بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين
بحمد الله ومنه أسترفد وبحسن توفيقه أستنجد وعلى سوابغ لطفه أستند وفي أوضح سبله بأبين دلائله أسترشد وبعصم الهداية عن غياهب الضلالة أستبعد وبالتوسل بمحمد سيد البشر وشفيع المحشر أستسعد وباقتفاء هديه واتباع أمره أستمجد وفي الصلاة عليه وعلى آله وصحبه غاية وسعي أستنفد.
ثم إلى الله سبحانه أرغب في تيسير ما هممت به من تفسير معوصات كتاب المصابيح المقتبسة من النور العلوي الفائض على الروح القدسي المصطفوي وحل مشكلاته وإبانة معضلاته واستكشاف أسراره واستيقاد أنواره والتنبيه على مزالق أهل الأهواء عن صراط السواء وما ارتبكت به علاتهم واشتبكت به جهالاتهم والإرشاد إلى ما يظهر عمايتهم ويزيح غوايتهم بحسب ما تسعه قدرتي وتفي به
1 / 3
مُنَّتي ليكون تحفة لمن سمت همته إلى اقتباس المعالم الدينية واقتناص المعارف القدسية وترقى بمراقي الفكر إلى عوالي الدرجات بلغه الله أقصى الغايات ووفقه لاستجماع أنواع الكمالات ودليلا لي يوم القيامة يهديني ونورا على الصراط يسعى بين يدي وبيميني والله سبحانه ولي التوفيق وبإسعاف راجيه حقيق
ولنصدر الكتاب بتقديم مقدمات
المقدمة الأولى
في بيان طريق روايتي لهذا الكتاب
وهي من طرق متعددة ووجوه مختلفة أجلها وأقواها أني قد قرأته وسمعته ملرارا على والدي مولاي ولي الله الوالي قاضي قضاة الأعظم السعيد إمام الحق والدين: أبي القاسم عمر بن المولى العلامة قاضي قضاة المغفور له فخر الدين أبي عبد الله محمد بن الإمام الماضي صدر الدين أبي الحسن علي قدس الله أرواحهم ونور ضرائحهم
وهو يرويه عن والده المذكور لقبه واسمه ونسبه وعن عمه أقضى القضاة السعيد شمس الدين أبي نصر أحمد بن علي وعن الإمام
1 / 4
القاضي حجة الدين عبد المحسن بن أبي العميد الأبهري وعن الصدر السعيد كافي الدين فناخسرو بن فنا خسرو فيروز الشيرازي وعن الإمام زين الدين علي بن إبراهيم بن الحسين البيضاوي
وهؤلاء يروونه عن الإمام الحافظ الناقد أبي موسى محمد المديني عن مؤلفه الإمام محيي السنة ناصر الحديث أبي محمد الحسين بن مسعود الفراء البغوي ﵏
وكان ﵁ يرويه أيضا عن الإمام السعيد مخلص الدين أبي عبد الله محمد بن معمر بن عبد الواحد القرشي عن والده عن المؤلف وعن الإمام المقتدي أرشد الدين علي بن محمد النيريزي والإمام المتبحر موفق الدين أبي القاسم عبد الرحمن السروستاني عن الإمام السعيد قوام الدين أبي مقاتل مناور بن فزكوه الديلمي عن المؤلف
وأعلاها: أنه قد أجاز لي روايته خالي الإما السعيد الرباني شهاب الدين أبو بكر ابن الإمام الماضي نجم الدين عبد الرحمن البيضاوي والصاحب السعيد غياث الدين أبو مضر محمد بن أسعد
1 / 5
العقيلي اليزدي والإمام المرحوم جمال الدين أحمد الهمداني المعروف ب (عاج) وهؤلاء ﵏ يروونه عن الحافظ عن المؤلف
وإني قد سمعته بعضه وأجاز لي روايته باقيه الإمام المعمر جمال الدين عثمان بن يوسف المكي عن الإمام أبي منصور بن حفدة الطوسي عن المؤلف ولهل طرق أخرى تركتها حذرا عن الإكثار وإيثارا للاختصار والله ولي التوفيق
المقدمة الثانية
في بيان فضل الفن من العلم على سائر الفنون
سنتلو عليك فيما يتلو هذه المقدمة ما يدل على مؤاخاة وتناسب بين الكتاب والسنة وأنهما من واد واحد وناهيك بهذا لها شرفا وفضلا وهي كعين ينشعب عنها أنهار العلوم الدينينة والمعالم الشرعية فإن علم التفسير - مع جلالة قدره ونباهة ذكره - مبناه على تأويلات وبيانات صدرت عن الشارع صلوات الله عليه وسائر العلوم منشعبة عن هذين العلمين ومتفرعة عليهما لأن من الآيات والسنن ما هي متعلقة بالعقائد
1 / 6
والمعارف ومنها ما يتعلق بأفعال الناس وأحوالهم وإما على طريقة شرع الأحكام أو على سبيل القصص والأخبار.
