قبل أن تقرأ
مقدمة الطبعة الثالثة
على سبيل التقديم
مقدمة يوسف إدريس للطبعة الأولى
تلك الرائحة
الثعبان
أرسين لوبين
بعد الظهر عبر ثلاثة أسرة
أغاني المساء
أبيض وأزرق
قبل أن تقرأ
مقدمة الطبعة الثالثة
على سبيل التقديم
مقدمة يوسف إدريس للطبعة الأولى
تلك الرائحة
الثعبان
أرسين لوبين
بعد الظهر عبر ثلاثة أسرة
أغاني المساء
أبيض وأزرق
تلك الرائحة
تلك الرائحة
وقصص أخرى
تأليف
صنع الله إبراهيم
قبل أن تقرأ
واكبت سنوات مراهقتي نهاية العهد الملكي في مصر. كانت البلاد تموج بدعوات التحرر الوطني من الوجود الإنجليزي العسكري، والتحرر الاجتماعي من سيطرة الإقطاع، ومن الأمية والمرض والحفاء! .. وشكلت هذه البيئة وجداني، وخاصة الحديث عن أن المعرفة هي كالماء والهواء يجب أن تكون للجميع وبالمجان.
وفي مغرب يوم من سنة 1951م، كنا أنا وأبي عائدين من زيارة لأحد أقاربنا في شرق القاهرة. توقفنا في ميدان العتبة لنأخذ «الباص» إلى غربها حيث نقطن. اتخذنا أماكننا في مقاعد الدرجة الثانية. نعم! كانت مقاعد «الباص» آنذاك - والترام أيضا - مقسمة إلى درجتين بثمنين متفاوتين للتذاكر التي يوزعها «كمساري» برداء أصفر مميز أثناء مروره على الركاب.
جلسنا أنا وأبي خلف الحاجز الزجاجي الذي يفصل الدرجتين، وتابعت في حسد ركاب الدرجة الأولى، بينما كان أبي غارقا في أفكاره التي تثيرها دائما أمثال هذه الزيارات.
قلت بحماس طفولي: «سيأتي اليوم الذي يزول فيه هذا الحاجز، بل ويصبح الركوب بالمجان.»
تذكرت الروايات التي أعشق قراءتها فأضفت: «والكتب أيضا!»
تطلع إلي باستياء من سذاجتي: نعم! الكتب بالمجان؟ يا لها من سذاجة!
ولم أتصور وقتها أن يأتي اليوم الذي تصبح فيه كتبي أنا متاحة للقراءة بالمجان! وذلك بفضل مبادرة جريئة من مؤسسة مصرية طموحة، فشكرا لها!
صنع الله إبراهيم
مقدمة الطبعة الثالثة
صدرت الطبعة الأولى من هذه المجموعة سنة 1986م، بالقاهرة والدار البيضاء، وتلتها الطبعة الثانية بالقاهرة سنة 1993م. وتضم هاتان الطبعتان، كما هو شأن الطبعة الحالية، النص الكامل لرواية «تلك الرائحة».
وكانت طبعتها الأولى قد صدرت - وصودرت - في القاهرة منذ سبع وثلاثين سنة، سنة 1966م، وتلتها طبعة غير كاملة في 1969م في القاهرة، وأخرى غير كاملة أيضا في مجلة «شعر» البيروتية، ثم أعيد نشر الطبعة الناقصة سنة 1971م في القاهرة، ولم تنشر الطبعة الكاملة إلا سنة 1986م في الخرطوم، وفي نفس السنة نشرت كاملة أيضا في القاهرة والدار البيضاء، في مجلد يضم القصص القصيرة.
وقد سبق أن أشرت في تقديم تلك الطبعة إلى عزوفي عن قراءة نصوصي السابقة. وهو ما أفعله مرغما عند مراجعة طبعاتها الجديدة. هكذا وجدتني مضطرا إلى قراءة هذه المجموعة من جديد، وأثارت هذه القراءة شجونا عدة تتعلق برحلتي الطويلة في الكتابة والحياة، كما واجهتني مرة أخرى بأخطائي اللغوية التي لم أكن أعبأ بها في مستهل عملي، ثم حرصت على تلافيها بعد ذلك .. وما زلت أحاول!
والواقع أن الفترة التي بدأت فيها الكتابة كانت تتميز بإهمال عام من الكتاب لقواعد اللغة والترقيم، التي اعتبروها - وخاصة في الكتابات الصحفية - شيئا ثانويا. ولعبت طرق تدريس اللغة دورا هاما في ذلك؛ إذ اعتمدت الحفظ أساسا لها ولم تعبأ بمخاطبة عقول التلاميذ من خلال بسط «منطق» القواعد والتخلص من متحجراتها. وقد نجحت المدرسة في إثارة نفوري من القواعد، وأقامت حاجزا نفسيا منيعا بيني وبينها.
والقارئ لمقدمة «يوسف إدريس»، التي حرصت على نشرها كما هي، سيلحظ على الفور عدم مبالاته بقواعد النحو والصرف. وأذكر أني استفسرت من أحد الكتاب الصحفيين عن رأيه في لغة إحدى قصصي الأولى - «الثعبان» - من ناحية القواعد النحوية، فأشاح بيده في لامبالاة قائلا: إنها مسألة تافهة يمكن علاجها «بواحد أزهري مقابل شلن»!
لكن الأمر في «تلك الرائحة» كان أكبر من مجرد النفور من القواعد والاستهتار بها؛ فقد كان - كما أشار يوسف إدريس في مقدمته - تعبيرا عن حالة التمرد التي سيطرت على العمل كله. وقد تغيرت نظرتي للأمر مع الزمن بفعل عوامل عدة، منها بروز كتاب - «إدوار الخراط» - جعلوا من اللغة أساسا لعملهم. وتواكب ذلك مع ازدياد الاهتمام العام بسلامة اللغة، نتيجة التقارب مع مراكز تحرص عليها، مثل دمشق وبغداد ، ونتيجة أيضا لانتقال «المركز الصحفي» من القاهرة إلى بيروت، ثم الخليج، وربما أيضا كرد فعل للهجوم الاستعماري الضاري على المنطقة وثقافتها. •••
أثارت القراءة الراهنة لهذه المجموعة أيضا فرصة ملاحظة بذور الظاهرة التي ميزت عملي، وهي تلك الخاصة بالتناص أو تضمين الوثائق، والتفاعل مع أشكال أخرى من الإبداع الفني؛ ففي «تلك الرائحة» توجد وثيقة فريدة، هي الترجمة العربية لقصيدة كتبها بالإنجليزية المرحوم «شهدي عطية» (1913-1960م)، قبل شهور من اعتقاله الأخير سنة 1959م، الذي فقد حياته خلاله تحت وطأة التعذيب، وما زلت أحتفظ بأصل القصيدة بخط يده.
وذكرتني القصص القصيرة أيضا بالتأثيرات التي تعرضت لها في بداية عملي. ولا شك أن القارئ المدقق سيلمس أثر رواية «الطاعون» لكامي في قصة «الثعبان»، وأثر أسلوب «جورج سيمنون» المبهر ببساطته وسخريته الخفية في قصة «ثلاثة أسرة»، و«هيمنجواي» في قصص الطفولة. وأظن أن استخدامي لتقنية «الفلاش باك» في «تلك الرائحة» بلغة شاعرية تعارض لغة السرد الرئيسي، قد جرى بتأثر من رواية «ثلوج كلمنجارو»، وقد كان تأثرا لا واعيا؛ إذ كنت من الغرور والاعتزاز بالنفس لأربأ بنفسي عن أي تقليد متقصد لكاتب آخر. •••
استدعت القراءة الراهنة أيضا المشاكل التي جلبتها لي «تلك الرائحة»، والتي رويت طرفا منها في تقديم الطبعة السابقة.
ولكن المشكلة التي ما زالت تلاحقني، ونتيجة أيضا لأعمالي الأخرى، هي ميل القراء إلى اعتبار ما أكتبه واقعا مؤكدا حدث لي. السبب في ذلك بالطبع هو أني أفضل استخدام ضمير المتكلم، لما يسبب لي من راحة (ولأني أيضا أميل إلى قراءة الروايات التي تستخدمه)، ولأني أستعين ببعض المواقف والخبرات التي مررت بها بالفعل، كما أن أغلب أعمالي تشير عادة إلى شخصيات وأحداث حقيقية. لكن ما أكتبه لا يمكن اعتباره من قبيل السيرة الذاتية. وبعبارة أخرى، فإذا كنت أستعين ببعض الخبرات الشخصية، فإنها تتعرض لكثير من التحريف والتغيير طبقا لأهداف العمل. وقد جلب لي سوء الفهم هذا كثيرا من المشاكل والمواقف الحرجة؛ فغالبا ما يسألني أحد القراء عما إذا كنت أنا شخصيا «شرف» الذي اغتصب في السجن، وعن مصير البنت الروسية التي نمت معها في أسوان، وقطع البعض بأن «لميا» بطلة «بيروت بيروت» هي فلانة، وأن «ذات» هي زوجتي أو أختي. ووصلت المسألة إلى ذروة الخطر في حالة «وردة» التي تدور أحداثها في سلطنة عمان؛ فقد اتصل بي أحد مواطنيها محتدا ومهددا قائلا بالحرف: «كيف أسمح لنفسي أن أفضح شرف «حرمة»؟» وهددني بعواقب وخيمة إن لم أصحح الأمر. وعبثا حاولت أن أبين له أنني مؤلف، وأن شخصيات الرواية بما فيها الراوية ذاتها لا وجود لها في الحقيقة، حتى لو تشابهت مع شخصيات واقعية، إلا في حالات محدودة تجري الإشارة إليها. •••
جلبت لي «تلك الرائحة» أيضا مشاكل عائلية عديدة؛ ففيها يتحدث الراوية عن أخ وأخت وعم وأقارب، ساردا تفاصيل حميمة عنهم، من شأن بعضها أن يصدم القارئ. لم يثر ذلك شيئا عند نشرها في المرة الأولى؛ فبعض أقاربي الذين تنطبق عليهم هذه الأوصاف كفوا عن ممارسة القراءة أو انتهت علاقتهم بفن الرواية عند «يوسف السباعي» و«إحسان عبد القدوس»، ومن قرأها منهم صدفة - من مجايلي أو من الجيل الأكبر - لم يأخذ عملي على محمل الجد، واعتبره في الغالب نزوة من نزواتي التي اشتهرت بها وقادتني في السابق إلى السجن.
لكن الأحفاد كان لهم شأن آخر.
فعبر العقود نشأ جيل منهم وصل إلى الجامعة، ومن سوء حظي أن البعض منهم أغرم بالقراءة، وقراءة الأدب بالذات. ثم إن العصر صار غير العصر؛ فما كان يبدو مقبولا منذ ثلاثة عقود، صار الآن رجسا من عمل الشيطان في ظل الظلامية التي أسدلت أستارها على البلاد. ووقعت إحدى طبعات «تلك الرائحة» في أيدي بعضهم، فحملوها إلى الآباء والأجداد متسائلين، وربما ساخطين.
وجاء اليوم الذي توفيت فيه إحدى قريباتي. علمت بالخبر في الصباح، وبدأت أستعد للقيام بواجب العزاء. وإذا بزوجتي تحمل إلي النعي المنشور في جريدة الأهرام قائلة إنه لا يوجد ما يدعوني للخروج. وعرفت السبب عندما قرأت النعي الذي يضم أسماء الأقارب؛ إذ وجدت مكان اسمي فارغا؛ مما يوحي بأن أحدا تذكر بعد إعداده للنشر ما «ارتكبته من جرائم»، وتمكن من إزالة اسمي في اللحظة الأخيرة!
ربما أمكن اعتبار كل ذلك بعضا من متاعب المهنة الضرورية، وربما أمكن اعتبارها مؤشرا على نجاحي في إقناع القارئ بالأكذوبة التي هي الرواية، لكني ما زلت أتمنى أن يفصل القارئ بين شخصي والراوية؛ فهو كاذب كبير، حتى لو صدق!
ص. إ
أكتوبر 2003م
على سبيل التقديم
سألني أستاذنا الكبير يحيى حقي، عندما التقيت به مؤخرا في إحدى المناسبات، عما إذا كنت أذكر النقد الذي وجهه إلى روايتي الأولى «تلك الرائحة» عقب نشرها أول مرة في فبراير 1966م، وعندما أجبت بالإيجاب، سألني عن رأيي الآن، بعد مرور قرابة العقدين، في نقده، وفي روايتي عموما.
في تلك اللحظة كنت قد أوشكت أن أنسى كثيرا من تفاصيل الرواية؛ فقد مرت سنوات طويلة منذ قرأتها لآخر مرة؛ فليس من عادتي أن أعود إلى ما سبق لي كتابته؛ فمثل هذه القراءة تثير مللي، إن لم تكن مصدرا للشعور بالإحباط.
أما النقد الذي وجهه الأستاذ يحيى حقي للرواية، فلم أنسه أبدا!
كنت قد دفعت بالمخطوطة إلى مطبعة بدائية صغيرة في حي الظاهر، في فترة نادرة من تاريخ مصر الحديث، ألغيت فيها الأحكام العرفية، ولم يعد الكتاب يتطلب موافقة الرقابة قبل دخول المطبعة، رسميا على الأقل! فقد احتفظ الرقيب بمكتبه ووظيفته كما كان الأمر في السابق، وكل ما حدث من تغيير هو أن مكتبه أصبح بلا لافتة، وأن مصادرة الكتب لم تعد تتم قبل الطبع وإنما بعده.
وهذا ما حدث مع كتابي؛ فلم تكد طباعته تنتهي حتى صدر الأمر بمصادرته. ولا أذكر إذا كنت قد استدعيت إلى مكتب رئيس الرقابة أو أني ذهبت بنفسي شاكيا. المهم أني قابلت المرحوم طلعت خالد، أحد معاوني عبد القادر حاتم المخلصين، وكان قد جمع لديه بعض كبار موظفي مصلحة الاستعلامات ليتسلوا بالفرجة علي، وبسط أمامه نسخة من الرواية المصادرة، وقد ظهر أثر القلم الأحمر على هوامش أغلب صفحاتها، ثم سألني باستهزاء: لماذا رفض البطل أن ينام مع المومس التي أحضرها صديقه .. هل هو «مرخي»؟
لم أعن كثيرا بمجادلته . وقد كنت تمكنت من استخلاص عدد من النسخ المصادرة، فقمت بتوزيعها على أصدقائي ومعارفي من الكتاب والصحفيين، وحاولت أن أوسط البعض منهم من ذوي النفوذ في الإفراج عن الرواية، فذهبت مع المرحوم الأستاذ زكي مراد إلى الأستاذ أحمد حمروش، الذي كان يرأس تحرير مجلة «روزاليوسف» في ذلك الوقت، ورحب الرجل بي بحرارة، وأراني بروفة العدد الجديد من المجلة وبه تعليق صغير له عن الرواية تحت عنوان «لغة العصر». وعندما أبلغته بنبأ المصادرة ظهرت عليه المباغتة، ورفع سماعة التليفون واتصل بقريبه الأستاذ حمدي حافظ في مصلحة الاستعلامات، فاستمع إليه برهة، ودون أن يعيد السماعة إلى مكانها اتصل بمطبعة المجلة وطلب شطب مقاله عن الرواية.
ولكن أغلب الكتاب والصحفيين لم يصلهم نبأ المصادرة في الوقت المناسب، فظهرت تعليقات عدة في الصحف والمجلات، بينما كان الكتاب يرقد في مخازن وزارة الداخلية. وكان الأستاذ يحيى حقي من الذين أهديتهم إحدى النسخ، وكنت قد تعرفت إليه قبل شهر عقب خروجي من السجن في منتصف 1964م، فذهبت إليه في مجلة «المجلة» التي كان يرأس تحريرها، فاتحا أبوابها أمام كافة الكتاب، والجدد منهم بوجه خاص، تاركا المكتب الخشبي الثمين الذي يتصدر غرفته، مكتفيا بمقعد جلدي مريح إلى جانبه. وفي أول لقاء معه حملت إليه عرضا لأحدث كتب الناقد الإنجليزي ستيفن سبندر. وجلست أقرأ المقال عليه وهو ينصت باهتمام، ويدرسني بعينيه الذكيتين، مصححا لي في رفق ما ارتكبته من أخطاء فادحة في النطق. وعندما فرغت من القراءة أعلن قبوله للمقال، وكان أول شيء ينشر لي بعد خروجي من السجن، وحصلت من ورائه على عشرة جنيهات كاملة تكفلت بنفقاتي لمدة شهر.
ذهبت إليه بنسخة من «تلك الرائحة»، فتناولها مني بحفاوة بالغة، وبعد أن تبين العنوان قال مجاملا: إن الغرفة أوشكت أن تعبق بالعبير الزكي الذي يفوح منها!
ولم تمض أيام حتى صحح الأستاذ الكبير غلطته بمقال عنيف في عموده الأسبوعي بجريدة «المساء»، قال فيه: «لا زلت أتحسر على هذه الرواية القصيرة التي ذاع صيتها أخيرا في الأوساط الأدبية، وكانت جديرة بأن تعد من خيرة إنتاجنا لولا أن مؤلفها زل بحماقة وانحطاط في الذوق؛ فلم يكتف بأن يقدم إلينا البطل وهو منشغل بجلد عميرة (لو اقتصر الأمر على هذا لهان)، لكنه مضى فوصف لنا أيضا عودته لمكانه بعد يوم، ورؤيته لأثر المني الملقى على الأرض. تقززت نفسي من هذا الوصف الفزيولوجي تقززا شديدا، لم يبق لي ذرة من القدرة على تذوق القصة رغم براعتها. إنني لا أهاجم أخلاقياتها، بل غلظة إحساسها وفجاجته وعاميته. هذا هو القبح الذي ينبغي محاشاته، وتجنيب القارئ تجرع قبحه.»
كان كاتبنا الكبير يسألني إذن عن موقفي مما أسماه في ذلك المقال بالتعبير الفزيولوجي، لكن ذهني انصرف أثناء حديثي معه إلى تجربتي كلها، فأجبته بأني أشعر كما لو أني بدأت الآن فقط في تعلم الكتابة؛ فكل كتاب جديد لي يكشف لي عن جانب كنت أجهله من هذا الفن، يزيد من إدراكي لحدود إمكانياتي ولنقاط الضعف والعجز لدي، كما يضاعف من تقديري لعتاولة الكتاب الذين يقتحمون الورق مسلحين بأدوات عدة، قبضوا على ناصيتها بإحكام شديد. ولم يكن هذا شعوري عندما بدأت أولى خطواتي، وهو ما أعتبره أمرا طبيعيا.
كنت - عندما كتبت «تلك الرائحة» - خارجا لتوي من السجن، خاضعا للرقابة القضائية التي تستلزم التواجد في المنزل من غروب الشمس حتى شروقها. وكنت أقضي بقية اليوم في التعرف على عالم ابتعدت عنه أكثر من خمس سنوات. وما إن آوي إلى حجرتي، حتى أجد نفسي مدفوعا لأن أسجل بلمسات سريعة ما مر بي من أحداث ومشاهدات كانت تهزني بعنف وتبدو لي عجائبية، ثم أزيح هذه اليوميات جانبا وأعود إلى رواية بدأتها في السجن، عن عالم الطفولة. وكنت قد خططت لها أن تتألف من عدة قصص مستقلة، تجمع بينها الشخصيات الرئيسية والموضوع العام. وكتبت منها عدة فصول نجحت في تهريبها إلى خارج السجن بفضل الصديق حسين عبد ربه، الذي حملها معه عند الإفراج عنه (تضم المجموعة الحالية اثنتين من هذه القصص هما «أرسين لوبين» و«أغاني المساء»).
كنت أعود إلى الرواية فأجدني عازفا عن المضي في كتابتها؛ فقد ضاع الوهج الذي لازم العمل فيها بين جدران السجن، واستولى الواقع الجديد على كل مشاعري.
ومن جديد برز السؤال المعهود: ماذا أكتب، وكيف أكتب؟
أقول من جديد لأنه طالما لاحقني في السجن، منذ اللحظة التي قررت فيها أن أهب حياتي لهذا الفن. وأحيانا ما كنت أضرب عرض الحائط بالشق الأول من السؤال، متحديا في سذاجة الشباب وحماسه، الصياغة التي ألهبت خيالنا في الخمسينيات للعلاقة بين صورة العمل الفني ومضمونه، والتي بسطها الأستاذان محمود العالم وعبد العظيم أنيس في مقالاتهما الشهيرة؛ فقد كان التمرد هو طابع الفترة.
كانت السنوات الأولى من الستينيات بالغة الخصب، في السياسة والفن والحياة، كانت فترة الصعود لطبقة متوسطة فتية في مصر وبلدان العالم الثالث أمكنها أن تكيل ضربات قاصمة للاستعمار القديم المتهاوي، مستفيدة من توازن عالمي ملائم للقوى، وأن تصوغ حلما للعدالة الاجتماعية لم يقدر لها أن تتمكن من تحقيقه. وكانت الحركة الاشتراكية قد استيقظت على مساوئ عبادة الفرد، وبدا الطريق أمامها ممهدا لاستخلاص النتائج الضرورية من ذلك. وكان الإنسان قد صعد إلى القمر، ودخل السلوك الجنسي إلى المعمل لتتكشف أكثر الحقائق إثارة، من قبيل عدد مرات الأورجازم لدى المرأة الطبيعية والتي يمكن أن تصل إلى خمسين أورجازما في الليلة الواحدة مقابل اثنين أو ثلاثة في المتوسط للذكر المسكين.
ومن وراء أسوار سجن الواحات الخارجة، كنا - أنا وأصدقائي كمال القلش ورءوف مسعد وعبد الحكيم قاسم - نتابع في حماس الشعراء السوفييت - الشابين يوفتوشنكو وفوزنيينسكي والعجوز تفاردوفسكي - وهم يفجرون الأبنية العتيقة، بقدر ما كنا نتابع تجارب الكتابة التلقائية، وفنون الضوء والحركة في أمريكا، وموجة «الرواية الجديدة» في فرنسا. وكانت المجلات القاهرية تحفل بالإشارة إلى شتى التجارب الأدبية الجديدة في العالم. وراحت المعارضة اليمينية المقنعة للنظام الناصري - وهي التي كانت تسيطر بالفعل على كافة منافذ النشر والإعلام في البلاد - تروج في دهاء لأعمال بيكيت ويونسكو ودورينمات.
كان التمرد إذن هو وقود المرحلة ، والتجربة هي شعارها. وأعطى نجيب محفوظ ظهره لكتابته البلزاكية، ليخوض في مغامرات مثيرة، قفز فيها بالفن الروائي العربي قرنا بأكمله. وبرزت أسماء جديدة مثل إدوار الخراط وغالب هلسا وبهاء طاهر وسليمان فياض وإبراهيم أصلان ويحيى الطاهر عبد الله وغيرهم. وخيل إلي أني وجدت الطريق عندما وقعت على هيمنجواي من خلال كتابين وجدا طريقهما إلى سجن الواحات الخارجة؛ الأول لكارلوس بيكر، والثاني يضم عدة دراسات أهمها واحدة لناقد سوفييتي قديم، غاب عني اسمه. عنيت بتحليل أدوات الكاتب الأمريكي الكبير، وقد آمنت على الفور بهذه الأدوات - وما زلت أعتمد بعضها - وأهمها الاقتصاد والتعبير المشكوم. وبدا ل «جبل الثلج العائم» بريق خاص في مواجهة الترهل التقليدي في أسلوب التعبير العربي. وتحت تأثير هيمنجواي بدأت أعمل في رواية الطفولة التي لم يقدر لها أن تكتمل.
فسرعان ما كنت في الحجرة المفروشة التي استأجرتها في حي «مصر الجديدة» بعد الإفراج عني، أقلب مسوداتها في ملالة وأنا أتساءل عن جدوى كتابة لا تتعرض للصراع الضاري مع الاستعمار، لمحاولات بناء الاشتراكية، وللتناقضات الملتبسة بكل ذلك؛ الرعب والتعذيب والسجن والموت والشجن الشخصي.
وذات ليلة لن أنساها، ألقيت نظرة على اليوميات التلغرافية التي كنت أسجلها كل ليلة بعد انصراف الشرطي، وكان قد تجمع منها عدد قليل - ربما ستة عشر يوما على ما أذكر - قرأتها كلها مرة واحدة، فإذا بي أرتجف من الانفعال.
كان ثمة تيار خفي في ذلك الأسلوب التلغرافي الذي لا يتوقف ليتمعن، ولا يعنى بانتقاء المترادفات أو سلامة اللغة أو مداراة القبح الذي يصدم النفوس الحساسة. كان ثمة «جمال» في جملة ركيكة مثل: «وقال الكاتب إن موباسان قال إن الفنان يجب أن يخلق عالما أكثر جمالا وبساطة من عالمنا.» وكان ثمة جمال في فعل قبيح من قبيل إطلاق غازات المعدة في صالون برجوازي.
ألا يتطلب الأمر قليلا من القبح للتعبير عن القبح المتمثل في سلوك فزيولوجي من قبيل ضرب شخص أعزل حتى الموت ووضع منفاخ في شرجه، وسلك كهربائي في فتحته التناسلية؟ وكل ذلك لأنه عبر عن رأي مخالف، أو دافع عن حريته أو هويته الوطنية؟
ولماذا يتعين علينا عندما نكتب ألا نتحدث إلا عن جمال الزهور وروعة عبقها، بينما الخراء يملأ الشوارع ومياه الصرف الملوثة تغطي الأرض، والجميع يشمون الرائحة النتنة ويشتكون منها؟
أو أن نصور على الورق كائنات أوشكت أن تختفي فتحاتها التناسلية، كي لا نخدش حياء كاذبا لدى قراء يعرفون عن أمور الجنس أكثر مما يعرف السيد الكاتب؟
شعرت وأنا أقرأ يومياتي الوجيزة بأني أمام مادة خام لعمل فني، لا يتطلب مني بعد غير جهد التشكيل والصقل. وشعرت أيضا أني قد وقعت أخيرا على صوتي الخاص.
كنت قد وجدت عملا في حانوت لبيع الكتب الأجنبية، «تخرج» منه فيما بعد كل من رءوف مسعد وعبد الحكيم قاسم. وكان عملي يحتم علي التواجد في الحانوت طول اليوم، وبهذا كانت الفرصة الوحيدة أمامي للكتابة الجادة هي يوم العطلة. ولا زلت أذكر يوم كتبت الصفحة الأولى من «تلك الرائحة» في مقهى بحديقة الأزبكية ذات صباح. ولم ألبث أن أدركت عبث هذا الوضع، فتركت العمل. وأتاح لي أحد الأصدقاء، وهو الطبيب جمال صابر جبرة، مكانا يأويني في مسكن مهجور له في مصر الجديدة امتلأ بالكتب القديمة. ووسط مؤلفات العلامة الأثري سامي جبرة، ومجلدات شهداء القديسين، انقطعت للعمل في روايتي الأولى، طوال ثلاثة شهور، شد من أزري خلالها التأييد المعنوي من الصديقين العتيدين رءوف مسعد وكمال القلش.
قررت أن أحافظ على النفس اللاهث الذي ميز اليوميات، بعد أن رتبت محتوياتها بطريقة خاصة، وأضأت بعض جوانبها بهوامش مستفيضة جمعتها في نهاية النص، وأطلقت على النص اسم «الرائحة النتنة في أنفي».
وكان الدكتور يوسف إدريس - الذي تربطني به علاقة قديمة منذ منتصف الخمسينيات - هو الذي اعترض على فكرة الهوامش، واعتبرها مغالاة في التجديد، وأقنعني بنقلها إلى داخل النص، كما اعترض على العنوان الذي اخترته للرواية. وفي العيادة التي افتتحها فجأة في ميدان الجيزة لممارسة العلاج النفسي، توصلنا معا إلى اسم «تلك الرائحة»، وكان كريما معي بالمقدمة.
وأخيرا دفعت بالرواية إلى المطبعة، بعد أن قدمت لناشرها عشرين جنيها. وأهداني الرسام مصطفى حسين تصميما للغلاف. وأصدرنا الرواية بمقدمة يوسف إدريس، وبكلمة موجزة على الغلاف، أشبه بالمانفستو، من توقيع كمال القلش ورءوف مسعد وعبد الحكيم قاسم، هذا نصها: «إذا لم تعجبك هذه الرواية التي بين يديك، فالذنب ليس ذنبنا، إنما العيب في الجو الثقافي والفني الذي نعيش فيه، والذي سادته طوال الأعوام الماضية الأعمال التقليدية والأشياء الساذجة السطحية.
ومن أجل كسر المناخ الفني السائد الذي تجمد، نصمم على هذا النوع من الكتابة الصادقة المؤلمة أحيانا.
في هذا الإطار نقدم هذه الرواية للكاتب الجديد «صنع الله إبراهيم»، وبعدها سنقدم مسرحية «السود» لنبيل بدران، وقصصا قصيرة لكمال القلش وأحمد هاشم الشريف وعبد الحكيم قاسم، ومسرحيات لرءوف مسعد، وقصائد لمحمد حمام.
وهذه الأسماء التي لم تتعودها ستقدم إليك فنا لم تتعوده أيضا، فنا يعاني محاولة التعبير عن روح عصر وتجربة جيل؛ عصر اختفت فيه المسافات والحدود، وانهارت فيه الأوهام، ونفذ فيه الإنسان إلى حقيقة الوجود، وجيل ولد في ظل الملكية والإقطاع وخرج في المظاهرات التي هتفت بسقوط الملك والإنجليز، ثم تفتح وجدانه على ثورة يوليو وعاشها بالوعي والفعل، وشهد انهيار الملكية والرأسمالية وقيام الاشتراكية، كل هذه العمليات الهائلة في سنوات قليلة؛ لهذا جاءت تجربته غنية عميقة مليئة بكافة التناقضات والأزمات التي زادته معرفة ووعيا بوجوده، وتطلبت في التعبير كل جرأة وحدة حتى تتجسد إبداعا خلاقا.
هذا هو الطريق الذي اخترناه.»
ولا شك أن القارئ سيبتسم معي - اليوم - لهذه النبرة الحماسية المليئة بثقة لا حد لها (ربما عكست انعدام الثقة تماما) والكلمات الفخمة من قبيل «حقيقة الوجود»، والأحكام التي ثبت خطؤها مثل «قيام الاشتراكية»، لكنها سذاجة البدايات، أو لعلها دفاع مستبق عن النفس.
فما أصعب اللحظات التي مرت بي منذ صدرت الرواية! ففي ذلك الوقت كانت الكتابات الشائعة في الصحف والمجلات المصرية تعزف على النغمة المعهودة فيما عرف بالأدب «الواقعي الاشتراكي»؛ عدم إغفال الصورة الكلية، والإنجازات التي تحققت ... إلخ (وهي دعوى يتمسح بها الآن أكثر الكتاب تخلفا ورجعية، مما يلقي ضوءا كاشفا على قيمة الدعوى وجدواها).
وكانت الأمة العربية - ومصر في الطليعة - في مواجهة ساخنة مع الإمبريالية الأمريكية وربيبتها الصهيونية، فضلا عن الرجعية العربية. وكان من الطبيعي أن يلاحقني تساؤل عما إذا كنت لا أضر بلدي بهذا العمل في هذه الظروف.
وبالإضافة إلى ذلك، كان سيف الاعتقال مصلتا طول الوقت.
