وسمعن إذ ذاك رتشارد يتحدث في الداخل إلى شخص ما ويقول: «اذهب واصدع بما تؤمر الآن أيها المولى، فإن في هذا لرأفة بك، ولك عشر بيزنطات لو قضيت عليه بضربة واحدة. استمع إلي أيها الشقي، راقبه وقل لي إن امتقع لون خده أو فترت عيناه، وخبرني بأدق ما تلحظ من لمحة في طلعته أو طرفة في عينه. إني أحب أن أعرف كيف تلقى النفوس الجريئة الموت.»
وأجابه صوت أجش عميق يقول: «تالله لو رأى ظباتي وهي تهتز عالية ولم يتقهقر لكان أول من يفعل ذلك.» ولطف من حدة هذا الصوت إحساس بالرعب لم يألفه، وأحاله إلى نبرات أكثر خفضا من نبراته الخشنة المعهودة.
فلم تستطع أديث أن تلزم الصمت بعد هذا وقالت: «إذا لم تشق جلالتك لنفسها طريقا فدعيني أفعل ذلك - وإن لم يكن لك، فلي على الأقل - أيها الحجاب، إن الملكة تريد أن ترى الملك رتشارد، الزوجة تريد أن تتحدث إلى زوجها.»
فقال الضابط وقد خفض عصاه «أيتها السيدة النبيلة، يحزنني أن أعترضك فيما تقولين، ولكن جلالة الملك مشتغل بأمور فيها حياة أو موت.»
فقالت أديث «ونحن كذلك نريد أن نكلمه في أمور فيها حياة أو موت. سأجعل لجلالتك مدخلا.» ثم أزاحت الحاجب جانبا بإحدى يديها وأمسكت السجان بالأخرى.
فقال الحاجب وقد أذعن لحدة هذه الحسناء صاحبة الحاجة «إني لا أجرؤ على معارضة رغبة جلالتها.» وألفت الملكة نفسها - والحاجب يخلي الطريق - مضطرة إلى دخول غرفة رتشارد.
وكان الملك مستلقيا على سريره، وعلى مقربة منه يقوم رجل كأنه يرتقب أمرا جديدا، ولم تكن مهمته مما يشق حدسه، فلقد كان يرتدي سترة قصيرة من القماش الأحمر لا تتدلى دون كتفيه إلا قليلا، تاركا ذراعيه عاريتين من منتصف ما فوق المرفق، وكان يكتسي معطفا أو صدرة بغير كم، يرتديه فوق ذلك حين يهم - كما هم الآن - بأداء واجبه الشاق، وهو أشبه بمعطف الرائد مصنوع من جلد الثور المدبوغ، ويلوث ظاهره نقط كثيرة كبيرة الحجم ولطخات حمراء قاتمة ؛ والسترة والصدرة فوقها تتدليان حتى ركبتيه، وجواربه السفلى - أو ما يغطي به ساقيه - من الجلد عينه الذي صنعت منه الصدرة، وله تقية من الشعر الخشن، يتخذها حجابا للنصف الأعلى من وجهه الذي يشبه وجه البوم الصياح، وتبدو عليه كالبوم الرغبة في الاختفاء عن النور. أما النصف الأدنى من محياه فتخفيه لحية كبيرة حمراء تختلط بخصلات مشعثة لونها من لون اللحية، أما ما بدا من ملامحه فعليه سيماء الفظاظة وبغض الناس، أما قامته فقصيرة، ولكنه قوي البنية، له رقبة ثور، وكتفان عريضتان، وساعدان بالغتا الطول لا تناسق فيهما، وجذع كبير مربع جدا، وساقان غليظتان عوجاوان. وكان هذا الموظف الشرس يرتكز على حسام تبلغ ظباته نحو أربعة أقدام ونصف قدم طولا، وطول مقبضه عشرون بوصة، وتحيط بالمقبض حلقة من خيوط الرصاص كي توازن ثقل مثل هذا السيف، ويرتفع المقبض كثيرا فوق هامة الرجل، وقد أسند الرجل ساعده فوق نصابه ينتظر إرشادا جديدا من الملك رتشارد.
ولما دخل النسوة على حين غرة، كان رتشارد مستلقيا على سريره ووجهه صوب الباب، مرتكزا على مرفقه وهو يتحدث إلى خادمه هذا البشع، فارتمى على الجانب الآخر مسرعا كأنه غاضب دهش، وولى ظهره الملكة وحاشيتها من النسوة، والتحف بغطاء سريره وهو يتألف من جلدي ليثين كبيرين، دبغا في البندقية بمهارة تدعو إلى الإعجاب، حتى أصبحا أشد نعومة من جلد الغزال، وهذا الغطاء ربما كان من انتقاء رتشارد نفسه، أو ربما كان على الأرجح قد اختاره له حجابه ملقا له ودهانا.
وكانت برنجاريا كما وصفنا تعرف جيدا طريقها إلى الظفر. وأي امرأة لا تعرف الطريق إلى الظفر؟ فبعدما ألقت نظرة عجلى، فيها رعب غير خاف ولا مصطنع من هذا الرفيق المروع، رفيق زوجها وهو في مجالسه الخاصة، اندفعت توا إلى جوار سرير رتشارد، وخرت على ركبتيها، ونزعت ملاءتها عن كتفيها، فبدت منها جدائل شعرها الذهبية الجميلة وقد استرسلت بتمام طولها. ومع أن طلعتها كانت تبدو كالشمس يشق ضياؤها ظلام السحب، إلا أن جبينها الشاحب كانت - رغم ذلك - تبدو عيله آثار السنا قد انطفأ بريقه. وبهذه الصورة أمسكت بيمين الملك، وكانت يمناه وهو يستعيد رقدته التي ألف مشتغلة بجذب غطاء السرير، ثم أخذت تجذب إليها يد الملك شيئا فشيئا بقوة قاومها الملك مقاومة طفيفة، حتى تملكت الساعد، وهو دعامة العالم المسيحي وفزع المشركين المنافقين. ولما أن استولت على زمام الساعد بين يديها الدقيقتين الجميلتين، ثنت جبينها عليه ولثمته بشفتيها.
فقال الملك ولما يزل منصرفا عنها برأسه، وإن تكن يده تحت سلطانها: «فيم هذا يا برنجايا؟»
نامعلوم صفحہ