والأول استأثر الناظر في المعارف والطالب للحقائق وتصرف فيها بالتفصيل والتكميل حتى تحصل على الطبقة العليا والمعرفة الأولى المسماة بـ: العلم الإلهي وأصول الدين وعلم الكلام
والقسم الثاني: وهو ما يتعلق بالأفعال على طريق التخيير أو الاقتضاء انقسم قسمين يتعلق أحدهما بالأعمال الظاهرة وثانيهما بالأحوال الباطنة فأخذ المجتهد في طلب الأحكام الشرعية القسم الأول من هذين القسمين وجعل ما كان منهما معربا عن قاعدة كلية يمكن التوصل بواستطها إلى أحكام شتى أوضاعا وأساسا وسماها مع ما انضاف إليها مما يشاكلها ويتعلف بأذيالها أصول الفقه وما كان دليلا على قضايا تختص بفعل فعل سندا وأصولا وتامل فيها حق تأمله وبذل غاية جهده حتى حصل له من مفهوم منظومها ومدلول مفهومها ومقتضى معقولهل أحكام يقف الحاصي دون إحصائها وسماها: علم الفقه وعلم الشريعة وعلم المذهب
واستخلص أرباب السلوك السائحين في الملأ الأعلى السائرين إلى الله تعالى قسيم هذا القسم وغاصوا فيها وجعلوها ظهرا لبطن ففهما ظواهرها وورثوا بالعمل بها حقائقها وبواطنها فجمعوا الأمرين مناصحة للمريدين ومعاونة للمقتبسين فسموا القسم الأول: علم التصوف وعلم مكارم الأخلاق وعلم الرياضة
1 / 7
وعلم التزكية وعلم التخلية وسموا الثاني: علم الحقائق وعلم المشاهدة وعلم المكاشفة
والقسم الثالث: من الأقسام الثلاثة: الأول أخذه القاص باعتبار الحكاية نفسها: تارة متبددة وتارة متسقة وبنى عليه علمي القصص والتواريخ والمذكر باعتبار ما يصحبها من الاعتبار المرغب والمرهب واستخرج منها علم التذكير فظهر بهذا أن علم الحديث رئيس العلوم ورأسها ومينى قواعد الدين وأساسها
المقدمة الثالثة
في بيان تناسب الكتاب والسنة
قد جرى فيما مضى من الكلام أن الأحاديث تنقسم إلى أقسام ثلاثة: عقائد وأحكام وأخبار والقسم الأخير بأسره غيب لا يمكن الوقوف عليه بإيحاء وتوقيف سواء كانت إخبارا عن أمور مترقبة كالفتن الحادثة والوقائع النازلة في دور دور والأشراط الدالة على دنو القيامة أو قصصا وحكايات عن أشياء سالفة وأشخاص دارجة فإنها أيضا ممن لم يكن حاضر تلك الأحوال ولم يمارس شيئا من كتب الأخبار ولم يصاحب أحدا يعلم هذا الفن ويعتمد فيه على قوله غيب صرف لا يتصور معرفته إلا بنوع من الوحي والإلهام من عالم الغيب والشهادة
1 / 8
والقسمان الآخران وإن أمكن أن يكون فيهما ما صدر عن استدلال عقلي في مسألة عقلية أو اجتهاد في حكم واقعة لم نجد فيه نصا فإن الشافعي وأبا يوسف - رحمهما الله - جوزاه وتوقف فيه الباقون غير أبي علي وابنه فإنهما منعا وجمع فرقوا بين الحروب وغيرها إلا أن ظاهر قوله تعالى ﴿وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى﴾ [النجم:٣ - ٤] يمنع ذلك
فإن قلت: من المحتمل أنه تعالى أوحى إليه وأمره بالاستدلال والاجتهاد وحينئذ يكون ما قاله استدلالا واجتهادا قولا بالوحي واتباعا له.
