التحفة العسجدية فيما دار من الاختلاف بين العدلية والجبرية تأليف مولانا الامام الأعظم والطود الشامخ الأشم، من نعش الله به الدين امام المتقين، وعلم المهتدين، والسابق لما سبق الأوائل وهدى بهديهم الأواخر، وشهد لهم وعليهم أمير المؤمنين وسيد المسلمين الهادي لدين الله الحسن بن يحيى القاسمي رحمه الله
صفحہ 1
بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة الكتاب الحمد لله الذي أمر تخييرا، ونهى تحذيرا، وكلف يسيرا، واشهد أن لا إلاه إلا الله وحده لا شريك له، المنزه عن فعل القبائح والفساد، والظلم والجور للباد، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المرسل رحمة للعالمين، والهادي للخلق إلى الحق المبين، صلى الله وسلم عليه وعلى آله الهداة المتقين.
وبعد:
فإن شبهة الجبر وهو القول: (بأن الله يجبر عباده على فعل المعاصي) شبهة قديمة، أول من قال بها إبليس لعنه الله، قال تعالى حاكيا عنه: (قال رب بما أغويتني) الآية، فأضاف الاغواء إلى الله تعالى، ثم تبعه في هذه الشبهة المشركون والكفار، قال تعالى حاكيا عنهم: (وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله مالا تعلمون) قال الحسن البصري رحمه الله: (إن الله تعالى بعث محمدا صلى الله عليه وآله وسلم إلى العرب وهم قدرية وهم قدرية مجبرة يحملون ذنوبهم على الله) ذكره في الكشاف.
ثم جدد هذه الشبهة معاوية فانتشرت وعمت أكثر المعلمين، إلا من عصم الله وهم (العدلية) فقد روي أنه قال - أي معاوية - في بعض خطبه: " لو لم يرني الله أهلا لهذا الامر ما تركني وإياه، ولو كره الله تعالى ما نحن فيه لغيره ". وكان يقول: " أنا عامل من عمال
صفحہ 2
الله أعطي من أعطاه الله، وأمنع من منعه الله، ولو كره الله أمرا لغيره ". فأنكر عليه عبادة بن الصامت وغيره ممن حضر من الصحابة، ولم يزل ذلك في بني أمية حتى قال الحجاج وقد قتل رجلا لأجل اظهاره حب علي عليه السلام: " اللهم أنت قتلته لو شئت منعتني منه ".
قال الامام المنصور باد عبد الله بن حمزة عليه السلام: " الجبر أموي إلا الشاذ النادر كالناقص والأشج، والعدل هاشمي إلا الشاذ النادر كالمتوكل (1).
ومن زمن معاوية إلى وقتنا هذا لا زال الصراع مستمرا بين العدلية والجبرية من خلال المؤلفات والمناظرات، ومن أحسن ما ألف في هذا الموضوع في عصرنا كتاب التحفة العسجدية، وهو هذا الذي بين أيدينا نقدمه للقارئ الكريم فقد أظهر فيه مؤلفه مخازي المجبرة، واستكمل فيه جميع شبههم، ورد عليها بالأدلة العقلية والنقلية، فلم يدع للخصم أي مجال للجدال، كما ستعرف ذلك عند قراءتك له.
ترجمة المؤلف هو مولانا أمير المؤمنين الإمام الهادي لدين الله. رب العالمين الحسن بن يحي بن علي بن أحمد بن علي بن قاسم بن حسن بن علي بن محمد بن أحمد بن حسن بن زيد بن محمد بن أبي القاسم
صفحہ 3
بن الإمام علي بن المؤيد بن جبريل بن المؤيد بن أحمد بن يحي بن أحمد بن يحي بن يحي بن الناصر بن الحسن بن عبد الله بن محمد بن القاسم بن الناصر أحمد بن الإمام الهادي يحي بن الحسين سلام الله عليهم أجمعين.
