Tuhfa Al-Ikhwan: What Came in Allegiance, Enmity, Love, Hatred, and Abandonment
تحفة الإخوان بما جاء في الموالاة والمعاداة والحب والبغض والهجران
ناشر
مؤسسة النور للطباعة والتجليد
ایڈیشن نمبر
الأولى
پبلشر کا مقام
الرياض
اصناف
تحفة الإخوان بما جاء في
الموالاة والمعاداة
والحب والبغض والهجران ...
للشيخ
حمود بن عبد الله التويجري
رحمه الله تعالى
نامعلوم صفحہ
بسم لله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي منّ على أوليائه بالتأييد والإسعاد، وقضى على أعدائه بالخذلان والإبعاد، ونهى عباده عن التقرب إليهم بالموالاة والوداد، وشدد في ذلك وأبدى فيه وأعاد، أحمده تعالى على نعمه التي لا يحصى لها تعداد، وأشكره وكلما شكر زاد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة أَدّخرها ليوم التناد، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صفوة العباد، أرسله الله رحمة للعالمين وحجة على أهل الشقاق والعناد، فبلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وبالغ في البيان والإرشاد، اللهم صل على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه البررة الأمجاد، الذين جاهدوا في الله حق الجهاد، وصارموا أعداء الله وجالدوهم غاية الجلاد، حتى ملأ الإسلام مشارق الأرض ومغاربها رباها والوهاد، وعلى من تبعهم بإحسان من حاضر وباد، وسلم تسليما كثيرا،
1 / 3
أما بعد:
فهذه نبذة وجيزة في بيان تحريم موالاة أعداء الله من المرتدين والمنافقين واليهود والنصارى والمجوس وغيرهم من أصناف المشركين، والتحذير من موادتهم وتعظيمهم وبداءتهم بالسلام، وتقديمهم في المجالس وغير ذلك مما فيه تعظيم لهم، بالقول أو بالفعل.
دعاني إلى جمعها ما وقع فيه كثير من المسلمين في زماننا من تعظيم أعداء الله تعالى وموادتهم واتباع سننهم حذو النعل بالنعل، والمقصود من ذلك النصيحة للمسلمين وتحذيرهم من سوء عاقبة التذلل لأعداء الله تعالى وموالاتهم وموادتهم.
والله المسؤول أن يصلح حالي وأحوال المسلمين، وأن يوفقنا جميعا لما يحب ويرضى من الأقوال والأعمال، وأن يجنبنا طريق أهل الغي والضلال، إنه قريب مجيب.
فصل
وقد نهى الله ﷾ عن موالاة أعدائه في مواضع كثيرة من القرآن، وأخبر أن موالاتهم تنافي الإيمان بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر وأنها سبب للفتنة والفساد في الأرض، وأن من والاهم ووادهم فليس من الله في شيء وأنه من الظالمين الضالين عن سواء السبيل، وأنه مستوجب لسخط الله وأليم عقابه في الآخرة، والآيات في هذا كثيرة.
الأولى منها: قول الله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من
1 / 4
الحق﴾ إلى قوله تعالى: ﴿تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل﴾ ثم حث ﵎ عباده المؤمنين على متابعة خليله إبراهيم والتأسي به وبمن آمن معه في مصارمتهم لأعداء الله تعالى والتبري منهم ومما يعبدون من دون الله تعالى وإظهار العداوة لهم والبغضاء ما داموا على الكفر بالله، فقال الله تعالى: ﴿قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنّا برءاء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده﴾ ومن لم يتأسى بإبراهيم الخليل ﵊ في مصارمة أعداء الله تعالى وإظهار العداوة والبغضاء لهم، فله من سفه النفس بقدر ما ترك من ملة إبراهيم الخليل، كما قال تعالى: ﴿ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه﴾.
الآية الثانية: قوله تعالى: ﴿إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون﴾.
الآية الثالثة: قوله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا لا تتولوا قوما غضب الله عليهم قد يئسوا من الآخرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور﴾.