ووجد الكثيرون في الكتاب مادة للتفكه والسخرية، وتلقفته بعض العناصر لتستغله في خدمة مصالحها، فحمله عبد القادر حاتم إلى الرئيس جمال عبد الناصر، ليشهده على ما وصل إليه «الشيوعيون» من تبذل وانحلال، وتوصل «المؤتمر الإسلامي» إلى نتيجة مماثلة. وآلمني أن تستغل «مغامرتي» للمساس بقوة سياسية أحترم كفاحها وتضحياتها على مدى عدة عقود.
ولاحقني الشعور نفسه بعد ذلك عندما اضطررت لنشرها في بيروت عام 1968م، في مجلة «شعر» التي كان يصدرها يوسف الخال عن جريدة النهار؛ فكلها جهات لا تعلو على الشبهات.
لكني لم أندم أبدا على أني كتبت هذه الرواية ونشرتها في تلك الظروف، ولا ندمت على النهج الذي اتخذته في التعبير، ولا فكرت في التراجع عنه. حقا، كثيرا ما خالجني الشعور بأني قد أجهضت عملا كبيرا، إلا أني لا ألبث أن أقنع بالقول إن تلك كانت حدود إمكانياتي حينذاك.
أما التوجه ذاته، الإنصات للصوت الداخلي، والاغتراف من صلب الواقع الحقيقي - دون مراعاة للمشاعر البرجوزاية الحساسة، أو لبعض الاعتبارات المرحلية - فما زلت أعتمده أساسا لعملي.
لم تفلح المصادرة في القضاء على الكتاب؛ فقد وجد. وهو درس يجب أن تعيه جيدا أجهزة الدولة في البلدان العربية.
وفي سنة 1969م، أثناء وجودي في الخارج، أصدرت دار النشر (التي تغير اسمها من «مكتب يوليو» إلى «دار الثقافة الجديدة»)، طبعة ثانية من الرواية بعد أن انتزعت منها - ودون إذن مني - كل ما تصورت أنه قد يثير غضب الرقيب. ولا أستبعد أن تكون قد لجأت إلى ذلك النوع من الرقباء الذي أفرزته الحياة في ذلك الحين، وهو رقيب «قطاع خاص» يقدم خبرته في الجهاز الرقابي لمن يشاء من المؤلفين أو الناشرين. ووفقا لاتفاق خاص بين الناشر وناشر آخر، وهو «كتابات معاصرة»، أعيد إصدار نفس الطبعة في القاهرة سنة 1971م.
وتعتبر الطبعة الحالية أول طبعة كاملة منذ مصادرة الطبعة الأولى (فلم تسلم طبعة مجلة شعر من المقص المعهود الذي اقتطع كل ما من شأنه أن يؤذي المشاعر الحساسة لقرائها). ومن الطبيعي أني قمت بتصحيح الأخطاء النحوية واللغوية التي وردت في الطبعة الأصلية، بالإضافة إلى حالات السهو، من قبيل الإشارة إلى طفل بصيغة المذكر ثم الإشارة إلى نفس الطفل في مكان آخر بصيغة المؤنث، كما صححت مصدر الاقتباس الذي صدرت به الرواية لجيمس جويس؛ ففي الطبعة الأصلية ذكرت أنه عن رواية «يوليسيز»، وكنت قد طالعت العبارة المقتبسة في مقال نقدي بالملحق الأدبي للتايمس اللندنية، ونسبتها - خطأ فيما يبدو - إلى الرواية الشهيرة. وأثناء إعداد الترجمة الإنجليزية، التي صدرت عن دار هاينمان اللندنية في 1971م، بحث المترجم دنيس جونسون ديفيز طويلا عن أصل العبارة في رواية «يوليسيز» دون أن يعثر لها على أثر. وبالالتجاء إلى الخبراء بأعمال جويس، أمكن الاستدلال على أصل العبارة في رواية «صورة الفنان في شبابه».
وكان دنيس جونسون ديفيز هو المسئول عن تعديل جوهري بهذه الطبعة؛ فقد اشتكت دار النشر الإنجليزية من قلة عدد صفحات الكتاب. وكنت قد أضفت إلى «تلك الرائحة» خمسا من القصص القصيرة، لكن دنيس لم يرض عن إحدى هذه القصص، وهي من قصص الطفولة وبعنوان «الشيكولاتة». وجعل يلح علي أن أكتب واحدة جديدة، لكني لم أتمكن. عندئذ فكرت في تضمين الموقف الأساسي لقصة «الشيكولاتة» بالرواية، وهذا ما تم بالفعل، وكسبت دار النشر أقل من صفحتين جديدتين. وعند إعداد هذه الطبعة رأيت من المناسب أن أفعل المثل، فأضفت إلى النص الأصلي الفقرة الواردة بين أقواس قرب نهاية الرواية.
صنع الله إبراهيم
القاهرة 1986م
«أنا نتاج هذا الجنس وهذه الحياة ..
ولسوف أعبر عن نفسي كما أنا.»
جيمس جويس: «صورة الفنان في شبابه»
مقدمة يوسف إدريس للطبعة الأولى
ليست مجرد قصة
أعترف بأني شديد الضعف تجاه المواهب، وليس أسهل من الكتابة وسيلة تخدعك عن الموهبة، والكتابة موهبة كل إنسان، مثلها مثل الكلام، ولكن قليلون أولئك الذين باستطاعتهم أن يخلقوا من الكلام فنا، وتمييز الذهب من القشرة في حاجة إلى صائغ، والمواهب كالمعادن في حاجة إلى ميتاليرجيست ليفند ويقيم، ولست هذا الصائغ أو أخصائي المعادن، ولكني أحس بالموهبة مثل إحساسي بالخطر أو الأمل أو الضيق. ولقد عرفت صاحب هذا الكتاب منذ أكثر من عشر سنوات، دقيق الجسم، دقيق ملامح الوجه، أحيانا أحس به كالطائر الذي يضع منظارا. ومنذ عرفت صنع الله وهو أصيل، لم أشهده مرة متلبسا بخاطر ليس من صنعه أو بفكرة لم يشق في تحصيلها، وأسماء كثيرة أطلقتها عليه، أول ما عرفته سميته داستايوفسكي أو كما تعودنا تسميته دوستيوفسكي؛ فقد كان يكتب بطريقة منسابة فياضة تحس أن وراءها نبعا لا ينضب، وكانت الشخصية المحببة إليه أيامها هي خليل بك، وهو نموذج بشري التقطته موهبة صنع الله كما يلتقط طائر النورس من طيرانه العالي ظهر السمكة وينقض عليها. وخلق صنع الله من خليل بك شخصية يمكن أن يكتب عنها عشرات الكتب دون أن يفرغ محتواها. كان أيامها في العشرينيات، ولكن قصصه كانت تقترب من الأربعينيات الناضجة. كان متدفقا غزيرا بحيث إني أحس بالأسف الشديد كلما تذكرت موهبته في ذلك الحين. إذا كان النبات في حاجة إلى رعاية خاصة، والزهور النادرة في حاجة إلى بيوت من زجاج وتكييف هواء، والحيوان أيضا، في المزارع الحديثة نرعاه وندقق في اختيار طعامه، وتوفير الراحة له ليدر اللبن، فما بالك بأرقى ما وصلت إليه في تطورها الحياة، كل أنواع الحياة، الإنسان الفنان؟ وصنع الله أيامها لم يكن يطمح في رعاية أكثر من أن ينضح النشر بعض ما يعج به درج مكتبه، وعملا، ولا شيء غير هذا، ولكننا بنفس الإسراف العبيط الذي نبعثر به الأشياء، ما أكثر ما بعثرنا من المواهب! وهكذا كتب على دوستيوفسكي صنع الله إبراهيم ألا يرى النور، وأن تضيع مسوداته وكتابته وتهدر، وأن يتوقف عن الكتابة فترة طويلة، وخلال غيابه كنت دائم السؤال عنه خائفا أن يعود الشاب ولا يعود الفنان. وفعلا عاد الشاب وقابلته، وسألته إن كان قد كتب، وفي خجل من نوع خاص أعطاني هذه الرواية القصيرة التي قرأتها، بل والتهمتها في جلسة واحدة، جلسة كنت خلالها كثيرا ما أسخط على الكاتب، وكثيرا ما أفتقد صنع الله الأول، وكثيرا ما أحس أنه يريد وكأنما بصبر أيوب أن يؤلم القارئ ويؤذيه، ولكني حين انتهيت أحسست أني لست فقط أمام فنان عاد، ولكني أمام موهبة جديدة، وكأنما ولدت في الغيبة. والغريب أنه بالقدر الذي كانت تبدو فيه موهبته الأولى أكبر من سنه بكثير، تكاد تكون ضعف سنه، هذه المرة وجدت الشاب الذي أوشك على الثلاثين يكتب بروح ابن عشرين، دافئ التجربة طازج الإحساس، والحزن في نفسه طبقات، ولكنه حزن الصبا، الحزن الدافع إلى اللاحزن والأمل. وجدت العقل ذلك الذي كان يغلق على نفسه الطريق لا يريد أن يراه. وجدته هنا يرى أولا وينفعل أولا، ويقطر رؤاه وانفعالاته على الورق بلا أي محاولة لإخضاعها لفلسفة معينة أو نظريات. وجدته قد آمن هذه المرة بالإنسان كظاهرة أعظم من كل الظواهر، وأصبحت أشجان الإنسان الصغيرة أهم آلاف المرات من المعادلات مهما بدت رائعة الانضباط فوق الورق. وجدت الفنان الذي فيه قد ثار ثورتين، ثورة إلى الخارج، وثورة إلى داخل نفسه، يحطم قيودا كثيرة كانت تجعله لا يصل إلا لسطح عقله ووجدانه، وتمنعه أن يغوص في أعماقه ويغامر ويستكشف، عشر مرات قد يخرج بيده خاوية، ولكنه بالتأكيد ذات مرة سيخرج بحقيقة قد تكفيه عمرا بأكمله. هنا أصبح صنع الله قصير الجمل حادها، قصير النفس، يلتقطه بسرعة ويخرجه ليدخر قواه كلها للغوص وللمغامرة والاكتشاف. هنا أصبح صنع الله مرا، ليست مرارة حاقدة، ولكنها مرارة من يريد أن يتخلص، ويتخلص قراؤه، من كل شعور بالمرارة، صريحا في أهدافه القصيرة، صريحا إلى درجة اشمأزت نفسي فيها من بعض تعبيراته، ولكن مقابل صراحته القصيرة هذه، هناك خبث فني مخفي يخاطب، من وراء ظهر القارئ وعقله، والوجدان، أعمق طبقات الوجدان. هنا في هذه الرواية القصيرة لخص لي صنع الله، ليس فترة هامة من حياة بطل القصة، إنما فترة أهم من حياة جيل صنع الله، ذلك التلخيص الساحر المركز شديد المفعول. إنها ليست قصة، بل إنها صفعة أو صرخة أو آهة منبهة قوية تكاد تثير الهلع. لم يعد لدى الفنان وقت لينمق ويصوغ الأحاسيس ببراعة تستدر الإعجاب. إنه هنا يريد أن يستدر انفعالات أقوى من الإعجاب به ككاتب، أو الإعجاب بقصته كموضوع. إن البطل هنا ليس الرجل، وليس الشاب، وليست الأحداث أو العصر. البطل هنا هو إحساس عام طاغ لا اسم له - إلى الآن على الأقل - وحتى حين حاول صنع الله بعنوان القصة، «تلك الرائحة» أن يسميه، هو فيما أعتقد قد فشل، بل إني لأجد نفسي الآن في حرج شديد وأنا أحاول أن أنتقي اسما لهذا الإحساس العام الذي نحته وخلقه صنع الله وأدخله دائرة الفن والأدب، ليس الإحساس بالغربة أو الاشمئزاز أو الضياع أو الثورة أو افتقاد الحنان أو الوجود، إنه إحساس مختلف، من المجحف لصنع الله وهذا العمل أن أحاول أن أعطيه اسما أو أثير مشكلة حوله؛ فإني أريدكم معي، أن تقرءوا القصة، وتخوضوا التجربة وتحسوه، ولتطلقوا عليه بعد هذا ما شئتم من أسماء.
إني لشديد الاعتزاز بصنع الله الفنان، وسعيد حقيقة وأنا أحس أنه قد آن الأوان لتقرأه الحركة الفنية والأدبية في كتاب كامل في قصة من أجمل ما قرأت باللغة العربية خلال السنوات القليلة الماضية.
إن «تلك الرائحة» ليست مجرد قصة، ولكنها ثورة، وأولها ثورة فنان على نفسه، وهي ليست نهاية، ولكنها بداية أصيلة لموهبة أصيلة، بداية فيها كل ميزات البداية، ولكنها تكاد تخلو من عيوب البدايات لأنها أيضا موهبة ناضجة.
يوسف إدريس
1966م
تلك الرائحة
قال الضابط: ما هو عنوانك؟ قلت: ليس لي عنوان. تطلع إلي في دهشة: إلى أين إذن ستذهب أو أين تقيم؟ قلت: لا أعرف، ليس لي أحد. قال لي الضابط: لا أستطيع أن أتركك تذهب هكذا. قلت: لقد كنت أعيش بمفردي. قال: لا بد أن نعرف مكانك لنذهب إليك كل ليلة، ليذهب معك عسكري. وهكذا خرجنا إلى الشارع أنا والعسكري، وتلفت حولي في فضول ، هذه هي اللحظة التي كنت أحلم بها دائما طوال السنوات الماضية، وفتشت في داخلي عن شعور غير عادي، فرح أو بهجة أو انفعال ما، فلم أجد، الناس تسير وتتكلم وتتحرك بشكل طبيعي كأنني كنت معهم دائما ولم يحدث شيء. وقال العسكري: لنأخذ تاكسي. وقلت في نفسي إنه يريد أن يتنزه على حسابي. وذهبنا إلى بيت أخي، وقال لي أخي على السلم إنه مسافر ولا بد أن يغلق الشقة. ونزلنا وذهبنا إلى صديقي، وقال صديقي: أختي هنا ولا أستطيع أن أقبلك. وعدنا إلى الشارع، وبدأ العسكري يتبرم، وبدت الشراسة في عينيه، وقلت في نفسي إنه يريد العشرة قروش. وقال: لا يمكن أن نظل هكذا، بنا إلى القسم. وفي القسم كان هناك عسكري آخر، وقال: أنت مشكلة ولا يمكن أن نتركك. جلست أمامه ووضعت حقيبتي على الأرض وأشعلت سيجارة. وجاء الليل وقال إنه لا يستطيع أن يفعل شيئا. ونادى على عسكري ثالث وقال له: ضعه في الحجز. واقتادوني إلى حجرة مغلقة يقف عسكري رابع ببابها. وفتشني العسكري وأخذ نقودي ووضعها في جيبه، وأدخلني حجرة واسعة تدور بجدرانها عارضة خشبية مرتفعة عن الأرض، وجلست على العارضة، وكان هناك رجال كثيرون، وفي كل لحظة كان الباب يفتح ليدخل آخرون. وأحسست بوخز في رقبتي، ومددت يدي إلى رقبتي فشعرت ببلل، ونظرت إلى يدي فوجدت بقعة دم كبيرة على إصبعي. وفي اللحظة التالية شاهدت عشرات من البق على ملابسي، ووقفت. ولأول مرة رأيت بقع الدم الكبيرة تلوث جدران الحجرة في كل مكان، وضحك أحد الموجودين وقال لي: تعال هنا. وكان هناك بعض الذين جلسوا على الأرض، وفرش أحدهم بطانية ممزقة على الأرض، ووجدت مكانا صغيرا في حافتها جلست فوقه وأسندت ذقني إلى ركبتي. وقال لي صاحب البطانية: لماذا لا تنام؟ لكن لم يكن هناك مكان لجسدي، وقلت: أنا أفضل الجلوس هكذا. وسألني آخر: مخدرات؟ قلت: لا. قال: سرقة ؟ قلت: لا. قتل؟ لا. رشوة؟ لا. تزييف؟ لا. وسكت الرجل حائرا وجعل ينظر لي نظرة غريبة، وبدأت أرتجف من البرد فقمت أتمشى قليلا، وعدت أجلس، وتعبت من جلستي فاتخذت وضعا آخر، وأخرج أحدهم بطانية كان يطويها تحته وجعل يستعد للنوم، وأخذت أتسلى بتصيد البق الذي يجري على الأرض وأقتله، وأحنيت رأسي فجأة على صدري؛ فلم أكن أريد منهم أن يروا وجهي. وكانوا قد بدءوا يستسلمون للنوم. وأمامي رقد عجوز على العارضة، وفتح العسكري الباب ونادى عليه قائلا: هناك من يسأل عنك. وعاد العجوز يحمل بطانية ووسادة وتمدد فوق العارضة، وتغطى بالبطانية وأسند رأسه إلى الوسادة وسرعان ما نام وهو يتنفس بصوت عال ولم يعبأ بالبق. وبجواره جلس رجل يحدق في وجهي وقد دس يديه في جيبي معطفه المفتوح الذي كشف عن صدره العاري؛ فلم يكن يرتدي شيئا تحت المعطف. وأطلق هذا الرجل فجأة عواء غريبا مروعا، ثم قام واقترب مني وهو يترنح، وضحك في وجهي ثم جلس بجواري، وتطلع أمامه في ذهول، ثم عوى. وقام إليه شاب ضخم الجثة فضربه على وجهه، وقال المجنون وهو يرفع ساعده ليحمي وجهه: لا تضربني. وانهالت ضربات الشاب عليه، وسمعت صوت عظامه تطقطق، وسقط في مكانه وهو يلهث، وضحك الآخرون. وجذب صاحب البطانية البطانية فوقه وبسطها بيده على صبي ممتلئ ينام إلى جواره، ورأيت وجه الصبي قبل أن تغطيه البطانية، كانت له بشرة خمرية وشفتان ممتلئتان، وكان غارقا في النوم وقد ثنى ركبتيه، وأحاطه الرجل بساعده أسفل البطانية، وجعل يتحرك حتى التصق به، وراحت ذراعه تحت البطانية وهي تتحرك على جسد الصبي تنزع بنطلونه، والتصق ساقا الرجل بظهر الصبي. وبجوار الصبي جلس الشاب الضخم الذي ضرب المجنون، وكان يتابع ما يجري أسفل البطانية ويرفع عينيه كل لحظة فتلتقيان بعيني، وهدأت الحركة أسفل البطانية بعد قليل، واهتز الغطاء. وقام الصبي جالسا وهو يمسح عينيه ليفيق من النوم، وجعل يتطلع بين ساقيه، وغفوت قليلا وأنا جالس ثم تنبهت، ولم أر الشاب الضخم ثم لمحت ساقيه من تحت البطانية، كان ينام محتضنا الصبي، وقمت أتمشى. واهتزت البطانية، وجذبها الشاب من فوق الصبي والتف بها كلها ، ورقد الصبي عاري الفخذين. وبدأ الظلام ينجلي، وراقبت نور الفجر وهو ينتشر، وفتحوا لنا أخيرا لنغتسل، وأخذوا الصبي لينظف الفناء. وأحضر الباقون طعاما وأفطروا، وظهر الصبي عند الباب وسأل: ألم تتركوا لي شيئا؟ وقال الشاب الضخم: لا. وجعل العسكري ينادي أسماء، وسمعت اسمي، وحملت حقيبتي وخرجت. وعند عسكري الأمس وجدت أختي، وسلمني دفترا صغيرا يحمل اسمي وصورتي. وخرجنا أنا وأختي إلى الشارع، وقالت: أتريد أن تشرب شيئا؟ قلت: أريد أن أمشي. وأخذتني إلى حجرة في مصر الجديدة، وأخذت ملابس نظيفة ودخلت الحمام، وأغلقت الباب خلفي. وخلعت ملابسي ووقفت عاريا تحت الدش، ثم دعكت جسمي بالصابون وفتحت الدش فوقي، ورفعت رأسي إلى أعلى وحدقت عيناي في عيون الدش الصغيرة، وسالت منه المياه وأجبرتني على أن أغمض عيني، وأحنيت رأسي وتابعت الصابون وهو ينحدر على جسمي مع المياه ثم يجري على الأرض حتى البالوعة. ودعكت جسمي بالصابون مرة أخرى، ومن جديد تابعت مياه الدش وهي تأخذ الصابون وتجري به حتى البالوعة. وأغمضت عيني ووقفت تحت الماء بلا حراك، ثم أغلقت الصنبور، وتناولت الفوطة وجففت بها جسمي في بطء، ثم ارتديت ملابسي وغادرت الحمام، وأشعلت سيجارة. وقالت أختي: نذهب إلى السينما. وذهبنا، وكان فيلما عن طيور يزداد حجمها وعددها حتى تتوحش وتطارد الناس وتفترس الأطفال. وشعرت بصداع حاد، وعدنا إلى الحجرة، وانهمكت أختي في تنظيفها. وأخذت أتنقل بين الصالة والمطبخ والحجرة وأنا أدخن وأتحاشى الاقتراب من النافذة، وخلعت ملابسي وتمددت على السرير، ودق الجرس فقمت أفتح. كان العسكري هو الطارق، وقلت له: دقيقة واحدة. وأسرعت إلى الحجرة فجئت بالدفتر وأعطيته له، فكتب اسمه أمام اليوم وانصرف. وعدت إلى السرير فاستلقيت فوقه، وأشعلت سيجارة، وجعلت أتأمل السقف. وجاء العسكري مرة أخرى، وظللت ممددا على السرير دون أن أنام، ودخنت كثيرا. وجاء الصباح فقمت واغتسلت وارتديت ملابسي وخرجت، وتناولت ساندويتشا، وابتعت صحف الصبح كلها، ثم ركبت المترو ، وراقبت أبواب العربة وهي تنغلق. ووقفت بجوار حجرة السيدات، وجعلت أتأملهن واحدة واحدة، كانت شعورهن مصففة بأشكال معقدة ، ووجوههن مثقلة بالأصباغ. ونزلت في الإسعاف، وكان هناك رجل على الرصيف بجوار الحائط وقد غطته جرائد ملوثة بالدماء، وعلى الرصيف وسط الشارع تجمعت عدة نساء بملاءات سوداء جعلن يلوحن بأيديهن ناحية الرجل وهن يولولن. وركبت الأتوبيس إلى بيت منى، وقابلتني أمها، وقبلت يدها. ولم تعرفني في البداية، وجلسنا نتحدث، وكان لا بد أن أحدثها عن زوجها، وقلت لها إني كنت معه إلى آخر لحظة. «كنت أجلس إلى جواره ويدي مقيدة إلى يده، وكنا في مؤخرة السيارة وخلفنا بقية السيارات. وكان هو يعرف ما سيحدث لكنه لم يقل شيئا، وكان يردد في صوت خافت مقطعا من أغنية حب قديمة. وكان الهواء لاذعا ولم يكن من شيء يقينا برودته، وأخذت أرتجف وأسناني تصطك. ولم نكن نرى شيئا من الطريق، وجعلنا نتحدث عن هيمنجواي. وفي الظلام رأيته يخرج مشطا من جيبه ويمشط شعره الذي امتلأ بالبياض، وكنت أعرف أنه يصبغه ليخفي بياضه. وكان الصمت يسود العربة، وأمامنا لف أحمد رأسه بفوطة وهو يتأوه، كان الصداع يفترس رأسه عندما يرتجف داخله. وعندما وصلنا كان ذلك في الفجر، وأنزلونا بالعصي، وجلسنا على الأرض، وكنا نرتعش من البرد والرهبة. وكان هو أطولنا، وسمعت صوتا يقول: ها هو. وضربوه على رأسه، وقالوا له: اخفض رأسك يا كلب. وأخذوا ينادون علينا، ثم نادوا عليه، وكانت هذه هي آخر مرة رأيته فيها.»
وقالت لي: تصور جاءني منه خطاب قبلها يقول فيه إن الأمر لن يستمر طويلا. وقلت لها إنه كان يقول لي دائما إنه لم يحدث أن نام بالليل ومنى بين ذراعيه. وكان يصفق بيديه ويقول: سأنطلق قبلكم. كان يود الانطلاق بأي ثمن. وتطلعت أم منى بإعياء حولها وهبط جفناها المنتفخان فوق عينيها، وغاص رأسها في جسدها المترهل القصير، وأشارت لي أن أقترب منها وهمست: هل كان يحبني حقيقة؟ وقلت لها: بالطبع. «فماذا أقول لها؟ وما الفائدة أن نحقق الأمر على وجه الدقة بعد أن انتهى كل شيء، ثم من ذا الذي يعرف على وجه الدقة ما يدور داخل إنسان آخر؟ ويقولون إن بعض الناس خلق للحب، والبعض الآخر لم يخلق له. ويقول آخرون إن الحب لا يوجد إلا في الروايات. أما هو فقد حكى لي مرة حكاية واحدة طارده أهلها بالنبابيت لأنه لم يكن من دينها، ثم كانت هناك واحدة أخرى لكنها ماتت فجأة، وثالثة اكتشف أنها اتفقت مع زوجها على ضرورة إنجاب طفل بأي طريقة، وكان قد تعدى الخامسة والأربعين ويقترب من الخمسين، وكان يريد طفلا. وفي يوم كنا نقف في الشمس سويا وكان شاردا، وكنت أثرثر بينما هو مستسلم لشروده، ولم يكن يصغي لي، وربما كان يحسب الأمر في ذهنه .. لكني في مرة كنت أهبط السلم بجواره، وكنا نقترب من الطابق الأرضي، وسمعنا صوت دق سريع متلاحق على السلم، ثم ظهرت أمامنا فتاة طويلة توقفت أمام باب المصعد، وكان ضوء الشمس يسقط من نوافذ السلم الزجاجية على وجهها، وتطلعت نحونا، كانت تضحك لسبب ما وشعرها ثائر وخداها أحمران، ولم تكن تستقر في مكانها، وكان يهبط بجواري وعيناه عليها، وسمعته يصعد تنهيدة حارة.»
وقامت إلى حجرتها وعادت بحافظة صغيرة أخرجت منها بعض الأوراق وناولتني ورقة بالية وقالت: هذه قصيدة كتبها لي قبل أن نتزوج. «وكانت شاردة بنظراتها دائما، وعندما يسألها فيما تفكر تقول: في الحياة والموت. وكتب هو:
أنا حزين يا طفلتي؛ حزين ووحيد.
في فراشي أرقد،
بلا أحد أتحدث إليه،
بالكتب كلها وقد قرأتها
بلا أحد أضحك معه،
بلا دموع أذرفها.
إنه الموت،
بل أفظع؛
فعندما تموت لا تستطيع أن تفكر،
إلا إذا كان الدود يفكر.
وعندما تكون وحيدا، تفكر،
تتوق وتتطلع وتسعى،
ولا تعرف ما تسعى إليه.
إنها الحياة والموت.
إنها ليست حياة على الإطلاق،
سوى أني لم أمت بعد. ...
لكن صه! ها هي بعض الخطى؛
خطى بشرية.
إنهم آتون، إنهم يقتربون.
أهم حقا؟ أجل! كلا! ربما! أجل! ها هم يدقون الجرس.
أسمع خطى بشرية،
أسمع أصواتا بشرية،
تسطع بالضحك.
صديق؟ كلا، أكثر.
إنهم أصدقاء يا طفلتي. ...
لست حزينا بعد يا طفلتي،
لكني خائف،
فهم سيرحلون ويتركونني من جديد،
للحياة والموت!»
ودق الجرس ودخل صخر، وكان قد حلق شاربه ومشط شعره وحمل كل صحف الصباح تحت إبطه، ودق الجرس مرة أخرى ودخل شاب أنيق، وقالت له السيدة مشيرة إلى صخر: هذا صديق زوجي. وقال الشاب: أعرفه. وقام صخر على الفور ولبس نظارته، وجعل يتمشى في الحجرة، وكانت هناك بعض الكتب بالإنجليزية والفرنسية على الرف فجعل يقلب فيها ثم وضع يده في خاصرته، وحمل كتابا منها إلى النافذة ففتحه، وجعل يقلب في صفحاته وهو ينظر للشاب الأنيق من فوق نظارته بين اللحظة والأخرى. «لا بد أنها كانت من أسعد لحظاته؛ إذ يشعر أن ثمة شخصا يعرفه لسبب ما؛ ففيما مضى كان يعتقد أن الجميع يعرفونه ثم اكتشف الحقيقة تدريجيا. وعندما رأيته لأول مرة كان عاري الصدر يمشي بخطوات بطيئة ويرفع إصبعه كل لحظة ليداعب شاربه. وفي تلك الأيام كان الزعماء يحتفظون بشوارب مختلفة الأشكال، ولم تكن صدفة أن كل واحد منهم كان له شارب متميز عن الآخر، ثم اكتشف أن هذه الشوارب كانت خداعة؛ فقد ذهب أصحابها وذهبت موداتها، ولم يبق شيء في القلب، ولم يكن قد امتلأ مرة. وفي الباب الحديدي جعل يضرب رأسه حتى كاد ينشق، وكان يبكي.»