مولده ولد عليه السلام بهجرة ضحيان شمال مدينة صعدة من اليمن في ليلة الخامس من ربيع الأول سنة 1280 ه نشأته تربى في حجر والديه، وقرأ القرآن، وأول معالم الدين عليهما، ثم انتقل إلى الشيوخ بجامع ضحيان، يغترف من بحورهم المتدفقة، فكدح في تحصيلها وحفظها، حتى صار إمام العلم والمرجع في كل فن من الفنون.
مشايخه أخذ عن علامة الآل وحافظ علومهم عبد الله بن أحمد مشكاع الضحياني المؤيدي، رحمه الله، وأجازه إجازة عامة، والقاضي العلامة محمد بن عبد الله الغالبي رحمه الله، وأجازه إجازة عامة، وأجازه الإمام المهدي محمد بن القاسم عليه السلام فيما حوى عليه اسناد حواري الآل عبد الله بن علي الغالبي، وأجازه القاضي العلامة أحمد بن رزن السياني فيما حواه اتحاف الأكابر للشوكاني، وأخذ عن غير من ذكرنا من العلماء، وهو أول من فتح في الزمن
صفحہ 4
الأخير باب الجهاد والاجتهاد من علماء صعدة.
مؤلفاته ألف كتبا كثيره نافعة في مختلف الفنون منها: التحفة العسجدية، و هي هذه التي بين يديك، والبحث السديد في الأسماء والصفات، ورد على الحشوية في مسألة الاستواء على العرش، ومختصر ينابيع النصيحة، الجميع في أصول الدين، والمسائل الرائقة في أصول الفقه، والمسائل النافعة، ومنسك للحج في الفروع، ومجموع فيما وقف عليه من أخبار الانتصار في الحديث، ومحاسن الأنظار فيما قيل في الاخبار، ومجموعين لطيفين، في الرواة، وسبيل الرشاد في طرق الاسناد، والتهذيب ، ومنية الراغب في النحو، وحاشية على مقدمة ابن الحاجب في الصرف، وحاشية على التخليص في المعاني والبيان، والأنوار الصادعة في علم الباطن والمعاملة، والنور الساطع، ومختمر السفينة في الأدعية، والادراك في المنطق، والمنهل الصافي في العروض والقوافي، والروض المستطاب في الحكم، والجوابات التهامية، وغير ذلك من الرسائل والفوائد والجوابات التي يصعب حصرها.
تلامذته أخذ عنه جم غفير، يشق حصرهم، نكتفي بذكر بعضهم لميلنا إلى الاختصار، فمنهم: العلامة حسن بن حسين عدلان، والعلامة علي بن يحي العجري، والعلامة يحي بن حسن طيب، والعلامة
صفحہ 5
عبد الكريم بن عبد الله العنثري، وأولاده العلماء المجتهدون، منهم : المولى العلامة فخر الاسلام عبد الله بن الإمام رحمهم الله جميعا.
دعوته بث دعاته عليه السلام رأس 1320 ه وقيد دعوته بآخر جزء من إمامة المنصور محمد بن يحي حميد الدين، وأظهرها يوم الأربعاء 17 ربيع أول، بعد وفاة المنصور بثمانية أيام سنة 1322 ه من جامع المزار بوادي فلله، جنوب هجرة ضحيان التي تبعد عن مدينة صعدة بمقدار 23 كم تقريبا فأجابه أكثر سكان بلاد جماعة وسحار وخولان ، ورازح وهمدان وغيرهم.
الاحداث التي وقعت حال ولايته وقع بينه وبين المتوكل يحي بن محمد حميد الدين حروب كثيرة ، ومعارك صعبة، ثم ظهر النكث عليه ممن أجابه، وعند ذلك انتقل من محل دعوته المزار إلى حصن أم ليلى شمال مدينة صعدة، بمقدار 40 كم تقريبا، وذلك سنة 1327 ه، ولم يزل بها مجاهدا، صابرا محييا للعلوم، إلى أن أحاطت به جنود المتوكل في ذلك الحصن، في 17 ربيع أول فخرج منه بعد أن خذله جميع من تابعه إلى الحرجة عام 1330 ه بعد ولاية استمرت سبع سنين.
