ولما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان قد استعمل على عمان عمرو ابن العاص وأراد عمرو أن يرجع إلى خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم صحبه ملك عمان عبد بن الجلندى وجعفر بن خشم العتكي وأبو صفوة سارف بن ظالم في جماعة من الأزد , فقدموا بعمرو بن العاص على أبي بكر الصديق رضي الله عنه فلما دخلوا عليه قام سارف بن ظالم فقال يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويا معشر قريش هذه أمانة كانت في أيدينا وفي ذمتنا وديعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقد برئنا منها إليكم , فقال أبو بكر جزاكم الله خيرا وأثنى عليهم المسلمون خيرا وقام الخطباء بالثناء عليهم والمدح , فقالوا: كفاكم معاشر الأزد قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وثناؤه عليكم , فقام عمرو بن العاص فلم يدع شيئا من المدح والثناء إلا قاله في الأزد , وجاءت وجوه الأنصار من الأزد وغيرهم مسلمين على عبد ومن معه , فلما كان من الغد أمر أبو بكر فجمع الناس من المهاجرين والأنصار وقام أبو بكر خطيبا فحمد الله وأثنى عليه وذكر النبي فصلى عليه وقال: معاشر أهل عمان إنكم أسلمتم طوعا لم يطأ رسول الله ساحتكم بحف ولا حافر ولا جشمتموه ما جشمه غيركم من العرب , ولم ترموا بفرقة ولا تشتت شمل , فجمع الله على الخير شملكم ثم إليكم عمرو بن العاص بلا جيش ولا سلاح فأجبتموه إذ دعا كم على بعد داركم , وأطعتموه إذ أمركم على كثرة عددكم وعدتكم فأي فضل أبر من فضلكم , وأي فعل أشرف من فعلكم كفاكم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم شرفا إلى يوم الميعاد , ثم أقام فيكم عمرو وما أقام مكرما , ورحل عنكم إذ رحل مسلما وقد من الله عليكم بإسلام عبد وجيفر ابنى الجلندى وأعزكم الله به وأعزه بكم , وكنتم على خير حال وجميل حتى أتتكم وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فأظهرتم ما يضاعف فضلكم , وقمتم مقاما حمدناكم فيه ومحضتم بالنصيحة وشاركتم بالنفس والمال فيثبت الله به ألسنتكم , ويهدي به قلوبكم , وللناس جولة فكونوا عند حسن ظني فيكم , ولست أخاف عليكم أن تغلبوا على بلادكم ولا أن ترجعوا عن دينكم , جزاكم الله خيرا ثم سكت.
وظهرت إجابة دعاء الرسول ودعاء خليفته لأهل عمان وصدق الله توسمهما فيهم , فهم أكثر الناس هدى وصوبا ومنهم الأئمة العادلون والعلماء الراشدون لم يتسلط عليهم عدو من غيرهم وولم تخرج بلادهم من أيديهم , وإن غلبوا على دولتهم في بعض الأحيان لما أراد الله من تمحيص المؤمنين وتمحيق الكافرين , فما زالت دعوتهم بالحق ظاهرة , وسيرتهم بالعدل شاهرة , ودولتهم بالفضل زاهرة , منهم العلماء النجباء والعقلاء والفضلاء والبلغاء الخطباء.
قال عمرو بن بحر وهو الجاحظ: لربما سمعت من لا علم له يقول ومن أين لأهل عمان البيان , قال ونهل يعدو لبلدة واحدة من الخطباء والبلغاء مما يعدون لأهل عمان؛ منهم مصقلة بن الرقية أخطب الناس قائما وجالسا ومفردا ومنافسا ومجيبا ومبتدئا , ثم ابنه من بعده كرب بن مصقلة وولهما خطبتا العرب العجوز في الجاهلية والعذراء في الإسلام.
وقال أبو عبيدة ما سمعنا مثلهما في الإسلام إلا خطبة قيس بن خارجة بن شيبان في حملة داحس , فقد ضرب به المثل وذلك أن قيسا أتى الجاهلين وهما خارجة ابن شيبان والحارث بن عوف فضرب مؤخر راحلة ابن شيبان بالسيف وقال مالي وهذه الحمالة أيها العيسيميان فقد فقأت عين بعير عن ألف بعير , قالوا وما عندك رضي كل ساخط وقرى كل نازل , وخطب من لدن تطلع الشمس إلى أن تغرب وأمر فيها بالصلة ونهي فيها عن القطيعة وخوف فيها درك العواقب؛ وما تجئ به النوائب , فزعموا أنه خطب من غدوة إلى الليل , فقال قائلهم وهو يذكر غيره فلو قال حتى تغرب الشمس قائما لكان كقيس في ديار بني مرة , وهو خطيب قيس في الجاهلية , وخطيبهم في الإسلام سحبان بن وائل الباهلي.
صفحہ 11