ومن النافذة رأيت فتاة في المنزل المقابل تحتضن فتاة أخرى وتقبلها في شفتيها. ودخلت فتاة عوراء وبكت، وأخذ صخر يمسح على شعرها بيده وهي تبكي. وقالت السيدة إن الفتاة هكذا، ما إن ترى رجلا حتى تبكي. وعادت منى أخيرا من المدرسة، وقلت لها: أنا صديق بابا. فنظرت إلي في عداء، وأخذتها إلى النادي، وكان هناك أطفال آخرون، وقلت لهم أن ينزلوا معها إلى المياه لأني لا أعرف السباحة. وأخذوها ونزلوا، وجعلت تجري وتلعب وهي سعيدة، وكان هناك خشبة تساعد على العوم، فتعلقت بها. لكن طفلة أخرى سمينة جذبت منها الخشبة لتعوم فوقها. وتشبثت منى بالخشبة، وأمسكتها الطفلة السمينة من شعرها وجذبتها في عنف لتبعدها عن الخشبة، وأخذت الخشبة ونامت فوقها. كانت منى الآن بعيدة عن حافة الحوض، وأسرعت أجري ناحيتها على الأرض، كانت ترتفع وتهبط في الماء وهي تلهث في قوة، وقد اتسعت عيناها في رعب، وناديت عليها. لكنها هبطت تحت الماء ولم تظهر ثانية، وأسرع أحد السباحين إلى نجدتها وجذبها إلى أعلى، وحملها إلي، وأخذتها إلى بيتها، وقالت لي ونحن نصعد السلم: عندما يكون هناك أحد سأقول إنك أبي فلا تقل لا. ودخلنا المنزل، كانت أمها ترتدي ملابسها فانتظرتها، ثم وقعت عيني على ساعة الحائط فقفزت واقفا، وأسرعت إلى الباب وقفزت إلى الشارع. لم يكن هناك وقت على موعد مجيء العسكري، ووصلت حجرتي وأنا ألهث، ووجدت خطابا ينتظرني، وبحثت عن اسم المرسل فوجدته من نجوى. قرأت الخطاب في بطء، ثم أشعلت سيجارة وتمددت على السرير، وقرأت الخطاب من جديد، كانت تتساءل عما إذا كنا سنلتقي من جديد بعد كل هذه السنين. وأغمضت عيني على ما أمكنني استرجاعه من صورتها؛ عينيها الحانيتين وفمها الممتلئ. ودق الجرس فقمت أفتح، كان العسكري، واستمهلته حتى عدت إلى الحجرة، فأحضرت الدفتر وأعطيته له، فوقع اسمه، وانصرف، واحتفظت بالدفتر في جيبي إلى حين عودته. ودق الجرس ثانية، وعندما فتحت الباب وجدت نجوى أمامي، احتضنتها وضمتني هي بعنف وألصقت جسمها كله بجسمي. لكني لم ألتصق بها، وأبعدتها عني، وجعلت أتأملها، ثم اقتدتها إلى الحجرة وأطفأت النور، وجلست على السرير وأجلستها بجواري، ثم جذبتها ناحيتي وقبلتها في شفتيها. أبعدت وجهها وقالت: احك لي. لم تكن عندي رغبة في الحديث، ومررت بيدي على وجهها، ووضعت يدي على فمها، وجذبت رأسها إلي وقبلتها، وأمسكت بشفتيها بين شفتي، وعضتني هي بنفس الطريقة الفجة غير المدربة ثم ابتعدت عني. «هذا ما كان يحدث دائما، في أول مرة قبلتها كانت خجلى، وكنت أجلس بجوارها والضوء يسقط على خدها. وتوقفنا عن الكلام وأسندت رأسي إلى كتفها ولم تعترض، وقبلتها في خدها، ثم شفتيها، وعندما تشجعنا قليلا، أمسكت بشفتي التحتية وعضتها بقسوة . كنت أريد أن أحس بشفتيها ناعمة في فمي، ولم أكن أشبع منها، ولو استطعت أن أظل محتضنا إياها طول اليوم لفعلت. كانت هناك سخونة في وجهها وفي ساقيها، وعقب كل مرة كنت أجعلها تقف عارية وأتأمل ساقيها، كانا ينسابان في جمال ونعومة وسمرة. وكنت أطلب منها أن تعري ساعديها لأقبلهما وأحسهما على جسدي، لكنها كانت تتردد، وفي الظلام كنا نرقد، ونلصق ببعض في عنف لننسى العالم وكل شيء ولا نعود نفكر في أي شيء أو نخاف من أي شيء. وعندما يكون خدي لصق خدها وأنفانا متلامسين ورأسانا متجاورين وعيوننا تحدق إلى نفس المكان من السقف، لا تصبح هناك أهمية لأي شيء. وفي اللحظة التالية يتحرك رأسي وتزحف شفتاي إلى شفتيها، ونتبادل القبل، أحيانا في رقة وأحيانا في عنف، ثم تبتعد برأسها وتتنهد. وفي أول مرة احتضنتني في عنف وقالت: أين كنت من زمان؟ وفي المرة الثانية قالت: يا حبيبي. وظللت صامتا والكلمة تتردد في أذني للمرة الأولى في حياتي وأنا لا أصدق نفسي، لكنها سرعان ما كانت تستدير وتقول: أريد أن أنام. وأظل راقدا على ظهري، وعيناي على السقف بمفردهما، وأتمنى أن تستدير فجأة وتحتضنني، لكني لا ألبث أن أشعر بتنفسها المنتظم، تنفس النائم الراضي القانع. وأستدير برأسي وأهب قليلا لأراها، وقد أحنت رأسها إلى أسفل وأسندته إلى ساعدها وراحت في النوم وقد تناثر شعرها حول عنقها وتمدد ساعدها الآخر فوق جانبها، وأمر ببصري على جسدها كله ثم أعود إلى مكاني.»
تمددت بجواري وأسندت خدها إلى يدها، وأعطتني وجهها الذي أضاءه جانب من ضوء القمر، قالت: سأحكي لك أنا. تكلمت كثيرا ثم سكتت، وقلت لها إني متعب، وإني كنت أتشوق لها دائما. وجذبتها ناحيتي، لكنها ابتعدت، وطلبت منها أن تعري ساعديها، قبلت ساعدها وكتفها في ضوء القمر، لكنها ما لبثت أن قالت: الدنيا برد. وغطتهما، ثم تمددت على ظهرها، ولا بد أنها كانت تفكر في نفس الشيء الذي أفكر فيه. هناك شيء ما ضاع وانكسر، وقالت: أريد أن أنام. وجذبتها ناحيتي وقبلتها، وطفت بشفتي على خدها حتى أذنها فقبلتها وسكنت هناك حتى ارتعشت، ورفعت عينيها إلي وابتسمت وقالت : وهذه أيضا، من أين تعلمتها؟ «كيف ظلت تذكر وأنا قد نسيت؟ عندما صعدت بشفتي على ساقها، وقبلتها هناك لأول مرة، ونظرت لي بمزيج من السرور والدهشة والخجل، وقالت: من أين تعلمت هذا؟»
مددت يدي إلى صدرها، لكنها أبعدت يدي، وقالت: لا. وتركتها، وتمددت بجوارها، وانتظرت أن تستدير فجأة وتحتضنني، لكنها لم تفعل. وظللت مستيقظا، ثم شعرت بألم بين ساقي، فقمت إلى الحمام، وتخلصت من رغبتي، وعدت فتمددت إلى جوارها، ونمت واستيقظت، ونمت مرة أخرى. وعندما فتحت عيني في الصباح وجدتها قد ارتدت ملابسها، وقالت سأخرج الآن. قلت: متى سأراك؟ قالت: سأمر عليك. وظللت ممددا فوق الفراش، ثم قمت أخيرا فاغتسلت، وجمعت ملابسي القذرة، ووضعتها في إناء من الماء بعد أن أضفت إليه مسحوق الصابون، وحركته حتى كون رغوة كبيرة. وجاءت أختي وخطيبها، وارتديت ملابسي وخرجنا، وابتعت صحف الصباح. وفي مدخل المنزل التقينا بصديقة أختي وخالها، وذهبنا إلى الكازينو. وقال خطيب أختي: نريد أن نفرح بك. وقلت له: هذه المسائل تستغرق وقتا. وقال: لماذا؟ قلت: الحب ليس سهلا. هز كتفه وقال: اسمع نصيحتي؛ الحب يأتي بعد الزواج. وقال الخال: لقد تزوجت خمس مرات. وتركتهم وذهبت إلى سامي في بيته، وأدخلوني إلى حجرة الصالون، وانتظرته طويلا. ودخلت الحجرة طفلة أدركت أنها ابنته، ووقفت بجانبي. وكنت متعبا وأريد أن أذهب إلى دورة المياه، وأطلقت من ظهري رائحة شمتها الطفلة، وقالت: رائحة كاكا. وتجاهلت الأمر. لكنها عادت تردد: رائحة كاكا. فجعلت أتشمم حولي وأقول لها أين؟! حتى اختفت الرائحة. وأخيرا يئست من مجيء سامي فقمت وانصرفت. وكان الزحام شديدا، وذهبت إلى المجلة فلم أجد أحدا. وفي الشارع كان الراديو عاليا، وسمعت أغنية إنجليزية عن الأطفال، واكتشفت أنها نفس الأغنية الجديدة التي يغنيها محمد فوزي. وركبت المترو، وكان الزحام فظيعا وكدت أختنق، وراقبت وجوه السيدات المتعبة وقد ساح الكحل عليها. وذهبت إلى بيت سامية، ووجدتهم يأكلون. ابتسمت سامية عندما رأتني وقالت إنها انتظرتني طويلا قبل أن تأكل، وكدت أسألها: صحيح؟ وسألتها عن طفلها فقالت إنه نائم. وشعرت بنفسي أبتسم، وكانت ابتسامتها بسيطة صريحة، ولم أكن أتصورها بهذه البساطة والرقة. «ماذا بعد؟ عندها زوجها وطفلها ولا مكان لأحد آخر في حياتها وسرعان ما سأنصرف، وسيكون هذا هو نهاية كل شيء.»
وكانت تتنهد بين الحين والآخر تنهيدة حارة وتقول: يا رب. وقلت لها: لو سمعك فرويد لقال لك شيئا. فقالت: بل أشياء. وفرغنا من الأكل وقامت، كانت ترتدي قميصا خفيفا على اللحم، ورأيت من تحت إبطها جانبا من ثديها عند انطلاقه من الصدر، ودهشت لأنه لم يكن متهدلا، وكان أبيض كاللبن. وأدرت بصري بسرعة، وتطلعت إلى عينيها الصريحتين المباشرتين، ودخلت هي لتنام، ونمت أنا أيضا.
وعندما قمت بحثت عنها وذهبت إلى غرفتها، وكان السرير في أقصى الغرفة. وكانت ترقد على ظهرها ومؤخرة رأسها ناحيتي وعيناها على الحائط المواجه لي، وطفلها جالس إلى جانب صدرها يتطلع حوله مدهوشا من أثر النوم. وكانت ساقها عارية - بيضاء كاللبن - وغطتها بسرعة، وقامت وارتدت فستانا برتقاليا، وجلسنا في الشرفة، وقالت لي إن طفلها يحبني. عشقت صوتها الهادئ الواثق وحركاتها التي لا تتكلف شيئا، وقلت لها إني أشعر أني عجوز. نادرا ما أبتسم أو أضحك. كل الناس أراهم في الشارع وفي المترو متجهمين دون ابتسام، ولأي شيء نفرح؟ وتكلمنا عن الكتب، وقالت إنها كفت عن القراءة منذ مدة، منذ أن جاء الطفل. وسألتها: هل قرأت رواية الطاعون؟ وشعرت أن شيئا كثيرا يتوقف على الإجابة، لكنها قالت: لا. وفكرت أن أقول لها إني أحسدها على بساطتها ورقتها. وقلت أفعل هذا عندما نفترق. وتطلعت إلى الساعة، كان لا بد أن أذهب. ووقفت هي أيضا، قلت لها في صوت خافت: تعرفين؟ أنت غريبة حقا. وتطلعت إلي بدهشة، قلت: لقد اكتشفتك اليوم. وانحنت على طفلها وانهمكت في إصلاح ملابسه، ولم أر عينيها جيدا. وجاء زوجها، وودعتهما، وسارا في أثري إلى السلم. وعند باب الحديقة تطلعت خلفي، كانت تدخل المنزل الهادئ الرطب، وراقبت رداءها البرتقالي وهو يختفي خلف الباب. ومشيت إلى البيت، ورأيت فتاة حلوة تسير بجوار قضبان المترو في بطء كأنما تجد صعوبة ما مع حذائها. ودخلت المنزل، ووجدت الغرفة الخشبية في مدخله مضاءة وبابها مفتوحا، واختلست النظر داخلها فوجدت حسنية صديقة أختي. وصعدت إلى غرفتي، وجاءت أختي، قلت لها: سامية لطيفة. وسألتها: هل هي سعيدة مع زوجها؟ قالت: أجل. وقلت: أراهن أنها لا تحبه. قالت: مستحيل، أين ستجد رجلا مثله في الشخصية والمركز؟ وقالت إنهما كانا يتقابلان قبل الزواج. «وماذا لو كانا يتقابلان قبل الزواج .. كانت في السابعة والعشرين، وانتظرت فارس الأمل طويلا دون جدوى .. وفي البيت لم تكن لها حجرة خاصة، كانت تنام في غرفة أشبه بالصالة. لم تغلق على نفسها باب غرفتها أبدا، وتنفرد بنفسها، وتخلع كل ملابسها مثلا. لم تقبل جسمها أمام المرآة، ولم يعد من الممكن أن تحتمل نظرات أبيها وأمها كل ليلة. لم يكن هناك من موضوع للحديث غير الزوج المنتظر، وتلام لأنها لم تستطع أن تحصل لنفسها على واحد. وذات ليلة التقت به عند إحدى صديقاتها، وفي اليوم التالي قالت لها صديقتها إنه يريد أن يتزوجها. وبعد عشر دقائق من المسير حتى باب المنزل، وأمام باب المسكن الذي تآكل طلاؤه، قالت لصديقتها: ولم لا؟ ربما كان الحبيب الذي تنتظره، ربما لم يكن كل هذا الحديث عن الحب والتقاء الأعين ورعشة الأرواح غير كلام روايات، ربما وجدت السعادة معه؛ ربما الكلمة المعلقة فوق كل زواج جديد، ربما كان هذا هو الرجل المنتظر، ربما جاء الحب، وبعد سنة واحدة جاء الطفل. ها قد تم تقييدها إلى الأبد، وليس أمامها إلا الاستسلام .. وتلك المرة التي كان الراديو دائرا فيها ولمحت نظرة ساهمة في عينيها، وقد اكتسى وجهها طابعا حزينا .. ماذا حدث بعد الزواج؟ وتصورتهما بجوار بعضهما على الفراش، وأحدهما ملول ساخط، أحدهما سيظل طول عمره يشعر أن جانبا فيه لم يتحرك، أن جزءا من لحمه ودمه لم يهتز، أن بئرا في أعماقه لم تكتشف.»
قلت : هل تعرفين ما هو الحب؟ وتطلعت إلي بدهشة. كان سؤالي سخيفا وساذجا، قالت: بالطبع. وقلت: هل تحبين خطيبك ؟ قالت: أجل. وقالت: عندما خطبني لم أكن أطيقه ثم مع الزمن أحببته. وكان صوتها مرتفعا، قلت لها: لماذا تزعقين؟ قالت: صوتي كده. وقالت إنها تريد أن تستحم، ولكنها لو فعلت سيتلف شعرها وتضطر للذهاب إلى الحلاق مرة أخرى. ودق الجرس، فحملت الدفتر وذهبت أفتح، لكنه كان خطيب أختي، وخلفه جاءت صديقته حسنية، وقالت حسنية لأختي: تصوري أن خطيبي يغير من خالي! وقالت: إنه يقول إني أقضي الوقت كله مع خالي. وقال خطيب أختي إنه كان يبحث طول اليوم عن السخان، وإنه اشترى الثلاجة. وقال: هل يعرف أحدكم شخصا مسافرا ليأتي لي بريكوردر؟ وجاء خال حسنية وأخذهم جميعا إلى السينما. وبقيت بمفردي أمام المكتب، وحاولت أن أكتب، ودق الجرس، فأسرعت إلى الباب وأنا أتمنى أن يحدث شيء، أن يأتي أي أحد، ووجدت الكواء. ودق الجرس مرة أخرى، وعندما فتحت الباب فوجئت بنهاد وأبيها، ودخلا حجرتي على الفور، وقالا: لا بد أن تأتي عندنا غدا. وقلت لنهاد: لقد تغيرت كثيرا. فقالت باسمة في رقة: آخر مرة رأيتني فيها كنت صغيرة جدا. ورفضا أن يجلسا وقالا إن أمها تنتظر في السيارة. وودعتهما إلى الخارج ثم عدت إلى حجرتي، وأخذت أدخن في شراهة وأنا أفكر ولا أستطيع الكتابة. كانت تتأملني بدقة، وفكرت أنها سمعت عني كثيرا ولا بد أنها مبهورة. ودق الجرس مرة ثالثة، وكانت الدقة طويلة قوية، وحملت الدفتر وذهبت إلى الباب ففتحته، وأعطيت الدفتر للعسكري ثم عدت إلى حجرتي وأطفأت النور واستلقيت على الفراش، ورحت في النوم، ثم استيقظت فجأة على صوت الجرس. وعندما فتحت الباب لم أجد أحدا، وعدت إلى الحجرة وتركت بابها مفتوحا، ونمت من جديد. وقمت في الصباح الباكر وحلقت ذقني وارتديت ملابسي وحملت قميصا نظيفا إلى الكواء، وعدت فارتديته ثم نزلت. وأخذت أبحث عن مكان ألمع فيه الحذاء، واشتريت الصحف. وأخيرا ركبت المترو، وتوقف السائق في الطريق ليضع قطعة أفيون في فمه ويشرب الشاي. وفكرت أنه محظوظ؛ فقد وجد طريقة يستعين بها على مواجهة الحياة. ومضى يسوق في بطء وأنا أتمنى أن يسرع كي لا أتأخر ويفسد الغبار أناقتي. ونزلت بعيدا عن البيت، وركبت تاكسي، وتوقفت به أمام البيت، وتطلعت إلى شرفاته فلم أجد أحدا بها. وصعدت إلى الطابق الأعلى ووجدت نهاد مع أمها أمام مائدة، ولم تشاهدا التاكسي، وجلست بجوارهما. كانت نهاد تذاكر، وتأملتها في دقة، كانت شفتاها كما أتمنى؛ السفلى مقوسة وأسنانها بارزة قليلا، وكان صوتها هادئا رقيقا. وسألتني أمها عما أفعل الآن، وكانت تتكلم بصوت عال، قلت لها إني أكتب. قالت: هل تكتب قصصا؟ قلت نعم. قالت: من الكتب؟ قلت: لا، من رأسي. وقالت نهاد: إذن أنت شخصية. وأشعلت سيجارة، وقالت أمها: يجب أن تستقر. وقالت نهاد: أمريكا رائعة، ما رأيك؟ وقلت: أعجب بأشياء وأشياء لا. وقالت: اترك كل هذا والتفت لنفسك. وقالت: ساعدني في المذاكرة، وكان صوتها خافتا، وأنا قد تعبت من الأصوات العالية. وقالت: تصور ماذا فعلوا بأبي. طردوه من شركته بعد أن أخذوها. وقالت إنهم تآمروا عليه واتهموه بأنه يتلاعب. وقالوا: نأكل. ونزلنا إلى الطابق الأسفل، وجلسنا إلى المائدة، وأخذت السلطة ثم الأرز في طبقي. وسألتني نهاد: ورك أم صدر؟ وكانت أختي قد حذرتني، وقالت حذار أن تأخذ الورك لأنك لن تعرف كيف تأكله بالشوكة والسكين. لكني لم أدر كيف اندفعت وقلت لها أعطيني الورك. ووضعته أمامي وأمسكت بالشوكة والسكين، وعندما غرزت فيه الشوكة قفز من صحني في الهواء وسقط في إناء السلطة. وقالت نهاد بهدوء: الفراخ لا تؤكل هكذا، كلها بيديك. وقلت لها إن أختي حذرتني لكني لم أستمع إلى تحذيرها. وقالت الأم إنهم في أوروبا يأكلون الورك بالشوكة والسكين. ولم أعرف كيف آكل بعد ذلك، وتعثرت في المكرونة والبطيخ. وقالوا: أتعجبك الحال؟ وقال الأب إنه قابل ناسا قادمين من روسيا وإن الفقر هناك شديد. وقال إن الرأسمالية أفضل. وقالت نهاد في حماس: هل يستطيع أحد أن يجادل في هذا؟ وقالت: هل تؤمن بربنا؟ وقمت وغسلت يدي وجففتها في فوطة. وصعدنا إلى الطابق الأعلى، وقدموا لي السجائر، لكن لم تكن لدي رغبة في التدخين. وتحدث الأب في التليفون، كان يريد أن يشتري الأرض المجاورة، ووضعت الأم يدها على خدها وسرحت، ودخل الأب لينام. وقالت نهاد: هل أنت متعب؟ قلت: لا. وعدنا نستأنف المذاكرة، وقام الأب من النوم وجاء فبسط سجادة الصلاة أمامنا وصلى، ثم جلس بجوارنا وجاءوا بالشاي، وقال: كيف حال نهاد؟ قلت: كويس. وأداروا التليفزيون خلفنا بصوت عال، وجاءت الخادمة والطباخة والدادة وجلسن على الأرض يتفرجن، وكانت نهاد تغافلني وتتابع الفيلم. وقالت: أحمد رمزي لذيذ. وبدأت أشعر بالتعب، وقامت وجلست بجواري، وكان ساعدها عاريا بجواري، وكانت حريصة على ألا نتلامس. وسمعتني الأم أشرح لها كلمة إنجليزية، فقالت: لا، ليس هذا هو المعنى. وتدخل الأب ولم يكن يعرف غير الفرنسية، وقال إن الكلمة بالفرنسية لها معنى آخر. ولم أتكلم. واختلف الأب والأم، وطلبت مني الأم تأييدها، وقلت: غالبا هذا هو المعنى. وقال الأب: لا. ونظر إلي، فقلت: تقريبا. وأصبحت الضوضاء عنيفة. وقالت نهاد إن مخرجا رآها في الصباح وقال إنها تشبه لبنى عبد العزيز. ودخل بعض الزائرين، وقامت نهاد ترحب بهم وجلست بجوارهم في نهاية الغرفة. وكانت تحادثهم في حرارة وشوق ثم تغافلهم لتتابع أحمد رمزي. وأحسست بالصداع يحطم رأسي، وقمت لأنصرف، ونظرت إلي إحدى الزائرات متسائلة، وقلت: أنا ابن فلان. وضحكت وأشارت إلى أنفها وبرمت شاربا وهميا ورفعته إلى أعلى، وقالت: أهو ذلك الذي كان بشارب ضخم؟ قلت: نعم. وصاحت الأم: أنا عاوزاك. وفكرت: هل ستنحني علي وتعطيني خمسة جنيهات؟ وأشارت لي أن أتبعها إلى حجرتها، وكانت وصيفتها تجلس على مقعد، وهي فتاة سمراء ممتلئة، وقلت: هذه طبقتي. وفكرت أني لو كلمت الأم لأمكن أن أتزوج هذه الفتاة، وسيقولون إنهم خدموني ووجدوا لي زوجة طيبة على قدي. وناولتني الأم لفافة ورق وقالت إنها قطعة قماش. ولم أعرف ماذا أقول. وكنت قررت أن أرفض لو أعطتني نقودا، ولم أحسب حساب القماش. وتضايقت ورفضت ، لكنها أصرت وقالت: أنت مثل ابني. ولم أعرف كيف أتصرف، فأخذتها وأنا أقول في نفسي: ها نحن قد كسبنا بذلة. وعدت إلى الصالة، ورافقتني نهاد إلى السلم. وخرجت من البيت، ولم أنظر إلى أعلى، ومشيت، وامتلأ حذائي بالغبار ولم أهتم. وركبت المترو، وكان الزحام رهيبا، وتكرمشت ملابسي، ولم أقاوم. وفي إحدى المحطات هجم على المترو عشرات من العمال العائدين إلى منازلهم، وشقوا طريقهم بين الزحام، ووقف أحدهم أمامي، وكانت عيناه محمرتين، واستند آخر على مسند مقعد، وسرح من النافذة، وبدأ ينام. وعندما تطلعت إليه بعد لحظة كان رأسه يهتز مع حركة المترو ويصطدم بالمسند كل مرة وهو غارق في النوم. وعندما نزلت من المترو شاهدت نفس الفتاة التي رأيتها من قبل تسير بجوار قضيب المترو في بطء. وصعدت إلى حجرتي، ووضعت المفتاح في القفل، نفس الباب والمفتاح في نفس الأسر التي من طبقتنا. ودخلت وخلعت ملابسي ووضعت البنطلون في الشماعة وعلقتها على الحائط، ثم استحممت، وعدت فجلست أمام المكتب، وأدرت الترانزستور. ورأيت لفافة القماش أمامي ففتحتها، ووجدتها قماش بيجامة لا بذلة، وأشعلت سيجارة. وجاءت أختي وقالت: كم بقي من الخمسين قرشا؟ حسبت المواصلات ولم أجسر على أن أذكر لها القروش العشرة أجرة التاكسي. وجاء خطيبها وقال إنه وقف ساعتين أمام الجمعية ليشتري اللحم. وقال إن الحالة لا تطاق. وقال: أنتم تريدون أن تنشروا الفقر. وقال: ليست أمامي فرصة للثراء. لو كونت أي شيء ستأخذه الحكومة. وجاء عادل وزوجته، وقدمت له سيجارة فقال: أنا لا أدخن ولا أشرب القهوة. وقال إنه في الصباح فقط يتناول فنجانا من الشاي في البيت، ومع ذلك يصل حسابه في المكتب إلى ثلاثين قرشا طلبات للآخرين. وقال إنه بعكس الموظفين الآخرين لا يرتشي. وقالت زوجته: خيبة. وقالت: إن العمال لم يعد أحد يعرف كيف يكلمهم، وقال عادل إن سائق خاله فهمي بيه لا يستيقظ قبل العاشرة صباحا، بينما يقوم فهمي بيه من الفجر. وقال لخطيب أختي: سأدلك على أحسن مكان تشتري منه صبانة. وقال خطيبها إنه أوصى على ولاعة رونسون ستأتيه من بيروت. وقالوا: لا بد أن نذهب الآن. وانصرفوا، وظللت جالسا أمام المكتب أدخن، ثم قمت وأطفأت النور، ووقفت في النافذة أتشمم الهواء. وكانت نافذتي تطل على مؤخرات عدة منازل، ولم يكن يبدو لي من الشارع غير جانب صغير. وملت برأسي إلى الخارج، ولويت رقبتي لأرى المحلات المضاءة والناس وهي تروح وتجيء. وتعبت فتراجعت برأسي إلى الوراء، وأسندت ساعدي إلى حافة النافذة. وكانت هناك نافذة مظلمة أمامي، وإذا بها تضاء فجأة، ومن خلالها ظهرت فتاة جعلت تخلع ملابسها ببطء، ووقفت أخيرا عارية تماما، ثم ارتمت على سرير في ركن الغرفة، ورقدت على وجهها وظهرها للضوء، ورأيت استدارة جسمها والظلال الداكنة التي تركها الضوء في ثناياه. وفجأة دق الجرس، فتناولت الدفتر وتلكأت قليلا حتى أشعلت سيجارة وأخذت علبة السجائر معي، ودق الجرس مرة أخرى، وأسرعت إلى الباب، وفتحت للعسكري وأعطيته الدفتر وأنا أخرج علبة السجائر، وأعطيته سيجارة، وانصرف. وعدت إلى الحجرة فألقيت الدفتر على المكتب وتطلعت إلى النافذة المقابلة فألفيتها مظلمة. استلقيت على الفراش أدخن حتى انتهت السيجارة، فقذفت بها من النافذة ونمت. وفي الصباح خرجت واشتريت الجرنال وزجاجة لبن صغيرة وخبزا. وعدت فغليت اللبن ووضعت فيه السكر ثم غمست الخبز في اللبن. وقرأت الجرنال، ثم خرجت، وركبت المترو، وتوقف المترو قبل محطة الإسعاف، ونزل الركاب، ووجدت عرباته مقلوبة على جانبها بجوار القضبان، وقد برزت أحشاؤها الداخلية السوداء. وسرت إلى المقهى الذي يجلس فيه مجدي، وكان يجلس في ركن بمفرده، وقال: يجب أن نثبت وجودنا. وتأملت التجاعيد التي حفرت خطوطها في كل مكان بوجهه، وقال: الجميع أولاد كلاب. وقال: أنت قوي بالناس، أما بمفردك فأنت ضعيف. وتقلصت عضلات وجهه. «فإذا نظرت إليه لا تعرف ما إذا كان يحقد أم يتألم، وهل يوجد إنسان لا يحقد ولا يتألم؟ من الرغبة في السيطرة ومن الضعف في مواجهة العالم، من الافتقاد للحب ومن العجز عنه، من احتقار الناس ومن الحاجة إليهم، من الإحساس بالقهر ومن ممارسة الاضطهاد، من معاناة الألم ومن الاستمتاع بإيلام الآخرين، من الثقة الكاملة ومن الشعور بالفشل، من التغني بحب الناس ومن استغلالهم كقطع من الطوب تبني بها بيتك، من الاعتقاد بأن الجميع يحبونك ويؤمنون بك، ومن رؤيتهم يتخلون عنك .. وكان الأمر في البداية نبلا وأصبح الآن لعنة، وجف النبع الذي كان يتألم للآخرين .. وعندما وقف وظهره يقطر دماء كان صامدا لا يهتز، يستعذب قدرته على الصمود. لكن الناس لم تعد تعبأ بهذا اليوم؛ فقد تغيرت روح العصر. وليس صدفة أن الكلمات التي يستخدمها قد تغير مدلولها منذ زمن، وبعضها كاد يصبح بلا مدلول على الإطلاق .. وكان مشتركا في اللعبة ويفهم قواعدها ويسير عليها، لكنهم طبقوا القواعد عليه، وسالت الدموع على مقعد وحيد، وأفظع شيء أن تبدأ في البحث عن نفسك متأخرا .. وقال إنه لم يحب أبدا. وهو يؤمن بأنه أفضل من الآخرين - وربما كان ولا يجد ما يمنع من ذلك وقد قدم كل شيء لديه - لكنه مهزوم في لعبة لا تعرف الرحمة وليس لها في الحقيقة أية قواعد، ولا يمكنك فيها أن تقرر الصح من الخطأ، وليس المنتصر هو المصيب بالضرورة، إنما هو أمهر وأمكر وأكثر حظا.»
تركته وذهبت إلى المجلة، وسرت في ممر طويل وأنا أنظر في كل غرفة ولا أجد أحدا، وكانت هناك غرفة أمامي في نهاية الممر، وعندما اقتربت منها رأيت امرأة تجلس إلى مكتب وقد أسندت خدها إلى يدها، ولمحت دموعا في عينيها، واستدرت عائدا من حيث جئت، وسرت في اتجاه المترو ثم ركبته، وجلست بجوار النافذة. وعندما تركنا ميدان رمسيس سار بجوارنا قطار في نفس الاتجاه، وكان ممتلئا بالجنود العائدين من اليمن، وكانوا يهللون من النوافذ ويهتفون ويلوحون بأيديهم. وعندما أصبح المترو في حذائهم، ازداد حماسهم وهم يتطلعون إلى ركابه، وتأملهم هؤلاء في جمود ولامبالاة. وشيئا فشيئا هبط حماس الجنود، وكان المترو قد سبق القطار الآن. وأدرت رأسي إلى الخلف، كانت أيدي الجنود تتدلى من نوافذ القطار، ولمحت أحدهم يرمي بغطاء رأسه إلى الأرض. ونزلت أمام البيت ورأيت الفتاة الجميلة التي تسير بجوار قضيب المترو كل يوم، واكتشفت أنها عرجاء. واشتريت طعاما وصعدت السلم، ووجدت باب الشقة مفتوحا وجاري فيها يصلح قفل باب غرفته. دخلت وأكلت، ثم دخنت ونمت، وقمت لأجد أختي قد جاءت. ودخلت الحمام وخلعت ملابسي وفتحت الدش على جسمي، وسمعت صوت مقبض باب يقع على البلاط. وأغلقت الدش وجففت جسمي وارتديت ملابسي ثم خرجت من الحمام. وكان هناك قرع مستمر على شيء ما، ووقفت أتكلم مع أختي وأنا أمشط شعري. وسمعت القرع مرة أخرى، وتبينت فيه قرعا على الجدار، وقلت لها إننا كنا نفعل هذا دائما عندما نريد أن نكلم بعضنا أو نحذر بعضنا. «وكان ذلك يحدث كل صبح، ونفتح عيوننا على صوت القرع الرتيب على الجدران ونهب واقفين ونحن نرتب كل شيء ونحاول أن نتذكر حتى لا ننسى شيئا، ولا زال النوم في عيوننا، ثم نجلس القرفصاء بجوار الحائط ونحن نرتجف من البرد. ويسكت القرع، وننتظر، ثم نسمع صوت أقدامهم على البلاط وشخشخة السلاسل والمفاتيح. ونقفز في أماكننا عندما يصطدم المفتاح بالقفل، ثم يدخلون، وتلتصق عيوننا بعيون جامدة لا تنطق، وتصطدم آذاننا بأصوات سريعة باترة لا تتمهل، وتتعلق قلوبنا بأيد سمينة ثقيلة لا تفكر، وحولنا الجدران تلتقي في أربعة أركان، والباب مغلق، والسقف قريب، لا منجاة.»