أما سبب خذلان الناس له فهو حب الدنيا والمال، والملوك ، وهذا مصداق قول علي عليه السلام في النهج: " وانما الناس مع الملوك والدنيا إلا من عصم الله " ومصداق قول ولده الحسين عليه
صفحہ 6
السلام: " الناس عبيد الدنيا، والدين لغو على ألسنتهم يحوطونه ما درت معائشهم، فإذا محصوا بالبلاء قل الديانون " رواه الإمام أبو طالب في أماليه.
مدة بقائه في الحرجة ثم انتقاله منها إلى باقم بقي في الحرجة نحو ثلاث سنين تقريبا محييا للعلوم إلى أن ضاق من بقائه في تلك البلاد لقلة دين أهلها ومباينتهم لآل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وميلهم إلى الوهابية أهل النصب والعناد، فعاد إلى باقم من بلاد جماعة، شمال مدينة صعدة بنحو 53 كم تقريبا عام 1333 ه، ولم يزل بها غوثا للورى، ومنهلا للفقراء، آمرا بالمعروف، ناهيا عن المنكر، عاكفا على التدريس إلى أن توفاه الله.
وفاته توفي ليلة الاثنين 5 جمادى الأولى عام 1343 ه في مدينة باقم، ودفن في ساحة جامعها الكبير رحمه الله رحمة الأبرار، وأسكنه جنات تجري من تحتها الأنهار.
نبذة ممن رثاه من العلماء.
رثاه العلماء بمراث كثيرة نذكر منهم المتوكل يحي بن محمد حميد الدين، والعلامة محمد بن إبراهيم حورية، والعلامة أمير الدين الحوثي، والعلامة عبد الله بن عبد الله العنثري رحمهم الله، والعلامة مجد الدين بن محمد المؤيدي أبقاه الله.
صفحہ 7
الحمد لله.
قد وقفت على التحفة العسجدية، وتأملت ما دار بين العدلية، والجبرية، فوجدت مؤلف هذا الكتاب لا زال في حفظ رب الأرباب ، سلك مسلك الحق والصواب، وأتى في مؤلفه بالعجب العجاب ، واستظهر بمدلولي السنة والكتاب، وزيف أقوال الخصوم، التي هي أشبه بلامع السراب، ونفى شبه أهل الزيغ والارتياب، ورد الحق إلى نصابه، وأتى البيت من بابه، وأنجح في مطالبه وخطابه ، حتى توضح الحق، وظهر وخنس داعي الشيطان ونفر (فبهت الذي كفر) وقد ضمن الله لهدى الدين بأيمة هادين مهتدين، ينفون عنه تحريف الغالين ، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين.
كل من كان في المدارك غرا * فليطالع للتحفة العسجدية فبها الحق ما به من خفاء * وعليها دارت رحى العدلية وكلام الخصوم محض هباه * ويح قوم من فرقة جبريه كابروا العقل والنصوص جميعا * وأحالوا فعلهم للمشيه ثم قالوا إن القبائح فينا * والمعامي من فعل باري البرية ولكم جادلوا بجهل وغي * واستباحوا شتم اللآلي المضيئة حرفوا قالب القران وقالوا * إن آل النبي هم بدعيه ثم قالوا إن الأئمة لما * باينوهم سموهم الرافضيه ويح قوم قد جادلونا بجهل * ورمونا من دائهم بالبليه نحن آل النبي سفينة نوح * عترة المصطفى خيار البرية وكفى فخرنا إليه انتسابا * واختياري لمذهب العدلية
صفحہ 8
قد رضيت الندا في يوم حشري * يوم ادعى بسيد الزيدية بالامام المظلوم زيد عليه * رحمة الله بكرة وعشيه يا ابن يحي لا زلت تحي علوما * من علوم للسادة الهادويه وعليك السلام يبقى دواما * يا إماما له العلوم الجلية
صفحہ 9
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على محمد الأمين، وآله الطيبين الأكرمين. وبعد فهذه تحفة للطالبين، وتبصره للمستبصرين، فيما يتعلق بأفعال المكلفين، من الخلاف بين المجبرة، وأهل العدل، وما دار بينهم في ذلك من عدم الائتلاف، فنقول وبالله التوفيق، ونسأله الهداية إلى واضح الطريق:
اتفقت المجبرة (1) على أن كل كفر وفسق وفحش، وزنا ولواط، وتظالم وايمان وبر، واحسان وقع فالله سبحانه الخالق له، والموجد له، وليس للعبد في ذلك قدرة مؤثرة، ولا اختيار، وأنه سبحانه يأمر وينهى بما لا يريد، ويفعل الفعل من دون حكمة وغرض والجامع لما تعلقوا به في ذلك، الداعي (2) والعلم، ونفي الحسن والقبح العقليين، وأن لا يقع في ملكه ما لا يريد، وتكليف ما لا يطاق، والآيات والاخبار التي ظاهرها الجبر، وأنهم السواد الأعظم لكثرتهم، ومناظرة إبليس والملائكة بعد أمره بالسجود.