الآية الرابعة: قوله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض﴾ ثم حذر ﵎ من موالاتهم بأبلغ التحذير وتوعد على ذلك بأشد الوعيد فقال تعالى: ﴿ومن يتولهم منكم فإنّه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين﴾
1 / 5
قال بعض المفسرين: فيه زجر شديد عن إظهار صورة الموالاة لهم وإن لم تكن موالاة في الحقيقة.
قلت: وأقل الأحوال في هذه الآية أنها تقضي تحريم موالاة أعداء الله تعالى وإن كان ظاهرها يقتضي كفر من تولاهم، ولهذا روي عن حذيفة ﵁ أنه قال: ليتق أحدكم أن يكون يهوديا أو نصرانيا وهو لا يشعر وتلا هذه الآية. وروى ابن أبي حاتم عن محمد بن سيرين قال: قال عبد الله بن عتبة: ليتق أحدكم أن يكون يهوديا أو نصرانيا وهو لا يشعر. قال: فظنناه يريد هذه الآية.
وروى الإمام أحمد بإسناد صحيح عن أبي موسى الأشعري ﵁ قال: قلت لعمر ﵁ إن لي كاتبا نصرانيا قال: مالك قاتلك الله أما سمعت الله يقول: ﴿ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض﴾ ألا اتخذت حنيفا. قال: قلت يا أمير المؤمنين لي كتابته وله دينه. قال: لا أكرمهم إذا أهانهم الله ولا أعزهم إذا أذلهم الله ولا أدنيهم إذا أقصاهم الله.
وورد على عمر ﵁ كتاب معاوية بن أبي سفيان ﵁: أما بعد يا أمير المؤمنين فإن في عملي كاتبا نصرانيا لا يتم أمر الخراج إلا به فكرهت أن أقلده دون أمرك. فكتب إليه: عافانا الله وإياك قرأت كتابك في أمر النصراني، أما بعد فإن النصراني قد مات، والسلام.
1 / 6
يعني يقدر موت هذا النصراني فما كان معاوية صانعا بعد موته فليصنعه الآن، وهذا أمر من عمر ﵁ لمعاوية ﵁ بإبعاد النصراني وتولية غيره من المسلمين مكانه من غير مراجعة وإخبار له بأن المسلمين في غنية عن أعداء الله ولو كانوا في الحذق والضبط ما كانوا.
وفي قول عمر ﵁ دليل على أنه لا يجوز للمسلمين أن يولوا في أعمالهم أحدا من أعداء الله تعالى لأن في ذلك إكراما لهم وإعزازا وإدناءا وهو خلاف ما شرعه الله من إهانتهم وإذلالهم وإقصائهم.
ثم قال تعالى: ﴿فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة﴾ قال ابن كثير رحمه الله تعالى: ﴿فترى الذين في قلوبهم مرض﴾ أي شك وريب ونفاق ﴿يسارعون فيهم﴾ أي يبادرون في مولاتهم ومودتهم في الباطن والظاهر ﴿يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة﴾ أي يتأولون في مودتهم وموالاتهم أنهم يخشون أن يقع أمر من ظفر الكفار بالمسلمين فتكون لهم أياد عند اليهود والنصارى فينفعهم ذلك عند ذلك، قال الله تعالى: ﴿فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين﴾.
الآية الخامسة: قوله تعالى: ﴿ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء واتقوا الله إن كنتم مؤمنين﴾ وهذا نهي من الله ﵎ عن موالاة أعدائه من أهل
1 / 7
الكتابين وغيرهم من سائر الكفار وإخبارا منه تعالى بأن موالاتهم تنافي الإيمان، ولهذا قال تعالى: ﴿واتقوا الله إن كنتم مؤمنين﴾ قال أبو جعفر بن جرير في تفسير هذه الآية: لا تتخذوهم أيها المؤمنون أنصارا وإخوانا وحلفاء فإنهم لا يألونكم خبالا وإن أظهروا لكم مودة وصداقة اهـ.
الآية السادسة: قوله تعالى: ﴿ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا﴾ قال ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسيره: ينهى الله تعالى عباده المؤمنين عن اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين يعني مصاحبتهم ومصادقتهم ومناصحتهم وإسرار المودة إليهم وإفشاء أحوال المؤمنين الباطنة إليهم، وقوله: ﴿أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا﴾ أي حجة عليكم في عقوبته إياكم اهـ.
