وقد ألف رتشارد مع أديث الصراحة التي تخولها لها صلة الرحم، إلا أنه أحس ببرودة هذا اللقاء، وافتتح الحديث في شيء من الحيرة والارتباك.
وأخيرا قال: «إن ابنة العم الحسناء غاضبة منا. وإنا لنقر بأن ظروفا قاسية قد حدت بنا - لغير ما سبب - إلى أن نعزو إليها مسلكا لا يتفق وما عرفنا من قديم عن سيرتها في حياتها، ولكنا إذ نسير في وادي الإنسانية المظلم نخطئ الأشباح نحسبها جسوما، فهلا صفحت ابنة العم الحسناء عن ابن جلدتها رتشارد، الذي يشوبه شيء من الشدة والعنف!»
فأجابت أديث وقالت: «من ذا الذي يضن بالصفح عن رتشارد، إن كان رتشارد الرجل يأتي بالعفو من رتشارد المليك؟»
فأجابها قلب الأسد قائلا: «تعالي قريبتي، هذا جد صارم، أقسم بالسيدة العذراء إن هذه النظرات الكئيبة، وهذا الحجاب القاتم الطويل، لتحدو بالرجال إلى أن يحسبوك أرملة محدثة، أو على الأقل امرأة فقدت عشيقها وخطيبها، سري عن نفسك . ألم يبلغك أن ليس هناك سبب حق للحزن والأسى؟ فلماذا تظهرين بمظهر الحداد؟» «أظهر به أسى على شرف بلانتاجنت الضائع، وعلى الجلال الذي خلف بيت أبي.»
فقطب رتشارد الجبين، وكرر قولها غاضبا وقال: «الشرف الضائع! والجلال الذي خلف بيتنا؟ ولكن ابنة عمي أديث على حق، فلقد حكمت عليها متعجلا، فمن حقها إذن أن تغلظ علي وتقسو، ولكن لا أقل من أن تخبريني فيم كان خطئي.»
فقالت أديث: «كان على بلانتاجنت إما أن يتسامح في الإساءة أو يجازيها، وما يليق به أن يكبل في قيود الكفار رجالا أحرارا من المسيحيين وبواسل الفرسان، وما ينبغي له أن يفاوض ويساوم، أو أن يمنح الحياة على أن يسلبها حريتها؛ والله لو أنك قضيت على هذا البائس بالموت لكان قسوة منك وغلظة، ولكنها الغلظة في ثياب العدالة. أما أن تحكم عليه بالرق والنفي فهذا ظلم صراح.»
فقال رتشارد: «ما أحسب ابنة عمي الحسناء إلا من أوليائكن الغيد اللاتي يرين بعد العاشق وموته سواء؛ صبرا فتاتي، إن عشرة من خفاف الفوارس يستطيعون أن يتبعوا الرجل ويصلحوا ما أخطأنا، إن كان لدى محبك هذا سر من الأسرار يجعل موته خيرا من نفيه.»
فاشتد احمرار أديث وقالت: «كفاك بذاءة في المزاح، واعلم أنك كي تسترسل في هواك بترت من هذا المشروع العظيم عضوا كريما، وحرمت الصليب دعامة من أقوى دعاماته، وأسلمت خادما من خدام الإله الحق إلى أيدي الكفرة المشركين، وأعطيت كذلك لعقول مرتابة - كعقلك الذي أبديت في هذا الشأن - بعض الحق في القول بأن رتشارد قلب الأسد قد نفى من معسكره أشجع جنوده، خشية أن يباري باسمه في القتال اسمه.»
فصاح بها رتشارد، وقد غلت ثائرته الآن حقا، وقال: «أنا، أنا! أفتحسبينني ممن يغارون من الذكر وبعد الصيت؟ وددت لو كان هنا وأقر بمساواته بي! إذن لنفضت عني شرفي وتاجي، ولاقيته كما يلاقي الرجل الرجل في ساحة النزال، حتى يبدو للعيان إن كان رتشارد بلانتاجنت لديه مجال للحسد أو للخوف من جرأة إنسان فان أيا كان. تعالي أديث، إنك لا تعتقدين بما تقولين؛ لا تكوني لغضبك أو حزنك على غياب عشيقك لقريبك ظالمة، وهو - رغم هياجك وثورتك - يحمل لحسن طويتك تقديرا كبيرا لا يعلوه تقدير لأي امرئ على قيد الحياة.»
فقالت السيدة أديث: «غياب عشيقي؟ أي نعم، تستطيع أن تسميه عشيقي بعد أن دفع لهذا الاسم ثمنا غاليا؛ إني يا مولاي، وإن كنت غير قمينة بولائه هذا، إلا أني كنت له كالضياء أهديه سبيله قدما في طريق الفروسية النبيلة. أما أني قد نسيت مكانتي، وأما أنه قد زعم لنفسه ما ليس له فزور وبهتان، حتى وإن كان ملكا من يقول بهذا.»
نامعلوم صفحہ