قلت: أخبر ﷾ أن ما يقوله وحي لا أنه بالوحي وتسمية ما يكون مسببا عن الشيء باسمه مجاز والصل يمنعه فظهر إذا أن الأحاديث كالآيات في كونها وحيا منزلا من عن الله تعالى لكنها تفارقها من وجوه:
الأول: أن الكتاب هو المنزل لأجل الإعجاز والتحدي به ولا كذلك الحديث.
والثاني: أن ألفظ القرآن متعبد بها لا يجوز تغييرها وتعويضها بما يفيد عين فائدتها بخلاف السنن فإن أكثر الأمة على جواز نقلها بالمعنى
والثالث: أن ألفاظ القرآن ما هو مكتوب في اللوح المحفوظ وليس لجبريل ولا للرسول - صلوات الله عليهما - تصرف فيها أصلا
1 / 9
وأما الأحاديث فمن المحتمل أن يكون النازل على جبريل معنى صرفا فكساه حلة عبارته وبينه للرسول ﷺ بتلك العبارة وألهمه كما لقيه فأعرب الرسول بعبارة تفصح عنه هذا ما لاح لي ارتجالا والعلم عند الله وحده
المقدمة الرابعة
في بيان أنواع الحديث
ينبغي لك أن تعلم أنه ليس كل مل ينسب إلى الرسول - صلوت الله عليه - صدقا والاستدلال به جائزا فإنه روي عن شعبة ﵀ أنه قال: نصف الحديث كذب وعن أحمد والبخاري ومسلم وغيرهم من أئمة الحديث ﵏ نحو ذلك
ولأنه نسب إليه - صلوات الله عليه - أنه قال "سيكذب علي" فهذا الخبر إن كان صدقا فلا بد من أن يكذب عليه وإن كان كذبا فقد كذب عليه وللمخافة عن هذا أوعد الشارع عليه وقال "من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار"
وهذا إنما وقع من الثقات لا عن تعمد بل إما لنسيان كما روي عن ابن عمر ﵁ روى "إن الميت ليعذب ببكاء أهله" فبلغ ابن عباس ﵁ فقال: "ذهل أبو عبد الرحمن إنه ﵇ مر بيهودي يبكي على ميت فقال "إنه ليبكي عليه وإنه ليعذب"
1 / 10
أو لالتباس لفظ أو وقوع خطأ في تعبير العبارة والنقل بالمعن نظيره: أن ابن عمر ﵁ روى: أنه ﵇ وقف على قليب بدر فقال: هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا" ثم قال "إنهم الآن يسمعون ما أقول" فذكر ذلك لعائشة ﵂ فقالت "لا بل قال: إنهم الآن ليعلمون أن الذي كنت أقول لهم هو الحق"
أو لأنه ذكره الرسول - صلوات الله عليه - حكاية فحسب الراوي أنه يقوله من تلقاء نفسه كما روي أنه قال: الشؤم في ثلاثة: المرأة والفرس والدار فقالت عائشة ﵂: إنما قال الرسول - صلوات الله عليه - حكاية عن غيره.