وقال أبو جعفر بن جرير يقول: لا تعرّضوا لغضب الله بإيجابكم الحجة على أنفسكم في تقدمكم على ما نهاكم ربكم من موالاة أعدائه وأهل الكفر به اهـ.
الآية السابعة: قوله تعالى: ﴿لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء﴾ وهذا زجر بليغ وتهديد شديد عن موالاة أعداء الله تعالى وموادتهم، فينبغي للمسلم أن يحذر أشد الحذر من أن يكون من الذين يحسبون أنهم على شيء وهو من الخاسرين الذين ليسوا من الله في شيء عياذا بالله من موجبات غضبه وأليم عقابه. قال المناوي في شرح الجامع الصغير: الإقبال على عدو الله
1 / 8
وموالاته توجب إعراضه عن الله ومن أعرض عنه تولاه الشيطان ونقله إلى الكفر اهـ. قال الزمخشري: وهذا أمر معقول فإن موالاة الولي وموالاة عدوه متنافيان اهـ.
ولقد أحسن العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى حيث في الكافية الشافية يقول:
أتحب أعداء الحبيب وتدعي حبا له ما ذاك في إمكان
وكذا تعادي جاهدا أحبابه ... أين المحبة يا أخا الشيطان
وقال يزيد بن الحكم الثقفي:
تود عدوي ثم تزعم أنني ... صديقك ليس الفعل منك بمستوي
وقال غيره:
تود عدوي ثم تزعم أنني ... صديقك ليس النوك (١) عنك بعازب
ثم قال ﵎: ﴿إلا أن تتقوا منهم تقاة﴾ قال البغوي رحمه الله تعالى في تفسيره معنى الآية: أن الله تعالى نهى المؤمنين عن موالاة الكفار ومداهنتهم ومباطنتهم، إلا أن يكون الكفار غالبين ظاهرين، أو يكون المؤمن في قوم كفار يخافهم فيداريهم باللسان وقلبه مطمئن بالإيمان دفعا عن نفسه من غير أن يستحل دما حراما أو مالا حراما أو يظهر الكفار على عورة المسلمين. والتقية لا تكون إلاّ مع خوف القتل وسلامة النية، قال الله تعالى: ﴿إلاّ من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان﴾ ثم هذه رخصة فلو صبر حتى قتل فله أجر عظيم
_________
(١) * النوك: بضم النون وفتحها وهو الحمق.
1 / 9
اهـ. وروى أبو نعيم في الحلية عن علي بن الحسين زين العابدين أنه قيل له ما التقاة؟، قال: أن يخاف جبارا عنيدا أن يفرط عليه أو أن يطغى.
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى معلوم: أن التقاة ليست بموالاة ولكن لما نهاهم عن موالاة الكفار اقتضى ذلك معاداتهم، والبراءة منهم، ومجاهرتهم بالعدوان في كل حال إلا إذا خافوا من شرهم فأباح لهم التقية وليست التقية موالاة لهم اهـ.
وقوله: (ويحذركم الله نفسه) أي يخوفكم الله عقوبته على موالاة أعدائه وارتكاب نهيه ومخالفة أمره. قال أبو جعفر بن جرير يعني بذلك متى صرتم إليه وقد خالفتم ما أمركم به وأتيتم ما نهاكم عنه من اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين نالكم من عقاب ربكم مالا قبل لكم به يقول فاتقوه واحذروه أن ينالكم ذلك منه فإنه شديد العقاب اهـ.
الآية الثامنة: قوله تعالى: ﴿ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون﴾ وهذا أمر من الله تعالى بمصارمة أعدائه ولو كانوا أقرب قريب كالآباء والأبناء والإخوان والعشيرة، وفي النص على الأقارب دليل على أن مصارمة من سواهم من الكفار مطلوبة بطريق الأولى والأحرى.