خرجت إلى الصالة، وحانت مني نظرة إلى حجرة جاري، كان بابها الزجاجي مغلقا، ولمحت ظله من وراء الزجاج ويده تخبط عليه بعنف، ووجدت مفتاح الباب ملقى على الأرض. تناولت المفتاح ووضعته في الباب وفتحته له، وقال لي وهو يبكي إنه نسي المفتاح عندما دخل وإنه يخبط لي منذ ساعة. وقالت أختي يجب أن تزور حسنية وسترى خطيبها. وذهبنا، ورحبت أمها بي، وقالت يجب أن تستقر. وقالت لأختي: زوجيه وهو يهدأ. وجاء خطيب حسنية وقال إنه نظم مكتبه في الوزارة تنظيما رائعا؛ فهناك لوح من الزجاج السميك يغطيه، وعلى اليمين أجندة فخمة من الخارج، وفي الوسط محبرة من العاج لا يوجد مثيل لها الآن، وإلى اليسار بعض الملفات العاجلة، وفوق رأسه علق لفظ الجلالة. وقلت إن الشمس أوشكت أن تختفي ويجب أن أنصرف. وتركتهم وأسرعت إلى المنزل، وقابلت العسكري على السلم. وقال: تأخرت. وأخرجت علبة السجائر لكنه هز رأسه وقال: من الممكن أن تقضي هذه الليلة في الحبس. وأخرجت عشرة قروش، وصحبني إلى الشقة فدخلت وأحضرت الدفتر، ووقع فيه وانصرف. وخلعت ملابسي في بطء، وغسلت وجهي، ثم أعددت فنجانا من القهوة، ورتبت المكتب ومسحت الغبار الذي تراكم فوقه، وأمسكت القلم لكني لم أستطيع أن أكتب. وتناولت إحدى المجلات، وكان بها مقال عن الأدب وما يجب أن يكتب. وقال الكاتب إن موباسان قال إن الفنان يجب أن يخلق عالما أكثر جمالا وبساطة من عالمنا. وقال إن الأدب يجب أن يكون متفائلا نابضا بأجمل المشاعر. وقمت واقفا وذهبت إلى النافذة وتطلعت إلى نافذة الأمس، لكنها كانت مغلقة، وأغمضت عيني. تصورت فتاة الأمس بجسمها الأبيض أمامي على الفراش، ممتلئة وشعرها طازج، وأنا أقبل كل جزء منها، وأمر بخدي على فخذها وأسنده إلى نهدها، وامتدت يدي إلى ساقي، وجعلت أعبث بجسمي. وأخيرا تنهدت، وارتميت على مقعدي متعبا وأنا أحدق في الورقة بنظرة فارغة. وبعد قليل قمت وعبرت في حذر فوق الآثار التي تركتها على البلاط أسفل المقعد، وذهبت إلى الحمام وغسلت جواربي وقميصي وعلقتها في النافذة. وأطفأت النور بعد أن تركت باب الحجرة مفتوحا لأسمع العسكري عندما يأتي، وأشعلت سيجارة وتمددت على السرير، ونمت. وفي الصباح ذهبت إلى منزل أخي، وكانت التجاعيد قد زحفت على وجهه وامتلأ جلده ببقع بيضاء، وقال: تلف كل شيء منذ أصبح العمال في مجالس الإدارات. وقالوا نصعد إلى الطابق الأعلى لنرى ابنته الكبرى. «وكان أخي قد بنى الفيلا منذ خمس عشرة سنة، وقال إن زوجته هي التي اشترت الأرض. وكانت أول مرة يعلم أن معها نقودا. وكان أبي وقتها حيا، وكان يأتي كل يوم ليراقب البناء، وكنا نسكن في حجرة ضيقة. وأكمل أخي البناء، وأجر الدور الأول وسكن في الثاني، ثم زوج ابنته الكبرى وأجر لها الدور الثالث. وعندما تزوجت ابنته الصغرى أخلى الدور الأول وأجره لها، وظل في الوسط مع زوجته. وفي البداية كان يقضي ساعة كل يوم في الحديقة يقص أعشابها وهو يدخن البايب.»
وسألتني عما إذا كنت أقرأ لزوجها، وقال زوجها إن الشيخ عبد الباسط قال له: إن الصلاة في المسجد الأقصى تحسب بألف ثواب. وقالوا ننزل إلى الطابق الأسفل لنرى الابنة الصغرى. واستقبلتنا على الباب وهي تحمل طفلها على ساعديها، وكانت عيناه قريبتين من بعضهما، وقالت: أليس ابني جميلا؟ وضحكت، ومدت في ضحكتها لتثير زوجها، وكان يقف بجوارها وهو يداعب نجوم بذلته العسكرية بأصابعه. وقال إن العسكري إذا فتح فمه لطمه على وجهه فيصمت. وقال: آن لك أن تتزوج. وقال: افعل مثلي. المهم في البنت هو الأصل. وأداروا التليفزيون، واعتدل أخي في عباءته وابتسم وقال: شوفوا هذا الفيلم. وكان يروي قصة فتاة تركت شابا في سنها وأحبت كهلا. وعندما انتهى الفيلم تطلع أخي إلينا مزهوا، وأخذني إلى حجرته، وأغلق الباب، ثم أخرج عدة ملفات قديمة، وجلس إلى المكتب وأشعل البايب، وأراني قصصا كتبها وقصصا ترجمها، ومقالات بعنوان «لك يا سيدتي» وكتابا له عن بناء الأجسام وآخر عن معارك الحرب العالمية الثانية، وثالثا عن الأمير عمر طوسون، وصورة قديمة له بالقبعة والبايب في حديقة المنزل، وصورة أخرى مع فتاة ألمانية، وقال إن ذلك كان في أيام اقتراب روميل من الإسكندرية، وكان قد بدأ يتعلم الألمانية. وأراني صورة ثالثة في مكتب شركة أمريكية، وصورة رابعة في شركة استيراد مصرية، وقال: نفسي في فتاة صغيرة. وقال إنه لم يحب أبدا. وقال إنه بالأمس أراد أن ينام مع زوجته، لكنها رفضت لأنه كان قد جعلها تشتري الفاكهة من نقودها وعندما أعطاها جنيهين فتحت له ساعديها. وجمع الأوراق المصورة وأعادها إلى ملفاتها، وقال: أنا الآن انتهيت. سأربي أرانب. ونادوا علينا لنأكل، ثم خرجت وذهبت إلى المجلة وقابلت سري، وقال لي إنه يريد أن يساعدني لكن الظروف لا تمكنه. وقال: هل قرأت مقالاتي؟ أنا الوحيد الذي يكتب هذا الآن. وقال: فؤاد رجل تافه، تصور أنه قال عني إني تلميذه. وتركته وذهبت إلى حجرة سامي في آخر الممر، وفي هذه المرة وجدته، وقال لي: ليست عندي أي فكرة عما كتبته. ووقفت بجوار مكتبه وهو يكتب، ورفع رأسه إلي فجأة وقال: ما نعطلكش، مر علي بعد يومين. وخرجت إلى الشارع، ومشيت إلى المترو، ورأيت فتاة رائعة الجمال من زجاج شركة الطيران. وركبت المترو إلى البيت ولم أجد مقعدا خاليا لي، ووقفت أتأمل الناس من حولي. وفي حجرة السيدات لمحت جانبا من وجه امرأة، كانت تطل من النافذة، وكانت ترتدي فستانا أبيض بغير أكمام، وتبدو نظيفة جدا، ولا شك أنها استحمت قبل أن تخرج. وكان شعرها طويلا ناعما، ولا يمكن أن تكون قد فردته عند الحلاق، ولمحت بجوارها طفلة. واضطرب صدري عندما تحولت بوجهها كله ناحيتي ورأيت سمارها الخمري، وكان وجهها بلا كحل أو أصباغ، وألفيت نفسي فجأة في مواجهة عينيها، كانتا واسعتين صافيتين، وللحظة ضعت. «كانت عيناها نجمتين في فضاء ساكن، وكنت سابحا في الفضاء، ضائعا، وكان بالليل عندما التقت عيوننا، وكانت عيناها تلمعان في الضوء، رأيت صورتي في بياضهما الواسع ورأيتها في سوادهما العميق. وكان ساعدها عاريا بجواري، وبشرتها مشربة بالحمرة وتبدو ساخنة. واشتقت أن أمد إصبعي وألمس ساعدها عند استدارته الممتلئة قبل الكتف. وكانت بلوزتها بيضاء خفيفة، ولم تكن ترتدي مشدا؛ فقد كنت أرى نقطتي ثديها على البلوزة، في المكان الذي تستريحان فيه على الحرير. وكانت بشرة وجهها ناعمة، وشفتاها ممتلئتين، والسفلى دائما منفصلة قليلا عن العليا ومقوسة، داكنة اللون كأنها ملتهبة من شيء ما. وعندما كانت تنظر إلي وتبتسم، كانت نظرتها تتعلق بي وأحار، وعندما احتضنتها أول مرة سكنت لحظة ثم أبعدتني عنها، وكنا نجلس في الظلام، ثم مدت يدها إلى رأسي وجعلت تعبث بشعري، ثم تسللت يدها إلى حافة قميصي، ثم ظهري، وجعلت تتحسسه بكفها؛ عندئذ احتضنتها ودفنت رأسي في رقبتها، واستمتعت لحظة بنعومة جلدها على خدي وجعلت أتشمم رائحتها النظيفة، ثم رفعت رأسي قليلا وقبلتها في فمها، ودخت. وعندما أردت أن أعيد الكرة دفعتني عنها، وتعلمت أن أكتشف فيها أشياء أخرى، عندما تزم شفتيها وتركن إلى الصمت مهما حدث، وأكاد أجن لأعرف لماذا. وعندما تبدو أحيانا رقيقة حانية وأعبدها، وعندما أجلس أمامها وعيني على وجهها ويديها وساقيها وأكاد أبكي من الرغبة. وعرفت الألم عندما كنت أنظر إلى عينيها اللامعتين وخديها الشهيين، وعندما كانت أصابعي تتسلل إلى ساعديها وساقي تقترب من ساقيها وترفضني. وفي آخر مرة كنت سأجن، كنت قد بدأت أوقن، وأخذتني بين ساعديها، وسمحت لي أن أتحسس صدرها ويديها وأقبل خديها وشفتيها، لكنها كانت باردة.»
لكنها لم تلبث أن حولت عينيها بعيدا، ولم تلتفت نحوي أبدا بعد ذلك. ونزلت أمام البيت واشتريت طعاما، ودخلت المنزل، ووجدت الحجرة الخشبية التي يستخدمها خال حسنية مضاءة، وبابها مفتوحا، وعندما نظرت خلاله وجدته معتمدا برأسه على كفيه يتأمل صورة فتاة في إطار مذهب على مائدة صغيرة أمامه، وكانت الصورة لحسنية، وكانت عيناها في الصورة واسعتين رائعتين. وابتعدت قبل أن يحس بي. وصعدت إلى غرفتي، وخلعت ملابسي، وأدرت الترانزيستور، فلم أجد أغاني أو موسيقى وجعل يخروش. وجلست أحاول الكتابة، وعلى الأرض ظهرت بقع سوداء من أثر لذتي. وجاء حسن وقلت له لا بد أن نأتي بامرأة الليلة. وقال سأحاول. وخرج، وعاد بعد نصف ساعة، وقال: أخي على السلم ومعه فتاة. وقال: اختف قليلا لأننا قلنا لها إننا اثنان فقط. وقال: لا تخش شيئا فلن تستطيع أن ترفضك ما دامت ستأخذ الثمن. وذهبت إلى المطبخ وأعددت الشاي، وجاء حسن، وقال إن شقيقه والفتاة في حجرتي الآن. وحملت الشاي إلى الصالة ووضعته على المائدة، وجلست بجوار المائدة، وأشعل حسن سيجارة وجعل ينقر بأصابعه على المائدة. وفتح باب الحجرة بعد قليل وخرج أخوه، وصافحته ولم أكن رأيته من قبل، وكان ضخما في الأربعين. ودخل حسن الحجرة، وقدمت الشاي لأخيه، وقال لي: كيف الحال؟ قلت: عال. وقلت وأنا أشير بإصبعي إلى الحجرة: كيف هي؟ وهز كتفه وقال: لا بأس. وقال: لقد طفنا بكل الشوارع بالسيارة لكننا لم نجد غيرها لأن الوقت متأخر. وخرج حسن وقال لي: دورك. وأخذته جانبا وقلت له: لن أستطيع. ونظر إلي بدهشة: كيف؟ قلت: لا أدري. ليست لدي رغبة. وهزني وقال: لكن يجب أن تدخل. هذه مسألة مهمة، وقلت له إني أدرك ذلك لكني لا أستطيع. قال: تعال. ودفعني نحو الباب، ودخلت. أغلقت الباب ورائي، وقال لي أخوه من وراء الباب: الجراب على المكتب. أشعلت سيجارة وقدمت لها واحدة، وكانت جالسة على السرير بملابسها الداخلية. وكانت ترتدي قميصا مخرما رخيصا، بمبي اللون، مثل قماش أبيض غمس في الدم ثم غسل عدة مرات فاحتفظ بلون الدم الباهت، وكانت ساقاها عاريتين. وعلى المكتب استقر فستانها مطبقا في عناية، وقالت: لا أريد أن أدخن، هيا بنا، وقلت: نشرب السيجارة أولا. ما اسمك؟ وقالت: أريد أن أنتهي. ومدت يدها إلى ساقي وفكت زرار البنطلون، ونحيت يدها ببطء، وقلت: نامي معي الليلة وانصرفي الصباح. وضحكت: كده. وجذبتني نحوها وحاولت أن تقبلني، ونحيت فمي عن وجهها، وقمت واقفا. وخلعت بنطلوني وسروالي الداخلي، وتناولت الجراب وجعلت أرتديه، لكنه تمزق. بحثت عن واحد آخر فوق المكتبة فلم أجد. وقالت الفتاة: أنا نظيفة. وفتحت الباب وناديت على شقيق حسن وقلت: أريد واحدا. وأعطاني واحدا من جيبه، ولبسته وارتميت فوقها، وحاولت أن تقبلني فأبعدت وجهي. وقمت أخيرا وارتديت ملابسي، وأخذاها وخرجوا. وبقيت جالسا، وأشعلت سيجارة. وجاء رمزي وقلت له إني لم أستطع أن أنام مع الفتاة. وسخر مني؛ فقد استطاع هو. قابل فتاة في الشارع واصطحبها إلى البيت، وأطفأ النور، وظل معها عشر دقائق، ثم أعطاها خمسة وعشرين قرشا، وتطلع بعدها إلى وجهه في المرآة فوجده أحمر، وقال إنه لا يوجد شيء يساوي أي شيء. وانصرف. وجاء العسكري بعد قليل، وأطفأت النور، ونمت. وفي الصباح خرجت، وأفطرت في الشارع ولم أشتر الجرائد، وعدت إلى الحجرة. وقالت أختي إن عمي عاد من الإسكندرية وإنه مريض جدا ولا بد أن أذهب لاستقباله. وخرجت وركبت المترو إلى المحطة، ونزلت من المترو وعبرت الميدان، ثم سور المحطة الخارجي. وعلى الرصيف وجدته يقف، وكانت حالته عادية وزوجته إلى جانبه تحمل شمسية في يدها. وأسرع أولاده يحضرون تاكسي، وركبوا وقالوا لي أن ألحق بهم في المنزل. وركبت المترو وذهبت إلى منزلهم، ووجدته جالسا على كنبة مرتديا بيجامته، وبدا جسمه صغيرا قد انكمش عن ذي قبل. وتأملت كتفيه اللذين تضاءلا في فانلته، وعينيه الصغيرتين اللتين أوشكتا أن تختفيا خلف نظارته السميكة. وكان بنطلون البيجامة ملوثا ببقعة صفراء كبيرة فوق الكيس الضخم بين ساقيه، وقال إن كل شيء بدأ فجأة برعشة وسخونة. واستدعوا الطبيب فقال إنه لا يوجد شيء البتة، وقال إن الحرارة ارتفعت في المساء وظن أنه سيموت، وأرسل إلى الطبيب على الفور، فجاء وقال له: «تاكل مسلوق وتحلل.» وقال عمي إنه نفذ أوامر الطبيب يوما واحدا فقط. وفي اليوم التالي قال لهم آكل فرخة. وقمنا لنأكل، وأقبل على اللحم يلتهمه في شراهة، وقال: أعطوني من الكبدة. وتركتهم وخرجت، وركبت إلى منزل ابنة عمتي، وقلت إني سأعرف المنزل من نوافذه الزرقاء. لكني عندما اقتربت منه اكتشفت أنها ليست كما كنت أتخيل، كان الزجاج عاديا بغير لون، إنما السماء هي التي كانت تعطيه زرقته أحيانا، وكانت ألواحه مشروخة، وواجهة المنزل صفراء متسخة. وكان باب الحديقة مفتوحا ومائلا على الحائط، والحديقة نفسها مهجورة، والبلاط الملون في ممراتها قد اقتلع في أكثر من مكان. وسرت في الممر المؤدي إلى باب البيت، وكان هناك براز كلب بجوار الحائط. وصعدت السلم الذي تآكلت درجاته، وطرقت الباب، وفتحت لي ابنة عمتي. ولم أعرفها في مبدأ الأمر؛ فقد كان شعرها منكوشا تتخلله خصل رمادية كثيرة، وكانت عيناها منطفئتين، وجلد وجهها بنيا. وفي الصالة رأيت الحجرة القبلية، ومشيت إليها وقلت لها: أين مكنة الخياطة التي كنت تضعينها هنا؟ وقالت: ألا زلت تذكر؟ «أجل، لا زلت، كان ذلك في الشتاء، بعد الغداء، وفي الحجرة البحرية جلس أبي مع عمتي خلف زجاج الفراندة يرقبان القصر، وذهبت إليه وأردت أن أجلس على ساقيه، لكنه نحاني عنه قائلا إني لم أعد صغيرا . وغادرت الحجرة إلى الصالة، وعبرتها إلى حجرة ابنة عمتي، وكانت تجلس أمام مكنة الخياطة، وجلست أرقبها وهي تدير المكنة بساقها، وقالت لي: تصور .. انقطع الخيط من أول دورة. إنه شيطان الذي ركب هذه المكنة. وانحنت على المكنة بعد أن رمقتني بنظرة سريعة. وحولت بصري إلى النافذة وأنا أشعر بأذني ساخنتين وكنت لا أزال أرى وجهها الأبيض الرقيق والحمرة الشاحبة على خدها وأنا أتطلع إلى النافذة المغلقة. الزجاج فقط هو الذي كان مغلقا، ومن خلفه ظهرت السماء، وخلاله تدفقت أشعة الشمس الباهتة .. وتحت في الحديقة كانت أشعة الشمس تضيء فوهة البئر السوداء. وبعد ساعة سيأتي الصبية وأنزل معهم ونرفع الماء بالمضخة، وسنسرق الزهور ونهز شجر المانجو بلا فائدة، ونجري في البدروم والسراديب. وهذه المرة سأختبئ منهم في الحجرة المتطرفة التي تفتح في رمضان ليقرأ فيها المشايخ كل ليلة. وعندما ننصرف بالليل ستودعنا عمتي إلى الباب، وتضيء نور السلم، ونهبط درجاته البيضاء العريضة، ونخرج إلى الممر، ونمضي فوق بلاطه الملون، ثم نفتح باب الحديقة فيئز، ثم نغلقه تماما، وننطلق إلى الشارع العريض الهادئ بلا صوت، وعندئذ أجمع الياسمين من أسوار الحديقة .. وقالت صديقة ابنة عمتي شيئا. كانت تقف على مقربة أمام مرآة الدولاب وهي تمس شفتيها بإصبع الروج، لكني لم أنظر ناحيتها، كانت طويلة وعيناها خضراوين، ولم تخاطبني إلا بكلمة واحدة: إزيك. قالتها عندما دخلت الغرفة، ثم وجهت كل اهتمامها إلى ابنة عمي، لكن ابنة عمتي كانت تكلمني أنا عندما قالت: تصور. كان دولابها الصغير خلفي، تعلو مصراعيه الخشبيين مرآتان بيضاوان كالعينين، وتتدلى من منتصفه عند ثقب المفتاح مطرقة صغيرة من النحاس تحدث رنينا جميلا عند فتح الدولاب. وفي داخل الدولاب أدراج مغلقة، ودون أن أحرك عيني عن النافذة استطعت أن أرى أصابعها تلمس مقبض المكنة في خفة، فتدور العجلة في ضجة. وانحنت تتابع حركة القماش تحت الإبرة فسقطت ضفيرتها على صدرها، وقالت لها صديقتها: ألن تنتهي أبدا؟ تأخرنا. ورفعت ابنة عمتي رأسها والتقت عيناها بعيني وهي تتطلع إلى صديقتها وقالت: خلاص آخر خط. وأغمضت عيني، وسمعت بعد برهة رنين مطرقة النحاس الصغيرة.»
وجاءت أختي وقالت: المجاري في البلد طافحة . ودخل قريب عجوز لابنة عمتي، وكان يلهث في قوة، ولم يكن يرى جيدا من خلف نظارته، وتجهم وجه ابنة عمتي، وقال العجوز: أعطني شلنا بعدما أشرب القهوة. وخلع طربوشه ووضعه بجواره على الكنبة. شرب القهوة وظل جالسا، ودخلت ابنة عمتي حجرتها ثم عادت وسألتني إذا كانت معي فكة، ولم تكن معي فكة. وأرسلوا الطباخ ليفك عشرة قروش إلى شلنين، وجلسنا ننتظره صامتين حتى عاد. وأعطت ابنة عمتي الشلن للعجوز، فقام وارتدى طربوشه وسلم علينا وخرج، وقالت ابنة عمتي: هذا العجوز ماكر، يلهث فقط عندما يدخل علينا. وقالت أختي إنه يقيم مع ابنه المتزوج، وإن زوجة الابن تحرض أطفالها على تمزيق ملابسه وإخفاء حذائه، وتترك غرفته قذرة. وقالت ابنة عمتي: سيشرب بالشلن خمرا. وقالت أختي: عندما يذهب إلى ابنته تتركه في الصالة وتدخل حجرتها وتغلق الباب عليها. وقالت ابنة عمتي إنه يقضي النهار كله في الخارج يشرب الخمر ويدور على أقاربه يشحذ منهم. «في نفس هذه الصالة منذ أعوام بعيدة كانت عمتي تجلس على الكنبة بطرحتها البيضاء وهي تدخن. وبجوارها أبي لا زال يلهث من السلم والحر وهو يجفف بمنديله رأسه الأصلع الذي يدور به شعر أبيض. وجاء الطباخ وأخرجت عمتي كيس نقودها وأعطته جنيها، وانصرف الطباخ. وقال لها أبي شيئا، فهزت رأسها بالرفض .. وقام أبي فعبر الصالة إلى الحجرة البحرية وخرج إلى الفراندة وجعل يدخن.»
وقالت أختي إن نهاد خطبت إلى مدير في القطاع العام. ورويت لابنة عمتي كيف سألتني قريبة نهاد عما إذا كنت ابن أبي الشوارب الواقفة، وضحكنا. وقالت أختي إن جدة نهاد مريضة وإنهم لا يطيقونها. وقالت ابنة عمتي: قبل أن تموت أمي ظلت شهورا في الفراش لا تغادره، وكانت تتبول فيه. وقالت أختي إن زوجة ابن عمي سقطت في شهرها السادس. وقلت: هذا أحسن لها. وغضبت أختي واتهمتني بأني لا أحس. وقالت إني الوحيد الذي لن يتمكن من حضور زواجها لأنه سيكون بعد الغروب. وقالت إن صديقتها حسنية ستتزوج بعدها بأسبوع، وسيعود خالها إلى منزله. وقالت إن خال حسنية كان يقيم عندها طول الوقت بعد أن هجر امرأته. وقالت إن امرأته لا تخلع السواد أبدا، وإنه يقول إن ملابسها الداخلية كلها سوداء. واقترب مني كلب ابنة عمتي وهو يهز رأسه، ومددت يدي أداعبه، فنام على ظهره في الحال، وانثال بوله في الأرض، وقالت إنه أصبح هكذا أخيرا؛ فما إن ينام هكذا على ظهره حتى يبول. وانصرفت إلى حجرتي، وخلعت ملابسي، وأعددت كوبا من الشاي، وجلست أقرأ في كتاب عن فان جوخ. ولا بد من أني غفوت؛ فقد رأيت أني التقيت بأبي، وكان يبدو متعبا، وجلس متربعا على سريره، متجهما، ولم أعرف ماذا أقول له وأنا لي مدة لم أحاول أن أراه، كان موجودا طول الوقت ولم أفكر في الذهاب إليه. واستيقظت على صوت جرس الباب، وقمت أفتح، وكان العسكري، فعدت أحضر الدفتر ووقع وانصرف. وعدت إلى الحجرة فأطفأت النور وأشعلت سيجارة، واستلقيت على السرير أفكر في أبي. «كان ذلك بالليل، وكان أبي يصرخ من الألم، وكنت أريد أن أنام. وعندما أخذوه إلى المستشفى بقيت بمفردي في البيت، وكنت سعيدا. وعندما ذهبت إليه اصطدمت بعينيه، وكانتا واسعتين جزعتين، وسألني لماذا تأخرت، ولم يكلمني بعد ذلك أبدا. وقال: أقرأ لي. وجلست بجواره على مقعد، وأعطاني ظهره، وأمسكت بمجلة وقرأتها له. وبعد لحظة ملت عليه لأرى عينيه، وكانتا مغلقتين، فتوقفت عن القراءة، لكنه فتح عينيه وقال: لم أنته بعد. وعدت أقرأ، وأخيرا قال: يكفي هذا، يمكنك أن تنصرف. وخرجت مسرعا وأنا أتنفس الصعداء. وبعدئذ لم يطلب مني شيئا، ولم أر الرعب الذي كان في عينيه. وعندما أعادوه إلى البيت حملوه من السيارة إلى السرير. وفي بيت أخي استبدلوا أغطية المقاعد بأخرى داكنة، ولم أفهم. وعندما أخرج دماء من فمه نزل أخي يبحث عن وعاء، وعاد ينهج ويقول: دخت ولفيت. وارتمى على الكنبة يلهث وهو يتطلع إلينا. وأخيرا رقد أبي على ظهره في صورة مستقيمة، وغطوا جسده كله، ووجهه بملاءة بيضاء، وساووا جسده، وقالوا إنه لم يسأل عني. ورفعت الملاءة عن وجهه ولكن عينيه كانتا مغلقتين.»