أو لأن ما قاله - صلوات الله عليه - كان مختصا بسبب فغفل الراوي عنه كما روي أنه قال "التاجر فاجر" فقالت عائشة: إنما قال ذلك في تاجر يدلس أو لنحوها.
وقد وقع عن تعمد:
إما عن الملاحدة طعنا في الدين وتنفيرا للعقلاء عنه كما روي أنه قيل له: يارسول الله مم ربنا؟ فقال ﷺ: خلق خيلا فأجراها فعرقت فخلق نفسه عن ذلك العرق " تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا وتبرأ الرسول ﷺ عما بهتوه بهتانا عظيما
وإما عن الغواة المتعصبين تقريرا لمذهبهم وردا لخصومهم
1 / 11
كما روي أنه قال: سيجيء أقوام من أمتي يقولون: القرآن مخلوق فمن قال: مخلوق فقد كفر بالله العظيم وطلقت امرأته من ساعته لأنه لا ينبغي لمؤمنة أن تكون تحت كافر"
أو عن جهلة القصص ترقيقا لقلوب العوام وترغيبا لهم في الأذكار والأوراد كما حكي: أن أحمد بن حنبل ويحيى بن معين - رحمة الله عليهما - حضرا مسجد رصافة في جماعة فقام بين أيديهم قاص وقال: أخبرنا أحمد بن حنبل ويحيى بن معين قالا: أخبرنا عبد الرزاق عن معمر عن قتادة عن أنس قال: قال رسول الله ﷺ " من قال لا إله إلا الله خلق الله من كل كلمة منها طيرا منقاره من ذهب وريشه من مرجان " وأخذ في قصة طويلة فنظر يحيى إلى أحمد وقال: أنت حدثته؟ فقال: والله ما سمعته إلا الساعة فدعاه يحيى وقال له: أنا يحيى وهذا أحمد وما سمعنا بهذا قط فقال: لم أزل أسمع أن يحيى أحمق وما تحققته إلا الساعة ليس في الدنيا غيركما أحمد ويحيى قد كتبت عن سبعة عشر أحمد بن حنبل ويحيى بن معين.
أو عن المتهالكين على المال والجاه تقربا إلى الحكام كما وضعوا في دولة بني العباس نصوصا على إمامة العباس وأولاده إلى غيرهم من الزائغين عن الهدى.
1 / 12
إذا عرفت هذا فتقول: ما نقل عن الرسول - صوات الله عليه -
ثلاثة أقسام: ما يعلم صدقه وما يعلم كذبه وما لا يعلم حاله
والأول: كل خبر بلغت كثرة رواته في كل طبقة مبلغا أحال
العقل تواطؤهم على الكذب ويسمى: متواترا.
والثاني: ما يخالف قاطعا ولم يكن يقبل التأويل أو كان من
الشواذ المروية في أمر تتوفر الدواعي على إشاعته إما لغرابته، أو
لكونه أصلا في الدين ويسمى: موضوعا.
والثالث: على ثلاثة أقسام لأنه: إما أن يكون راحج الصدق، أو
راجح الكذب، أو مستوى الطرفين.
والأول: ما سلم لفظه ومعناه، واتصل إسناده إلى الرسول - صلوات الله عليه - بعنعنة ثقات معلومي العدالة ويسمى:
صحيحا، وقد يقسم هذا القسم بنوعين من التقسيم إلى أقسام أربعة:
التي أوردها الإمامان محمد بن إسماعيل الجعفي البخاري ومسلم بن
حجاج القشيري في جامعيهما - تسمى صحاحا وإن كانت
فرادى في كل الطبقات أو بعضها تسمى: حسانا وعلى هذا
اصطلح صاحب الكتاب، ولا شك أن القسم الأول عند التعارض
أرجح من الثاني، لتأكد الظن فيه، واتفاق القائلين بالخبر الواحد
على هذا النوع خاصة. والثاني: أن الحديث إن كان مما دونه الحفاظ
وشاع فيما بينهم سمي: مشهورا، وإن تفرد به حافظ واحد، ولم
1 / 13
ينكره غيره سمي: غريبا، وقد يطلق الغريب ويراد به: ما رواه
التابعي عن صحابي لم يكن مشهورا به.
