وهكذا أتم الناسك حديثه وأشار إلى الفارس أن يتبعه، ثم سار نحو المذبح ومر وراءه وضغط على زنبرك، فانفرج - دون ضجيج - عن باب صغير من الحديد شق في قلب الكهف، ويكاد لا يلمحه البصر بغير الإمعان الدقيق، وقبل أن يجسر الراهب على فتح الباب على مصراعيه صب على مفاصله من المصباح قليلا من الزيت، ولما انفتح الباب الحديد أخيرا بأكمله، انكشف للرائي سلم صغير نحت في الصخر.
وهنا قال الناسك في صوت حزين: «خذ هذا القناع من يدي واحجب به عيني فليس لي أن أشهد الكنز الذي سوف تقع عليه عيناك عما قريب، وإلا كان إثما مني وعدوانا.»
ولم يجبه الفارس بكلمة وإنما أسرع إليه وكمم رأسه بالحجاب، ثم شرع الناسك يصعد السلم، وكأنه رجل تعود الطريق بحيث لا يحتاج إلى ضياء، ولكنه كان يمسك بالمصباح للاسكتلندي الذي تابع خطاه على الدرج متسلقا ذلك المصعد الضيق، وأخيرا بلغا بهوا صغيرا ليس له هيئة منظمة، ينتهي الدرج إلى أحد أركانه، ويرى في ركن آخر درج آخر يقابله ويستأنف صعوده، وفي زاوية ثالثة باب قوطي يتجمل جمالا ساذجا بما تتميز به عادة العمد والصخور المنحوتة ويحتمي بباب صغير اشتبكت فيه قضبان الحديد ودقت فيه المسامير، وقد قصد الناسك إلى هذا المكان الأخير، وكلما اقترب منه تعثر في خطاه.
ثم قال لرفيقه: «اخلع نعليك فإن الأرض التي تطؤها أرض مقدسة، واطرد من دخيلة قلبك كل فكر أو شهوة دنسة، فإنه كفر ما بعده كفر أن تضم إلى صدرك مثل هذه الرغبات في هذا المكان.»
فصدع الفارس بما أمر، وخلع نعليه، ووقف الناسك حينذاك وكأنه قد أرسل الروح في صلاة صامتة، ثم تحرك ثانية وأمر الفارس أن يقرع الباب الصغير ثلاثا، ففعل الرجل، وخيل للسير كنث أن الباب قد انفتح من تلقائه؛ إذ لم تقع عينه على أحد، وهب على حواسه تيار من ضياء نقي يخطف البصر، وشذى عبق قوي يأخذ بمجامع الحس، فرجع القهقرى خطوتين أو ثلاثا، ولم تمض دقيقة حتى أحس بالتغير المفاجئ من ظلام إلى ضياء يكاد من شدته يبهر البصر ويهد القوي.
ثم دخل الغرفة التي كان يخرج منها هذا الضياء البراق، ورأى أن النور كان يشع من مجموعة من المصابيح الفضية، تشتعل بزيت نقي، وتنشر أنفس العطور، معلقة بسلاسل من الفضة بسقف كنيسة صغيرة قوطية شقت - كأكثر أرجاء دار الناسك الفريدة - في الصخر المصمت الصلب. وبينما كانت الصخور في كل مكان آخر وقع عليه بصر السير كنث تدل على أن يد الإنسان لم تمتد إليها إلا بتسوية خشنة ساذجة، كانت هذه الكنيسة تشهد بأن الإنسان قد استخدم فيها أقدر المختصين بفن البناء بأزاميلهم وكل مبتكر من فنهم، فلقد كانت السقوف ذات الأضلع المتصالبة ترتكز على ستة أعمدة في كل جانب، نقشت بمهارة نادرة، والقباب المقعرة تتقاطع في جمال متسق، وكل شيء يدل على انسجام تام في الفن وملاءمة لروح العصر، ويقابل صف الأعمدة على كلا الجانبين فجوات ست بديعة الصنع، في كل منها تمثال لواحد من الرسل الاثني عشر.