ونمت. وفي الصباح ذهبت إلى الشقة الجديدة التي ستنقل إليها أختي في المساء. كان البيت كله جديدا، لا زال العمل يجري في بعض طوابقه. ووجدت باب الشقة مفتوحا وخطيب أختي يقف أمامه. وصحبني إلى الداخل، وعبرنا الصالة إلى حجرة الصالون. وأراني صورة كبيرة على الحائط لبيت أوروبي على شاطئ وأمامه قارب. وقال بزهو: إنها رسم أخي. ثم انتقلنا إلى حجرة النوم، وفتحنا أبواب الدولاب الأربعة، وجلسنا على السرير واهتززنا فوقه، وتحسسنا أغطيته ووسائده بأيدينا، ثم خرجنا إلى الصالة وفتحنا الثلاجة ثم أغلقناها. وقادني إلى الباب وأشار إلى مصباح فوقه وقال: بمجرد أن أفتح الباب يضيء هذا المصباح من تلقاء نفسه، ثم ينطفئ عندما أغلقه. وقال: انتظرني هنا حتى أذهب وأجيء بالسخان والفرن، وخرج. وجلست في الصالة المظلمة وأشعلت سيجارة، وقمت وضغطت على زر النور، لكن الكهرباء لم يكن قد تم توصيلها بعد، وتأملت غطاء المصباح الذي كان على شكل قمر صناعي. وعدت فجلست إلى المائدة وجعلت أدخن وأنا أتأمل حواف مقاعدها اللامعة بلا أي خدوش. ووصل السخان بعد قليل لكن خطيب أختي لم يأت. انتظرته مدة أخرى وأنا أدخن، ثم قمت إلى النافذة، ووجدت الشمس تغيب، ثم رأيته يسير في الشارع بمفرده في اتجاه المنزل، ولم يكن هناك أحد غيره في الشارع. وصعد بعد قليل، وصافحته قائلا: مبروك. وغادرت المنزل إلى حجرتي، فأضأت نورها، ووضعت الدفتر في جيبي، وجلست في مقعد وظهري إلى الباب، وأمسكت بكتاب. وبعد قليل قمت وأدرت المقعد بحيث يكون الباب أمامي، وعاودت القراءة. وبعد لحظة تطلعت إلى الباب من فوق حافة الكتاب، وكانت الشقة غارقة في الظلام، وحاولت عبثا أن أواصل القراءة. وقمت وخرجت إلى الصالة، وأضأت نورها، وكانت حجرة جاري مظلمة، وانتقلت إلى المطبخ فأضأت مصباحه، وعدت إلى حجرتي، وأمسكت بالكتاب مرة أخرى. وطرق الباب فجأة، وقمت لأفتح، وتذكرت أختي، وكانت تقول إنها تشعر عندما يطرق الباب أن أحدا سيدخل ويضربني. فتحت شراعة الباب أولا فوجدت العسكري أمامي. فتحت له الباب، وتناولت الدفتر من جيبي وقدمته إليه، فوقع ثم انصرف. وعدت إلى حجرتي، وحاولت أن أقرأ من جديد، لكني لم أستطع، وأخذت أتمشى في الحجرة، ووقفت في النافذة، كانت كل النوافذ أمامي مغلقة. وخلعت ملابسي وارتديت البيجامة ثم أغلقت باب الحجرة، وتركت النور مضاء في الصالة والمطبخ، وأشعلت سيجارة واستلقيت على الفراش، وعندما انتهت السيجارة قذفت بها من النافذة، وأعطيت وجهي للجدار ونمت. واستيقظت فجأة وأنا أشعر بصداع حاد وعطش شديد. وغادرت الفراش، وكان الليل لم ينته بعد، وفتحت الباب وذهبت إلى الحمام، وانحنيت على صنبور الماء فشربت، ثم أغلقت الصنبور، واكتشفت أن أرض الحمام غارقة في الماء. وعدت إلى حجرتي، وكان هناك إصبع موز على المكتب فتناولته ونزعت قشرته ثم أكلته ووضعت القشرة على المكتب، وعدت إلى فراشي. واستيقظت مرة أخرى، وكانت الشمس تملأ الحجرة، وظللت ممددا، ثم قمت وأخذت فرشاة الأسنان والصابونة وذهبت إلى الحمام، ووجدت المياه قد ملأت أرضه وتسللت إلى الصالة، وكان الصنبور تالفا. ووقفت وسط الماء وغسلت وجهي وأسناني، وعدت إلى الحجرة تاركا آثار أقدامي المبللة في كل مكان. وارتديت ملابسي، وغادرت الشقة ونزلت إلى الشارع، وركبت المترو إلى نهايته، وسرت على الكورنيش، ثم عبرت الكوبري وولجت أول كازينو صادفني، واخترت مائدة منعزلة على النيل وجلست. وجاءني الجرسون فطلبت قهوة، وجعلت أتأمل المياه أمامي. وتابعت ببصري قاربا به شاب عاري الصدر يجدف، وفجأة سقط منه أحد المجدافين وابتعدت به المياه. وأدار الشاب دفة القارب محاولا اللحاق بالمجداف الضائع، وكان يعمل الآن بمجداف واحد وينقله كل لحظة إلى أحد جانبي القارب. لكن المياه كانت تعاكسه، وكلما أفلح في الاقتراب من هدفه ابتعد عنه. وبدأ يجدف بحركات محمومة، وبدا اليأس عليه. وترك المجداف فجأة وضم راحتيه أمام فمه، وصرخ لزميل له في قارب بعيد طالبا النجدة، لكن زميله لم يرد عليه وربما لم يسمعه. ولم تكن القهوة قد جاءتني، وناديت على الجرسون فلم يلتفت ناحيتي، فقمت وغادرت الكازينو، ومشيت إلى الكوبري وركبت الأتوبيس. ونزلت في أول سليمان، وجلست في أول مقهى صادفني، وشربت القهوة، ثم أشعلت سيجارة. وقمت فسرت إلى شارع توفيق، ثم انحدرت في التوفيقية ووقفت أمام سينما كايرو، وكانت تعرض فيلما كوميديا. وابتعدت في اتجاه شارع فؤاد وعبرته، وانحنيت في شارع شريف، وواصلت السير فعبرت شارع عدلي ثم ثروت، ومضيت في اتجاه شارع سليمان، ثم سرت فيه حتى الميدان، وكانت مياه المجاري تملأ الأرض، والمضخات منصوبة في كل مكان تحملها من داخل الحوانيت إلى الشارع، وكانت الرائحة لا تطاق. والتقيت بشخص أعرفه، وقال إنه استيقظ منذ ساعة فقط هو الآخر. وكان يمد ليلحق موعدا، وأسرعت بجواره وقلت: سأمشي معك حتى موعدك. لكنه قال إننا يجب أن نفترق الآن. وتركني، وعبرت الشارع وعدت في اتجاه الميدان، ثم انطلقت في شارع قصر النيل حتى وصلت السينما. تفرجت على الإعلانات التي قالت إن هذا العالم مجنون. واتجهت إلى شباك التذاكر وكان كاملا، ووجدت شباكا للحجز والمقاعد كاملة في حفلتي المساء، والناس تحجز للغد وبعده. غادرت السينما وعدت أسير في اتجاه الميدان مرة أخرى ثم شارع سليمان. وفي هذه المرة سرت على الناحية التي لم أسر عليها في مجيئي. وعندما وصلت سينما مترو وجدت بها فيلما كوميديا هي الأخرى. وتجاوزتها، ووقفت أمام الأميركين مترددا. وكانت سينما ريفولي على يساري وأمامها زحام شديد، وتذكرت سينمات شارع عماد الدين. وعبرت الشارع، وواصلت السير في شارع فؤاد حتى عماد الدين، فانحرفت فيه، وسرت على اليسار وكان هناك زحام هائل أمام كل السينمات، ولا تعمل قبل ساعة ونصف. ووصلت إلى نهاية الشارع، فمضيت في شارع رمسيس واتجهت إلى باب الحديد. وخيل إلي أن أحدا يتتبعني، ثم قارنت ساعتي بساعة المحطة، واتجهت إلى مقهى في الميدان عند بداية شارع الجمهورية، فجلست في الخارج. واختفت الشمس فجأة، وساد لون رمادي، وتذكرت هذه المنطقة منذ عشرين عاما، ودخان القطارات الآتي من باب الحديد واللون الرمادي في كل مكان؛ في السماء والطرقات والبيوت. وقلت أقوم أبحث عن ذلك المنزل القديم؛ فربما كانت أمي لا تزال هناك . وقمت بسرعة قبل أن تعود الشمس، كنت أريد أن أقترب من المنزل في الغيام. وعبرت شارع كلوت بيه، وتركت شارع الفجالة، واخترقت الشوارع الصغيرة التي تصله بالميدان. وأحسست أني أقترب من مكان البيت، وأن بوسعي أن أخترق عدة شوارع جانبية فأصبح بجواره. لكني قررت أن أقترب منه من ناحية شارع الفجالة كما كنا نفعل أنا وأبي. «وكنا نأتي بالترام، ونأخذه من الميدان قبل أن يتحول إلى شارع الظاهر. وكنت أحب هذا الشارع الهادئ لأنه كان مليئا بالأشجار التي تتعانق أغصانها فوقه، في المنتصف، فتحجب عنه الضوء. وكنت أحب صوت السنجة وهي تشق طريقها بصلابة بين فروع الأشجار. ومع ذلك كان الترام ينطلق بأقصى سرعة، فنترك وجوهنا لهواء العصر، ويضع أبي يده على طربوشه كي لا يطير، ثم ينتهي الشارع، وينحني الترام دالفا إلى الميدان الواسع ويبطئ من سرعته، ثم يتوقف أمام الجامع. وأتطلع إلى الحديقة الكبيرة التي تنحدر إلى أسفل حتى تختفي عن أنظار الجالس في الترام. وخلال الأقواس الحجرية الكبيرة في جدران الجامع أرى الأردية الحمراء والزرقاء للأولاد والبنات الذين يلعبون في الحديقة، وتظل عيناي عليهم، والترام يعاود السير ويدور حول الجامع، ثم يختفي الجامع بحديقته مرة واحدة، ويضع أبي يده القوية على ركبتي العارية ليحميني عندما يستدير الترام في حدة، ونعبر شارع الخليج الضيق. وأتمنى لو كان الترام الذي نركبه هو ترام الخليج لنمضي بين جانبي الشارع المتقاربين. ويمد أبي يده فيكاد يلمس جدران المنازل، ثم نهبط في الفجالة، ويمسكني أبي بيده اليمنى حتى نعبر الشارع، ثم ننطلق في طريق ضيق، ونمشي إلى جوار جدار أبيض عال تتدلى فوقه أغصان الأشجار. ويظلم الشارع فجأة رغم أن الشمس لم تختف بعد، وأدرك السبب عندما أتطلع إلى أعلى وأرى سحب الدخان الكثيف تتجمع بسرعة ثم تتبدد بعد لحظة، ويقول أبي إنه دخان القطارات قادما من باب الحديد. وينتهي الشارع، ويظهر المنزل الذي نقصده، ويجلس أبي على دكة البواب، بينما أصعد السلم الطويل مارا بأبواب تتصاعد منها رائحة الزيت المقلي. وفيما بعد نعود أنا وأبي من نفس الطريق الضيق، سائرين إلى جوار الجدار الأبيض، وعندئذ ألمح الأجراس الضخمة من خلفه. ويكون الشارع قد أظلم تماما وخلا من المارة، وتتبدى في نهايته بقعة من الضوء، سرعان ما تتكشف عن حانوت سجائر. ونقف في المدخل الذي تسده فاترينة كبيرة عالية، وألصق وجهي بزجاجها الذي أعتمت بعض أجزائه. وأحدق في علب الحلوى والشيكولاتة، وبجوار رأسي ألمح يد أبي تمتد إلى الجيب العلوي لبنطلونه فتخرج نقودا ثم تدحرجها فوق الزجاج، عند رأسي تماما، ثم نترك الحانوت ونعبر الشارع إلى موقف الترام. وأشعر بالبرد، فألتصق بأبي، ويبسط هو ياقة سترته ليغطي صدره. ونقف وحدنا على رصيف المحطة، ثم يأتي الترام فنصعد إلى العربة الخلفية المكشوفة، وننكمش في ركنها وقد أمسك أبي ركبتي العارية بيده الدافئة. وينطلق الترام في رحلة العودة، ولا نلبث أن نعبر شارع الخليج، ثم ينحرف الترام فجأة إلى اليمين، ويختفي صف المنازل الذي كان يجري معنا على الشمال، وينبسط أمامنا فضاء واسع مظلم أخاف أن أقع فيه، فأتشبث بأبي. وبعد لحظات تألف عيناي الظلام، فأتبين الميدان الكبير وكتلة الجامع وسطه، ويدور الترام حول الجامع ونتخطى سينما مغلقة كنا نذهب إليها في الصيف مع أمي، ثم نندفع في شارع الظاهر المليء بالأشجار، وأسند رأسي على الحاجز الخشبي لأستمتع بسرعته الخارقة هنا، وألمح أبي يغلق عينيه في مواجهة الهواء الذي يهاجمنا بعنف.»
ومشيت مع الترام حتى الكنيسة، ودخلت الشارع المجاور لها، وكان مزدحما مليئا بالضجيج. وانتهى الشارع، وانحرفت إلى اليمين، كان البيت الذي أذكره عاليا جدا، له بلكونات خشبية عريضة، ألقت أمي بنفسها من إحداها ذات مرة، فسقطت في البلكونة التالية. وطفت بعيني بين البيوت، كانت كلها واطئة، لكن واحدا منها فقط كانت له بلكونات خشبية، وقلت لا بد أن يكون هو، فاقتربت منه في بطء. كانت البلكونات صغيرة والمدخل ضيقا، والمدخل الذي أذكره عريض. واجتزت المدخل وصعدت السلم في بطء، وانتهيت من السلم بأسرع مما توقعت، وكانت هناك حجرة صغيرة في قمته. طرقت الباب ، وسمعت صوتا نسائيا يقول: ادخل. ودفعت الباب، ووقفت في المدخل. كانت هناك ثلاث سيدات متشحات بالسواد تربعن على سرير في الركن، وقامت واحدة منهن وأسرعت ناحيتي وهي تقول: مين؟ وعرفت فيها جدتي، وقلت لها اسمي في صوت خافت، فاحتضنتني وقبلتني في خدي، وقالت: اجلس. وجلست على مقعد خشبي في مدخل الحجرة، وأشارت جدتي إلى أصغر السيدتين وقالت: هذه خالتك. وتقدمت خالتي مني وقبلتني في خدي. وقالت جدتي: وهذه خالتي أنا. وأشارت إلى السيدة الأخرى. وقمت، وحملت المقعد، واقتربت منهن، ثم وضعته بجوار السرير وجلست فوقه. وقالت خالة جدتي: مسير الحي يتلاقى. وقالت جدتي: ساعة ما شفتك حسيت .. وقالت خالتي: لسه كنا بنقول يمكن بنقابلهم في الأتوبيس من غير ما نعرفهم. وتناولت جدتي الترانزيستور وقالت: جاء ميعاد الرواية. وأعلن صوت رصين في الراديو عن إحدى حلقات الشبح الأسود. وبدأت الحلقة بصبي يسأل في صوت باك: كيف يستطيع الحياة بعد أن علم أن أباه هو القاتل. وجلست أستمع في صمت، وأبصارهن جميعا معلقة بالراديو. ومضت ربع ساعة، وانتهت الحلقة، وقامت جدتي لتصلي. وجاء أطفال صغار، وقالت لهم خالتي: هذا ابن خالتكم الله يرحمها. ونظرت إلي بطرف عينها، ولم أتكلم. كنت أريد الآن أن أعرف متى ماتت أمي على وجه التحديد وأين. وفرغت جدتي من الصلاة، وجاءت فجلست بجواري، قلت لها: متى ماتت أمي بالضبط؟ وقالت: غدا يكتمل أول أسبوع عليها. وقلت: أين، قالت: عند أبيها. وأشرت إلى رأسي وقلت: وكيف حالها؟ وقالت خالة جدتي: كانت تقرأ الصحف وتتحدث عن كل شيء أحسن منا، وتتنبأ بكل ما يحدث، ولم تكن تثور. وقالت جدتي: ثم مرضت فجأة ورفضت أن يراها الطبيب، أو أن تأخذ دواء ما، وأخذت تهزل شيئا فشيئا، ثم امتنعت عن الطعام نهائيا. وقالت خالتي: وفي آخر يوم طلبت كوب ماء، وعندما شربته سقطت ميتة، وتطلعت في ساعتي، كان موعد العسكري يقترب، وقمت واقفا ، وقلت يجب أن أذهب الآن. وودعتهن، ونزلت السلم، وغادرت البيت، واخترقت الشوارع الجانبية حتى ميدان رمسيس، ثم اتجهت إلى محطة المترو.
مصر الجديدة
1965م
الثعبان
هكذا بدا الطريق فجأة. وكان ذلك عندما أبطأ السائق من سرعة السيارة، وانحنى على مقودها في توجس. ومضى يصعد بها المرتفع ثم يدور مع الطريق وهو يطلق نفيره في صوت حاد. لم يكن هناك من شبح لكائن واحد على مبعدة عشرات الأميال في كل اتجاه. وما كان أحد ليتوقع غير ذلك في هذه الصحراء المترامية النائية. ومع ذلك كان على السائق أن يحذر المفاجآت عند كل منحنى أو مرتفع.
وحبس الطبيب أنفاسه وهو يتطلع من النافذة إلى الصخور الضخمة كالقلاع التي برزت على كل جانب، وخفت الضجة ثم تلاشت داخل السيارة. وقد انحنى كل الركاب على النوافذ يتأملون في جزع الهوة الضخمة التي تهبط على جانب الطريق مباشرة. وعند المنحنى كانت السيارة قد ازدادت بطئا حتى أوشكت على الوقوف، ومضت تتقدم في خطوات بطيئة كالزحف. وكانت هناك أعمدة خشبية قصيرة طليت باللونين الأحمر والأسود وثبتت على حافة الطريق تحذر من الهاوية. وكان اثنان من هذه الأعمدة ملقيين على الأرض. وتجاوزت السيارة المنحنى وانحدر الطريق إلى أسفل، فاعتدل السائق في مكانه وترك السيارة تنساب هابطة دون أن يغير سرعتها؛ فقد كان هناك منحنى آخر. ودار الطريق من جديد صاعدا، والتمعت الشمس على الصخور الضخمة وبدت كتلها مزعجة. ولوى الطبيب عنقه إلى الوراء ليتأمل الجزء من الطريق الذي خلفوه وراءهم. وإلى أسفل كان الطريق الطويل الضيق يمتد وسط الصحراء في شريط أسود لا نهاية له، ويلتوي على نفسه ويدور صاعدا وهابطا في دوائر. وأحس بأنفاس الراكب الجالس خلفه تصطدم بقفاه في دفقات قصيرة متلاحقة، ثم سمعه يهمس بصوت خافت: «ياه .. زي التعبان.»
وعندئذ أخذ كل شيء يبدو كشيء آخر. وقبل ذلك لم يكن هناك غير الضجر بالساعات الأربع التي تستغرقها الرحلة حتى أسيوط. وكان الطريق في البداية يمتد مستقيما، والصحراء تنبسط يمينا ويسارا إلى ما لا نهاية دون أن يعترضها مرتفع واحد؛ فلم تكن الجبال إلا خطوطا بعيدة في الأفق. ولم يكن هناك ما يوحي بأن جغرافية المكان ستتغير؛ فرحلة المجيء كانت بالليل الذي أخفى تفاصيل الطريق، ولم تتكشف حقيقته إلا عندما بدأ ينثني ويدور صاعدا هابطا ويتلوى ويتموج منطلقا إلى الأمام كالثعبان.
لم يكن هناك من طير أو حيوان أو إنسان في أي ناحية. لم يكن هناك غير الرمال والصخور. والأعمدة التي تتتابع في سرعة خاطفة على جانبي الطريق، بعضها يحمل إرشادات للسائق، والبعض الآخر يحمل أرقاما مختلفة فشل الطبيب في أن يحدد أيها يعين المسافة المتبقية على أسيوط، والبعض الثالث كان أقرب إلى شواهد حجرية صغيرة تحمل أرقاما مطموسة وتبدو كالتماثيل الحجرية القديمة لفلاسفة اليونان والرومان التي تظهر صورها في الكتب والمجلات.
وإلى اليسار كانت أعمدة التليفون التي تربط الواحات بأسيوط تجري مع السيارة. كان عمود منها تسنده أسلاك متينة تثبت إلى الأرض بأثقال من الأحجار حتى لا تجرفها رياح الصحراء العنيفة. وفي بعض الأحيان كان العمود ينتصب مجردا من الأسلاك أو مثبتا بسلك واحد. وكان العمود ساقا رفيعة من الخشب يعترضها قضيب صغير في قمتها، فيبدو كالصليب. وكانت مئات من هذه الأعمدة بل آلاف تتسابق أمام الطبيب في خط مستقيم على اليسار، وبدت له أشبه بصلبان أعدت ليعلق فوقها متمردون ثائرون. يعلق الواحد منهم من يديه، ويلصق ساعداه بالقضيب الأفقي، ويدق في كل كف مسمار طويل، ويربط الجسد بالعمود بحبل متين كي لا يقع الثقل كله على اليدين، وتنزف الدماء من اليدين، ثم من الأنف والفم، ثم تتصاعد رائحة نتنة تجذب الذباب والصقور، ويتدلى الرأس عاجزا خائرا؛ العينان مغلقتان ولكنهما تطرفان بين الحين والآخر بنظرة حائرة تتجمع في أعماقها قوى خفية تجاهد لتتبين أو تدرك شيئا ما. وربما تتحرك الشفتان أيضا وتطرفان مثل العينين، لكن أحدا لن يعرف أبدا ماذا أراد صاحبهما أن يقول.
وكان الطبيب قد قرأ في مكان ما من قبل عن الصلبان التي أقامها الرومان في إحدى الطرق المؤدية إلى روما منذ ألفي سنة، وعلقت فوقها أجساد ستة آلاف عبد. وكان أولئك العبيد قد ثاروا وقاتلوا ثم هزموا وظلت أجسادهم المصلوبة مصدر متعة ولذة لأحرار الرومان بعض الوقت أما الصلبان فلم تشبع أبدا منذ ذلك الحين؛ كان الرومان قد نقلوها عن مستعمراتهم ووجد من نقلها عنهم بعد ذلك. وخطر للطبيب أن الصلبان كانت متقاربة بلا شك كهذه الأعمدة، وأنه لا يزال هناك من يستمتعون بمنظر الدماء والصلب، ولا يزال هناك أيضا العبيد الذين يثورون ويقاتلون ويهزمون. مثل الرجال الذين جاءوه بهم عندما كان طبيبا في السجن، ووقفوا أمامه في سكون وقد تدلت رءوسهم وعروا صدورهم وظهورهم، فبدت جراحهم كأنما أنزلوا لتوهم من فوق الصلبان قبل أن تنهشهم الطيور الجارحة.
كانت الصلبان تسابق السيارة، تسرع إذا أسرعت، وتبطئ إذا أبطأت، والأسلاك التي تصل بينها تهتز بين الحين والآخر إذا هبت الرياح، لكن الهواء كان قد أصبح عزيزا. وتوهجت الشمس، وبدأ السائق يبطئ من سيارته قليلا. كان يجلس في هدوء دون أن يعبأ بشيء حوله، ولا بد أنه كان يحس بملل فظيع؛ فأي لذة في أن يظل رائحا غاديا في هذا الطريق الطويل الذي لا يتغير به منظر واحد. أعمدة التليفون هي هي، والصخور وأرقام الكيلومترات والاستراحتان الخاليتان وسيارة النقل التي أوقفها صاحبها على جانب الطريق ونام فوقها. وهذه الخيمة الوحيدة .. لم يكن بها من أثر للحياة، كأنما هجرها أصحابها فجأة لسبب ما، أو افترستهم الوحوش ولم تترك منهم شيئا. لكن شخصا ظهر فجأة على باب الخيمة عندما اقتربت السيارة منها، كان يرتدي ملابس الجنود وعلى رأسه بيريه أزاحه إلى الخلف، وظهرت قطرات عرق على وجهه وعنقه. وعندما فتح سترته بدت منها فانلة متسخة، وكان يحمل دفترا صغيرا في يده، وتقدم على مهل من السيارة التي توقفت تماما، واتجه إلى باب السائق وقد تقلصت ملامح وجهه في ضيق، وأدرك الطبيب أنها نقطة مرور. وعلى باب الخيمة ظهر جندي آخر يحمل بندقية في يده ولا يرتدي شيئا في قدميه، ووقف يتطلع إلى السيارة في غير مبالاة وعيناه تدوران بنوافذها تبحثان بلا شك عن وجه امرأة يرطب قليلا من جفاف الصحراء. وفكر الطبيب أنه لا يوجد أحد غير هذين الجنديين هنا، وحاول أن يتصور كيف يقضيان الوقت طول النهار وطول الليل، وكيف يحصلان على طعامهما. وخطر له أنهما لا بد يقاسيان الليل؛ فبرد الصحراء مثل حرها لا يطاق، ولا بد أنهما ينامان أيضا متجاورين، وربما شعر أحدهما بالبرد والوحدة ذات ليلة فالتصق بزميله؛ ففي الليل - عندما يشتد البرد وتعجز الأغطية القليلة عن مقاومته وعندما تبدو السماء هائلة صامتة وتعوي الذئاب والوحوش التي لم يرها أحد - عندئذ لا تعرف ماذا يمكن أن يحدث.
وكان الطبيب يستطيع أن يتتبع الشعور بالبرد والوحدة في أي إنسان، وربما كان السبب في ذلك أنه قضى شطرا كبيرا من حياته العملية في السجون؛ ففي تلك المباني القاتمة - الصفراء من الخارج المظلمة من الداخل - ترى كل شيء عاريا. وعندما كان السجناء يأتون إلى غرفته ليوقع عليهم الكشف كان يتأملهم في فضول، كانوا مساكين جدا، مرضى وعواجيز ومحطمين، لا تستطيع أن تميز بينهم بملابسهم الزرقاء المتشابهة ووجوههم اللامبالية، بعضهم مريض فعلا وقاسي كثيرا حتى وصل إليه والبعض الآخر يحشد كل ما أوتي من دهاء ليفوز منه بكوب من اللبن أو قطعة لحم أو بطانية، لكن الطبيب كان يرى الخوف والألم على وجوههم جميعا.
وفي البداية - عندما كان شابا مليئا بالحيوية وعندما كان كل شيء يبدو بسيطا واضحا كما كان الطريق يبدو هذا الصباح قبل أن يتلوى ويتعقد ويتموج كالثعبان - كان يظن أنه يستطيع أن يقهر الألم، لكنه كان واهما؛ فقد كان الألم كالسرطان تستأصله من مكان فيظهر على الفور في كل مكان آخر. وأصبح يستيقظ من نومه كل ليلة صارخا بعد حلم واحد لا يتغير، وفي هذا الحلم كان يرى نفسه جالسا إلى مائدة صغيرة وسماعته معلقة في رقبته وخلفه سجين يحمل إناء به سائل أحمر أدرك أنه دماء، وكان يغمس أصابعه في هذا الإناء بعد كل كشف، وعلى جانبيه يقف عملاقان كالحراس في ملابس التمريض البيضاء، وهو تحتهما ضئيل جدا، وأمامه صفوف من السجناء يقتعدون الأرض لكنهم لا ينظرون إليه؛ فبصرهم معلق بأحد العملاقين الذي يلوك شيئا بين أسنانه وقد شردت عيناه وتبدت ملامح وجهه غاضبة شرسة تنذر بأنه قد يعود إلى وعيه مزمجرا في أية لحظة. ويأتي المتعهد السمين باللبن - الذي يشربه مرضى السجن - كي يفحصه الطبيب، ويضع الرجل إناء اللبن أمامه ثم يصب فيه دلوا من مياه الغسيل القذرة، ثم يدخل آخر حاملا الذبيحة التي سيأكل منها السجناء، ويقربها منه ليفحصها، ويريه وهو يبتسم الأجزاء المهترئة المريضة ثم يحملها وينطلق إلى الداخل. أما هو فيلوح بيديه ويود أن يصرخ ويحتج ويرفض ويهدد، لكن الصوت يحتبس في حنجرته ويتخبط هناك ناشبا أظافره في سقف الحلق.
ولم يكن من الممكن أن يستمر هذا إلى الأبد؛ فقد كان شيئا يحطم الأعصاب.
وكانت أعصابه هادئة الآن، لكن معدته كانت قد بدأت تضطرب من أثر المطبات؛ فرغم أن الطريق مضى على شقه ورصفه أقل من عامين إلا أن الرصف أصيب بالتلف في أكثر من موضع. وفكر الطبيب أن شق الطريق لم يكن بالأمر الصعب؛ فقد كانت الصحراء منبسطة كالسهل إلا في مكان أو اثنين. وكانت السيارة تقترب الآن من أحد هذه الأماكن الوعرة، وهو شبه نفق وسط جبل تبدو عليه آثار عمل حديث؛ فلم يكن هناك شك في أن الأيدي والآلات هي التي شقت هذه النفق وسط الجبل، كان السفحان قريبين جدا بصخورهما الحمراء. وسارت السيارة ببطء في النفق، فاصطبغ الجو كله باللون الأحمر، وعاد السائق ينحني على المقود في توجس، وتطلع الركاب من النوافذ في رهبة إلى الصخور الضخمة المعلقة على السفح على بعد ذراع كأنها موشكة على السقوط بين لحظة وأخرى.
وكان الطبيب يتأمل السفح والقمة في فضول وترقب كأنه يتوقع أن تبرز رءوس ملونة تصرخ وتهجم عليهم كالجراد، وتمطرهم بالسهام المسممة كما يحدث في الأفلام، أو ينطلق الرصاص فجأة من كل مكان يصوبه أعداء مجهولون يتربصون. ولم يخطر للطبيب أنه يحلم أو يتخيل؛ فقد كان يعرف أن شيئا مثل هذا يحدث في الناحية الأخرى من الصحراء عبر البحر. وربما في هذه اللحظة بالذات كان هناك جبل مثل هذا الجبل، له صخور وتجاويف وكهوف يختفي فيها القتلة. وربما كان هناك جندي يجلس على حافته، ومن خلفه يتسلل عدة رجال أنصاف عراة يحملون الخناجر ولا يعرفون شيئا غير القتل، ويهجمون على الجندي في صمت وتنهال عليه الطعنات، ويتدحرج على التراب ودماؤه تترك خطا أحمر من خلفه، سرعان ما يتجمد ملتحما بالتراب ويتدحرج بسرعة، والغبار يرتفع فوقه حتى يستقر في القاع. وفي أعلى يستمر القتال الوحشي، ثم يتوقف بعد أن يتحقق النصر، ويبدأ التعمير، وتشق الطرق، وتبنى المصانع، وتقام دور السينما، وتؤلف أغاني الحب وتذاع من الراديو. ولن يسمعها الجندي القتيل، ولن يرى شيئا من هذا كله؛ فهو لن يبارح مكانه أبدا في الصحراء.
وفي الصحراء كان يركب السيارة متضجرا من الحر والملل، وكانت ساعته تقول إن السيارة قطعت نصف المسافة. وكان يفكر أنه كان يجب أن يحضر معه راديو صغيرا يتسلى به. وفي القاهرة كانوا يأكلون الجلاس ويشربون أكواب المانجو المثلجة ويتفرجون على التليفزيون. ومن جديد مروا بسيارة نقل انتحت جانبا من الطريق وتكوم سائقها على ظهرها وراح في النوم، وأمامه كان يجلس شابان أنيقان. وكان أحدهما يعتقد أن الطريق الذي يمتد أمامهما وسط الرمال يذكره بطريق الإسكندرية، وكان ذلك رأي الثاني أيضا الذي وقعت له حوادث عجيبة في ذلك الطريق عندما كان يعبره بسيارة صغيرة اسمها كيكي. وإلى جوار الطبيب انكمش راكب ضئيل الجسم فوق مقعده الذي يعلو غطاء عجلة السيارة وتضاءل في مكانه، وكان غارقا في التفكير كأنه يحسب حسبة حياته، ولا بد أن أفكاره لم تكن مشجعة. وليس هذا بغريب؛ فعندما يكون المرء وسط الصحراء والعرق يتصبب على وجهه والطريق أمامه لا تبدو له نهاية، وعضلات فخذيه تؤلمه، وأعصابه بدأت تئن، وهو يتقلب في مكانه بحثا عن ناحية يمكن أن يرتاح عليها - وأيضا عندما يكون قد تجاوز الأربعين - عندئذ لا يمكن أن تكون أفكاره وردية، وفي هذه اللحظة يتمثل له الموت نهاية لكل شيء.
وعند أي طبيب يكون الموت شيئا مألوفا، ولو أنه يبعث على التفكير أحيانا. وهذا ما حدث بالأمس؛ فعندما كان يتجول في أنحاء مستشفى الواحات وهو ضيق بالذباب والغبار، كان يفكر في أن الموت هو مصير كل منا، وأي مريض لا يضيره أن يموت اليوم قبل غد، ما دام ذلك سيحدث بالتأكيد في يوم ما. وكانت هذه الفكرة بسيطة ومغرية، وكان معناها أن ينهي هذه المهمة الثقيلة بسرعة ليلحق بحجرة المحافظة المكيفة الهواء.
وكان هذا أمرا سهلا. وفي الأعوام الأخيرة لم يكن بذي بال على الإطلاق؛ فيكفي أن تجعل داخلك باردا لا يهتز وألا تعبأ لكي يبدو كل شيء يسير ويمر ببساطة. كانت الأرض قذرة لم تفلح جرادل المياه التي صبت فوقها على عجل في إزالة قذارتها. وكان الممرضون يرتدون أردية بيضاء ناصعة، لكنه كان يعرف أنهم سيخلعونها عندما يوليهم ظهره. وكانت الملاءات تغطي الأسرة نظيفة، ولكنه كان يستطيع أن يتصور ما يختفي تحتها. لكن ذلك لم يكن بذي أهمية؛ فيكفي أن كل شيء يبدو على ما يرام وأنه يستطيع أن ينصرف على الفور.
وكان المرضى يرقدون فوق أسرتهم في ملابسهم المتماثلة التي تقارب لون وجوههم صفارا، وكانوا يتابعونه بنظراتهم، ولولا عيونهم هذه لخالهم جثثا خالية من الحياة، ومن نظراتهم أدرك أنه لا يجب أن يعطي أحدهم فرصة وإلا لما انتهى. ولهذا التزم جانب الممر الرئيسي وسط الأسرة وتحاشى أن تلتقي عيناه بأحد منهم، فكان يدير ظهره لهم، ويرفع عينيه إلى السقف، ويضع يديه في جيوبه، ويحني رأسه إلى الأمام ليتأمل شيئا ما على البلاط العاري. لكنه كان دائما يشعر بالعيون مسلطة عليه، قوية مسيطرة تشده رغما عنه، وتجبره على أن يتحول إليها ويواجهها مبهوتا. كانت فجوات واسعة غائرة لكن شيئا غريبا كان يتجمع في أعماقها، شيئا يشد ويأسر ويكبل، شيئا قديما مألوفا لا يمكن تجاهله. •••
استرخى الطبيب في مقعد السيارة، ومضى يتطلع من النافذة المواجهة التي جلس السائق أمام لوحها الأيسر. كان يعرف أن الثعبان يمتد من الخلف؛ فمن أمام لم يكن هناك شيء. ولم يكن يبدو من الطريق أكثر من عدة خطوات؛ فقد كانت الصحراء تخفيه في عناية ولا تكشف عنه إلا جزءا جزءا، وكان الطريق يصعد أحيانا فلا يرى منه إلا خطوة واحدة. ويضغط السائق على نفيره محذرا، وعندما يتلاشى المرتفع ينبسط الطريق خاليا تماما. ويوشك الطبيب أن يبتسم من الخدعة التي تتكرر دون توقف، وتجوز على السائق في كل مرة. أما من الخلف فقد كان الثعبان يلتوي بوضوح تاركا ذيله بعيدا بعد الواحة. أما الرأس فكان يزحف إلى الأمام بسرعة محمومة، يشرئب بعنقه في شوق ولهفة ليرى ماذا بعد، وتبدو الجبال فجأة وكأنها تسد الطريق. ويتساءل الطبيب لحظة أين سيمضي السائق وكيف سيفلت، لكن رأس الثعبان لا يلبث أن يشق طريقه بمعجزة في مكان ما بجوار الجبال.