والثاني: ما يكون في لفظه ركاكة أو خلل لا يحسن إصلاحه، أو
في معناه خور، مثل أن يكون على خلاف آية أو خبر متواتر أو إجماع،
ويسمى: مستقيما، أو في أحد رواته قدح وتهمة، ويسمى: ضعيفا
ومنكرا، وقد يطلق السقيم عليه أيضا.
والثالث: ما لا يكون في متنه علة، ولا في راويه خلل بين، لكن
بعض رواته لم يعلم بعين أو وصفه، والأول: إن كان هو الصحابي
سمي الحديث: مرسلا، وإن كان غيره سمي: منقطعا، وإن كان
كليهما سمي: معضلا، والثاني: ما لا يعرف عدالة رواته، وسمي:
مجهولا. والمنقطع والمعضل لا استدلال بهما، وفي المرسل
والمجهول خلاف، فاعتبرهما أبو حنيفة، ورد الشافعي ﵁ المجهول
مطلقا، والمرسل إذا لم يكن مؤبدا بإرسال آخر، أو فتوى أهل العلم
أو العلم بأن الراوي الفرع لا يروي إلا من العدل وللكلام بعد
مجال، لكن الاقتصار أولى والاشتغال بالمقصود أجدى.
1 / 14
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى والصلاة التامة
الدائمة على رسوله المجتبى محمد سيد الورى وعلى آله نجوم
الهدى.
قال الشيخ الإمام الأجل السيد، محيي السنة، ناصر الحديث
ركن الإسلام، قدوة الأمة، إمام الأئمة، أبو محمد الحسين بن
مسعود الفراء، البغوي، نور الله قبره:
أما بعد، فهذه ألفاظ صدرت عن صدر النبوة، وسنن سارت
عن معدن الرسالة، وأحاديث جاءت عن سيد المرسلين وخاتم
النبيين، هن مصابيح الدجى، خرجت عن مشكاة التقوى التقي، مما
أوردها الأئمة في كتبهم، جمعتها للمنقطعين إلى العبادة، لتكون لهم
بعد كتاب الله حظا من السنن، عونا على ما هم فيه من الطاعة.
تركت ذكر أسانيدها حذرا من الإطالة عليهم، واعتمادا على نقل
الأئمة، وربما سميت في بعضها الصحابي الذي يرويه عن رسول الله ﷺ
لمعنى دعا إليه وتجد أحاديث كل باب منها تنقسم إلى صحاح وحسان.
1 / 15
أعني بـ (الصحاح): ما أخرجه الشيخان، أبو عبد الله محمد بن
إسماعيل الجعفي البخاري، وأبو الحسين مسلم بن الحجاج القشيري
النيسابوري رحمهما الله، في جامعيهما، أو أحدهما.
وأعني بـ (الحسان) ما أورده أبوداود سليمان بن الأشعث
السجستاني وأبو عيسى محمد بن عيسى الترمذي، وغيرهما من
الأئمة في تصانيفهم – ﵏ – مما لم يخرجه الشيخان، وأكثرها
صحاح بنقل العدل عن العدل غير أنها لم تبلغ غاية شرط الشيخين
في علو الدرجة من صحة الإسناد، إذ أكثر الأحكام ثبوتها بطريق
حسن.
وما كان فيها من ضعيف أو غريب أشرت إليه، وأعرضت عن
ذكر ما كان منكرا أو موضوعا، والله المستعان وعليه التكلان.