وأقيم مذبح الكنيسة في طرفها الأعلى ناحية الشرق، وإلى ورائه ستار نفيس من الحرير الفارسي مزركش بالذهب الكثير، ويحجب مكانا خفيا لا شك في أنه يحتوي على تمثال أو أثر له قدسية غير مألوفة، وقد أقيم هذا المعبد الفريد تمجيدا له؛ وتوهم الفارس ذلك، فتقدم إلى الضريح وركع أمامه، وردد دعاءه بحرارة من القلب؛ وإذ هو كذلك، إذا بالستار يرتفع بغتة، أو لعله جذب إلى أحد الجانبين، فاضطرب الفارس في انتباهه، ولم ير كيف ارتفع الستار، أو من ذا الذي أزاحه، ولكنه رأى في الكن الذي انكشف خزانة من الفضة والأبنوس لها باب مزدوج، وكل شيء صنع على غرار كنيسة قوطية.
تطلع الفارس إلى الضريح بشوق قلق وإذا بالباب المزدوج ينفرج ويكشف عن كتلة من الخشب نقشت عليها هذه الكلمات «الصليب الحق». وفي تلك الآونة كانت بطانة من النساء ترتل نشيد «المجد لله»؛ وفي اللحظة التي انقطع فيها الغناء، أغلق الضريح وأرخي السجاف ثانية، وكان الفارس - وقد ركع لدى المذبح - يستطيع أن يواصل دعاءه دون اضطراب تمجيدا للأثر المقدس الذي تجلى لبصره منذ حين، وقد فعل ذلك تحت تأثير عظيم، يحس به كل من رأى بعيني رأسه شاهدا قويا على صدق دينه، واختتم صلاته، ثم هب وقد تشجع على أن يبحث حواليه عن الراهب الذي أتى به إلى هذا المكان المقدس المسحور، فوقعت عليه عينه وما فتئ رأسه مكمما بالقناع الذي كان قد لفه بنفسه حوله، واستلقى كالكلب الذليل لدى باب الكنيسة، ولكنه لم يجسر على وطئها؛ وقد كان في ذلك الوضع الذي اتخذه دلالة قوية على مقدار قداسته، وعلى توبته وندمه، فقد استلقى كرجل آده عبء فادح من إحساس باطني عميق، فخر طريح الأرض مغلوبا على أمره، وخيل للاسكتلندي أن الرجل ببنيته القوية وروحه المشتعل، لن ينكب على وجهه إلا إذا غلبه إحساس عميق بالتوبة والندم والخضوع.
فاقترب منه وكأنه يريد أن يتحدث إليه، ولكن الناسك أدرك مرماه، فتمتم في صوت مختنق من خلف الوثاق الذي كان يكمم رأسه، فرنت نبراته وكأنها صوت ينبعث من جثة هامدة في كفن وقال: «انتظر، فالمشهد لما ينته، ولتسعد بمرآه.» ثم نهض من فوق الأرض، وتقهقر من لدى المدخل حيث كان منكبا على وجهه، وأغلق باب الكنيسة، الذي كان يحكمه من الداخل مزلاج حلزوني كان له صرير رن صداه في أرجاء المكان، وهذا الباب لا يختلف في ظاهره عن الصخر ذاته الذي شق فيه الكهف، حتى إن كنث لم يكد يتبين أن هناك منفذا، وأصبح الآن وحيدا في الكنيسة المضاءة التي كان بداخلها الأثر الذي أدى له واجب الطاعة منذ حين، ولا سلاح له غير خنجره، ولا رفيق غير فكر ديني يخالجه، وشجاعة لا تعرف الخوف تتملكه.
ولم يدر السير كنث ماذا عسى أن يقع بعد ذلك من حدث، وإنما اعتزم أن يتابع مسير الحوادث، فضرب في أرجاء هذه الكنيسة المهجورة، حتى أوشكت الديكة أن تصيح عند منبثق الصباح؛ وفي ذلك الزمن الموات، حينما يعانق الليل النهار، رن في أذن السير كنث صوت لم يتبين مأتاه، صوت شيبه رنين جرس صغير من الفضة، يدق حين يهب مضيفه من مرقده كي يقيم الصلاة أو يقدم القربان - على حد تعبيره - ولقد جعلت ظروف الزمان والمكان ذلك الصوت جد جليل، فانكمش الفارس - رغم جرأته - إلى أقصى أركان المعبد في الطرف المقابل للمذبح كي يرقب بغير اضطراب ما قد ينجم عن ذلك النذير.
نامعلوم صفحہ