كان الطريق خاليا إلا من المطبات. وكانت السيارة تنطلق بسرعة وخفة، وأرقام الكيلومترات تتتابع؛ فقد استطاع الطبيب أن يحل لغز هذه الأرقام ويعرف أيها يشير إلى ما تبقى من مسافة. وكانت المسافة الباقية على أسيوط لا تتجاوز الخمسين كيلو مترا، وران الصمت على السيارة، وأسند بعض الركاب رءوسهم إلى ظهور المقاعد المواجهة لهم واستغرقوا في النوم. وبلغ الضجر بالطبيب القمة؛ كانت عيناه مشدودتين إلى الأرض التي تتموج من النافذة، وعند كل انحناءة أو مرتفع كان يمني نفسه بأن تظهر بعدها منازل أسيوط ومبانيها، ولكنه يفاجأ برمال ومرتفعات جديدة. وبدا الطريق بلا نهاية، وازداد الكيلومتر طولا، وأصبح ينتهي بشق الأنفس، وظل رقم الأربعين ثابتا لفترة طويلة. وقرر الطبيب في النهاية أن يتجاهل هذه الأرقام ولا يتابعها ببصره وذهنه، وأن يفكر في شيء آخر يقطع به الوقت، وعندئذ ظهر الخط الداكن الطويل.
كان يمتد بعيدا في الأفق، ولكنه كان يقترب بسرعة. وفي البداية كان أشبه بسحابة كثيفة في السماء البعيدة، ثم ما لبث أن بدا أقرب إلى الأرض منه إلى السماء. واستدار الطبيب قليلا إلى الراكب الذي يجلس خلفه كأنما يسأله رأيه، وتبرع ذلك بالإجابة على الفور فقال وهو يتنهد في ارتياح: «أسيوط.»
كانت السيارة الآن لا تكاد تلمس الأرض. ومر به رقم الكيلومتر فوجده الثلاثين. وأخذ الخط الداكن يتضح لحظة بعد أخرى فيتحول لونه الغامض إلى خضرة كثيفة تقترب بسرعة، ورأس الثعبان يميل كل لحظة إلى اليمين واليسار مع دورات الطريق وهي تتجه إلى الخضرة في إصرار. وبدأ الركاب يفقدون استرخاءهم ويعتدلون في أماكنهم، متطلعين في اهتمام وارتياح إلى الحقول البعيدة. وكانت تلك هي اللحظة التي ظهرت فيها الألواح البيضاء الكبيرة التي صفت بشكل مائل بحذاء الحقول. وانحنى الطبيب إلى الأمام وهو يتابعها ببصره متسائلا عن أمرها. وتبين بعد لحظة مبان حجرية كبيرة كالمصاطب بعضها من عدة درجات مثل هرم سقارة المدرج، ولم يكن عددها كبيرا، وكانت متناسقة الأحجام متساوية الجوانب مصقولة الحواف، أو هكذا بدت من بعيد. وكان بعضها يحمل خطوطا وأشكالا ساذجة باللون الأحمر كتلك التي يرسمونها على بيوت الحجاج في القرى والأحياء الشعبية من المدن ويكتبون عليها بخط رديء: حج مبرور وذنب مغفور.
وتململ الطبيب في مكانه حائرا، وقال الراكب الذي يجلس خلفه وكأنما أدرك حيرته: «جبانة أسيوط.»
ارتسمت ابتسامة واهنة على شفتي الطبيب، وفكر أنه لم ير مثل هذه المقابر من قبل على كثرة ما زار من قرى ومدن. ودارت السيارة إلى اليسار، وقد تضاءلت سرعتها، وبدأت تعبر جسرا حديديا. وظهر الناس فجأة في كل ناحية وكأنما انشقت عنهم الأرض. وأخذ الفلاحون يتطلعون إلى السيارة وركابها في دهشة كدأبهم دائما. وسار ثلاثة طلبة صغار السن في نشاط على جانب الجسر وقد شمروا أكمامهم وضغطوا على كتبهم، وتابعهم الطبيب في أسى. وعبرت السيارة الجسر وتحولت إلى شارع عريض تظلله الأشجار، وانسابت مياه النيل على اليمين عميقة رحبة. لم تكن الرحلة قد انتهت؛ فلا زالت هناك بضعة كيلومترات على المدينة، لكن الطريق الثعباني كان قد اختفى. وعندما استدار الطبيب إلى الخلف ليتأمله لم يعثر له على أثر؛ فقد كان إذ ذاك مدفونا في رمال الصحراء. وبالمثل لم يتبين المقابر الغريبة؛ فقد كانت أشجار الكافور الضخمة العالية تحجب كل شيء خلفها، وكانت صفوف من هذه الأشجار قد شرعت تجري مع السيارة وتسابقها.
سجن المحاريق
بالواحات الخارجة
1963م
أرسين لوبين
اقتربت من الدكان في تردد. وعندما أصبحت أمام الباب اختلست النظر إلى الداخل فوجدت ما كنت أتوقعه. كان الرجل ممددا على مقعد قديم وقد كشف جلبابه عن عظمة ساقه المنتفخة، وكان يتنفس بصوت مرتفع.
وقفت عند الباب لا أدري ماذا أفعل. وأمامي إلى اليسار كان الرفان الصغيران اللذان كنت أحلم بهما طوال الأيام الماضية، وفوقهما عشرات من روايات الجيب الرفيعة، بل مئات. كان بيني وبينهما خطوة أو خطوتان. لكن الرجل كان نائما، رغم أننا لا زلنا في الصباح. وكنت أخاف أن يستيقظ فجأة ويراني، وفي نفس الوقت لم أكن أستطيع الانصراف؛ لم أكن أستطيع أن أتصور نفسي طول اليوم بدون رواية، وخطوت إلى الداخل.
ناديته وأنا أضع يدي في رفق على ساقه المنبعجة، وتوقف صوت تنفسه على الفور، واهتز جسمه قليلا، ثم انفرجت عينه اليسرى عن دائرة حمراء، وانفرجت شفتاه عن زمجرة.
قلت له وأنا أشير بإصبعي إلى الروايات: «حادور على رواية.»
انطلقت زمجرة ثانية من فمه، وخيل لي أنه سينقض علي ويحطمني، لكنه اعتدل جالسا وهو يتنهد، وجعل يمسح رقبته بمنديل متسخ، وتطلعت عيناه الحمراوان إلي بكل سعتهما، فابتعدت عنه. وعندما ظل صامتا، اتجهت إلى الرفين في بطء ووقفت أمامهما أقلب في الروايات.
كانت الروايات قديمة، اختفت أغلفتها، واسمرت صفحاتها وتمزقت. وكان التراب يتصاعد منها ممزوجا برائحة غريبة كانت تأتي من كل شيء في الدكان، وكنت أحب هذه الرائحة.
استعرضت المجموعة في سرعة مكتفيا بالنظر إلى الصفحة الأولى بحثا عن سطر من كلمات صغيرة أسفل العنوان. وانتهيت من الصف الأول دون أن أعثر على بغيتي، وشعرت بالضيق، وبدأ العرق يتصبب على وجهي. واختلست النظر إلى الرجل وأنا أخشى أن يزمجر أو ينفجر في، لكنه كان ينظر إلي بعينيه الحمراوين في صمت، وقال فجأة: «ما فيش أرسين لوبين .»
توقفت يداي. كان لا يزال أمامي رف بأكمله، وخيل إلي أنه يود التخلص مني، فقررت أن أستأنف البحث، وواصلت التدوير بسرعة فائقة، لكني لم أجد رواية واحدة لأرسين لوبين. وغالبت شعور الضيق الذي تملكني، وعدت أقلب الروايات من جديد على مهل. كنت أريد الآن أي رواية بوليسية عادية.
زهرة الموت قرأتها. الجريمة الكاملة أحضرها أبي إلى البيت من قبل، اللغز الصيني. كانت أول رواية لأرسين لوبين أقرؤها، العيون الثلاثة لموريس لبلان، نفس مؤلف أرسين لوبين لكنها ليست عنه، وأخذت فيها مقلبا من قبل. لو تكون هناك رواية لأرسين لوبين فاتت علي في البحث الأول. إعدام في الفجر، تبدو كمأساة وأنا لا أحب الروايات المفجعة. الحب العظيم، ولا أحب الروايات الغرامية أيضا. مدرسة الأسرار، لا يبدو موضوعها من صورة الغلاف. قناع الموت، لغز الألغاز. قرأت كل هذا. الحطام، منظرها واسمها لا يشجعان. أنزلت يدي في يأس. كان ساعدي قد بدأ يؤلمني، وبدا كأني لن أخرج بشيء من هذه المرة. وزمجر الرجل من خلفي: «هو أنت موش عاجباك حاجة من كل دول؟»
أجبت بسرعة وأنا أستأنف البحث: «لا .. خلاص .. أهوه.»
جريمة بين السحاب، قرأتها من قبل ولا بأس من أخذها مرة ثانية لو لم أعثر على شيء، ووضعتها جانبا. الرسائل المجهولة، قرأتها. هذه الرواية التي اسمها مدرسة الأسرار، لنجربها، ربما تكون مفاجئة. المرشد، الأخوات البيض، خبزنا اليومي، يوجيني جرانديه، عناوين لا معنى لها ويمكن أن تكون كل منها مقلبا، والأكيد أنها ليست بوليسية. لا يوجد أي شيء لشرلوك هولمز أو حتى شارلي شان الصيني رغم ثقل دمه. كل الروايات صغيرة الحجم، لو أجد واحدة من الروايات الكبيرة القديمة. لو أقع صدفة على الرواية التي كانت في بيتنا وأنا صغير جدا وللأسف لم أقرأها؛ لأن ما قرأته منها كان كافيا لإلقاء الرعب في صدري وجعلني أمزقها لأتخلص منها. ولا زلت أذكر منها كلاما عن شاطئ وقصر مهجور تقع به جريمة وناس تجري في الظلام وتتهامس. وهناك أيضا رواية العين الحمراء، ثم الرواية التي كان أبي يقرأ فيها دائما.
ودوى صوت مفاجئ، قريب مني بل فوق رأسي تماما: «إوعى .. ما فيش روايات .. مش حنبيع روايات.»
كان الرجل قد انتفض من مقعده غاضبا وخطف مني الروايات التي كنت أحتفظ بها في يدي لأختار منها في النهاية عندما أفشل في الحصول على واحدة حلوة، وتطلعت حولي في يأس. كل هذا البحث وأعود بلا شيء. ولمحت كتابا ذا غلاف أسود سميك ملقى على مقربة، فتناولته بسرعة وفتحته، كان ورقه أصفر خشنا وطباعته رديئة، وحسبته من الكتب القديمة التي لا شأن لها بالروايات، ولم يكن له عنوان أو بداية، وقلبت صفحاته بسرعة، ثم أدركت أنه من القصص البوليسية القديمة، وقلت في لهفة: «خلاص. حاخده ده».
لكنه خطف الكتاب من يدي ودفعني في جنبي وهو يزعق: «ما عندناش روايات، مش حنبيع روايات.»
ابتعدت في أسى، ولم يكن أمامي وقت لأذهب إلى دكان آخر، وكان يجب أن أعود على الفور؛ فلم يكن أبي يعرف أني خرجت.
وعندما دخلت الحارة سرت بجوار جدار البيوت محاذرا كي لا يراني أبي لو كان يقف في البلكونة، وصعدت السلم جريا حتى لهثت وعرقت، ووجدت باب الشقة مواربا كما تركته، فتسللت داخلا وأنا أتنصت لأحدد مكان أبي، وأحسست أنه في غرفة النوم، فاتجهت إليها. ورأيته متربعا على السرير وأمامه المائدة الخشبية، وقد وضع فوقها علبة الحلاقة التي كانت في الأصل صندوقا للسجاير من الكرتون، وأسند المرآة إلى كوب من الزجاج ملئ بالماء، وكان يسن الموسى على راحة يده.
راقبت الموسى وهو يروح ويجيء فوق لحم كفه المتين في بطء وثبات، أدركت أنه سيخرج. ولم يبد عليه أنه أحس بغيابي، فجلست على مقعد خشبي بغير مسند في الركن، وجعلت أرقبه وهو يضع الصابون على ذقنه ويمر عليها بالمكنة ثم ينحني إلى الأمام ليرى وجهه في المرآة، وعندما انتهى دعك ذقنه بقطعة من الشبة، فبدت ناعمة منتعشة، وأردت أن ألمسها بإصبعي.
التفت إلي فجأة قائلا: «البس هدومك عشان تخرج معايا.»
كان الخروج معه أحسن من عشر روايات ، وربما سنحت الفرصة في الطريق لشراء رواية.
وقبل أن تنتبه أختي للأمر، فتبكي وتصرخ وتصر على الخروج معنا، ضحك عليها أبي بأن قال لها إنه سيتركها تلعب طوال اليوم في شقة أم زكية المجاورة لنا.
ارتدى أبي ملابسه، ومسح طربوشه بكم سترته وأحكم وضعه فوق رأسه، ثم طوى طرفي شاربه الأبيض داخل فتحتي أنفه. وغادرنا الشقة وأغلقنا بابها وراءنا، وانطلقنا إلى الشارع، ولاحظت أننا نتجه إلى محطة الترام.
سألته: «إحنا رايحين فين؟»
فأجاب: «الوقت تعرف.»
ركبنا الترام، وقطعنا مسافة طويلة ثم هبطنا أمام مبنى كبير مسور ومزدحم بالناس عند بابه وفي فنائه.
قال أبي: «دي المحكمة.»
دخلنا إلى الفناء، وقال أبي: «الوقت إحنا حنخش جوه، وحنلاقي مامتك قاعدة مع أمها.»
دهشت: «ماما؟» - «أيوه. تروح تسلم عليها وتشوف حتقولك إيه.» - «وانت مش جاي؟» - «لا، حستناك بره في الطرقة.»
وقادني أبي إلى ردهة كبيرة مظلمة، ومررنا بباب على اليمين فدفعني ناحيته وهو يقول: «أهي هناك أهيه.» وبالفعل رأيتها.
كانت تجلس ساكنة بجوار جدتي. وكانت الأخيرة أول من أبصرتني، فتطلعت خلفي في اهتمام، ثم ارتسمت على شفتيها ابتسامة غريبة لم أسترح لها، وجعلت تنظر إلي في جمود، وكان وجهها محاطا بطرحة بيضاء باهتة.
اقتربت منها وأنا أنظر إلى أمي. كانت ترتدي معطفا من الحرير الأسود وحول رأسها «بيشة». ولاحظت شعرها الأسود الطويل، وخيل إلي أنها ازدادت طولا وعرضا عن آخر مرة رأيتها.
ورأتني أمي، لكن لم يبد عليها أنها عرفتني. وفجأة خاطبتني في هدوء كأنني لم أفترق عنها أبدا: «إزيك.»
لكنها لم تطلب مني أن أجلس بجوارها، وانصرفت عني تتأمل ما يجري في القاعة. وقفت حائرا لا أدري ماذا أفعل. وحانت مني نظرة إلى الردهة الخارجية، فوجدت أبي يستدير برأسه ناحيتي وهو يتمشى واضعا يديه خلف ظهره، وأبصرت مكانا خاليا بجوار أمي فجلست فيه.
كنا في آخر القاعة، ولم تكن مزدحمة، وكانت بها دكك مستطيلة في نهايتها منصة مرتفعة جلس إليها القاضي، وإلى يساره وقف شيخ بقفطان وعمة ونظارة وسيدة بملاءة لف، وكانوا يتناقشون.
كانت هذه أول مرة أرى فيها محكمة. واستغربت؛ فلم يكن هناك شيء مما كنت أتصوره، لا مرافعات ملتهبة، وقاعة مزدحمة، وقاض يرتدي وشاحا ملونا، ومحام يلوح بيديه ويرن صوته في أنحاء القاعة.
نهضت جدتي فجأة ومضت إلى رجل بعمة فتحدثت معه قليلا. والتفت إلى اليسار فرأيت أبي يتكلم مع بعض الناس. واختلست نظرة إلى أمي فوجدتها كما هي تتطلع أمامها بغير اكتراث.
وذهبت جدتي إلى أقصى القاعة وتحدثت قليلا مع القاضي.
ولاحظت أن أبي يشير إلي من بعيد، فقمت واقفا، ولم أدر ماذا أقول لأمي، ولم تنظر هي ناحيتي، فمشيت دون أن أقول لها شيئا. وقال لي أبي: «هيه .. قالت لك إيه؟» - «ما فيش، قالت لي إزيك.»
اتجه أبي إلى الباب وأنا معه، وسرنا في الشارع، وكان ضيقا وعلى جانبيه دكاكين قديمة، وكان أبي يدخن. ولمحت دكانا به بعض الكتب، وجذبت أبي من يده وقلت له وأنا أستعد لخوض معركة: «بابا .. تعالى نسأل على روايات».
لم يعارض أبي، وصحبني إلى الدكان وسأل صاحبه: «عندك روايات يا عم؟» قدم لنا الرجل خمس روايات وجدت أني قرأتها جميعا عدا واحدة. وكدت أقفز من الفرح، أرسين لوبين في قاع البحر. وكانت الرواية جديدة ذات غلاف ملون ناعم يلمع. أخذت الرواية ودفع أبي ثمنها وخرجنا إلى الشارع الرئيسي.
وكنت أتمنى الآن أن نعود بأقصى سرعة.
ركبنا الترام، ووضعت الرواية على ساقي مخفيا غلافها الأمامي، وجعلت أتأمل الغلاف الخلفي. كان أبيض مصقولا، ويحمل إعلانا عن الرواية التالية. وطوح الهواء بالغلاف فظهرت الصفحة الأخيرة وفي نهايتها كلمة لذيذة كبيرة: «تمت». وقاومت حتى لا أقرأ آخر سطور الرواية، فأدرتها إلى وجهها الأمامي. طالعني مسدس كبير وخلفه وجه رجل يرتدي قبعة، لا بد أنه أرسين لوبين شخصيا. كان الاسم الساحر مكتوبا بحروف صغيرة أسفل العنوان، وقرأته وأنا أكاد أطير من السعادة.
سجن المحاريق
بالواحات الخارجة
1963م
بعد الظهر عبر ثلاثة أسرة
كان جائعا، والمنبه الموضوع فوق جهاز التليفزيون يشير إلى الثانية، وما زالت هناك ثلث ساعة على موعد سيد، وعندئذ يبدءون جميعا الأكل.
ومال برأسه قليلا ينصت إلى حركتها في المطبخ. كان يعرف أنها تنتقل الآن بنشاط، رغم أعوامها الخمسة والستين، بين الحوض والبوتاجاز والمائدة ذات الغطاء الصاج، وأن كل شيء حولها متناثر في فوضى بالغة.
وعندما توشك على الانتهاء ستصيح به من المطبخ: «ألم يحن موعد عودة سيد بعد؟»
فينظر إلى المنبه ويدقق النظر من خلف عويناته السميكة ثم يجيب: «لا بد أنه في الطريق الآن.»
وفي موضعه الذي اختاره من السرير، كان بوسعه أن يرى باب الشقة عندما يدير سيد المفتاح فيه، وبنفس الحركة يدفعه ويخطو إلى الداخل قائلا: «السلام عليكم.»
وبالرغم من أن زوجته لم تكف عن الشكوى من أن موضعه هذا يجعله عرضة لتيارات الهواء، إلا أنه ظل متمسكا به منذ أصبح المرض المتكرر يلزمه الفراش، كي يكون على مقربة من «الأحداث» على حد قوله؛ فقد كانت الغرفة تضم ثلاثة أسرة؛ اثنان منها يحصران باب البلكونة بينهما، والثالث يصنع مع أحدهما خطا مستقيما، وعندما يستلقي فوقه يواجه البلكونة، وإذا استدار وجلس بعرض السرير مسندا ظهره إلى الحائط - كما هي عادته - أصبح باب الغرفة في مواجهته، وبعده الصالة ثم باب الشقة.
ولهذا السبب كان باب البلكونة يظل مغلقا دائما بالليل والنهار، وبالصيف والشتاء، حتى إن من يزورهم - وخاصة ابنتهما فادية - كان يشتكي من أن رائحة الشقة لا تطاق.
وطبقا للمنبه لا بد أن يكون سيد الآن على رأس الشارع، يتقدم بخطواته الطويلة المتمهلة وصحيفة اليوم مطوية تحت إبطه. وعندما يصل إلى بائع الخبز سيتوقف عنده ليشتري عشرة أرغفة يلفها بالصحيفة، ثم يواصل السير إلى الجمعية التعاونية ليرى ما بها من بضاعة جديدة، ولو حالفه الحظ.
مصمص بشفتيه متمنيا أن يحضر سيد معه شيئا من البلح «الأمهات» الذي يتميز، فضلا عن رخص ثمنه، بسهولة مضغه وابتلاعه وحلاوة طعمه إذا ما غمس بالطحينة البيضاء. ولم تكن هذه متوفرة في السوق الآن.
هز رأسه في حركة من لوازمه، ومد أصابعه تحت الفانلة وجعل يدعك صدره بقوة ليفرك القذارة التي تكومت عليه؛ فبسبب مرضه كان معفيا من الاستحمام، وهي عملية لم يكن يستسيغها منذ صغره لا كرها في النظافة وإنما بدافع الكسل. وبهذا الدافع كان وهو صغير ينام بملابس الخروج، كي يختصر الوقت لارتدائها في الصباح قبل الذهاب إلى المدرسة. وهي عادة اضطر أن يقلع عنها عندما أخذ الابتدائية والتحق بالوزارة.
شبك يديه على بطنه، وتطلع مرة أخرى إلى المنبه. بعد عشر دقائق يحين موعد نشرة الأخبار. ولا بد أن يأتي سيد قبل ذلك ليدير الراديو الموضوع في الصالة.
ومن المطبخ أتاه صوت طشيش التقلية قبل أن يشم رائحتها. واعتدل في مكانه وهو يطرف بعينيه خلف النظارة السميكة كي لا يفوته باب الشقة عندما فتح ودخل سيد.
وارتفع صوت الأم من المطبخ: «سيد؟ جئت يا حبيبي؟»
عبر سيد الصالة بعد أن أغلق الباب من ورائه، ووضع الخبز على مائدة الطعام، ثم اتجه إلى الغرفة التي جلس أبوه في صدرها وهو يقول في صوت مرتفع حتى يبلغ أمه في نفس الوقت: «السلام عليكم.»
كتم العجوز خيبة أمله عندما تبين أن سيد لم يحضر معه شيئا من الفاكهة، ومد يده فتناول منه الصحيفة قائلا: «ما هي الأخبار؟»
مط سيد شفتيه وهو يجلس بجوار أبيه على حافة الفراش، ويمد يده ليفك رباط حذائه: «لا شيء.»
ثم: «فقط بلاغ عسكري.»
ودب النشاط فجأة في العجوز إلى أن أضاف سيد: «عشر دقائق من النيران المتبادلة.»
قال العجوز مكافحا خيبة أمله: «لكن الحرب ستقع.»
حمل سيد حذاءه في يده ومضى يبحث حوله عن شبشب، وعندما لم يجد صاح: «ماما .. أين الشبشب؟»
ففي الثانية والأربعين كان سيد ما زال عاجزا عن تحديد المكان الذي يترك فيه أشياءه المختلفة قبل أن يغادر المنزل في الصباح.
وردت الأم من المطبخ: «عندك يا حبيبي. في نفس المكان الذي تركته فيه.»
وقال العجوز وهو يبسط الجريدة ويتأمل العناوين الكبيرة: «ربما كان في حجرتك.»
مضى سيد حافيا إلى حجرته ووجد الشبشب بجوار الباب. أكمل خلع ملابسه أمام مرآة الدولاب الكبيرة التي أظهرت وجهه معوجا كالعهد بها دائما. لكن نعومة بشرته وخلو ذقنه من أثر لشعرة واحدة كان واضحا على سطحها. ولولا قليل من الشحوب لأخطأه الرائي - وهو ما كان يحدث كثيرا - وظنه في العشرين.
جذب مصراع الدولاب ليعلق ملابسه في الشماعة، ثم تناول بيجامته التي ألقى بها على مقعد الصباح دون أن يطويها، وجعل يرتديها.
كان يستخدم هذه الحجرة في تغيير ملابسه وحسب؛ فهو يقضي الوقت كله في الغرفة الأخرى. وعندما مرضت الأم زمنا طويلا شرع ينام في الفراش الثالث بمواجهتها، وهو الفراش الذي كان خاصا بأخته فادية قبل أن تتزوج. ولم تكد تشفى حتى مرض الأب، فظل سيد ينام في فراش أخته، وفي النهاية استقر في فراشها بصفة دائمة.
أتاه صوت أمه من المطبخ بعد أن فرغ من ارتداء بيجامته: «سيد، الصحون يا حبيبي.»
تحول إلى جهاز الراديو القديم وأداره، وانتظر حتى صدر عنه صوت متقطع أشبه بسعال رجل عجوز، واطمأن معه إلى أن الراديو ليس معطلا، فمضى إلى المطبخ.
كانت أمه منحنية فوق إناء الطعام المستقر فوق الموقد، وقد تجمعت بضع حبات من العرق فوق شاربها الواضح. تحولت إليه وسألته: «هل أحضرت السمن؟»
أجاب: «كان الزحام شديدا على باب الجمعية ولم أستطع الدخول.» وجعل يجمع الصحون من المطبقية، ثم حملها إلى غرفة أبيه.
كانوا فيما مضى يأكلون في الصالة عادة، لكنهم في الآونة الأخيرة أصبحوا يأكلون - بسبب المرض - في نفس الغرفة التي ينامون فيها، على مائدة صغيرة استقر التليفزيون فوق طرفها. ولم تعد مائدة الصالة تستخدم إلا في وجود الضيوف؛ الأمر الذي صار نادرا.
وبعد أن أحضر سيد الملاحة والملاعق والسكاكين، ظهرت الأم بظهرها المنحني قليلا وجسدها المترهل المهتز، وكانت تحمل آنية كبيرة من البطاطس المطهية بالطماطم، وضعتها وسط المائدة. وذهب سيد إلى المطبخ ثم عاد بطبق امتلأ بالأرز.
تشمم الأب بأنفه وهو يغادر فراشه بصعوبة ويأخذ مكانه إلى المائدة. وبدا بالمقارنة مع صورته المعلقة على الجدار كما لو كان قد انكمش إلى النصف.
قال: «كوب ماء لدوائي يا سيد.»
لم تكن به حاجة إلى السؤال لأن سيد - بحكم العادة - كان في طريقه لإحضار كوبين لا كوب واحد؛ فقد كان كل من الأب والأم يتناول عديدا من الأدوية قبل الأكل وبعده وفي أثنائه.
ملأت الأم طبقا كبيرا من الأرز والبطاطس أضافت إليهما السلاطة وقدمته إلى زوجها، وهي تلهث في انفعال من أنجز عملا تاريخيا. وقلب هو الخليط بملعقته ثم أقبل عليه بشهية بالغة، وقد نسي أمر نشرة الأخبار التي كان المذيع يقرؤها في صوت رصين. وملأت الأم لنفسها طبقا مماثلا بعد أن ابتلعت دواءها. أما سيد فقد بدأ بالبطاطس وحدها، ولم يعد هناك من صوت غير أفواههم وهي تمضغ الطعام يقطعها لهاث الأم بين الحين والآخر.
سأل سيد: «ألم تتكلم فادية؟»
أجابت: «أبدا.» ومنعها انهماكها في الطعام من الاسترسال، فاكتفت بأن تضيف: «ربما تكلمت بعد الظهر.»
كان السؤال وإجابته يترددان يوميا في نفس الوقت منذ خمسة عشر يوما؛ ففي ذلك التاريخ أنجبت فادية أول طفل لها. ولأن الأم أقسمت قبل ذلك بشهر ألا تضع قدمها في منزل ابنتها، كما أقسم زوج الابنة بدوره أن يكسرها لها إن فعلت، فالنتيجة أن أحدا من الأب أو الأم أو سيد لم يقم بزيارة فادية عند الولادة أو في أعقابها؛ الأمر الذي حدا بالزوج أن يقسم من جديد بطلاق زوجته إن ذهبت بالطفل إلى أهلها.
لكن الأم والابنة ظلتا على اتصال بالتليفون، وكثيرا ما كانت الأخيرة تضع سماعته بجوار فم الطفل لتسمع الجدة صراخه أو غمغمته، وإن كان في معظم الحالات لا يصدر صوتا على الإطلاق.
انتهى الأب من طبقه، فملأت له الأم طبقا آخر أقبل عليه بنفس الشهية. وانتهزت الأم لحظة تستريح فيها من الأكل لتسأله: «أعجبك الأكل يا بابا؟»
فمنذ زواجهما قبل أكثر من أربعين عاما وهما يخاطبان بعضهما ب «بابا» و«ماما».
قال الأب خلال فمه الممتلئ: «تسلم يدك.» وتساقطت بعض حبات من الأرز على صدر بيجامته.
تحولت الأم إلى سيد الذي كان يأكل بشهية لا تقل عن شهية أبيه: «ألم تعرف بعد متى سيجري التحقيق معك؟»
أحاب: «لا.» عادت تقول: «أما كان بوسع رئيس القسم أن ينهي الأمر بنفسه دون حاجة إلى تحقيق أو خلافه؟»
هز سيد كتفه ولم يجب.
وتساءل الأب وهو يضع ملعقة كبيرة من خليط الأرز والبطاطس والسلاطة في فمه: «أكان من الضروري أن تغير الكون؟»
وهو تعليق كان مفاجأة لسيد؛ لأنه كان بادرة بحدوث تغيير في موقف أبيه؛ فحتى الآن كان يعتقد أن الأب والأم في صفه كدأبهما دائما. ألم يكونا هما الوحيدان بين الناس اللذان يرمقانه بنظرات الإعجاب عندما يعلن عليهما - مثلا - ما يكتشفه من أخطاء لغوية ونحوية في الصحف بينما لا يواجه في المؤسسة عند ذلك بغير نظرات الملل والسخرية وخصوصا من سليمان؟
فضلا عن أنه لم يرغب في تغيير الكون أو أي شيء. كل ما في الأمر أنه أراد أن يعيد الأمور إلى نصابها الحقيقي.
وإلا فما الحكمة في أن تؤرخ مؤسسة عربية في بلد عربي رسائلها إلى مؤسسات عربية أخرى بالأرقام بدلا من الحروف؟
قالت الأم وهي تتطلع إليه بفخر: «لكن الحق مع سيد.»
