وہ خوشبو: اور دوسری کہانیاں
تلك الرائحة: وقصص أخرى
اصناف
قال الضابط: ما هو عنوانك؟ قلت: ليس لي عنوان. تطلع إلي في دهشة: إلى أين إذن ستذهب أو أين تقيم؟ قلت: لا أعرف، ليس لي أحد. قال لي الضابط: لا أستطيع أن أتركك تذهب هكذا. قلت: لقد كنت أعيش بمفردي. قال: لا بد أن نعرف مكانك لنذهب إليك كل ليلة، ليذهب معك عسكري. وهكذا خرجنا إلى الشارع أنا والعسكري، وتلفت حولي في فضول ، هذه هي اللحظة التي كنت أحلم بها دائما طوال السنوات الماضية، وفتشت في داخلي عن شعور غير عادي، فرح أو بهجة أو انفعال ما، فلم أجد، الناس تسير وتتكلم وتتحرك بشكل طبيعي كأنني كنت معهم دائما ولم يحدث شيء. وقال العسكري: لنأخذ تاكسي. وقلت في نفسي إنه يريد أن يتنزه على حسابي. وذهبنا إلى بيت أخي، وقال لي أخي على السلم إنه مسافر ولا بد أن يغلق الشقة. ونزلنا وذهبنا إلى صديقي، وقال صديقي: أختي هنا ولا أستطيع أن أقبلك. وعدنا إلى الشارع، وبدأ العسكري يتبرم، وبدت الشراسة في عينيه، وقلت في نفسي إنه يريد العشرة قروش. وقال: لا يمكن أن نظل هكذا، بنا إلى القسم. وفي القسم كان هناك عسكري آخر، وقال: أنت مشكلة ولا يمكن أن نتركك. جلست أمامه ووضعت حقيبتي على الأرض وأشعلت سيجارة. وجاء الليل وقال إنه لا يستطيع أن يفعل شيئا. ونادى على عسكري ثالث وقال له: ضعه في الحجز. واقتادوني إلى حجرة مغلقة يقف عسكري رابع ببابها. وفتشني العسكري وأخذ نقودي ووضعها في جيبه، وأدخلني حجرة واسعة تدور بجدرانها عارضة خشبية مرتفعة عن الأرض، وجلست على العارضة، وكان هناك رجال كثيرون، وفي كل لحظة كان الباب يفتح ليدخل آخرون. وأحسست بوخز في رقبتي، ومددت يدي إلى رقبتي فشعرت ببلل، ونظرت إلى يدي فوجدت بقعة دم كبيرة على إصبعي. وفي اللحظة التالية شاهدت عشرات من البق على ملابسي، ووقفت. ولأول مرة رأيت بقع الدم الكبيرة تلوث جدران الحجرة في كل مكان، وضحك أحد الموجودين وقال لي: تعال هنا. وكان هناك بعض الذين جلسوا على الأرض، وفرش أحدهم بطانية ممزقة على الأرض، ووجدت مكانا صغيرا في حافتها جلست فوقه وأسندت ذقني إلى ركبتي. وقال لي صاحب البطانية: لماذا لا تنام؟ لكن لم يكن هناك مكان لجسدي، وقلت: أنا أفضل الجلوس هكذا. وسألني آخر: مخدرات؟ قلت: لا. قال: سرقة ؟ قلت: لا. قتل؟ لا. رشوة؟ لا. تزييف؟ لا. وسكت الرجل حائرا وجعل ينظر لي نظرة غريبة، وبدأت أرتجف من البرد فقمت أتمشى قليلا، وعدت أجلس، وتعبت من جلستي فاتخذت وضعا آخر، وأخرج أحدهم بطانية كان يطويها تحته وجعل يستعد للنوم، وأخذت أتسلى بتصيد البق الذي يجري على الأرض وأقتله، وأحنيت رأسي فجأة على صدري؛ فلم أكن أريد منهم أن يروا وجهي. وكانوا قد بدءوا يستسلمون للنوم. وأمامي رقد عجوز على العارضة، وفتح العسكري الباب ونادى عليه قائلا: هناك من يسأل عنك. وعاد العجوز يحمل بطانية ووسادة وتمدد فوق العارضة، وتغطى بالبطانية وأسند رأسه إلى الوسادة وسرعان ما نام وهو يتنفس بصوت عال ولم يعبأ بالبق. وبجواره جلس رجل يحدق في وجهي وقد دس يديه في جيبي معطفه المفتوح الذي كشف عن صدره العاري؛ فلم يكن يرتدي شيئا تحت المعطف. وأطلق هذا الرجل فجأة عواء غريبا مروعا، ثم قام واقترب مني وهو يترنح، وضحك في وجهي ثم جلس بجواري، وتطلع أمامه في ذهول، ثم عوى. وقام إليه شاب ضخم الجثة فضربه على