وأنفذ الأغالبة عام 902م حملة على كتامة، فبلغت غرضها بعد جهد، وازداد خطر الشيعة أيام زيادة الله الذي قتل أباه عبد الله المعتزلي، وفي عام 905 أسرع المهدي بالقدوم من الشام إلى شمالي إفريقية وانتظر في سجلماسة اللحظة المواتية للمجاهرة بدعوته، وكان داعيته المخلص يفتك بجيش الأمير وأخذت الحوادث تجري سراعا، وحاول زيادة الله عبثا أن يحاكم الشيعة أمام مجمع من الفقهاء في تونس، وطلب المعونة من العباسيين، وسقطت باغاية في ربيع عام 907م، وفي شهر مارس عام 909م فر زيادة الله إلى بغداد بعد سقوط الأربس، ودخل الداعي رقادة على الرغم من العداوة التي أسرها علماء السنة، وفي شهر ديسمبر من السنة نفسها تلقى المهدي بنفسه فروض الولاء من الأهلين في القيروان، وهكذا تأسست في إفريقية بفضل الجند المشاة من بدو كتامة الخلافة الفاطمية العبيدية الشيعية، فأحدثت انقلابا في الأحوال السياسية في شمالي إفريقية بأسره، قبل رجوعها إلى موطنها القديم في المشرق.
وكانت الدولة الجديدة تمد بصرها من أول الأمر إلى مصر، ولم تنقطع عن إنفاذ الحملات تمهيدا لفتحها، حتى وطدت أقدامها فيها، وقد قتل عبيد الله في يناير من 911م أبا عبد الله، وهو الذي ثبت له الملك، مثله في ذلك مثل المنصور الخليفة العباسي الذي قضى على داعيته أبي مسلم. وقد سار ابنه على رأس جيش عام 913م وفتح الفيوم، واستولى ابن آخر على مدينة الإسكندرية، فلما توقف الفتح ناحية الشرق فكر المهدي في تأسيس عاصمة له في إفريقية على البحر، فابتنى المهدية لتخرج منها الأساطيل لمهاجمة المشرق، وللتحصن فيها من هجمات البربر من داخل البلاد، وقد أنفذت عام 919م حملة أخرى استولت على الإسكندرية، واحتفظت بها أمدا وجيزا، وكان انتصار هذه الخلافة في الغرب مبينا، فقد قضت على ثورة صقلية وأدخلتها في طاعتها، ولما توفي عبد الله في مطلع عام 934م كان المغرب بأسره قد دان للفاطميين وقضى على دولة الإباضية في تيهرت والإدريسية في فاس وصفرية سجلماسة، واعترفوا جميعا بسلطان الفاطميين.
واستطاع أبو القاسم نزار القائم بأمر الله أن يوطد سلطانه على الدولة المترامية الأطراف التي ورثها. والواقع أن أسطوله تمكن من نهب جنوة عام 935م، بيد أنه لم يكن لهذه الغارة شأن، ولم يكن منه إلا أن استسلم للثورة الشديدة التي قاد لواءها النكاري أبو يزيد بن كيداد الإفراني صاحب الحمار، الذي جهر بأنه «شيخ المؤمنين»، وقاد باسم الدين هوارة شرقي أوراس لمهاجمة مدن إفريقية، ونهب البربر الخوارج عام 944م باجة والأربس والقيروان وسوسة، واستولوا على تونس وحاصروا الخليفة بالمهدية بعد أن زاد عددهم بمن انضم إليهم من بربر نفوسة والزاب، ومات أبو القاسم في أحرج الأوقات عام 946م، واستطاع ابنه إسماعيل المنصور أن يعيد الأمور إلى نصابها يؤيده أهل البلاد الذين أثارتهم مظالم الغزاة، وتنصره كتامة التي ظلت موالية له، وهزم أبو يزيد في وقائع دموية متعاقبة ورأى بعينيه تفرق رجاله، ثم سقط في يد أعدائه مثخنا بالجراح، في الموضع الذي شيد فيه ابن حماد قلعته عام 947م.
فلما انتهى هذا العصر المضطرب، أعقبه عصر آخر يسوده الأمن والرخاء، وبادر المنصور إلى إظهار سلطانه بتشييد مدينة صبرة الزاهرة، التي عرفت بالمنصورية، وسرعان ما أخملت جارتها القيروان، وازدهرت التجارة والصناعة، وكان القائد رشيق يجوب البحر ملقيا الرعب في قلوب النصارى. وجاءت اللحظة المنتظرة من زمن طويل عندما اعتلى المعز عرش الخلافة عام 953م. فقد دان له المغرب بأسره، على الرغم من شبوب الفتن بين الحين والحين لمناصرة الأمويين أصحاب قرطبة، وكانت غارات الأندلسيين على سواحل سوسة وطبرقة ثارات قديمة ليست بذات خطر، وقوي الأمل في فتح مصر، وكان قد ضعف بموت كافور الإخشيدي، فاحتل جوهر الصقلي مدينة الفسطاط في يوليو عام 969م باسم الخليفة المعز، مثله في ذلك مثل أبي عبد الله الذي احتل القيروان لمولاه المهدي، كما احتل أبو عبد الله مدينة دمشق في العام الذي يليه، وأسس مدينة القاهرة لمولاه، ثم دعاه إلى اللحاق به؛ ليقف في وجه القرامطة. فلما فرغ الخليفة الفاطمي من القضاء على آخر ثورات زناتة، وكان يتشبه بالمشارقة في رسوم الملك والخلافة، تجهز للرحيل في أغسطس 972م، فبلغ القاهرة في العاشر من يونيو 973م، وأصبحت هذه المدينة بذلك قصبة دولته.