الآية التاسعة: قوله تعالى: ﴿لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم﴾
1 / 10
قال البغوي رحمه الله تعالى: أخبر أن إيمان المؤمنين يفسد بموادة الكفار وأنّ من كان مؤمنا لا يوالي من كفر وإن كان من عشيرته اهـ. وقال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى: أخبر ﷾ أنه لا يوجد مؤمن يواد كافرا فمن واد الكفار فليس بمؤمن اهـ.
ثم أثنى الله ﵎ على الذين يصارمون أعداءه ويتقربون إليه ببغضهم ومبايبنتهم وأثبت لهم الإيمان والتأييد منه ووعدهم الثواب الجزيل في الدار الآخرة مع الرضى عنهم فقال تعالى: ﴿أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون﴾ وقد أورد ابن كثير عند تفسير هذه الآية ما رواه نعيم بن حماد حدثنا محمد بن ثور عن يونس عن الحسن قال: قال رسول الله ﷺ: (اللهم لا تجعل لفاجر ولا لفاسق عندي يدا ولا نعمة فيودّه قلبي فإني وجدت فيما أوحيته إليَّ: ﴿لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادّون من حاد الله ورسوله﴾).
الآية العاشرة: قوله تعالى: ﴿ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون. ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكن كثيرا منهم فاسقون﴾
1 / 11
وهذا إخبار من الله تبارك تعالى بأن موالاة الكفار تنافي الإيمان بالله ورسوله وكتابه، وتوجب سخط الله وأليم عقابه، وفي هذا أبلغ زجر وتحذير من موالاتهم وموادتهم.
قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى: بيّن ﷾ أن الإيمان بالله والنبي وما أنزل إليه مستلزم لعدم ولايتهم فثبوت ولايتهم يوجب عدم الإيمان لأن عدم اللازم يقتضي عدم الملزوم اهـ.
الآية الحادية عشرة: قوله تعالى: ﴿بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا﴾ وروى عبد الله بن الإمام أحمد في زوائد الزهد عن سعيد بن المسيب قال: سمعت عمر بن الخطاب ﵁ يقول: سمعت رسول الله ﷺ يقول: (من اعتز بالعبد أذله الله).
الآية الثانية عشرة: قوله تعالى: ﴿ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواءً فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا﴾.
الآية الثالثة عشرة: قوله تعالى: ﴿إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آوو ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض﴾ إلى قوله تعالى: ﴿والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلاّ تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير﴾
1 / 12
قال البغوي: قال ابن اسحاق: جعل الله المهاجرين والأنصار أهل ولاية في الدين دون من سواهم وجعل الكافرين بعضهم أولياء بعض، ثم قال: ﴿إلا تفعلوه﴾ وهو أن يتولى المؤمن الكافر دون المؤمن: ﴿تكن فتنة في الأرض وفساد كبير﴾ فالفتنة في الأرض قوة الكفر، والفساد الكبير ضعف الإسلام اهـ.
وقال ابن كثير: أي إن لم تجانبوا المشركين وتوالوا المؤمنين وإلاّ وقعت فتنة في الناس وهو التباس الأمر واختلاط المؤمنين بالكافرين فيقع بين الناس فساد منتشر عريض طويل اهـ.
الآية الرابعة عشرة: قوله تعالى: ﴿ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار ومالكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون﴾ وهذا نهي من الله ﵎ عن الركون إلى الظالمين من الكفار والمنافقين والفساق والفجار، وإخبار منه تعالى بأن الركون إليهم موجب للعذاب في الدار الآخرة. قال الجوهري والهروي وغيرهما من أهل اللغة: الركون السكون إلى الشيء والميل إليه. وقال البغوي: هو المحبة والميل بالقلب.
قال ابن عباس ﵄: لا تميلوا إلى الذين ظلموا. وعنه: هو الركون إلى الشرك. وعنه: لا تداهنوا. وقال السدي: لا تداهنوا الظلمة. وقال أبو العالية: لا ترضوا بأعمالهم.