قال الأب الذي اهتز إيمانه بابنه في ضوء التحقيق المنتظر: «ماذا سنكسب من كتابة التاريخ بالحروف؟»
انحنى سيد برأسه فوق الطبق وهو يفكر في الأمر قانطا. أليست هناك موسيقى تستريح لها الأذن المدربة في جملة مثل هذه: تحريرا في الثالث من نوفمبر سنة ألف وتسعمائة وتسع وستين؟ أو .. الرابع من ديسمبر عام ألف وتسعمائة وثمانية وستين؟ إن تسعين في المائة من الناس اليوم لن ينتبهوا إلى الفرق بين الجملتين الذي أحدثه استبدال كلمة «سنة» ب «عام». وهل هم كثيرون الذين يستطيعون تبين أي الصيغ هي الصحيحة عند كتابة عام 1912 مثلا بالحروف؛ اثنتي عشر أم اثني عشر أم اثني عشرة؟
لو لم يعترض سليمان ويرفع الأمر إلى رئيس القسم لما وقعت مشكلة؛ فمثل أمور كثيرة تحدث كل يوم كان يمكن للتغيير الذي أجراه سيد على كتابة تاريخ الرسائل أن يمر دون أن يلحظه أحد. لكن سليمان - ذلك الذي ليس له من حديث يومي غير غزواته النسائية - شاء أن يجعل من هذه القضية مجالا لاستعراض مواهبه في الكلام المعسول ، فماذا تفعل المؤسسة عندما تكتب إلى مؤسسات غيرها في بلدان عربية أخرى تستخدم أسماء أخرى للشهور؟ هل تحرر الرسائل باسمين للشهر وأحيانا ثلاثة؟
ولم يعدم سيد دفاعا عن فكرته يقدمه إلى رئيس القسم؛ فالأرقام دائما معرضة للخطأ ولهذا تكتب الشيكات مثلا بالأرقام والحروف، ثم هناك الحجة الأصلية وهي أن الأرقام بصورتها المتداولة دخيلة على اللغة العربية ولا تستخدم في بعض البلدان العربية. ولو كان رئيس القسم شخصا آخر أكثر جدية لانتهى الأمر بقبول اقتراحه ولما حدث ما حدث.
أفرغ الأب طبقه وترك الملعقة تتدحرج به، ثم تراجع إلى الوراء واضعا يده على بطنه.
لم يكن طبق الطعام الممتلئ يستغرق منه غير دقائق معدودة؛ لأنه لم يكن يمضغ شيئا منذ فقد أسنانه كلها من عهد بعيد.
سألته زوجته: «هل أضع لك المزيد؟»
أجاب: «الحمد لله، شبعت.» وتناول حبتين من دواء ما بعد الأكل ابتلعهما بما تبقى في الكوب من ماء، ثم قام من مقعده واتجه إلى السرير، فاستلقى على ظهره شابكا يديه فوق صدره.
استولى عليه الخمول وشعر برغبة قوية في النوم. وفي شبه إغفاءة تابع زوجته وابنه وهما يرفعان بقايا الطعام ويهرعان إلى فراشيهما فيرقدان جاعلين رأسيهما عند قدميه. وأصبح الثلاثة مثلثا بست عيون تتطلع في اتجاه واحد هو باب البلكونة.
وفي الماضي كانت غفوة ما بعد الغداء تستمر طويلا يقوم بعدها نشطا منتعشا، لكنها في السنوات الأخيرة أصبحت قصيرة للغاية؛ فما يلبث أن يفيق ويظل ممددا يتطلع إلى السقف دون أن يتبين تفاصيله. بينما تتراجع الشمس في الخارج في طريقها للاختفاء النهائي ويتناقص الضوء تدريجيا بالغرفة. ويهب برأسه بين الحين والآخر ويدقق النظر من خلف عويناته السميكة إلى الفراشين الآخرين. وغالبا ما تكون الأم قد أفاقت هي الأخرى. والذي يحدث أن يبدأ أحدهما الحديث عبر الفراشين في الوقت الذي يكون الآخر قد استيقظ لتوه بالفعل.
ويبدأ هذا الحديث عادة بأن يذكر أحدهما - وهو الأب في الغالب - أن فلانا من الأقارب لم يزرهم منذ مدة. وهو يذكر هذه الحقيقة بصوت تقريري لا يوحي بأي شيء في الظاهر؛ عندئذ يقوم الآخر - الأم عادة - بعملية حسابية سريعة لآخر مرة زارهم فيها هذا القريب.
وعندئذ يقول الأب متظاهرا بعدم المبالاة: «لعله مشغول في شيء أو مريض، أو أحدا من عائلته .. من يعلم؟»
فترد الأم على الفور بأن هذا القريب شوهد عند فلان في الأسبوع الماضي؛ فدون أن تغادر المنزل كانت على بينة - بواسطة التليفون - بكل ما يحدث في عالمها الصغير.
وتكون هذه الإجابة التي ينتظرها، فيتنهد. وهنا يتفرع الحديث في أحد اتجاهين؛ إما عرض كافة المعلومات المتوفرة عن الحياة الشخصية لهذا القريب، أو تعداد الأقارب والمعارف الآخرين الذين لم يقوموا هم أيضا بواجب الزيارة منذ مدة.
لكن الحديث اتخذ اليوم مسارا آخر بسبب ما أعلنته فادية في التليفون أمس من أن زوجها حصل على عقد للعمل في الكويت، وأنهما سيسافران في أقرب وقت تسمح به صحة الطفل.
فقال الأب في صوته التقريري المحايد: «سأموت دون أن أرى الولد.»
وردت عليه زوجته على الفور: «بعد الشر. لا تقل هذا.»
ثم: «ربنا ينتقم من الذي كان السبب.» دون أن تدرك أنها بذلك لا تعرض غير نفسها للانتقام الإلهي.
فقد كان هناك جانب كبير من الصحة فيما قاله الأب بعد لحظة: «لولا غرامك بأبيه ما أعطيناه فادية.»
وهو اتهام لم تعد تنكره، وإنما تجيب عليه كما أجابت الآن: «غار هو وأبوه.» وهذا لا يمنع أنها كانت في يوم من الأيام مغرمة بأبي زوج ابنتها الذي يمت إليهم بصلة القربى. وهو ما اكتشفه الأب في حينه ذات ليلة في الفراش، عندما صرخت في لحظة من لحظات النشوة باسم القريب بدلا من اسمه هو، كما كان المفروض.
وللمرة المائة تساءل: «ترى من يشبه؟»
وللمرة المائة أيضا أجابت: «أدعو الله ألا يشبه أباه في شيء.»
ثم تذكرت: «هل أعد لك فنجان قهوة يا بابا؟»
تساءل بابا دون أن يحول عينيه عن السقف: «ألم يستيقظ سيد بعد؟»
فسيد هو الوحيد الذي يستفيد من إغفاءة بعد الظهر أتم الفائدة؛ فهو ينام نوما عميقا لساعة أو تزيد. وبقيامه من النوم يبدأ برنامج المساء بشرب القهوة، وهي عادة لم تنقطع منذ أخذ الليسانس والتحق بالشركة التي تحولت أخيرا إلى مؤسسة حكومية.
ويختار سيد هذه اللحظة ليتقلب في فراشه، ويبسط ساقيه على سعتهما، ثم يفتح عينيه ويطوح بذراعيه متثائبا في عمق، وعندئذ يردد الأب والأم في نفس واحد: «صح النوم يا حبيبي.»
فيغمغم سيد ب «صح بدنك» موجهة إلى كليهما.
وتسأله الأم: «هل نمت جيدا؟»
فيجيب: «لا بأس.»
وفي اللحظة التي انتبه فيها سيد من النوم تمثلت له على الفور غرفة رئيس القسم عندما هب واقفا محتقن الوجه ليعلن في صوت حاسم: «لا بد من إجراء تحقيق.»
لكن رئيس القسم هو الذي كان مسئولا عن كل ما جرى؛ فما كان له أن يعلن في استهانة أن مشكلة التاريخ بسيطة للغاية لا تحتاج لكل هذا النقاش؛ إذ انتفض سيد عند ذلك - ربما لأول مرة في حياته الوظيفية - مؤكدا أن أمورا كثيرة تتوقف على هذه القضية البسيطة، وأنها على أية حال محاولة لمحاربة الجهل والتواكل. وهي إشارة اعتبرها سليمان إهانة له، فرد معرضا بذقن سيد التي لم ينبت لها شعر حتى الآن. هكذا رفع سيد يده - لأول مرة في حياته بالتأكيد - وصفع سليمان على وجهه.
انتزعه من غرفة رئيس القسم قول أبيه: «ما رأيكم لو يذهب سيد وحده ويأتي لنا بالطفل؟»
فمنذ زمن بعيد، وبناء على تأكيدات الأطباء، فقد كل أمل في أن يستمر اسمه في الأرض عن طريق سيد. ورغم أن ابن فادية لن يحمل هذا الاسم، إلا أنه بالتأكيد يحمل نصيبا كبيرا من دمائه. وها هو الآن يحرم من رؤيته وهو على عتبة الموت.
شعرت الأم عندما فكرت في الاقتراح الجديد أنه لن يحقق لها الانتصار التام على زوج ابنتها؛ فقد كان فيه نوع من الإقرار بضعفهما، والأفضل أن يجدا وسيلة ترغمه على أن يأتي بالطفل صاغرا أو على الأقل يسمح لفادية بذلك.
قالت في غير حماس: «وهل سيقبل؟ سأقول لفادية على أية حال إذا تكلمت»
وكانوا جميعا يفكرون في نفس الموضوع عندما قال الأب في صوته المحايد: «ترى .. ماذا يكون مآل الشقة؟»
كانت الشقة المشار إليها كبيرة، عبارة عن الطابق الأول من منزل قديم ذي حديقة، لكن أثاثها كله كان جديدا.
قالت الأم: «ربما أجروها مفروشة، أو تركها لأحد من إخوته.»
فعلق الأب في إشفاق: «وعندما يعودون يجدون الأثاث كله تالفا.»
وكانوا يعرفون الأثاث قطعة قطعة منذ كان الأب والأم هما اللذان ابتاعاه فيما عدا الثلاجة الأمريكية الضخمة التي أحضرها زوج الابنة يعلم الله من أين.
قالت: «ربما لن يمكث بالكويت سوى سنة واحدة، وفي هذه الحالة لا داعي لتأجيرها.»
فاندفع سيد مترجما الفكرة التي لاحت في الأفق: «وفي هذه الحالة يمكن أن يعطينا الثلاجة بدلا من تركها في شقة مغلقة.»
فعلى مدى السنوات الخمس عشرة الماضية، استطاع الأب من معاشه البسيط ومرتب سيد، أن يزود مسكنه على التوالي بموقد غازي وسخان للمياه ودش متحرك وتليفون، وأخيرا تليفزيون ما زال يسدد أقساطه.
وفي كل مرة يقررون شراء الثلاجة يقف الأب أمام الثلاجة الخشبية القديمة ويربت على سطحها قائلا إنها تستطيع أن تحمل عبء الصيف القادم، والأفضل أن يبتاعوا شيئا آخر.
وكان سيد هو الذي يشتري الثلج مرتين كل يوم في الصيف ليضعوه فوق أنابيبها، وفي الشتاء تترك مهملة تمرح الصراصير في جنباتها.
قال الأب: «الثلاجات في الكويت برخص التراب، ويمكنه أن يحضر معه واحدة جديدة.»
وعلق سيد: «كل شخص هناك يملك سيارة.»
وتصورت الأم سيدا في سيارة حمراء فارهة أمام باب المنزل.
وكان سيد يفكر في مشط ماكينة الحلاقة الكهربائية الذي تلف منذ مدة. وهي واحدة من ثلاث ماكينات ابتاعها من غزة في إحدى الرحلات التي كانت المؤسسة تنظمها لموظفيها قبل يونيو 1967م، وعندما تحطم مشطها وضعها جانبا لأن قطع غيارها لم تكن متوفرة في السوق (أما الآلتان الأخريان فقد باعهما بضعف ثمنهما).
تنهدت الأم قائلة: «أنشرب القهوة الآن؟»
وأجاب الاثنان في صوت واحد: «أجل.»
غادر سيد فراشه ومر بأصابعه على شعر رأسه، ثم ذهب إلى الحمام، وعند عودته وجد أمه قد أحضرت كنكة وملأت ثلاثة فناجين قام سيد بتوزيعها، ثم استقر كل منهم في فراشه من جديد.
واصل الأب الحديث قائلا: «ربما أعجبتهم الحال واستقروا في الكويت.»
وعلى الفور أخذت القضية بعدا جديدا في أذهانهم، لكن أحدا لم يجرؤ على ترجمة هذا البعد إلى كلمات؛ فقد جعل كل منهم يتصور عصاري الصيف فوق مقاعد القش في الحديقة، والهواء يهب خفيفا، وكلما أوغل الليل ازدادت رطوبته، أو صباحيات الشتاء في الجانب الآخر من المنزل، والشمس تسقط مترددة في البداية ثم تزداد دفئا كلما تقدم النهار.
قال الأب بعد قليل: «لماذا لا نتصل نحن بفادية نسألها عن صحتها وعن الولد؟ إنها ابنتنا قبل كل شيء.»
ردت الأم: «لا أحتمل أن أسمع صوته يرد علي.»
لكن صوتها رق وهي تضيف: «إن لم تتكلم في ظرف ساعة فسأفعل.»
انتهى سيد من فنجان قهوته وأشعل سيجارة، وسأله أبوه: «ألا تنوي الخروج يا بابا؟»
لم تكن عادة سيد أن يخرج بعد الظهر، ومع ذلك كان الأب يوجه إليه هذا السؤال كل يوم، ويجيب سيد أيضا كل يوم: «كلا، سأبقى في المنزل.»
ومنذ خمس عشرة سنة كانت هذه الإجابة تفعم قلب الأب بالأسى؛ فبينما كان غيره من الشباب في سنه يتزينون ويتعطرون ويسعون خلف البنات، ثم يتزوجون وينجبون، شرع فجأة يفقد حيويته البالغة التي كان يتميز بها وهو بعد في المدرسة ثم الجامعة، وقبع في المنزل يشرب القهوة ويدخن صامتا، ويقرأ الروايات ويتفرج على التليفزيون.
وبمرور الزمن نسي الأب هذه المشاعر القديمة، وأصبح الآن عندما يقول لسيد: «اخرج يا ابني قليلا بدلا من أن تسجن نفسك هكذا.» يشعر بالرضى والسعادة عندما يرد هذا: «وأين أذهب؟ لا أحسن هناك من قعدة المنزل.»
فبذلك كان ثمة ضمان لكل من الأب والأم أن يحصلا في الوقت المناسب على الإسعاف اللازم إذا ما داهمتهما إحدى نوبات المرض التي أخذت تلاحقهما في الآونة الأخيرة. وإن كان من الغريب حقا أن هذه النوبات لا تقع في فترة الصباح، التي يكون سيد خلالها في المؤسسة، وإنما تحدث دائما بعد الظهر، وخصوصا بالليل بعد أن يخلد سيد للنوم؛ عندئذ يصرخ أحدهما: «آه ياني.» وفي ثانية يكون سيد إلى جانبه يسأله عما حدث ويناوله الدواء، أو يهرع إلى التليفون ويتصل بالطبيب الذي يهون الأمر بصوت ملول، ويأمر بتكرار نفس الدواء المذكور في الروشتة.
ولا ينتهي دور سيد عند هذا الحد؛ ففي أقرب فرصة، وبتعليمات من الأب والأم، اللذين يلزمان الفراش غالبا في وقت واحد، يبدأ الاتصال بأفراد العائلة واحدا بعد الآخر ليعلن إليهم النبأ في ذلك الصوت التقريري المعهود: «والله تعبان قليلا.» أو: «هما في الفراش من أمس.» ولكي ينفي شبهة المبالغة: «يقول الطبيب ...» ثم: «وماذا؟ بالأمس، بينما كانا نائمين.» ويسرد ما حدث بالتفصيل.
ثم يقبع الثلاثة فوق أسرتهم في انتظار رد الفعل.
كان الأب قد استدار على جانبه الأيسر بحيث واجه الصالة وقال: «شوفوا لنا ماذا في التليفزيون الليلة.»
وتمنى الأب أن يحتوي البرنامج على أحد الأفلام القديمة التي دأب التليفزيون على عرضها في الآونة الأخيرة؛ فما أجمل عبد الوهاب الشاب عندما يزرر سترته ويحكم وضع طربوشه على رأسه مائلا إلى اليسار ثم يمر براحة يده فوق شعره، عند حافة الطربوش اليمنى، ويشرع في الغناء. أو يوسف وهبي عندما يجمع أطراف روبه بأصابعه باسطا قامته إلى مداها، ويزأر بصوته الفخم أن شرف البنت مثل عود الكبريت لا يشتعل غير مرة واحدة.
وعندئذ سيغادر فراشه ويجلس أمام التليفزيون مباشرة كي يتمكن من الرؤية، وتجلس زوجته إلى يمينه وسيد إلى يساره بعد أن يطفئوا النور. ويميل الثلاثة على المائدة معتمدين عليهم بمرافقهم، إلى أن تنتهي السهرة.
وفي الخارج كان الظلام ينتشر بسرعة. وقام سيد فأضاء النور، وعاد ينحني فوق الجريدة متمعنا في برنامج السهرة.
وقالت الأم: «لم تتكلم فادية بعد.»
واعتدل الأب على ظهره وسقطت عيناه من جديد على السقف دون أن تتبينا تفاصيله، ثم مر بيده على بطنه قائلا: «نتصل بها إن لم تتكلم بعد ساعة.»
ثم: «ماذا سنتعشى الليلة؟»
برلين
1969م
أغاني المساء
عندما ظهر الرجل السمين في النافذة أدركت أن اليوم انتهى، وأن صوت أبي ما يلبث أن يستدعيني. وأسرعنا نجمع الكرات الزجاجية الملونة من فوق الأرض.
استند الرجل بساعده الأيسر إلى حافة النافذة في اطمئنان، ومد يده اليمنى بطرف خرطوم من المطاط الأسود، ثم اكتسح الحارة ببصره كأنما يبحث عن المكان الملائم الذي يبدأ منه.
تعلقت عيوننا بفوهة الخرطوم، وعندما انطلقت منها المياه تراجعنا إلى الوراء حتى التصقنا بالحائط، وتابعنا المياه وهي تنهمر فوق المنطقة التي حفرنا فيها دوائر «البلي» الخمس، ورأينا المياه تنساب داخل الحفر مكان البلي.
وبعد لحظة بدت الحارة خالية تماما، وهي التي كانت منذ قليل تعج بضجيج يصم الآذان؛ فقد كانت المياه المتدفقة من الخرطوم تكتسح أمامها كل شيء. وشعرت بالظلام يطبق علينا، فتطلعت إلى أعلى. كان الظلام يتضاءل كلما اتجهت ببصري إلى أعلى، وطالعني وجه أبي يطل من شرفتنا ومن خلفه سماء ما زالت تحتفظ ببقية من ضوء الغروب.
سمعت صوته ينادي علي ككل ليلة، وشعرت بالأسى ككل ليلة. أعطيت البلي لأصدقائي، واحتفظت بواحدة في لون السماء الصافية. وسرت إلى منزلنا فصعدت درجه الضيق إلى الطابق الأخير.
وجدت باب شقتنا مفتوحا ومصباح الصالة مضاء، واتجهت إلى المطبخ. كان صوت أختي يأتي من الشقة المجاورة لنا حيث تلعب مع أولاد أم زكية. اغتسلت بصنبور حوض المطبخ، وهو الحوض الوحيد في شقتنا، ثم هرعت إلى البلكونة.
كان الظلام قد لف كل شيء. وأضاء مصباح الصالة جانبا من البلكونة، لكن أبي كان يجلس في الجزء المعتم منها. ووقفت في مدخل البلكونة أتأمله، ولم ألبث أن شعرت بالراحة. كان وجهه هادئا مسترخيا، ونظرته وادعة سرحانة.
جلست إلى جواره في صمت. كنت متعبا، وكان هو غارقا في تأملاته. وبين الحين والآخر كانت عيناه تستقران على إحدى النوافذ المضيئة المواجهة لنا فيتابع ما يبدو من خلالها، وهو يجذب أنفاس سيجارته متلذذا.
سمعت حركة خلفي في الصالة. كانت أختي قد جاءت من عند أم زكية، احتضنها أبي وحملها فوق ساقيه، لكنها أعلنت أنها تريد أن تنام، فأنزلها على الأرض ووقف، وصحبها إلى الداخل، ثم عاد بعد قليل، فتناول قلة المياه التي وضعناها على سور البلكونة لتبرد، وأزاح غطاءها، وجعل يكرع الماء في صوت وادع.
التقطت أذناي صوت الراديو في شقة أم زكية، فقمت وأنا أقول: «أنا رايح أنام، تصبح على خير يا بابا.»
كان أبي قد عاد إلى مقعده فاقتربت منه وملت عليه ثم قبلت وجنته، وقال: «وأنت من أهله.»
عبرت الصالة الصغيرة التي لم يكن بها غير مقعد هزاز تمزق قشه من زمن، وساعة حائط كبيرة. ودخلت حجرتنا فوجدت أختي غارقة في النوم، وقد رقدت على ظهرها وتناثر شعرها الطويل حول رأسها، وثنت ساقها إلى أعلى ووضعت الثانية فوقها. ومددت يدي فأطفأت النور ثم خطوت ناحية السرير فصعدت فوقه وتمددت بجوارها. وهبت على وجهي نسائم خفيفة من النافذة الصغيرة في مواجهتي فأغمضت عيني.
كنت أحب أن أنام كل ليلة في الظلام والنافذة مفتوحة وصوت الراديو يأتيني واضحا من شقة أم زكية، التي تجاور نافذتها نافذتنا الصغيرة.
وكانت أم زكية لا تدير الراديو إلا عندما ينام أولادها وتجلس في انتظار زوجها. كان رجلا أسمر خجولا، أحول العينين، لا نكاد نشعر به، ويقضي اليوم كله بالخارج. وقد سمعت أبي مرة يتعجب مما جمع بينه وبين زوجته البيضاء الممتلئة.
جاءني صوت الراديو واضحا، فأدركت أن نافذتهم مفتوحة، وأنصت في ارتياح. كانت أم كلثوم في الغالب هي التي تغني، ولم أكن أعرف ماذا تقول، ولم يحدث أبدا أن تبينت كلمات أي أغنية، كما كنت أخلط دائما بين عبد الوهاب ومحمد أمين وفريد الأطرش، لم أكن أهتم إلا بالموسيقى.
فتحت عيني في بطء فوقعتا على النافذة. كانت السماء قريبة دانية، والنجوم تتحرك في خفة، وخفقت إحداها في اضطراب وضعف. وسكت الراديو فجأة، ثم سمعت حركة في الشقة المجاورة فأدركت أن أبو زكية قد عاد. وبدأ وابور الجاز يطن طنينا خافتا ثم انطفأ، وسمعت صوت ملعقة تصطدم بطبق، ثم جاء صوت المرأة متواصلا من مكان واحدا. كان صوتها هادئا يرن واضحا في هدأة الليل، وأغمضت عيني، كان ذلك يحدث كل مساء. وظللت أنصت للطنين الآتي من الشقة المجاورة، كنت أحب هذا الصوت أيضا؛ كنت أحب أن أنام وهو في أذني.
لكني لم أنم؛ فقد دوت فجأة صفارة طويلة متقطعة، وفتحت عيني على سعتهما، وأدركت أنها صفارة الإنذار، وأخذت أنصت لها في سرور ولذة. واستيقظت أختي فزعة، وسمعت صوت أبي ينادي علي وهو يتعثر في الظلام بعد أن أطفأ نور الصالة، فقلت له: «أنا هو يا بابا.» وجذبت أختي من يدها وأنا أقول: «متخافيش.» ثم هبطنا من فوق السرير واتجهنا إلى الباب الذي كان يبدو واضحا، ولمحت شبح أبي في الظلام فاتجهت نحوه. مد يده نحونا فاحتضننا، واستدار ناحية البلكونة، واقتربنا منها. كان الاضطراب يسود الحارة، وأنوار الشقق تطفأ على عجل، واستطعت أن أسمع في الظلام أصوات الناس الذين كانوا يهرعون على السلالم إلى المخابئ.
رفعت رأسي إلى أبي وسألته: «إحنا مش حنروح المخبأ؟»
شعرت به يبتسم، ورأيت صفاء عينيه في الظلام. أجاب: «مخبأ إيه؟ خلي اتكالك على الله.» ورفع رأسه إلى السماء وهو يشير بإصبعه مؤكدا، وتابعت حركة إصبعه بعيني. كانت هناك آلاف من النجوم على مقربة؛ فقد كانت شقتنا في آخر دور ولم يكن فوقنا إلا السطح.
سكتت الصفارة مرة واحدة، وساد الدنيا كلها سكون شامل، وكنت أسمع الحفيف الذي يحدثه الهواء بجلباب أبي.
سحبنا أبي من أيدينا إلى الداخل، وتحركنا في حذر حتى تبينا طريقنا إلى الحجرة الداخلية. جلسنا على السرير، وقام أبي إلى النافذة الصغيرة فأغلقها، ثم فكر قليلا وعاد ففتحها قائلا: «أحسن القزاز يقع.» سألته: «يقع إزاي؟» قال: «لو وقعت قنبلة جنبنا تعمل هزة توقعه.» قلت: «مين عارف؟ .. يمكن تقع علينا.» فأجاب بثقة: «لا. متخفش. مش حتقع.»
لم أكن خائفا، واقتربت من النافذة، ورفعت يدي قليلا إلى أعلى لأستند على حافتها؛ فلم يكن رأسي يعلو على الحافة إلا قليلا، وألقيت نظرة على نافذة أم زكية فوجدتها مظلمة، وتطلعت إلى السماء . كان كل شيء هادئا، وهتفت فجأة: «شوف يا بابا.» كانت الكشافات قد ظهرت في السماء، وأسرعت أختي بجانبي تريد أن ترى، ورفعها أبي من إبطيها لتتمكن من الفرجة. كانت الكشافات تدور في السماء بسرعة محمومة وهي تبحث في اضطراب، وتوقف اثنان منها على نقطة مضيئة، وقال أبي من فوقنا: «أهي مسكت طيارة.» ثم أضاف على الفور: «أخ! .. الطيارة هربت.»
تحرك الكشافان بسرعة من جديد ثم اختفت الكشافات كلها مرة واحدة. تساءلت: أين ذهبت؟ ودوى فجأة صوت انفجار خافت بعيد. شعرت بيد أبي تقبض على كتفي في عنف، واهتز جلبابه بجوار رأسي، وأدركت أن أختي هي التي تشده، وقال أبي: «تعالوا هنا أحسن.»
جذب بطانية من فوق السرير ثم انحنى على ركبتيه، وزحف إلى أسفل السرير، وبسط البطانية على البلاط، ثم دعانا إلى أن نلحق به. وسرعان ما كنا أنا وأختي تحت السرير بجواره، وكان يجلس على ركبتيه محنيا إلى الأمام حتى لا يصطدم بسقف السرير، وكمشنا إلى جواره وهو يحتضننا بذراعيه، وكنا نضحك أنا وأختي. أما هو فلم نكن نرى وجهه في الظلام، وسمعناه يقول: «دلوقت لو وقعت علينا قنبلة حنقع على اللي في المخبأ، ومش حيحصلنا حاجة، أما هم فحيبقوا عجينة.»
كنت قلقا أتلهف على رؤية ما يجري في السماء، وزحفت إلى حافة السرير مقتربا من النافذة. أخرجت رأسي وتطلعت إلى أعلى فرأيت جانبا من السماء. أخذت أتأمل منتظرا. كانت هناك نجوم كثيرة، وكنت أثبت عيني على كل واحدة حتى أتأكد من أنها لا تتحرك. وما لبثت أن ارتجفت من الفرح؛ فقد رأيت نجمة كبيرة تنساب متحركة، وأدركت أنها طائرة يهودية، ولم أشأ أن أفوه بكلمة حتى لا يحرمني أبي من الفرجة، ومضيت أرقب الطائرة وهي تسير ببطء. وفجأة ظهرت عدة كشافات، أخذت تتلاقى وتتعانق ثم تفترق، وتصعد ثم تهبط من حول الطائرة. وخيل إلي أن الطائرة غيرت طريقها، وأغمضت عيني ثم فتحتهما لأرى جيدا. كانت الكشافات تذرع السماء، وهمس أبي: «انت رحت فين؟ تعالى هنا.»
عدت إلى جوار أبي والتصقنا ببعض وانتظرنا في صمت. كان السكون شاملا وسمعنا طنينا بعيدا يزداد اقترابا لحظة بعد أخرى، وبدا كما لو كان يأتي من الجهات الأربع، ولأول مرة شعرت بالخوف. وتوقف الطنين فجأة، ثم سمعنا صوت انفجار قريب. التصقت بأبي، فجذبني إليه في قوة، وشرعت أختي بالبكاء، وتوالت سلسلة من الانفجارات القوية. وفجأة زحف أبي إلى الخارج وهو يجذبنا خلفه، وتبعناه في صمت، وتحركنا في الظلام إلى الصالة، ثم ناحية الباب الخارجي. وخطر لي أننا سنهبط إلى المخبأ، لكن أبي لم يفتح الباب، وإنما تجاوزه إلى الكنيف وفتح بابه. كان الصنبور يرسل نقطا صغيرة من الماء، فلم أبي جلبابه وانحنى إلى الأمام فأحكم إغلاق الصنبور، ثم أخرج علبة كبريت من جيبه، وأشعل عودا أضاء به الكنيف.
ظهرت فتحته الدائرية يحيط بها أثران بارزان على هيئة القدم، وسط قاعدة حجرية مرتفعة. ورفع أبي يده بالعود إلى الأعلى وارتقى القاعدة الحجرية، ثم استدار إلينا، واستند بظهره إلى الحائط حتى ثبت قدميه فوق القدمين البارزين بجوار فتحة الكنيف. وجذب أختي فأوقفها إلى يمينه، وعندئذ انطفأ العود في يده فمد يده إلي وقال لي: «اطلع.» وأمسكت بيده وصعدت إلى جواره، ووقفت إلى يساره. وانحنى إلى الأمام فجذب الباب نحونا وأغلقه علينا.
وقفنا في ظلام تام، لكني كنت أشعر بالفرق بين اللون البني الغامق الذي دهنت به جدران الكنيف من أسفل حتى منتصفها، وبين اللون الأبيض الذي يغطي الأجزاء العليا، بل كنت قادرا على تبين لمعان اللون البني الذي استخدم الزيت في طلائه، وكنت أشم رائحة الطلاء الزيتي النافذة؛ فقد كانت الشقة جديدة ولم يكن لنا فيها أكثر من شهور.
لم أكن أسمع شيئا مطلقا. وبعد لحظة تبينت صوت تنفس أبي وكان قويا، وكان رأسي مستندا إلى جانبه، فشعرت بصدره يتحرك. واحتكت قطعة من المعدن في حزام الفتق الذي يلفه حول وسطه بأذني فآلمتني، وما لبثنا أن سمعنا صوت انفجارات متتالية. كان الصوت قريبا جدا كأنه في الشارع المجاور، وتصورت أن هناك طائرة تتقدم نحو منزلنا ، وهي تسقط القنابل أثناء تقدمها، ولأول مرة توقعت أن تقع علينا قنبلة بين لحظة وأخرى.
جذبتني يد أبي إلى جانبه في قوة، والتصقت به أنا في خوف. كان وجهي عاريا في مواجهة الباب، فأدرته وأخفيته في ملابسه، ولمس جلبابه فمي فقبلته، وشعرت به يرتجف، وسمعته يهتف في قوة: «يا لطيف الطف.»