واتفق أهل العدل على أن العبد قادر بقدرة أعطاه الله إياها بها يتمكن من ايجاد الفعل، وتركه باختياره، وأن الله عدل حكيم، لا يكلف ما لا يطاق، وأن جميع أفعاله حكمة مقصودة له، وأنه متعال
صفحہ 10
عن خلق الكفر والفسق، وأفعال العباد.
وتعلقوا في صحة ذلك بضرورة العقل وبالسمع.
فصل أما الداعي وهو المرجع للفعل على الترك، فبيانه:
أنه إن كان الفعل لازم الصدور عن العبد بحيث لا يمكنه الترك فواضح أنه غير مختار، وإن كان جائزا وجوده وعدمه، فإن افتقر إلى مرجح فمع المرجح يعود التقسيم فيه بأن يقال: إن كان لازما فاضطراري، وإلا احتاج إلى مرجح آخر، ولزم التسلسل، وإن لم يفتقر إلى مرجح بل يصدر عنه تارة، ولا يصدر عنه أخرى مع تساوي الحالتين، فهو اتفاقي (1).
والاتفاقي (2) لا يكون في وسعه واختياره، فيلزم من هذا الجبر، وهو المطلوب.
قال الرازي (3): ولو أجمع الأولون والآخرون على هذا
صفحہ 11
البرهان لما تخلصوا عنه إلا بالتزام، وقوع الممكن لاعن مرجح، وحينئذ يفسد باب اثبات الصانع، أو بالتزام أن يفعل الله ما يشاء، يعني اجبار العبد، وأن الفعل فعله سبحانه.
أجاب العدلية (1) عن ذلك بوجوه أربعة:
الأول: بأنه استدلال في مقابلة الضرورة، فيكون باطلا، وذلك أنا نفرق ضرورة بين الافعال الضرورية، والاختيارية، كالسقوط والصعود، وحركتي الاختيار والرعشة.
الثاني: أنه يجري في فعل الباري تعالى، فيلزم أن لا يكون مختارا، وأنه كفر.
الثالث: يلزم أن لا يوصف الفعل بحسن ولا قبح شرعا، إذ لا تكليف لغير المختار عندكم وإن جوزتموه.
الرابع: أنا نختار أنه يحتاج إلى مرجح، والمرجح لفعل العبد على تركه هو الإرادة للفعل، فلا يلزم كون العبد مجبورا في أفعاله.
أجابت الجبرية (2) عن الأول: بأن الضروري وجود القدرة لا تأثيرها.
قالت العدلية: جعلكم الضروري وجود القدرة لا تأثيرها مغالطة ، فإنه لا طريق إلى العلم بوجودها إلا العلم الضروري باختيارنا في
صفحہ 12
أفعالنا، وعدم توقفها على شئ سوى إرادتنا ثم إذا وجدنا مختارا يتمكن من فعل دون آخر علمنا وجودها في الأول دون الثاني، ولولا تعلقها بأفعالنا، وتأثيرها فيها لم يعلم وجودها أصلا، على أن نفي تأثيرها يرفع فائدة خلقها، إذ وجودها ولا أثر لها كعدمها.