روى عن عمر بن الخطاب ﵁ أنه قال: قال رسول الله ﷺ:
" إنما الأعمال بالنيات وإنما لامريء ما نوى، فمن كانت هجرته إلى
الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا
يصيبها أو إلى امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه "
(عنوان الكتاب)
(قوله: وربما سميت في بعضها الصحابي الذي يرويه عن
رسول الله ﷺ لمعنى دعا إليه)
1 / 16
لذكر الصحابي فوائد:
الأولى: معرفة الناسخ والمنسوخ، لأنه إذا تعارض خبران،
وعلم أن أحدهما يرويه من كان له صحبة مع الرسول ﷺ زمانا
محدودا، وراوي الآخر أسلم بعد انقطاع صحبته، علم أن الأول
منسوخ بالثاني.
والثانية: التنبيه على رجحان الخبر بحال الراوي من علمه وزيادة
ورعه وعلو منصبه، إلى غير ذلك، كما بيناه في كتابي "المنهاج"
و"المرصاد"
والثالثة: أن الحديث الواحد قد يروى عن جماعة بطرق مختلفة
طعن في فروع بعضهم، فينسب الحديث إلى الآخر توقيا عن ذلك.
والرابعة: أن المعاني المتقاربة قد تروى عن أشخاص من
الصحابة بألفاظ متفاوتة، فيذكر الصحابي الذي يرويه بهذه العبارة
تمييزا لها عن أخواتها.
(قوله: وما كان فيها من ضعيف أو غريب أشرت إليه)
مر تعريف أقسام الأحاديث، ولقائل أن يقول: الضعيف – كما
ذكرت – ساقط عن درجة الاعتبار والاحتجاج، فلم أثبته في تضاعيف
ما أورده؟
وجوابه: أن حاصل الضعيف، راجع إلى طعن رمي به الراوي،
1 / 17
وليس كذلك ما هو قادح عند أحد قادحا عند كل أحد، فإن مجال
الخلاف في أسباب الجرح فسيح، فلعل الحديث الضعيف عنده لم
يكن ضعيفا عند غيره، بل كان أصلا تبنى عليه المسائل، وكم من
خلاف منشؤه ذلك، فأثبته الشيخ في الكتاب تعميما لنفعه، وأشار إلى
ضعفه تنبيها على ما هو عنده، وأيضا كثير من الأحاديث الضعاف
استشهد به من لم يتحقق كنه حالها ولا ركاكة رجالها، وأشهرها بين
الناس حتى صارت من الزائغات المقبوله، فأوردها وذكر ضعفها
إزاحة لذلك، والله أعلم.
"عن عمر ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: إنما الأعمال بالنيات،
وإنما لامرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله وإلى رسوله فهجرته
إلى الله وإلى رسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة
يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه"
الموجب لتقديم هذا الحديث أمران:
أحدهما: أن أول ما يجب على العبد هو القصد إلى النظر المفيد
للمعرفة، كما بين في الكتب الأصولية، ومن قال بأن أول الواجبات
هو المعرفة أراد به: أول الواجبات المقصودة بالذات، لا أول ما يجب
كيف كان، فكان جديرا بأن يقدم ما ورد فيه.
ثانيهما: أن يكون أول ما يقرع السمع ويتمكن في النفس: إنما
الأعمال بالإخلاص، فيزكي المتعلم أولا سره عن الأغراض والمطامع
1 / 18
الدنيوية، ويتوجه بقلبه إلى الحضرة الإلهية. ولا يقصد بسعيه – سيما
في هذا الفن – سوى الفوز بالمعرفة والزلفى من الله تعالى.
ولفظة (إنما) تفيد الحصر، لأنها مؤلفة من (أن) التي للإثبات
و(ما) التي للنفي، والأصل يقتضي بقاء مفهومها بعد التركيب،
ولا ريب في أن (إن) لا تقتضي إثبات غير المذكور، و(ما) نفي
المذكور، فتعين عكسه.