وجهه، وقال المجنون وهو يرفع ساعده ليحمي وجهه: لا تضربني. وانهالت ضربات الشاب عليه، وسمعت صوت عظامه تطقطق، وسقط في مكانه وهو يلهث، وضحك الآخرون. وجذب صاحب البطانية البطانية فوقه وبسطها بيده على صبي ممتلئ ينام إلى جواره، ورأيت وجه الصبي قبل أن تغطيه البطانية، كانت له بشرة خمرية وشفتان ممتلئتان، وكان غارقا في النوم وقد ثنى ركبتيه، وأحاطه الرجل بساعده أسفل البطانية، وجعل يتحرك حتى التصق به، وراحت ذراعه تحت البطانية وهي تتحرك على جسد الصبي تنزع بنطلونه، والتصق ساقا الرجل بظهر الصبي. وبجوار الصبي جلس الشاب الضخم الذي ضرب المجنون، وكان يتابع ما يجري أسفل البطانية ويرفع عينيه كل لحظة فتلتقيان بعيني، وهدأت الحركة أسفل البطانية بعد قليل، واهتز الغطاء. وقام الصبي جالسا وهو يمسح عينيه ليفيق من النوم، وجعل يتطلع بين ساقيه، وغفوت قليلا وأنا جالس ثم تنبهت، ولم أر الشاب الضخم ثم لمحت ساقيه من تحت البطانية، كان ينام محتضنا الصبي، وقمت أتمشى. واهتزت البطانية، وجذبها الشاب من فوق الصبي والتف بها كلها ، ورقد الصبي عاري الفخذين. وبدأ الظلام ينجلي، وراقبت نور الفجر وهو ينتشر، وفتحوا لنا أخيرا لنغتسل، وأخذوا الصبي لينظف الفناء. وأحضر الباقون طعاما وأفطروا، وظهر الصبي عند الباب وسأل: ألم تتركوا لي شيئا؟ وقال الشاب الضخم: لا. وجعل العسكري ينادي أسماء، وسمعت اسمي، وحملت حقيبتي وخرجت. وعند عسكري الأمس وجدت أختي، وسلمني دفترا صغيرا يحمل اسمي وصورتي. وخرجنا أنا وأختي إلى الشارع، وقالت: أتريد أن تشرب شيئا؟ قلت: أريد أن أمشي. وأخذتني إلى حجرة في مصر الجديدة، وأخذت ملابس نظيفة ودخلت الحمام، وأغلقت الباب خلفي. وخلعت ملابسي ووقفت عاريا تحت الدش، ثم دعكت جسمي بالصابون وفتحت الدش فوقي، ورفعت رأسي إلى أعلى وحدقت عيناي في عيون الدش الصغيرة، وسالت منه المياه وأجبرتني على أن أغمض عيني، وأحنيت رأسي وتابعت الصابون وهو ينحدر على جسمي مع المياه ثم يجري على الأرض حتى البالوعة. ودعكت جسمي بالصابون مرة أخرى، ومن جديد تابعت مياه الدش وهي تأخذ الصابون وتجري به حتى البالوعة. وأغمضت عيني ووقفت تحت الماء بلا حراك، ثم أغلقت الصنبور، وتناولت الفوطة وجففت بها جسمي في بطء، ثم ارتديت ملابسي وغادرت الحمام، وأشعلت سيجارة. وقالت أختي: نذهب إلى السينما. وذهبنا، وكان فيلما عن طيور يزداد حجمها وعددها حتى تتوحش وتطارد الناس وتفترس الأطفال. وشعرت بصداع حاد، وعدنا إلى الحجرة، وانهمكت أختي في تنظيفها. وأخذت أتنقل بين الصالة والمطبخ والحجرة وأنا أدخن وأتحاشى الاقتراب من النافذة، وخلعت ملابسي وتمددت على السرير، ودق الجرس فقمت أفتح. كان العسكري هو الطارق، وقلت له: دقيقة واحدة. وأسرعت إلى الحجرة فجئت بالدفتر وأعطيته له، فكتب اسمه أمام اليوم وانصرف. وعدت إلى السرير فاستلقيت فوقه، وأشعلت سيجارة، وجعلت أتأمل السقف. وجاء العسكري مرة أخرى، وظللت ممددا على السرير دون أن أنام، ودخنت كثيرا. وجاء الصباح فقمت واغتسلت وارتديت ملابسي وخرجت، وتناولت ساندويتشا، وابتعت صحف الصبح كلها، ثم ركبت المترو ، وراقبت أبواب العربة وهي تنغلق. ووقفت بجوار حجرة السيدات، وجعلت أتأملهن واحدة واحدة، كانت شعورهن مصففة بأشكال معقدة ، ووجوههن مثقلة بالأصباغ. ونزلت في الإسعاف، وكان هناك رجل على