وأجابت الجبرية عن الثاني: بأن مرجح فاعليته تعالى قديم، وهو ارادته القديمة ، فلا يحتاج إلى مرجح آخر بخلاف مرجح فاعلية العبد، فإنه حادث، فيحتاج إلى مؤثر، فإن صدر عن العبد تسلسل، وإلا كان مجبورا في فعله.
أجابت العدلية: بأنه لا يفيدكم ما ذكرتموه، لان ارادته تعالى قديمة عندكم، وفعله تعالى مستند إليها وجوبا عندكم، وهي مستندة إلى ذاته بطريق الايجاب (1) وإذا وجب الفعل بما ليس اختياريا له تطرق إليه الايجاب فلم يكن مختارا في فعله.
وأجابت الجبرية عن الوجه الثالث: بأن للعبد قدرة واختيارا، لكن لا تأثير لقدرته، ومثل هذا لا ينافي التكليف الشرعي.
أجابت العدلية: بأن ما ذكرتموه لا يدفع الجبر (2) المنافي للاختيار بالضرورة (3) وجعل بعض الأفعال الواجبة (4) اختياريا
صفحہ 13
مجرد تسمية تكذبها الحقيقة (1) وأجابت الجبرية عن الوجه الرابع بأن الاختيار، والإرادة من فعل الله، لان اختيار العبد ليس باختياره، وإلا لزم التسلسل، فيبطل استقلال العبد بفعله.
أجابت العدلية: بأنا لا نسلم أن الإرادة من فعل الله تعالى، بل من فعل العبد، ولا يلزم التسلسل لان المحتاج إليها هو المتوجه إليه قصد الإرادة، وأيضا يدل على أن الإرادة من فعل العبد قوله تعالى: (يريدون ليطفؤا نور الله) (2) وقوله: (ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما) (3) وقوله: (ويريد الشيطان) (4 ) الآية، وغير ذلك من الآيات الدالة على أنهم أرادوا غير ما أراد سبحانه، فكيف تكون إرادة العبد منه، وهو يخبر أن ارادتهم غير إرادة! وفي قولهم هذا مخالفة للقرآن، ولما نجده من أنفسنا، على أن ابن الحاجب (5) قد استضعف دليلهم هذا، أعني الداعي والمرجح من حيث هو، وهو من فحول المجبرة، وأيضا فقد ذم الله أهل الكتاب في قوله سبحانه: (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يشترون الضلالة ويريدون أن تضلوا السبيل) (6)
صفحہ 14
ولو لم يكن لهم إرادة لما ذمهم عليها، ولما استحقوا الذم على ذلك، وأيضا: لو لم يكن للعبد إرادة لما كان للوعيد عليها معنى، وكان عبثا، حيث يقول تعالى: (ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب اليم) (1) ثم إن القول بعدم إرادة العبد يلزم منه تكذيب القرآن في قوله تعالى: (إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء) (2 ) (أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا) (3) وقوله: (ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا) (4) وقوله (ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم) (5) وقوله تعالى (يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت) (6 ) إلى قوله (ويريد الشيطان أن يضلهم) وقوله تعالى: (إن يريدا اصلاحا يوفق الله بينهما) (7) وقوله تعالى: (ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا) (8) وقوله تعالى: (منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة) (9) وقوله تعالى: (يريدون أن يبدلوا كلام الله) (10 ) وقوله تعالى: (ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب
صفحہ 15
الآخرة نؤتها منها) (1) وغير هذه الآيات، والله سبحانه يقول: (ذلك الكتاب لا ريب فيه) (2) فصل وأما العلم فقالت الجبرية: قد سلمتم كونه تعالى عالما بجميع المعلومات، ووقوع الشئ على خلاف علمه يقتضي انقلاب علمه جهلا، وذلك محال، والمفضي إلى المحال محال، فيكون علمه سابقا سائقا، لهذا فالقضاء والقدر لازم لكم بهذا الدليل لزوما لا جواب عنه.