وعهد المعز قبل رحيله بحكم إفريقية (ما عدا صقلية) إلى الأمير البربري بلكين، وكان أبوه زيري بن مناد عدوا لدودا لقبيلة زناتة الثائرة، وقد أعان العبيديين دائما برجاله من صنهاجة، وقد نجحت هذه الخطة التي رمت إلى حكم البلاد بأمراء من البربر نجاحا كاملا، وكان بنو زيري يتسلمون كتاب الولاية من القاهرة، وفي أيامهم عم الرخاء في إفريقية، وكثر الخير والزاد بفضل ارتقاء الزراعة والصناعة والتجارة مع العالم الخارجي، وكانت المحافل الرسمية غاية في الأبهة والبذخ، ونهضت دراسة الفقه والطب، وكان قد برز فيها أيام الفاطميين رجال مشاهير، كما برز في الأدب الشاعر ابن رشيق، واجتذب يهود القيروان نفرا من مشاهير التلموديين، كما نبغ منهم كثيرون.
ولم تتأثر هذه الحضارة الزاهرة بفتن زناتة المغرب الذين استفحل أمرهم مع الأيام وجهروا بولائهم لقرطبة، كما أنها لم تتأثر بانفصال حماد الذي أسس في عهد أخيه باديس بن المنصور عام 1008م دولة مستقلة في قلعته المشهورة. بل كان الأمر على العكس من ذلك، فقد بلغت الدولة أوجها - فيما يظهر - أيام المعز بن باديس في النصف الأول من القرن الحادي عشر، بيد أن هذا المعز كان كثير الخيلاء، وقد وقره خلفاء القاهرة وبجله أهل المغرب بأسره، ولكنه اقترف خطأ عظيما ببعث الفتن الدينية القديمة التي كان يتذرع بها سكان شمالي إفريقية للانتقاض على حكامهم المشارقة، واجتمع حوله مالكية القيروان، وتوجه بولائه إلى العباسيين في بغداد، وانتهى به الأمر إلى الجهر بعصيان الفاطميين على مراحل استغرقت العهد إلى عام 1050م.
وكان انتقام الخليفة الذي انتقض عليه انتقاما شنيعا، واستشعر وزير مصر الفاطمي أن الإهانة موجهة إليه، فأنفذ إلى الوالي الثائر جماعات من أعراب الهلالية النهابة، وكانوا يسكنون الصعيد شرقي نهر النيل، وبلغ بنو رياح أول العرب الهلالية شمال إفريقية عام 1051م، فأحدثوا انقلابا في تاريخ سلطنة تونس، وأسرع المعز إلى تحصين القيروان، فلم يجده ذلك نفعا وهزم عندها مرتين، وفي عام 1057م دهمه البدو ونهبوا أغوار البلاد جميعا، فانتقل سرا إلى المهدية في حراسة أمراء من العرب اضطر إلى الإصهار إليهم وتزويجهم من بناته، وقد أحدث هؤلاء الغزاة وعدتهم مئات الألوف انقلابا كبيرا في شمالي إفريقية؛ من حيث الاقتصاد والسياسة والسلالات. فقد رد البربر واستعربت البلاد وغلبت عليها البداوة، واضطرب الأمن، فهلك الزرع وتقوض سلطان الحكومة المركزية، وسقطت بعض المدن الكبيرة في يد العرب، واستقلت غيرها بأمر نفسها، يحكمها أمراء من أهل البلاد، أو عمال جهروا باستقلالهم، وكان منهم من قدم فروض الولاء إلى بني حماد أصحاب القلعة ليحتموا بهم، وهكذا تأسست دويلة بني خراسان في تونس، وبني الورد في بنزرت، وبني جامع في قابس، وبني الرند في قفصة. أما في الوسط فقد عمت الفوضى والاضطراب.