الرصيف بجوار الحائط وقد غطته جرائد ملوثة بالدماء، وعلى الرصيف وسط الشارع تجمعت عدة نساء بملاءات سوداء جعلن يلوحن بأيديهن ناحية الرجل وهن يولولن. وركبت الأتوبيس إلى بيت منى، وقابلتني أمها، وقبلت يدها. ولم تعرفني في البداية، وجلسنا نتحدث، وكان لا بد أن أحدثها عن زوجها، وقلت لها إني كنت معه إلى آخر لحظة. «كنت أجلس إلى جواره ويدي مقيدة إلى يده، وكنا في مؤخرة السيارة وخلفنا بقية السيارات. وكان هو يعرف ما سيحدث لكنه لم يقل شيئا، وكان يردد في صوت خافت مقطعا من أغنية حب قديمة. وكان الهواء لاذعا ولم يكن من شيء يقينا برودته، وأخذت أرتجف وأسناني تصطك. ولم نكن نرى شيئا من الطريق، وجعلنا نتحدث عن هيمنجواي. وفي الظلام رأيته يخرج مشطا من جيبه ويمشط شعره الذي امتلأ بالبياض، وكنت أعرف أنه يصبغه ليخفي بياضه. وكان الصمت يسود العربة، وأمامنا لف أحمد رأسه بفوطة وهو يتأوه، كان الصداع يفترس رأسه عندما يرتجف داخله. وعندما وصلنا كان ذلك في الفجر، وأنزلونا بالعصي، وجلسنا على الأرض، وكنا نرتعش من البرد والرهبة. وكان هو أطولنا، وسمعت صوتا يقول: ها هو. وضربوه على رأسه، وقالوا له: اخفض رأسك يا كلب. وأخذوا ينادون علينا، ثم نادوا عليه، وكانت هذه هي آخر مرة رأيته فيها.»
وقالت لي: تصور جاءني منه خطاب قبلها يقول فيه إن الأمر لن يستمر طويلا. وقلت لها إنه كان يقول لي دائما إنه لم يحدث أن نام بالليل ومنى بين ذراعيه. وكان يصفق بيديه ويقول: سأنطلق قبلكم. كان يود الانطلاق بأي ثمن. وتطلعت أم منى بإعياء حولها وهبط جفناها المنتفخان فوق عينيها، وغاص رأسها في جسدها المترهل القصير، وأشارت لي أن أقترب منها وهمست: هل كان يحبني حقيقة؟ وقلت لها: بالطبع. «فماذا أقول لها؟ وما الفائدة أن نحقق الأمر على وجه الدقة بعد أن انتهى كل شيء، ثم من ذا الذي يعرف على وجه الدقة ما يدور داخل إنسان آخر؟ ويقولون إن بعض الناس خلق للحب، والبعض الآخر لم يخلق له. ويقول آخرون إن الحب لا يوجد إلا في الروايات. أما هو فقد حكى لي مرة حكاية واحدة طارده أهلها بالنبابيت لأنه لم يكن من دينها، ثم كانت هناك واحدة أخرى لكنها ماتت فجأة، وثالثة اكتشف أنها اتفقت مع زوجها على ضرورة إنجاب طفل بأي طريقة، وكان قد تعدى الخامسة والأربعين ويقترب من الخمسين، وكان يريد طفلا. وفي يوم كنا نقف في الشمس سويا وكان شاردا، وكنت أثرثر بينما هو مستسلم لشروده، ولم يكن يصغي لي، وربما كان يحسب الأمر في ذهنه .. لكني في مرة كنت أهبط السلم بجواره، وكنا نقترب من الطابق الأرضي، وسمعنا صوت دق سريع متلاحق على السلم، ثم ظهرت أمامنا فتاة طويلة توقفت أمام باب المصعد، وكان ضوء الشمس يسقط من نوافذ السلم الزجاجية على وجهها، وتطلعت نحونا، كانت تضحك لسبب ما وشعرها ثائر وخداها أحمران، ولم تكن تستقر في مكانها، وكان يهبط بجواري وعيناه عليها، وسمعته يصعد تنهيدة حارة.»
وقامت إلى حجرتها وعادت بحافظة صغيرة أخرجت منها بعض الأوراق وناولتني ورقة بالية وقالت: هذه قصيدة كتبها لي قبل أن نتزوج. «وكانت شاردة بنظراتها دائما، وعندما يسألها فيما تفكر تقول: في الحياة والموت. وكتب هو:
أنا حزين يا طفلتي؛ حزين ووحيد.
في فراشي أرقد،
بلا أحد أتحدث إليه،
بالكتب كلها وقد قرأتها
بلا أحد أضحك معه،
بلا دموع أذرفها.
إنه الموت،
نامعلوم صفحہ