1 / 13
وعن عكرمة: هو أن تطيعوهم أو تودوهم أو تصطنعوهم. قال بعض العلماء: معنى تصطنعوهم تولّوهم الأعمال كمن يولي الفساق والفجار. وقال ابن الأثير: الاصطناع افتعال من الصنيعة وهي العطية والكرامة والإحسان. وقال الزمخشري: النهي متناول للإنخراط في هواهم والإنقطاع إليهم ومصاحبتهم والرضى بأعمالهم والنسبة إليهم والتزيي بزيهم. قال بعض العلماء: وكذلك مجالستهم وزيارتهم ومداهنتهم ومدلين إلى زهرتهم وذكرهم بما فيه تعظيم لهم.
الآية الخامسة عشرة: قوله تعالى: ﴿ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم﴾ قال الجوهري: بطانة الرجل وليجته. وقال ابن الأثير: بطانة الرجل صاحب سره وداخلة أمره الذي يشاوره في أحواله. وقال البغوي في قوله تعالى ﴿لا تتخذوا بطانة من دونكم﴾: أي أولياء وأصفياء من غير أهل ملّتكم وبطانة الرجل خاصته تشبيها ببطانة الثوب التي تلي بطنه لأنهم يستبطنون أمره ويطّلعون منه على مالا يطلع عليه غيرهم، ثم بين العلّة في النهي عن مباطنتهم فقال جل ذكره ﴿لا يألونكم خبالا﴾ أي لا يقصرون ولا يتركون جهدهم فيما يورثكم الشر والفساد اهـ.
وقال القرطبي في تفسيره: نهى الله ﷾ المؤمنين بهذه الآية أن يتخذوا من الكافرين واليهود وأهل الأهواء دخلاء
1 / 14
وولائج يفاوضونهم في الآراء ويسندون إليهم أمورهم. وروى ابن أبي حاتم عن أبي الدهقانة قال: قيل لعمر بن الخطاب ﵁: إنّ ها هنا غلام من أهل الحيرة حافظا كاتبا فلو اتخذته كاتبا، فقال: قد اتخذت إذًا بطانة من دون المؤمنين. قال ابن كثير رحمه الله تعالى: ففي هذا الأثر مع هذه الآية دليل على أن أهل الذمة لا يجوز استعمالهم في الكتابة التي فيها استطالة على المسلمين واطلاع على دواخل أمورهم التي يخشى أن يفشوها إلى الأعداء من أهل الحرب.
الآية السادسة عشرة: قوله تعالى: ﴿أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة والله خبير بما تعملون﴾ قال الجوهري وغيره من أهل اللغة: وليجة الرجل خاصته وبطانته. وقال البغوي: وليجة بطانة وأولياء يوالونهم ويفشون إليهم أسرارهم، قال: وقال أبو عبيدة كل شيء أدخلته في شيء ليس منه فهو وليجة، والرجل يكون في القوم وليس منهم وليجة، فوليجة الرجل من يختص بدخيلة أمره دون الناس، يقال هو وليجتي وهم وليجتي للواحد والجمع. وقال الراغب الأصفهاني: الوليجة كل ما يتخذه الإنسان معتمدا عليه وليس من أهله، من قولهم فلان وليجة في القوم إذا لحق بهم وليس منهم إنسانا كان أو غيره. قال: ﴿ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة﴾ وذلك مثل قوله: ﴿لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء﴾.
1 / 15
فصل
إذا علم تحريم موالاة أعداء الله تعالى وموادتهم، فليعلم أيضا أن الأسباب الجالبة لموالاتهم وموادتهم كثيرة جدا، ومن أقربها وسيلة مساكنتهم في الديار، ولاسيما في ديارهم الخاصة بهم، ومخالطتهم في الأعمال ومجالستهم في المجالس ومصاحبتهم وزيارتهم واستزارتهم وتولي أعمالهم وتوليتهم في أعمال المسلمين والتزيي بزيِّهم والتأدب بآدابهم وتعظيمهم بالقول أو بالفعل. وكثير من المسلمين واقعون في بعض هذه الأفعال الذميمة، وبعضهم واقع في كثير منها فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وكما أن الله ﷾ قد كرر النهي لعباده المؤمنين عن موالاة أعدائه وشدد عليهم في ذلك وحذرهم مما يترتب على موالاتهم من الفتنة والفساد في الأرض وسخط الله وأليم عقابه في الدار الآخرة، فقد أمر ﵎ مع ذلك بالغلظة على أعدائه والشدة عليهم ومعاملتهم بما فيه إذلال لهم وتصغير وتحقير لشأنهم وكل ذلك بضد موالاتهم وموادتهم قال الله تعالى: ﴿ياأيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم﴾ وقال تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة﴾ وقال تعالى: ﴿قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر
1 / 16
ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون﴾ وقال تعالى: ﴿محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم﴾ إلى قوله تعالى: ﴿ليغيظ بهم الكفار﴾ وقال تعالى: ﴿ولا يطأُون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلاّ كتب لهم به عمل صالح إن الله لايضيع أجر المحسنين﴾ وقال تعالى: ﴿ياأيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين﴾.