أجابت العدلية بأن علم الله سابق غير سائق، فلم يناف تمكن العبد من الفعل والترك، فعلمه تعالى هو بالفعل وشرطه، وهو التمكن والاختيار، وإن سلم ما ادعته المجبرة من أن علمه سبحانه سائق فنقول:
علم الله سبحانه ساقه إلى التمكن والاختيار إذ هو عالم بان العبد متمكن من الفعل ومختار له، فلم يكشف وقوع الايمان من الكافر، لو قدرنا وقوعه عن الجهل في حقه تعالى، لعلمه سبحانه بالفعل، وشرطه كعلمه سبحانه عدم اطلاع النبي صلى الله عليه وآله وسلم على أهل الكهف، فإنه لم يكشف عن الجهل في حقه تعالى، بعد أن علم أنه لو اطلع عليهم لولى منهم فرارا، ولملئ منهم رعبا، لأنه
صفحہ 16
لا يكشف عن الجهل في حقه تعالى، الا حيث كان لا يعلم إلا أحدهما (1) ثم أن هذا الدليل الذي زعم الرازي أنه لا جواب عنه يلزم منه أن يكون الباري تعالى غير مختار في رزقنا، ولا في خلق السماوات والأرض وما بينهما، لأنه قد سبق في علمه أنه يخلق ويرزق ، فلا بد له من ذلك، وإلا انقلب علمه جهلا، فيلزم عدم اختياره في شئ من أفعاله، وقد اعترف بهذا الالزام ابن الحاجب، وسعد الدين وغيرهما من الجبرة، وأقروا بأنه يلزم منه الكفر.
قال الرازي حكاية عن العدلية بعد كلام معناه ما سبق فيلزم ان لا يكون الله سبحانه قادرا على شئ أصلا، وذلك كفر بالاتفاق، فثبت أن العلم بعدم الشئ لا يمنع من امكان وجوه، ثم قال عنهم : ولو كان الخبر والعلم مانعا لما كان العبد قادرا على شئ أصلا ، لان الذي علم الله وقوعه كان واجب الوقوع، والواجب لا قدرة عليه، والذي علم عدمه كان ممتنع الوقوع، والممتنع لا قدرة عليه ، فوجب ألا يكون العبد قادرا على شئ، فكانت حركاته وسكناته جارية مجرى حركات الجمادات، والحركات الاضطرارية للحيوانات، لكنا بالبديهة نعلم فساد ذلك، فإن من رمي انسانا بالآجرة حتى شجه فإنا نذم الرامي، ولا نذم الآجرة، وندرك بالبديهة تفرقة بين ما إذا سقطت الآجرة عليه وبين ما إذا لكمه انسان بالاختيار، ولذلك فإن العقلاء ببداهة عقولهم يدركون الفرق بين مدح المحسن، وذم المسئ، ويلتمسون ويأمرون، ويعاتبون ويقولون
صفحہ 17
: لم فعلت؟ ولم تركت؟.
وقال أيضا عنهم: لو كان العلم بالعدم مانعا للوجود لكان أمر الله تعالى للكافر بالايمان أمرا بإعدم علمه، وكما أنه لا يليق به أن يأمر عباده بأن يعدموه، فكذلك لا يليق به أن يأمرهم بأن يعدموا علمه، لان اعدام ذات الله وصفاته غير معقول، والامر به سفه وعبث.
ثم قال عنهم: الايمان في نفسه من قبيل الممكنات فوجب أن يعلمه الله من الممكنات، إذ لو لم يعلمه كذلك لكان ذلك العلم جهلا، وهو محال، وإذ علمه الله من الممكنات التي لا يمتنع وجوده وعدمه البتة، فلو صار بسبب العلم واجبا لزم أن يجتمع على الشئ الواحد كونه من الممكنات، وكونه ليس منها، وذلك محال.
ثم قال عنهم: إن العلم بوجود الشئ لو اقتضى وجوبه لأغنى العلم عن القدرة، والإرادة، فوجب أن لا يكون الله تعالى قادرا مريدا مختارا، وذلك قول الفلاسفة . اه وقالت العدلية: من احتج بأن العلم سائق لزمه أن تكون أفعالنا لا باختيارنا، ولا باختيار الله أما كونها لا باختيارنا فهو مقتضى التشبث بهذه الشبهة، وأما كونها لا باختيار الله تعالى، فلأنها أيضا قد سبقت في علمه، فلا بد من فعلها وجوبا، والوجوب ينافي الاختيار ، ولو لم يكن فعله لها واجبا لكان جائزا، فيجوز أن لا يفعلها فينقلب علمه جهلا وهو محال.
