وقال رئيس فرسان المعبد: «لو سألتني أن أدينك فإدانتي إياك أشد وأخطر من إدانة مركيز منتسرا لك، وقد تظنون أنه لا يليق براهب عسكري مثلي أن يرفع صوته حين يبقى العدد العديد من الأمراء صامتين؛ ولكن الأمر يخص صفوفنا جميعا، ويهم ملك إنجلترا هذا النبيل - كما يهم غيره - أن يستمع إلى رجل يدينه علانية في وجهه بتهم هناك الكثير من الناس ممن يكيلونها له كيلا في غيبته. نحن جميعا نمجد ونحمد في ملك إنجلترا شجاعته ورفيع أعماله، ولكنا يسوءنا منه أن يستولي أبدا في كل ظرف على السبق والرفعة علينا جميعا، وليس يليق بالأمراء المستقلين أن يستكينوا لذلك؛ نحن نسلم راضين بالكثير لبسالته وغيرته وثروته وسلطانه، ولكن ذلك الذي يختطف منا كل شيء على أنه حق من حقوقه، ولا يترك لنا شيئا يمنحه إيانا عن رضا وطواعية، يحط بنا من مرتبة الأحلاف إلى مرتبة الخدام والأتباع، ويعتم في أعين جنودنا ورعيتنا بريق نفوذنا؛ إذ يرون أنا لا نباشره مستقلين؛ وحيث إن رتشارد الملك قد سألنا أن نصدقه، فينبغي له ألا يدهش أو يغضب إن سمع رجلا حرمت عليه أبهة الدنيا، وليس للسلطان الدنيوي لديه وزن إلا بمقدار ما يزيد به من نجاح بيوت الله وإذلال الأسد الذي يتجول هنا وهناك يبحث عمن يفترس، أقول يجب ألا يدهش أو يغضب إن استمع إلى رجل مثلي يصدقه القول ردا على سؤاله، وهو ذلك القول الحق، الذي يؤيده بقلبه في هذه الآونة التي أتحدث فيها إلى كل مصغ لي ، مهما كظم صوته احترام المليك.»
وبينما كان رئيس الفرسان الأعظم يهاجم مسلك رتشارد هذه المهاجمة المباشرة، التي لا يسترها من اللفظ طلاء، علا الدم في وجنتي الملك علوا شديدا، وتمتم الحاضرون إثر الخطاب بالرضا، مما كان يدل أوضح دلالة على أنهم يكادون جميعا يؤيدون هذه التهم، وأحنق الملك هذا، بل كاد يقتله كمدا، ولكنه مع ذلك رأى بثاقب بصره أنه إن استسلم لما في قلبه من ضغينة، وأطلق نفسه على سجيتها، أعطى ذلك المدعي الحذر حقا له عليه، وهو أهم ما كان يرمي إليه رئيس فرسان المعبد؛ ولذا فقد لبث رتشارد صامتا - رغم شدة وقع الحديث على نفسه - إلى أن أتم دعاء «أبانا الذي في السماء ...» سرا، وهي الطريقة التي نصح له قسيسه باتباعها كلما أوشك الغضب أن يملك منه زمام نفسه. ولما هدأت ثائرة الملك، شرع يتكلم كلاما لا يخلو من نغم مرير، وبخاصة في مستهل الخطاب، قال: «هل بلغ الأمر هذا المبلغ؟ وهل بلغ من إخواننا ألم النفس حدا يجعلهم يلحظون ضعف مزاجنا الطبعي، وغلظتنا في التعجل والغيرة اللذين قد يدفعاننا أحيانا إلى إصدار الأمر حينما يضيق الوقت عن عقد المجلس للتشاور؟ ما كنت أحسب أن الإساءة - إن كانت عارضة وبغير إصرار سابق - تجد لها في قلوب أحلافي مرتعا خصيبا في هذه القضية المقدسة التي نسعى لها، وأنهم من أجلي يسقطون المحراث من أيديهم، بعدما خط الأخدود حتى قرب نهايته، وأنهم من أجلي يحيدون عن الطريق المستقيمة التي تؤدي إلى بيت المقدس، والتي بسلاحهم شقوها. حقا لقد كنت أخدع نفسي حينما كنت أظن أن خدماتي القليلة ترجح أخطائي الطائشة، وأنكم إن ذكرتم أني خففت إلى الطليعة مهاجما فما نسيتم أني كنت أبدا في ذيل المتقهقرين، وإني إن رفعت رايتي فوق بلد مقهور، فإن في ذلك لكل الجزاء الذي أرجو، تاركا لغيري اقتسام المغانم؛ كنت أستطيع أن أطلق اسمي على المدائن التي تغزو، ولكني أسلمت لغيري البلاد، وإن كنت عنيدا صلب الإرادة، أفرض الرأي بجرأة وإقدام، فما أحسب أني ضننت بدمي ودم قومي في إنفاذ ذلك الرأي بمثل تلك الجرأة وذلك الإقدام، وإن كنت في عجلة المسير أو في ساعة القتال زعمت لنفسي على جنود الآخرين سلطانا، فقد كنت أبدا أنظر إلى هؤلاء الجنود وكأنهم جندي، أشتري لهم بمالي المئونة والدواء إن قصر أربابهم عن إحرازها. وإنه والله ليخجلني أن أذكركم بما يبدو لي أنكم جميعا من دوني قد نسيتموه، ولخير لنا أن ننظر قدما إلى مستقبل أعمالنا، وصدقوني أيها الإخوان ...» وهنا واصل الملك خطابه، وقد اشتعل وجهه حماسة وغيرة، وقال: «صدقوني إنكم لن تجدوا في كبرياء رتشارد أو غضبه أو أطماعه إساءة تقف لكم حجر عثرة في السبيل التي يناديكم إليها الدين والمجد نداء عاليا، كأن الملك الأعلى ينفخ في الصور كلا! كلا! والله إني ما أستطيع العيش لو عرفت أن ضعفي ووهني كانا سببا في التفرقة بين هؤلاء الإخوان الكرام من الأمراء الحاشدين، ووالله لأقطعن بيميني يساري لو كان لديكم دليل ينهض شاهدا ضد إخلاصي، ولسوف أنزل لكم طائعا عن كل حق لي في قيادة الجيوش، بل وفي رعيتي الخاصة من أتباعي، وليسر بهم أي ندبتم من الملوك، ومليكهم - وما كان أحب إليه أبدا من أن يستبدل بعصا القائد رمح المقاتل - وسوف ينضوي تحت لواء «بوسان» يخدم بين أصحاب المعبد، أي والله، بل وتحت لواء النمسا، لو أتت النمسا برجل مقدام يقود جيوشها. أما إن كنتم أنتم أنفسكم قد مللتم هذه الحرب، وتحسون بسلاحكم يعقر بض جلودكم، فما عليكم إلا أن تتركوا رتشارد ونحو عشرة آلاف، أو خمسة عشر ألفا من جنودكم، يعمل لكم على البر بيمينكم.» ثم صاح بهم وقد هز برأسه إلى أعلى كأنه ينشر علم الصليب فوق بيت المقدس وقال: «وإذا ما ظفرنا بصهيون، فسوف لا نكتب على أبوابه اسم رتشارد بلانتاجنت، وإنما أولئك الأمراء الأكرمين الذين عهدوا إليه بوسائل الظفر والانتصار.»
هذه الفصاحة الجاهلية، وذلك القول الباسم الذي ألقاه الملك العسكري، أثار في الصليبيين خائر العزيمة، كما بعث الحياة من جديد في إخلاصهم ، وتنبهت أذهانهم إلى الغرض الأول من حملتهم، فعرا أكثرهم الحياء من تأثرهم بتافه الشكاوى التي غمرتهم أمثالها من قبل، وانتقلت النار من عين إلى عين، وسرت الحمية من صوت إلى صوت، فكرروا - وكأنهم مجمعون - نداء الحرب الذي سبق لهم أن رددوا به ضراعة بطرس الناسك، وصاحوا بصوت مرتفع: «سر بنا قلب الأسد الهمام؛ ليس لأحد أن يتقدم إن تخلف الشجعان؛ سر بنا إلى بيت المقدس! هذه هي إرادة الله! هذه هي مشيئة الرحمن! بارك الله فيمن يقدم لإنجازها سلاحه!»