فصل
وقد وردت أحاديث كثيرة بالنهي عما فيه تعظيم لأعداء الله تعالى ولو بأدنى شيء من التعظيم، والمقصود من ذلك والله أعلم سد الذريعة إلى موالاتهم وموادتهم فمن ذلك بداءتهم بالسلام ومصافحتهم والترحيب بهم والقيام لهم وتصديرهم في المجالس والتوسيع لهم في الطريق، لما في الحديث الصحيح عن أبي هريرة ﵁ أن رسول الله ﷺ قال: (لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام فإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروه إلى أضيقه) رواه الإمام أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والبخاري في الأدب المفرد وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. ورواه أبو داود الطيالسي في مسنده بنحوه.
1 / 17
وفي رواية للبخاري في الأدب المفرد: (إذا لقيتم المشركين في الطريق فلا تبدءوهم بالسلام واضطروهم إلى أضيقها). ورواه الإمام أحمد في مسنده بنحوه.
وفي المسند أيضا عن عقبة بن عامر ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: (إنّي راكب غدا إلى يهود فلا تبدءوهم بالسلام فإذا سلموا عليكم فقولوا وعليكم) ورواه ابن ماجة في سننه عن أبي عبد الرحمن الجهني ﵁ عن النبي ﷺ بمثله، وقد قيل أن أبا عبد الرحمن هذا هو عقبة بن عامر. قال الحافظ ابن حجر: قرأت بخط الحافظ عماد الدين ابن كثير أنه قيل هو عقبة بن عامر الصحابي المشهور. وقد يكون غيره فقد ذكر ابن عبد البر في كنية عقبة بن عامر ثمانية أقوال ولم يذكر فيها أبا عبد الرحمن. وذكر النووي فيها تسعة أقوال ولم يذكر فيها أبا عبد الرحمن والله أعلم.
وروى الإمام أحمد والبخاري في الأدب المفرد والنسائي والحافظ الضياء في المختارة عن أبي بصرة الغفاري ﵁ عن النبي ﷺ مثل حديث عقبة.
وروى أبو نعيم في الحلية عن علي ﵁ قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: (لا تساووهم في المجلس وألجئوهم إلى أضيق الطرق فإن سبّوكم فاضربوهم وإن ضربوكم فاقتلوهم).
1 / 18
وفي رواية قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: (صغروا بهم كما صغر الله بهم). قال أبو داود: قلت لأبي عبد الله يعني أحمد بن حنبل: تكره أن يقال للرجل الذمي كيف أصبحت أو كيف حالك أو كيف أنت أو نحو هذا؟ قال: نعم، هذا عندي أكثر من السلام. وقال أبو عبد الله: إذا لقيته في الطريق فلا توسع له.
وقال أبو داود أيضا سمعت أحمد سئل: أيبتدأ الذمي بالسلام إذا كانت له إليه حاجة؟ قال: لا يعجبني. وذكر غير أبي داود أن أحمد رحمه الله تعالى سئل عن مصافحة أهل الذمة، فكرهه. وروى أبو نعيم في الحلية من طريق اسحاق ابن راهويه حدثنا بقية حدثني محمد القشيري عن أبي الزبير عن جابر ﵁ قال: نهى رسول الله ﷺ أن يصافح المشركون أو يكنّوا أو يرحب بهم.
