كان الشاب الطموح بنيامين دزرائيلي يتلهى به في قصصه، ولم يصل دزرائيلي للحكم إلا بعد أن أصبح شيخا حطمته السنون والأمراض، وفي الخطة البيكونز فيلدية ما اجتذب إليه بالذات الملكة والعامة ، وكل من شبوا على كره الروسيا من المحافظين، وخطة ثالثة، وهي خطة وسطى، خطة التسليم بالواقع، بأن إنقاذ الدولة العثمانية كما هي حلم قد زال، بأن تحرير الشعوب المسيحية هدف طيب حقيقة جدير بالاحترام، ولكن الأجدر منه بالاحترام ألا يكون التحرير سببا في إثارة حروب وإسالة دماء، وأن المغامرات الحربية والسياسية قد لا يحترمها السياسي الإنجليزي في قرارة نفسه، ولكنه لا يسعه إغفالها تماما. فالواجب يقضي إذن بخطة عملية تساير الظروف محاولة الوصول إلى حل سلمي يرضي الجميع، ويمكن القول بأن هذه هي خطة سالسبوري - وزير الهند أولا، ثم وزير الخارجية ثانيا في وزارة بيكونز فيلد.
نامعلوم صفحہ