إذا عرفت هذا علمت أن العلم لا أثر له في المعلوم إذ قد
صفحہ 18
أعلمنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالدجال وكفره، والمهدي وهداه، وليس لعلمنا أثر في الدجال والمهدي، وما علم الله إلا بهذه المثابة.
فصل وأما نفي الحسن والقبح العقليين فقالت الجبرية: لأحسن ولأقبح للأفعال قبل ورود الشرع، فلا حكم للعقل في حسن الأشياء وقبحها، فلو عكس الشارع القضية فحسن ما قبحه، وقبح ما حسنه لم يكن ممتنعا، وانقلب الامر فصار القبيح حسنا، والحسن قبيحا، كما في النسخ من الحرمة إلى الوجوب، ومن الوجوب إلى الحرمة، وهذه المسألة قراره مطلوبنا الذي هو الجبر، فكلما ألزمتمونا في خلق الله للأفعال، أجبنا عليكم بهذه المسألة.
ثم قالت الجبرية محتجين على ما ذهبوا إليه:
العبد مجبور في أفعاله، وإذا كان كذلك لم يحكم العقل فيها بحسن ولا قبح، لان ما ليس فعلا اختياريا، لا يتصف بهذه الصفات اتفاقا.
بيانه أن العبد إن لم يتمكن من الترك فهو الجبر، وإلا يكن كذلك بل تمكن من الترك، فإما أن لا يتوقف وجود الفعل منه على مرجح فالفعل اتفاقي، فلا يكون اختياريا، وإن توقف على المرجح، فإن كان المرجح لم يكن من العبد فالفعل مثله، وإن كان من العبد عاد التقسيم، وقد مر ذلك، ومر جواب العدلية عن ذلك.
صفحہ 19
واحتجوا ثانيا: لو كان ذاتيا لزم قيام المعنى بالمعنى، أي العرض بالعرض، واللازم باطل.
أما الأولى: فلان حسن الفعل مثلا أمر زائد على مفهوم الفعل ، والا لزم من تعقل الفعل تعقله، ولا يلزم، إذ يعقل الفعل ولا يخطر بالبال حسنه، ثم يلزم أن يكون أمرا وجوديا لان نقيضه لأحسن وهو سلب، إذ لو لم يكن سلبا لاستلزم محلا موجودا، فلم يصدق على المعدوم أنه ليس بحسن، وأنه باطل بالضرورة، وأيضا إذا لم يصدق عليه أنه ليس بحسن، صدق عليه أنه حسن، إذ لا مخرج من النفي والاثبات، فلم يكن الحسن وصفا ذاتيا، إذ المعدوم لا يكون له صفة إلا مقدرة موهومة، وكيف يكون صفة حقيقة ذاتية لما لا حقيقة ولا ذات له؟ وإذا ثبت أن نقيضه سلب كان هو وجودا، والا ارتفع النقيضان، فثبت أنه زائد وجودي، فهو معنى لان ذلك هو معنى المعنى.
ثم نقول: الفعل قد وصف حيث يقال: الفعل حسن، فيلزم قيام الحسن بالفعل لامتناع أن يوصف الشئ بمعنى يقوم بغيره والفعل أيضا معنى وهو ظاهر، فيلزم قيام المعنى بالمعنى.
وأما الثانية: وهي بطلان اللازم الذي هو قيام المعنى، وهو الحسن بالمعنى، وهو الفعل، فلانه يلزم اثبات الحكم - الفعل - وهو كون المعنى قائما به لمحل المعنى، وهو الفاعل، لا للفعل نفسه، لان الحاصل قيام المعنيين معا بالجوهر، إذ المعنيان معا في حيز الجوهر بطريق التبعية له، وحقيقة القيام: هو التبعية في التحيز.
صفحہ 20