ومما يجب النهي عنه ما يفعله كثير من الجهال في زماننا إذا لقي أحدهم عدوّ الله سلم عليه ووضع يده على صدره إشارة إلى أنه يحبه محبة ثابتة في قلبه أو يشير بيده إلى رأسه إشارة إلى أن منزلته عنده على الرأس. وهذا الفعل المحرم يخشى على فاعله أن يكون مرتدا عن الإسلام لأن هذا من أبلغ الموالاة والموادة والتعظيم لأعداء الله تعالى وقد قال تعالى: ﴿ومن يتولهم منكم فإنه منهم﴾.
1 / 19
فصل
قال ابن مفلح في الفروع: وتحرم العيادة والتهنئة والتعزية لهم كالتصدير والقيام والبداءة بالسلام وكمبتدع يجب هجره. وعنه: يجوز وفاقا لأبي حنيفة والشافعي. وعنه: لمصلحة راجحة كرجاء الإسلام اختاره شيخنا. ومعناه قول الآجري وأنه قول العلماء أنه يعاد ويعرض عليه الإسلام وقد نقل عنه أبو داود أنه كان يريد أن يدعوه للإسلام فنعم اهـ.
قلت: أمّا عيادة المشرك والكتابي لعرض الإسلام عليه إذا رجى إسلامه فالصحيح جواز ذلك، والدليل عليه ما في الصحيحين وغيرهما عن سعيد بن المسيب عن أبيه قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة جاء رسول الله ﷺ فوجد عنده أبا جهل بن هشام وعبد الله بن أبي أمية فقال: (يا عم قل لا إله إلا الله كلمة أشهد لك بها عند الله) فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب فلم يزل رسول الله ﷺ يعرضها عليه ويعودان بتلك المقالة. الحديث.
وفي صحيح البخاري وسنن أبي داود والنسائي عن أنس ﵁ قال: كان غلام يهودي يخدم النبي ﷺ فمرض فأتاه النبي ﷺ يعوده فقعد عند رأسه فقال له: أسلم فنظر إلى أبيه وهو عنده فقال له: أطع أبا القاسم. فأسلم فخرج النبي ﷺ وهو يقول: (الحمد لله الذي أنقذه من النار).
1 / 20
وأما تهنأتهم وتعزيتهم فالأصح تحريم ذلك كما جزم به كثير من العلماء وعللوا ذلك بأنه يحصل الموالاة ويثبت المودّة ولما فيه من تعظيم أعداء الله تعالى فيحرم لذلك كما تحرم بداءتهم بالسلام والتوسيع لهم في الطريق.
ومما لا ريب فيه أنه من موالاة أعداء الله وموادتهم ما يفعله بعض الناس من الذهاب إلى أعداء الله تعالى في أيام عيدهم فيدخلون عليهم في بيوتهم وكنائسهم ويهنئونهم بأعيادهم الباطلة وما هم فيه من السرور بها، ولقد ذكر لنا أن هذا يفعله كثير من المنتسبين إلى العلم فضلا عن العامة. وقد قيل في تفسير قوله تعالى: ﴿والذين لا يشهدون الزور﴾ أن المراد به أعياد المشركين حكاه البغوي عن مجاهد، وحكاه ابن كثير عن أبي العالية وطاووس وابن سيرين والضحاك والربيع بن أنس وغيرهم. وروى أبو الشيخ الأصبهاني بإسناده عن عطاء بن يسار قال: قال عمر ﵁: إياكم ورطانة الأعاجم وأن تدخلوا على المشركين يوم عيدهم في كنائسهم. وروى البيهقي بإسناد صحيح عن عطاء بن دينار قال: قال عمر ﵁: لا تعلموا رطانة الأعاجم ولا تدخلوا على المشركين في كنائسهم يوم عيدهم فإن السخطة تنزل عليهم.
وروى أيضا بإسناده عن البخاري صاحب الصحيح قال: قال لي إبن أبي مريم: أنبأنا نافع بن يزيد سمع سليمان بن أبي زينب وعمرو بن الحارث سمع سعيد بن سلمة سمع أباه سمع عمر بن الخطاب ﵁ قال: اجتنبوا أعداء الله في عيدهم.
1 / 21