واستطاع بنو زيري - على الرغم من كل هذه المصاعب - أن يحتفظوا بالمهدية، ولم يكن في أيديهم إلا الساحل الممتد بين سوسة وقابس، وخلف تميم أباه المعز، فحاول عبثا أن يستعيض بعض ما فقده أبوه، فاصطلح مع ابن حماد، ولم يوفق في هجومه على تونس، وأصبح محصورا في المهدية، لا مناص له من رد هجمات العرب وصد النصارى الذين تجدد عداؤهم له، وقد سقطت المهدية عام 1087م بتحريض البابا في يد الييزيين والجنويين، فاضطر تميم إلى تعويض المنتصرين وإعفاء تجارتهم من المكوس. واعترف يحيى بن تميم وبعده ابنه علي بسلطان الخلفاء في القاهرة، وأيدتهما قبائل العرب، فأحرزا بعض الانتصار في البر والبحر، حتى دهمهما عدو لم يكن في الحسبان؛ ذلك أن النورمان كانوا قد غزوا صقلية ومالطة، وشرعوا يتدخلون في شئون إفريقية، وفي عام 1118م دبت الفرقة بينهم وبين هذا الأمير الزيري، فاستعان بالمرابطين من أقصى المغرب، واضطر الحسن بن علي أول الأمر إلى الاتفاق مع روجر صاحب صقلية، وقبول حمايته ليقف في وجه بني حماد أصحاب بجاية، بيد أن هذا لم يمنع أمير البحر جورج الصقلي الأنطاكي من إجلائه عن المهدية عام 1148م، وبسط روجر الثاني ثم وليم الأول لونا من الحماية السمحة على جربة والمدن الساحلية من سوسة إلى طرابلس، وكان غرضهم في ذلك تجاريا، ولكن هذا لم يدم طويلا، فقد ثار النصارى وسرعان ما استعادوا حريتهم، وبقيت سوسة والمهدية وحدهما في يد الكفار إلى عام 1160م عندما استولى عليهما عبد المؤمن الموحدي الذي جاء من المغرب الأقصى، وهزم عرب إفريقية عام 1151م، وكانوا قد اتحدوا في وجهه بزعامة الأمير المعز بن زياد الرياحي، ثم قضى على كل مقاومة اعترضت سبيله، واستولى على الحصون وأعمل السيف في اليهود والنصارى، فأعاد بذلك الوحدة السياسية إلى شمالي إفريقية خمسين عاما أو تزيد.
ولم تذق إفريقية طعم السلام على الرغم من نفوذ خلفاء مراكش أصحاب السلطان الجديد فيها، ولم يستشعر الناس سلطان الموحدين؛ لأنهم أقاموا من قبلهم عاملا في مدينة تونس يختار من أقارب الخليفة الأدنين، وسرعان ما ظهر عجزه عن إعادة النظام إلى الولاية التي كان العرب دائما يتهددونها، إلى جانب ما أحدثته جماعات التركمان من اضطراب بزعامة قراقوش الأرمني. وشخص يوسف ويعقوب المنصور على رأس الجند في عامي 1180 و1187م بيد أن ذلك لم يكن كافيا، فقد كان يحيى المرابط حليف قراقوش سعيد الجد، فقد انفصل عن حليفه وغلب خصمه ابن عبد الكريم الرغراغي على أمره، واستطاع أن يبسط سلطانه من قاعدته في الجريد على ولاية تونس بأسرها، واحتاج الأمر أن ينفذ الخليفة الناصر حملة يقضي بها على المرابطين؛ وذلك بزعزعة سلطان يحيى، وإقامة حكومة قوية على الولاية عهد بها أول الأمر إلى الشيخ عبد الواحد بن أبي حفص، فبلغ الحفصيون بذلك أول مرتبة من مراتب السلطان.
وولي أمير آخر من بني حفص على تونس منذ عام 1184م، وقد انحدر هذا البيت الحفصي من أمير بربر هنتاتة، من قبائل مصمودة التي كانت تعيش في مراكش، وكان له شأن عظيم بين أتباع المهدي بن تومرت، وقد مكنوا لأنفسهم في إفريقية عام 1226م باستعمال أبي محمد عبد الله الذي خلعه بعد ذلك بعامين أخوه أبو زكرياء، واستقل أبو زكرياء بالأمر شيئا فشيئا، ولكنه قنع مع ذلك بالإمارة، وكان المؤسس الحقيقي للدولة التونسية العظيمة التي حكمت ثلاثة قرون ونصف قرن على الرغم من الأحداث التي تقلبت عليها، وقد استمسك الحفصية دائما بسنة الموحدين، وكان نظام الدولتين في الحكم متشابها، إذا استثنينا بعض الفروق الصغيرة، بيد أنه لما نادت مكة بثاني أمرائهم المستقلين، «ابن أبي زكرياء»، ظلت تحيط به بطانة قوية من الموحدين كانوا دعامة الدولة والجيش، وكانت دواوين الحكومة تندرج في ثلاثة أقسام كبيرة: الجيش وبيت المال والقضاء، وكان عمال الولايات يختارون عادة من أقارب الخليفة الأدنين. بيد أن من الخطأ أن ننكر ما كان لكثير من الأندلسيين من شأن في إدارة البلاد وحياتها العقلية، بعد أن أجلاهم النصارى عن الأندلس في القرن الثالث عشر الميلادي.
نامعلوم صفحہ