هذه الصيحة، التي صاحوا جميعا على حين غرة، نمت إلى ما وراء حلقة الحراس القائمين على سرادق المجمع، وانتشرت بين جند الجيش، الذين فت من قواهم المرض والجو حتى باتوا متعطلين خائري العزيمة، وأخذوا كزعمائهم يهن منهم العزم، ولكن ظهور رتشارد ثانية في نشاطه المتجدد، وتلك الصيحة المعروفة التي تردد صداها بين مجمع الأمراء، أثارت فيهم الغيرة بغتة، وأجابت الألوف وعشرات الألوف مرددين الصيحة عينها: «صهيون، صهيون! الحرب، الحرب! هيا توا إلى قتال الكفار! هي إرادة الله! هي مشيئة الرحمن!»
وهذا الهتاف في الخارج ضاعف بدوره الغيرة التي سادت داخل السرادق، وخشي أولئك الذين لم تشتعل النار في قلوبهم فعلا أن يظهروا أقل حرارة من غيرهم، ولم يعد هناك حديث آخر غير حديث الزحف نحو بيت المقدس بأنوف شامخة بعد انقضاء الهدنة، وحيث الوسائل التي تتبع في عين الوقت لإمداد الجيش وإعداده بالرجال، ثم انفض المجمع وظاهرهم جميعا الإيمان التام بغرض واحد؛ غرض سرعان ما ذوى في صدور أكثرهم، وما كان له البتة وجود في صدور الآخرين.
ومن هذه الجماعة الأخيرة كان المركيز كنراد الرئيس الأعلى لفرسان المعبد، فأويا معا إلى كنفيهما على مهل، غير راضيين عما أسفر عنه يومهم هذا.
وقال ثانيهما وعليه سيماء الاستخفاف البارد الذي عرف به: «كم من مرة ذكرت لك أن رتشارد يستطيع أن يشق طريقه وسط الحبائل الرقيقة التي تنشر له، كما يشق الأسد نسيج العنكبوت؛ أفلم تر أنه ما إن تكلم حتى لعبت أنفاسه بأولئك الحمقى المترددين، كما يلعب الإعصار بالهشيم المنثور فيجمعه أو يبدده كيفما شاء؟»
فقال كنراد: «إذا ما انقشع الإعصار استقر الهشيم فوق الأرض ثانية بعد هبوبه على متن الريح.»
فأجابه رئيس المعبد وقال: «لكن هلا علمت فوق ذلك أنه يرجح - إذا ما انتهينا من هذا المقصد الجديد الذي قصدنا بالغزو، وقضي الأمر، وعاد كل أمير جليل يسترشد بما يهديه إليه عقله الضعيف - أن يمسي رتشارد برضا من الأمراء ملكا على بيت المقدس، وأن يقبل حدود المعاهدة مع صلاح الدين، التي ظننت أنت نفسك أن ليس أقرب منه أحد بازدرائها والغض منها!»
فقال كنراد: «والآن بعدما أصبحت الأيمان المسيحية عتيقة بالية، أستحلفك بمحمد وبرب محمد إلا قلت لي إن كنت تحسب أن ملك إنجلترا العاتي سوف يربط دمه بدم السلطان المسلم! لقد كان من سياستي أن أدخل في المعاهدة هذا الشرط، حتى أجعلها بأسرها بغيضة إلى نفسه. وكلا الأمرين شر لنا؛ إن أصبح سيدا علينا بالغلبة والنصر، أو بالاتفاق والرضا.»
نامعلوم صفحہ