فأجاب كبير الفرسان متعجبا وقال: «وحق القديس «برنارد» لقد آن لنا إذن أن نخلع النطق والمهاميز يا كنراد ونمحو شعار الدروع وننبذ الخوذات، لو كان أرفع الشرف المسيحي يمنح تركيا لم يعتنق دين المسيح ولا يساوي عشرة دراهم.»
فرد عليه المركيز وقال: «إنما أنت تحط من شأن السلطان، ومع ذلك، ورغم أنه رجل له قيمة، فلقد رأيت خيرا منه من المشركين يباع بأربعين درهما في المواخير.»
وكان الرجلان إذ ذاك قد دنوا من جواديهما - وكانا واقفين بعيدا عن السرادق الملكي يمرحان بين جماعة الخدام والحجاب الشجعان الذين كانوا يباشرونهما - وحينئذ عرض كنراد على صاحبه، بعد برهة ساد فيها السكون، أن يستمتعا بنسيم المساء البارد الذي بدأ في الهبوب، وأن يصرفا جواديهما وخدامهما ويسيرا راجلين إلى بيتيهما في الحي الذي يسكنانه، متخللين صفوفا ممتدة من خيام المسيحيين، فقبل رئيس الفرسان، ثم طفقا يسيران معا وكأنهما تراضيا على أن يتجنبا الأماكن المأهولة في هذه المدينة من الخيام، ويتابعا الرحبة الفسيحة التي كانت تقع بين الخيام وقوى الدفاع الخارجية، حيث يستطيعان أن يتحدثا مختليين، لا ترعاهما عيون غير عيون الحراس وهما يمران بهم.
وتبادلا الحديث برهة من الزمن على النقط الحربية والاستعداد للدفاع، ولكن هذا اللون من الحديث، الذي لم يرق لهما كليهما، سرعان ما خمد وأعقبته فترة طويلة ساد فيها السكون، ثم انتهى الأمر بأن وقف مركيز منتسرا بغتة وكأنه انتهى إلى رأي طارئ، ثم حدق ببصره بضع لحظات في عيني رئيس الفرسان السوداوين النافذتين، ووجه إليه الخطاب أخيرا وقال: «هل لي أن أطلب إليك يا سير «جلز أموري»، يا أيها الرجل المبجل، طلبة عساها تتفق وكرامتك، وتفوز منك بالرضا والقبول؟ وذلك أن تخلع عنك هذا القناع الأسود الذي تتقنع به وأن تتحدث إلى صديق لك بوجه عار.»
فابتسم رئيس فرسان المعبد نصف ابتسامة.
ثم قال: «من الحجب ما خف لونه، ومن الستر ما اسودت صفحته، وأولهما - كثانيهما - يخفي الملامح الطبيعية كل الخفاء.»
فقال المركيز، وقد مد يده إلى لحيته، ثم رفعها وكأنه يضم قناعا: «ليكن ذلك، هذا حجابي أرفعه، والآن ماذا ترى في أمر هذه الحرب الصليبية فيما يمس صالح رجال معبدك؟»
فأجابه رئيس الفرسان قائلا: «إنما أنت بسؤالك هذا تمزق الحجاب الذي يستر فكري، ولا ترفعه عما بنفسك، ومع ذلك، فإني أجيبك بقصة مجازية حدثني بها شيخ من شيوخ الصحراء؛ قال الشيخ: دعا مرة رجل فلاح ربه أن ينزل له من السماء ماء، ولما نزل الماء في غير وقت حاجته شكا الفلاح وتململ، فأراد الله أن يجزيه جزعه، فأرسل على حقله الفرات، فهلك الرجل وما يملك، ومع ذلك فقد استجاب الله له الدعاء.»
فقال المركيز كنراد: «ما أصدق ما تقول، وددت لو ابتلع المحيط تسعة عشر جزءا من سلاح أمراء الغرب هؤلاء! فإن ما يبقى بعد ذلك يؤدي لنبلاء فلسطين المسيحيين، وللبقية التعسة من مملكة بيت المقدس اللاتينية، أغراضهم خيرا من ذي قبل؛ لو أنا تركنا لأنفسنا لصمدنا للعواصف، ولو أن مددا معتدلا جاءنا من المال والرجال لأكرهنا صلاح الدين على أن يحترم فروسيتنا، ويقدم لنا صلحا وحماية بشروط هينة، ولكنا من الخطر الداهم الذي يكتنف هذه الحروب الصليبية القوية التي تهدد صلاح الدين - لو أنها وقعت - لا ننتظر من العرب أن يرضوا لأي منا أن يستولي على ملك أو إمارة في سوريا، بله أن يسمحوا ببقاء جماعات الإخوان المسيحيين الحربيين الذين نالوا على أيديهم شرا كثيرا.»
فقال رئيس الفرسان: «أي نعم، ولكن هؤلاء الصليبيين المغامرين قد ينجحون ويرفعون الصليب ثانية على حصون صهيون.»
نامعلوم صفحہ