لا أدري كم من الوقت مر علينا ونحن هكذا. لكن سرعان ما أدركت أن الانفجارات توقفت. واسترخت قبضة أبي على كتفي حتى هدأ تنفسه، ودام السكون بعض الوقت، ثم دوت صفارة حادة طويلة فانتفض أبي وتنهد بصوت مسموع، ورفع يده من فوق كتفي وانحنى على باب الكنيف ففتحه، ثم هبط إلى أرض الصالة وأسرع يضيء نورها، بينما كنت أسرع خلفه وأختي تنادي علي لأنتظرها حتى تهبط إلى الأرض.
وفي الصالة وقف أبي تحت المصباح، وأخرج سيجارته السوداء من جيبه وأخذ يشعلها، ووقفت أمامه مباشرة وتطلعت إليه، ورأيت عينيه محتقنتين.
جذبتني أختي من يدي. كانت تريد أن تنام، وتخاف أن تدخل الحجرة بمفردها، واتجه أبي إلى البلكونة في صمت. أما أنا فتبعت أختي إلى حجرتنا، فأضأت النور، وانتظرت حتى صعدت فوق السرير، ثم أطفأته وصعدت خلفها وتمددت في الظلام.
تقلبت عدة مرات، وأنصت في لهفة منتظرا أن أسمع صوت الراديو لأنام على الأغاني، لكن الراديو ظل صامتا، ولم أسمع صوتا واحدا من الشقة المجاورة.
سجن المحاريق
بالواحات الخارجة
1963م
أبيض وأزرق
رفع المرشد اليوناني الميكرفون الصغير إلى فمه وقال بالإنجليزية في صوت هادئ: «مرحبا بكم في جزيرتنا.»
كان يرتدي ملابس رياضية بادية الجدة؛ كاب وقميص قصير الأكمام وشورت وجورب في حذاء من المطاط، وكانت جل ملابسه بيضاء اللون.
قال: «أنتم جميعا مصريون وتتكلمون اللغة العربية، تماما؟ للأسف أنا لا أعرف العربية، وسأضطر إلى مخاطبتكم بالإنجليزية، أنتم تعرفون الإنجليزية، أليس كذلك؟»
تصاعدت صيحات الموافقة من جنبات الأتوبيس السياحي ، ومضى المرشد قائلا وهو يشير إلى السائق: «السائق اسمه ميخالي، مثلي تماما، وهو كما ترون غاضب بسبب اضطرارنا للانتظار حتى يكتمل عددكم. باقي اثنان الآن، وقد فهمت أنهما عروسان؛ ولهذا يجب أن نتسامح معهما، ها هما.»
ظهر الزوجان الشابان في مدخل السيارة، وشقا طريقهما في الفرجة الضيقة التي تفصل بين صفي المقاعد، ثم جلسا على المقعد المقابل لذلك الذي شغلته أنا وزوجتي.
كانت الفتاة سمراء ضئيلة الحجم، قصت شعرها كالصبية، وارتدت بدلة صيفية من قماش قطني أصفر اللون، وحذاء ذا كعب مرتفع من نفس اللون، وامتلأت أصابع يديها بالخواتم الذهبية، كما تدلى الذهب من أذنيها وأحاط بكل من عنقها ومعصميها. وكان عريسها في نفس حجمها وسنها، تتدلى من سوار حول معصمه كاميرا صغيرة الحجم. رأتنا نتطلع إليها فخاطبت زوجتي شاكية من غباء موظفي الفندق وجهلهم باللغة الإنجليزية؛ إذ لم يفهموا إلا بصعوبة أنها تريد الحلي التي أودعتها خزانة الفندق بالأمس.
استدار المرشد بحيث أصبح يواجه الطريق، واستقر في مقعد بجوار السائق، وما زال الميكرفون قريبا من فمه.
وانسابت السيارة في شوارع هادئة تحف بها أشجار متقاربة على الجانبين، وتطل عليها منازل واطئة من طابقين أو ثلاثة. وكانت أغلب المنازل مكسوة بطلاء أبيض اللون.
قال المرشد: «نحن الآن في الجزء الحديث من المدينة. أما المدينة القديمة فعمرها خمسة آلاف سنة؛ ولهذا توجد بها آثار لكل أنواع الغزاة وبناة الإمبراطوريات، بدءا من قبائل أوروبا والفينيقيين إلى اليونان والفرس والرومان، ثم القوط والعرب والأتراك، وأخيرا الإيطاليين والألمان والإنجليز.»
لم أر كثيرا من المارة، كان أغلبهم من الشباب الأوروبي الذي ارتدى الملابس الرياضية أو اكتفى بأردية السباحة.
توقفت سيارتنا خلف سيارة لجمع القمامة سدت الطريق، وتابعت ببصري عاملا يجر صندوقا للقمامة بيد مقفزة، ويثبته في مؤخرة السيارة لتتولى تفريغه آليا، ثم أعاد الصندوق إلى مكانه بجوار الرصيف وجذب غيره.
تطلعت إلى الرصيف المقابل، فلمحت رجلا متقدما في السن يبرز من باب ممسكا بعصا طويلة تنتهي بفرشاة، طاويا صحيفة أسفل إبطه. ومضى الرجل ينظف الإفريز أمام المنزل بعناية، ثم جمع الأتربة في كوم صغير. وعاد إلى المنزل فأحضر جاروفا استعان به في نقل الأتربة إلى كيس أسود من البلاستيك ، ثم وضع الكيس بعناية على حافة الرصيف، واستدار داخل المنزل، فارتقى بضع درجات إلى شرفة صغيرة مكشوفة، واستقر في مقعد من الخيزران أمام مائدة تحمل فنجانا من القهوة وغليونا. وبعد أن ارتشف من الفنجان، بسط صحيفته وانهمك في إشعال الغليون.
تحركت سيارة القمامة أخيرا، وتبينت رتلا طويلا من السيارات تكون خلفنا دون أن يصدر عن إحداها صوت ما. وتطلعت إلى حيث استقرت صناديق القمامة الفارغة فرأيت الأرض حولها نظيفة بلا أثر لما كانت تحويه من فضلات.
انحنى الأتوبيس في شارع خلا من المارة، امتدت على أحد جانبيه حديقة كبيرة كثيفة الخضرة، انتشرت في أنحائها الورود البنفسجية الصغيرة التي كانت تملأ حدائقنا في الصبا.
همست زوجتي: «وأنا طفلة كنت ألصق بتلات هذه الوردة على شفتي.»
أحاط بنا هدوء عذب، ومضت السيارة على مهل، ولمحت شابا وفتاة يتبادلان قبلة طويلة أسفل إحدى الأشجار. ولزم المرشد الصمت كأنما يتيح لنا أن نستمتع بالهدوء.
لكن الجالسين خلفي اختاروا هذه اللحظة بالذات ليفيضوا من سعادتهم بإنجازاتهم على الجميع. ودون أن أحرك رأسي عرفت أن خلفي مباشرة توءمتين في ربيع العمر، تعيشان في أبي ظبي مع أبيهما المهندس وأمهما المدرسة، وأن السلاسل والصلبان الذهبية التي تتدلى من عنقيهما هي هدايا أعياد الميلاد، وأنهما تتوقان لاستعراض مواهبهما في رقصة البطن داخل السيارة.
أشرف الأتوبيس على أسوار حجرية قديمة تتخللها أبراج عالية، وعلق المرشد قائلا: «أمامكم الآن التحصينات التي أقامها الفرسان الصليبيون في القرن الخامس عشر عندما استقروا هنا بعد طردهم من الشام، وتعين هذه التحصينات حدود المدينة القديمة. لكننا لن نذهب إليها الآن، إنما سنتجه إلى قلب المدينة الحديثة حيث البنك؛ فلا بد أن بعضكم يود استبدال نقوده.»
تصاعدت صيحات الاستحسان والاستفسار عن سعر الدولار، بينما انتقل الأتوبيس إلى منطقة آهلة بالمارة والمقاهي والمطاعم الأنيقة.
ومع ذلك كانت الشوارع نظيفة للغاية، بلا حفر ولا أتربة. كما خلت الأرصفة من شتى المخلفات والإفرازات، وامتدت أفاريزها الحجرية في استقامة، وقد التصقت أجزاؤها بعضها ببعض، التصاقا محكما لم يترك بينها أية فراغات. وأحاطت بقواعد الأشجار دوائر من التربة، مؤطرة في عناية بأفاريز رفيعة من الرخام.
تناقصت المقاهي والمطاعم بالتدريج لتحل محلها البوتيكات وحوانيت الملابس والمجوهرات والأنتيكات، وتوقف الأتوبيس في ميدان صغير على بعد خطوات من البنك، وقال المرشد: «أحب أن أنبهكم إلى شيء هام بالنسبة إلى الشراء؛ فالجزيرة كلها عبارة عن منطقة حرة؛ ولهذا فالمنتجات الأجنبية هنا أرخص منها في بلادها الأصلية، بل وأرخص من المنتجات اليونانية المحلية.»
شرع الركاب في مغادرة السيارة، فاكتشفت بينهم عددا من المحجبات، وسيدتين متلازمتين في أواخر العقد الرابع، عريتا أكتافهما، في محاولة متعجلة للحصول على شهادة التصييف.
توزعنا بين البنك وواجهات الحوانيت. وكنت أنا وزوجتي قد استبدلنا نقودنا في الفندق عند وصولنا. فانتحينا جانبا مظللا ووقفنا نتأمل المارة. ولاحظت أن غالبية السائحين من الشباب، وأن نسبة كبيرة منهم من بلاد الشمال القصي، ومن الفتيات.
تبينت عددا من الوجوه العربية، وسمعت اللهجة السعودية من زوجين ظننتهما أفريقيين بسبب لون بشرتهما. وكان الزوج البدين يحمل أكبر زجاجة ويسكي رأيتها في حياتي، وقد حملها فوق ساعديه كالطفل الرضيع.
اقتربت العروس الصفراء منا ومدت يدها بالكاميرا الصغيرة إلى زوجتي، ملتمسة منها أن تصورها هي وعريسها. وأسرعت تقف إلى جواره فوق درجات البنك وقد أحاطها بذراعيه وأمسك معصميها بيديه.
لمحت حانوتا لبيع الصحف، فتركت زوجتي تصور العريسين، ومضيت إليه. ابتعت صحيفة يونانية باللغة الإنجليزية، وألفيت أخبار بيروت تحتل صدر الصفحة الأولى. ووصف العنوان الرئيسي الأمس بأنه أطول يوم في الحرب التي تجاوزت الشهرين؛ إذ استمرت الغارات الإسرائيلية المكثفة من الصباح حتى المساء دون انقطاع.
قرأت التفاصيل، وتأملت الصورة المنشورة إلى جوارها، وتمثل طفلا عربيا لم يكمل العام الأول، بتر الإسرائيليون يديه.
ألهبت أشعة الشمس رأسي، فطويت الصحيفة، واتجهت إلى السيارة. كان الجميع قد عادوا إليها، فصعدت خلف زوجتي.
التقت نظراتي وأنا أتجه إلى مقعدي بنظرات أحد الركاب، فوجهت إليه التحية مرغما، وعندما أصبحت بجواره خاطبني ضاحكا: «هل عثرت على سر شويبس؟»
أجبته باقتضاب: «لا.»
كان يشير إلى تساؤلاتي عن الطائرة المصرية التي أقلتنا من مطار القاهرة عندما رأيت أنها تحمل اسما غير اسم «مصر للطيران»، وأن بها مضيفات أجنبيات، وأنها تقوم برحلات إلى تل أبيب.
جاء مكاننا أنا وزوجتي هذه المرة خلف العروسين الشابين، وكانا يجلسان متلاصقين وقد أودعت يديها بين كفيه. واشتبكا في حديث مع أم التوءمين تبينت منه أن العريس يعمل، هو الآخر، في مكتب مقاولات بأبي ظبي منذ سنتين، وأن العروس تخرجت هذا العام في كلية التجارة.
وقبل شهرين تلفن لها من أبي ظبي ليسألها أن تتزوجه. ومنذ تلك اللحظة لم تعرف طعم النوم؛ فقد أصرت على أن تعد كل شيء بنفسها؛ الملابس والستائر والجاتوهات. وفي حفل الزواج الذي أقيم بالهيلتون كادت تسقط من الإعياء. وقد أقاما بعده في الهيلتون ثلاثة أيام، ثم جاءا إلى الجزيرة مباشرة؛ ولهذا فما زالت في أشد الحاجة إلى النوم.
تحرك الأتوبيس، بينما تشعب الحديث وانضم إليه شاب يدخن الغليون ويعمل في الكويت، بدت زوجته حاملا في شهرها الثالث أو الرابع. وعرفت أن «الشو» الذي يقدمه الميريديان أفضل لأن «الباند» أكثر مهارة وتنوعا.
أشار المرشد إلى بار يشبه بارات وسط القاهرة، وقال: «هذه هي التافيرنا التي يجتمع بها اليونان عادة ليشربوا النبيذ والأوزو، ويأكلوا اللحم والأسماك المشوية، ويرقصوا ويغنوا .. ويتشاجروا. وبالمناسبة، اليوناني شخص حساس جدا لكرامته، ويثور لأقل مساس بها. وربما كان السبب أنه ظل رافع الرأس طوال قرون طويلة من السيطرة الأجنبية.»
كان ثمة رجلان بدينان يحتلان المقعد المقابل لمقعدي، وكانا يتحدثان بصوت مرتفع للغاية ينطق بثقة كبيرة في النفس، ورضاء تام عن الإنجازات. وحكى أحدهما وهو يردد بين كل عبارة وأخرى «شوف سعادتك»، كيف صنع ثروته في بورسعيد بعد أن صارت مدينة حرة. واتضح أن المدينة المعروفة هي موطن الثاني، وهو أستاذ في الجامعة ذو عوينات سوداء وشفتاه ممتلئتان، يعمل في السعودية، وكان يدعو زميله «محمد بك». ومن معصم كل منهما تدلت الكاميرا الصغيرة المعهودة.
أسميت محمد بك بيني وبين نفسي «محمد كرشة». وسمعته يقول إنه جاء بدون أسرته كي يفوز بعطلة حقيقية. وتبينت أن أسرة الأستاذ البورسعيدي تجلس خلفه مباشرة، وهي مكونة من سيدة محجبة تضع عوينات شمسية، وتغطي الملابس رأسها وساعديها حتى المعصمين، وبقية جسدها حتى أصابع القدمين، وإلى جوارها فتاة في سن المراهقة موشكة على البكاء، وطفلان غيرها.
أشرفت السيارة على أحد أسوار المدينة القديمة، فقال المرشد: «لقد صدت هذه الأسوار غزوات أجنبية كثيرة، أقدمها وقع قبل الميلاد بثلاثة قرون، عندما هاجمها أحد خلفاء الإسكندر الأكبر بجيش من أربعين ألفا يساندهم أسطول قوي وآلات حصار مبتكرة. وصمد ستة آلاف من المدافعين داخل المدينة لهذه القوة الماحقة سنة كاملة، حتى اضطر المهاجمون للانسحاب.»
قام محمد كرشة فجأة من مكانه وعرض علبة من سجائر الدانهيل على الجالسين. وتوقف عند السيدتين عاريتي الأكتاف، وكانتا تجلسان خلفي. وسمعت إحداهما تقول إنها لا تدخن. بينما قالت الثانية إنها انتهت للتو من سيجارتها ولا تريد واحدة جديدة.
ألح عليها أن تأخذ السيجارة ملتمسا منها ألا تكسفه، واعتذرت مرة أخرى، فأصر قائلا: «أنت بتهينيني كده يا مدام.» واضطرت في النهاية أن تأخذ السيجارة، فأشعلها لها ثم عاد راضيا إلى مقعده.
وسمعت رفيقتها تهمس لها: «أيوه يا عم، ماشية معاك حلاوة.»
تمهل الأتوبيس أمام بوابة قديمة في السور فقال المرشد: «هذه البوابة تدعى بوابة الحرية. وهي تؤدي إلى أقدم حي في المدينة، وهو يعرف بحي الفرسان.»
اخترقت السيارة البوابة ومضت في أزقة ضيقة تظللها الأشجار، ثم توقفت في ساحة صغيرة تفرعت منها ممرات مهجورة.
علق المرشد قائلا: «في أعقاب انسحاب الصليبيين من الشام استقر ستمائة فارس من أعرق العائلات الأوروبية في هذا الحي، وتعاهدوا فيما بينهم على حياة قوامها الزهد والعفة، ولم يكونوا يغادرون هذا الحي إلى بقية المدينة إلا في جماعات، وفوق ظهور الجياد.
وفي سنة 1522م هاجمهم الأتراك بمائتي سفينة ومائة وخمسين ألف جندي، ولم يكن مع الفرسان غير خمسة آلاف من السكان المحليين، وفرض الأتراك عليهم حصارا استمر أربعة شهور ونصفا، فقد الغزاة خلالها خمسين ألفا من رجالهم، رغم أن الفرسان لم يتلقوا أية مساعدة من الخارج؛ فقد تخلى العالم المسيحي عنهم.
وتمكن الأتراك أخيرا، بفضل أحد الخونة، من إحداث ثغرة في دفاع الفرسان، واضطر هؤلاء إلى طلب الهدنة. واتفق الطرفان على أن يغادر مائة وثمانون فارسا - هم كل من تبقى من الفرسان - الجزيرة إلى مالطة بطريقة مشرفة، ومنذ ذلك الحين عرفوا بفرسان مالطة.»
زمجر محمد كرشة قائلا: «إحنا جينا نتفسح ولا نسمع محاضرات؟»
واصل الأتوبيس سيره بين الشوارع القديمة الضيقة حتى بلغ ساحة صغيرة احتشدت فيها الأتوبيسات السياحية الصغيرة.
غادر الجميع السيارة فتبعتهم أنا وزوجتي بعد أن بسطت الجريدة فوق مقعدنا. وعبرنا بوابة صغيرة إلى أزقة ضيقة رصفت بالحصى الكبير وتصاعدت من جنباتها رائحة القهوة المنعشة مختلطة بنغمات خفيفة من الموسيقى اليونانية.
تفرقت جماعتنا في عدة اتجاهات، فالتف البعض حول باعة المرطبات والفطائر الذين وقفوا في حوانيت الملابس والحلي والخزف، وكانت المعروضات مرتبة في عناية ونظام ونظافة.
لم نشعر أنا وزوجتي برغبة في الأكل، فمشينا نتفرج على السائحين، ونتأمل المعروضات، ونقلب بينها طويلا دون أن يلاحقنا أحد أو ينهرنا أو يهيننا عندما يكتشف أننا لا ننوي شراء شيء. وتمهلت زوجتي أمام حانوت لبيع الحلي الذهبية، فتجاوزتها إلى ميدان صغير احتل جانبا منه مقهى تظلله الأشجار، واحتلت جماعات من السائحين الأوروبيين مقاعده، يجرعون البيرة من أكوابها الزجاجية التقليدية.
تنبهت فجأة إلى الهدوء الذي يسود المكان رغم زحام المارة وعمليات البيع والشراء ولحقت بي زوجتي فانتحينا جانبا، ووقفنا نستمتع بالهدوء، وعندما تعبنا من الوقوف اقتعدنا الرصيف الذي كان نظيفا للغاية.
قمنا بعد قليل وانطلقنا عائدين، ومررنا بمطعم رصت موائده في الهواء الطلق، ووقف أمامه صبي يلوح بقائمة الطعام، أشار لنا أن ندخل فخاطبته بالإنجليزية قائلا: «شكرا، ليس الآن، في مرة قادمة.»
سألني بالإنجليزية: «من أي بلد أنتم؟ إسرائيل؟»
أجبته «لا، مصر.»
قال بعربية مكسرة وبلهجة مستنكرة: «إذن لماذا لا تتكلم بالعربية؟»
تطلعت إليه لحظة ثم واصلت طريقي أنا وزوجتي في صمت.
استأنف الأتوبيس جولته في شوارع المدينة، وبين الحين والآخر كان البحر يتراءى لنا من خلال شوارع جانبية تؤدي إلى ميناء ازدحم بالقوارب والسفن.
توقفنا في ميدان صغير تتوسطه نافورة على شكل طبلة تكسوها مربعات من الخزف الأزرق المزوق برسوم. وفوق النافورة ارتفعت ثلاثة رءوس برونزية ضخمة للسمكة المعروفة بحصان البحر، وقد تلاقت قممها على شكل هرمي.
قال المرشد: «نحن في ميدان الشهداء اليهود، وتعود هذه التسمية إلى عام 1943م، عندما احتلت القوات النازية الجزيرة؛ فقد جمعوا هنا يهود الجزيرة كلهم، وكان عددهم يربو على ألفي شخص، ثم قاموا بترحيلهم إلى معسكرات الاعتقال المختلفة في أوروبا.»
مررنا بمبنى قديم أشبه بالثكنة العسكرية، فقال المرشد إنه مسرح الفنون الشعبية. وانتصب واقفا، واستدار يواجهنا وهو يضيف في حماس: «هذا المسرح خصص دخل إحدى حفلات الأسبوع الماضي لضحايا الغزو الإسرائيلي للبنان.»
لم يعلق أحد بشيء، فاستعاد المرشد هدوءه وأعطانا ظهره من جديد وغاص في مقعده. انتقل الأتوبيس إلى شوارع غصت بالمقاهي والمطاعم والفنادق الحديثة، وانتشرت بها رائحة الياسمين، ثم خرجنا فجأة إلى شاطئ البحر.
استنشقت الهواء المحمل برائحة الأسماك في لهفة. وبدت حافة الماء نظيفة من أي مخلفات. وبالمثل كانت رمال الشاطئ التي اصطفت فوقها مظلات المصيفين الملونة في نظام بديع.
ثم صافحت عيني زرقة كثيفة لم أر مثلها من قبل، وكانت تزداد كثافة كلما قاربت الأفق.
توقف الأتوبيس إلى جوار رصيف الكورنيش. وشعرت بهرج مفاجئ بين الركاب. وعندئذ تبينت أن بعض المستلقيات على الشاطئ قد عرين صدورهن.
حدقت سيدة محجبة في استنكار، ووضعت عارية الكتفين التي لا تدخن إصبعها في شفتها، متأملة المشهد في ابتسامة خجلى وحاسدة في الوقت نفسه. وتشبثت العروس بيد عريسها في شدة كأنما تخشى أن يقفز هاربا.
ورفع محمد كرشة والأستاذ البورسعيدي ومهندس أبي ظبي كاميراتهم الصغيرة، وأقبلوا يلتقطون الصور في حماس.
مدت زوجة الأستاذ البورسعيدي المحجبة يدها فجذبت الكاميرا بعنف من يد زوجها وهي تهتف : «احمد ربك على النعمة اللي عندك.»
عقب المرشد ضاحكا: «إن كل شيء في بلادنا في الهواء الطلق كما لاحظتم.»
واصل الأتوبيس سيره على طريق الكورنيش، وكانت هناك أجزاء صخرية تخلو من المصطافين، وأوشك رصيف الكورنيش أن يخلو من المارة. أما الجانب الآخر من الطريق فقد خلا من أي حوانيت أو مقاه. كان يتألف في أغلبه من منازل قديمة مسورة بجدران بيضاء، أو مطاعم متباعدة ترتفع عن مستوى الطريق بعدة درجات.
كانت جدران المنازل نظيفة لا تحمل أية كتابة أو إعلانات. وفوق أحدها طبع شعار المنجل والمطرقة المتعانقين بحجم صغير، وبصورة أنيقة.
أشار المرشد إلى شجرة أطلت من حديقة أحد المنازل وقال في انفعال: «هذه شجرة يهوذا، والزهرة القرمزية التي ترونها يندر أن يراها أحد في هذا الوقت من العام؛ فهي تظهر في الربيع قبل الأوراق. وتقول الأسطورة إن هذه الزهرة كانت في الماضي البعيد شاحبة اللون، لكن إحساسها بالعار من جريمة يهوذا جعلها تكتسب هذه الحمرة القانية.»
أضاف المرشد بعد قليل: «لقد أوشكت جولتنا على الانتهاء، وستعودون إلى فندقكم بعد لحظات. وأظن أنكم تحتاجون إلى فكرة سريعة عن الأطباق الشهية .. أبرز هذه الأطباق «الضلمة»، وهي عبارة عن ورق عنب محشو باللحم المفروم المخلوط بالأرز والمتبل بالنبيذ والبصل والخضرة. وهناك «الكفتة»، وهي كرات من اللحم المفروم المعجون بالبصل المبشور والقرفة والنعناع والنبيذ.
ثم «المسكعة» وهي من أفضل الأكلات الشعبية هنا. وتتألف من شرائح الباذنجان واللحم المفروم، تتخللها طبقات من صلصة الباشاميل والجبن المبشور. أما عشاق الأكلات البحرية فأمامهم سمك البربوني المقلي والاستاكوزا التي تقدم بالزيت والليمون، والأخطبوط الذي يقطع إلى شرائح ويقلى أو يسلق، ثم الكالاماري والجمبري والسرطان.»
اعترضتنا إشارة المرور الحمراء، وانتظر السائق في صبر وهدوء، رغم أن الطريق الاعتراضي كان خاليا ولم تمر به سيارة واحدة، ولم نمض كثيرا بعد ذلك؛ فسرعان ما بلغنا الفندق، وأسرع الجميع بمغادرة السيارة وحملت الصحيفة في يدي وتبعتهم مع زوجتي.
عبرنا ممرا مسقوفا بين صفين من النباتات الشائكة. ومن خصاص هذه النباتات بدا لي جانب من حوض السباحة التابع للفندق، وقد استلقت حوله عدة فتيات أوروبيات، عرضن أجسادهن العارية للشمس، وفوق عارضة الحوض استعدت شقراء فارعة، عارية الصدر، للقفز ، وقد ثنت ساقيها القويتين، وبرز ثدياها الممتلئان إلى الأمام.
ولجنا ردهة الفندق واتجهنا على الفور إلى المطعم، واجتزنا قاعة واسعة تناثرت المقاعد الوثيرة في جنباتها، واستقر البار في أحد أطرافها، وبالقرب منه عدة ألعاب تليفزيونية.
توقفنا أنا وزوجتي أمام إحدى هذه الألعاب. وعندما لحقنا بجماعتنا وجدنا أفرادها قد تجمهروا أمام المطعم، وكان بابه مغلقا، وقد اصطف أمامه عمال كل من المطعم والمطبخ في ستراتهم الرسمية، وحملت مائدة مجاورة كمية من ساندويتشات الجبن واللحوم الباردة.
كان أحد العمال مشتبكا في نقاش حاد مع عريس العروس الصفراء، بلغة إنجليزية متبادلة الركاكة، وسمعته يقول: «قلت لك إننا مضربون، ألا تعرف ماذا يعني الإضراب؟ ألا يضرب أحد في بلادكم؟ ومع ذلك أعددنا لكم بعض الساندويتشات، ومن لا يعجبه يمكنه أن يأكل في أحد المطاعم القريبة.»
سأله البورسعيدي: «ونقودنا التي دفعناها؟»
أشار العامل إلى مكاتب الفندق قائلا: «طالبوا بها الإدارة.»
زمجر محمد كرشة قائلا: «المفروض إحنا جينا نصرف فلوسنا، إزاي يعاملونا بالشكل ده؟»
تدخل عامل متقدم في السن موضحا: «نحن لم نقصد الإساءة إليكم، إنما نحن نسعى للحصول على حقوقنا؛ فهذا الفندق يجني أرباحا طائلة في فترة الصيف، ثم يغلق أبوابه في أشهر الشتاء الخمسة، ويسافر أصحابه إلى الخارج حاملين أرباحه بينما نبقى نحن في بيوتنا بلا عمل، أليس من حقنا أن نتقاضى أجرا عن هذه الفترة أيضا؟»
تزعم الأستاذ البورسعيدي الدعوة إلى ملاحقة إدارة الفندق. بينما انطلق الآخرون إلى الخارج وعلى رأسهم محمد كرشة. وكنت أنا ممن أقبلوا على الساندويتشات، فأخذت واحدا لي وآخر لزوجتي مع كوبين من عصير البرتقال، وانتحينا ركنا في القاعة الخارجية وجلسنا نلتهم طعامنا.
لمحت الشقراء السامقة تلج القاعة من الباب المطل على حوض السباحة وتتجه إلى المصعد، وكانت قد غطت صدرها وارتدت شورتا أسود اللون، وبدا جسدها الكبير عن قرب متناسق التفاصيل، يشع بجاذبية حيوانية. وقدرت أنها تنتمي إلى الشمال الأوروبي والعنصر الجرماني على الأغلب، إلى أن سمعتها تخاطب زميلة لها بلهجة أمريكية واضحة.
فرغنا من الأكل وأشعلنا سجائرنا ، وانهمكت زوجتي في قراءة الصحيفة اليونانية، بينما قمت أتفرج على الألعاب التليفزيونية، وكانت شاشة إحداها تمثل طائرة تلقي قذائفها على أهداف متغيرة. كان اللاعب يبذل جهدا بالغا في التركيز، مستعينا بيديه الاثنتين؛ واحدة تضغط زرا يسقط القذائف، والثانية تحرك مقبضا يبعد الطائرة عن مجال الصواريخ المضادة لها.
لكنه فشل في تسجيل أية نقاط بسبب بطئه في متابعة الضغط على الزر وتحريك المقبض في الوقت نفسه، فغادر مكانه آسيا. وفوجئت بالشقراء الأمريكية تحتل مكانه، وقد استبدلت ملابس السباحة بقميص وبنطلون أسودين التصقا بجسمها الفارع.
وضعت عملة معدنية في ثقب بالجهاز، ثم جعلت تحرك يديها فوق الزر والمقبض بسرعة فائقة، وتساقطت القنابل بدقة بالغة على أكواخ متفرقة تشبه أكواخ الهنود الحمر والزنوج الإفريقيين، وعلى جمال يمتطيها بدو في صحارى شاسعة، ومنازل شاهقة تحيط بها الحدائق.
نادتني زوجتي، فتبعتها إلى المصعد. ولاحظت أن بقعة من الدماء تلوث ملابسها من الخلف فنبهتها إلى ذلك. ناولتني الصحيفة ومدت يدها خلفها فجمعت الفستان في قبضتها لتخفي البقعة، وعندما بلغنا حجرتنا، هرعت إلى الحمام.
ألقيت بالصحيفة فوق مقعد، وعندئذ اكتشفت أن الغرفة ما زالت كما تركناها في الصباح. ورأيت لافتة من الورق المقوى على مائدة الزينة وكانت تحمل بحروف كبيرة هذه العبارة: «نحن مضربون»، وأسفلها التوقيع: «عمال النظافة».
أشعلت سيجارة وخرجت إلى الشرفة، وجلست أتأمل البحر الذي هبت منه نسمة باردة، بينما أشعة الشمس القوية تلتمع فوق الأجساد الممشوقة التي استلقت على شاطئه.
ومن أعماق المدينة الصغيرة جاءتني نغمات البوزوكي اليوناني تحمل آثار النواح العربي، الذي تسلل إليها ولا شك عبر أربعة قرون من القهر التركي.
انتهت سيجارتي، فولجت الحجرة لأطفئها في المنفضة. وكانت زوجتي قد غادرت الحمام واستلقت على الفراش، فاستلقيت إلى جوارها، ووضعت رأسي على كتفها. وبعد لحظة أحطتها بذراعي فقالت في رقة: «لقد نزفت اليوم بشدة.»
قلت: «وأنا أيضا.»
مصر الجديدة
1982م
نامعلوم صفحہ