ويشهد له قول الأعشى:
[و] إنما العزة للكاثر
وقول الفرزدق:
........... وإنما ... يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي
فالمعنى: لا عمل إلا بالنية، والنفي المضاف إلى الأفعال مثل:
لا صلاة، ولا صيام، ولا نكاح، متروك الظاهر، لأن الذوات غير
منتفية، والمراد به نفي الأحكام المتعلقة بوجودها كالصحة والفضيلة،
والحمل على نفي الصحة أولى، لأنه أشبه بنفي الشيء في نفسه، لأن
اللفظ يدل بالتصريح على نفي الذات، وبالتبع على نفي جميع
الصفات، فلما منع الدليل على نفي الذات بقي دلالته على نفي
جميع الصفات.
والنية: عبارة عن انبعاث القلب نحو ما يراه موافقا لغرض من
1 / 19
جلب نفع أو دفع ضر، حالا أو مآلا.
وتحقيق ذلك: أن الأفعال الاختيارية لا تتم إلا بثلاثة أمور:
علم، وإرادة، وقدرة، فإن الفعل لايوجد إلا بتأثير القدرة، والقدرة
لا تعمل ما لم تستعملها الإرادة ولم تعين لها أحد الطرفين
الممكنين، أعني: الفعل والترك، والإرادة لا تبعث ولا تتوجه نحوه
ما لم يتصور فيه مصلحة تدعوه إليه، فتلك الإرادة إذا أبرمت وصارت
عزما جزما، عبر عنها بالنية لغة.
والشرع خصصها بالإرادة المتوجهة نحو الفعل ابتغاء لوجه الله
تعالى وامتثالا لحكمه، فمن فعل نائما أو غافلا ففعله معطل مهمل،
يماثل أفعال الجماد، ومن أتى طاعة رياء وسمعة، أو طمعا في عطاء
دنيوي، أو توقعا لثناء عاجل، أو تخلصا عن تعنيف الناس فهو مزور
أو مستعيض، لا مطمع ولا مطمح له سوى الدنيا، وما له في الآخرة
من خلاق، كما قال ﵇:" إن أول الناس يقضى إليه يوم
القيامة: رجل استشهد، فأتى به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما
عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، قال: كذبت ولكنك
قاتلت لأن يقال: رجل جريء وقد قيل فأمر به فسحبت على وجهه
حتى ألقي في النار " الحديث.
1 / 20
ومن عمل صالحا فهو مخلص في عمله، مستقبل بوجهه نحو
معبوده، صعد من الحضيض الإنسي إلى الأوج القدسي، واستحق
ما أعد له من الثواب في دار المآب.
وتحقيق ذلك: أن المقصود الأعظم من شرع الأعمال وإدآب
الجوارح: تمثل الملكات الفاضلة في النفس، وتمكن العقائد الحقة
فيها فإن العبادة تذكر المعبود، ويمكن ذكره تكررها والمواظبة
عليها، وتوجب للنفس صدقا في محبته وشوقا إلى قربه، وشغفا إلى
ما عند من نعائم العقبى وطرائقها، وزهدا في حطام الدنيا وزخارفها
ويشهد له قوله تعالى (لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى
منكم) وقوله ﵇: " إن الله لا ينظر إلى صوركم
ولا إلى أموالكم، بل إلى قلوبكم ونياتكم " وقوله: " نية المؤمن خير
من عمله ونية الفاجر شر من عمله ".
والنية في الحديث محمولة على المعنى اللغوي، ليحسن تطبيقه
بما بعده وتقسيمه بقوله: (فمن كانت هجرته) إلى آخره، فإنه تفصيل
لما أجمله، واستنباط للمقصود عما أصله إذ روي: أن رجالا هاجروا
شغفا بمهاجرات وطمعا في منح الأنصار فورد فيهم الحديث.
1 / 21
(١)
كتاب الإيمان
1 / 23