في موسوعته (242) نصا مطولا بعض الشيء لثيوفراسط يمكن أن يوضح لنا رأيه في التربية، ولا بأس من ذكره لتدعيم الأفكار السابقة:
من الواضح أن التربية، وهذا أمر يتفق عليه من الجميع، تهذب النفوس، وذلك من خلال ما تقوم به من تخليصها من الانحراف، وتجنبيها الآثار المترتبة على غياب المبادئ والأصول الأخلاقية؛ وبهذه الطريقة يتم كذلك ملاءمة ماهية الإنسان للحياة في الجماعة وتطويعها. هنا لا يصح قطعا أن نوجه اللوم إلى الأوساط (أو الناس العاديين)؛ إذ تنقصهم الحرية الكاملة التي تمكنهم من تشكيل حياتهم. وعلى العكس من ذلك يصح أن نلوم أولئك الذين ينشئون حقا كبشر أحرار حرية حقيقية، ويملكون الوسائل الكافية التي تتيح لهم أن يتوصلوا لأي شكل من أشكال الحياة يحبونه، ولكنهم بالرغم من ذلك يهملون القيمة العليا. إن سلوكهم في الواقع سلوك متناقض؛ فهم إذا تركت لهم حرية الاختيار انتقوا أعظم المدن ليسكنوها، وأفضل البشر ليكونوا أصدقاءهم وجيرانهم. أما إذا ترك لهم أن يختاروا الحياة كما تتجلى في أفضل أشكالها، فإنهم يقللون من شأنها، ويصرفون أخص شئونهم تبعا للصدفة المحضة بغير أن يتأنوا في فحصها أو ينظروا فيها نظرة نقدية. وإذا اضطروا للقيام برحلة راحوا يتسقطون الأخبار من الآخرين، ويبحثون عن دليل يمكن أن يقودهم ويجنبهم الأخطار. ولكنهم، كما يقال، يرمون الزهر على الحياة كلها، ويقعون - بلا وعي أو خبرة وحسبما تشاء الصدفة - في أسوأ أشكال الحياة التي يمكن تصورها. ومع ذلك فإن الأسوأ والأشد خطرا من هذا الاختيار الذي وقعوا فيه هو العدول عن الطريق الخاطئة التي ساروا فيها بالفعل. إن الضرر في هذه الحالة كبير، والتراجع عنه عسير، بل يكاد أن يكون في حكم المستحيل؛ فلا الزمن يتيح الفرصة لإعادة التفكير، ولا طبيعة الإنسان تقدر على أن تتعلم شيئا أفضل إذا كانت قد نشأت على الشر. صحيح أنها تواصل اتخاذ القرارات والحكم على بعض الأمور الأخرى حكما أفضل، ولكنها تستمر في الحياة التي تعودت عليها. (9)
هكذا يتيح لنا كتاب «الطباع»، دون أن يجاريه في ذلك أي كتاب آخر وصلنا من العصور القديمة، أن نطل على حياة الناس وأعمالهم وأوجه نشاطهم في مجتمع الطبقة الوسطى الأثينية في مطلع العصر الهليني؛ فنحن نتجول - كما سبق القول - في الأسواق، وندخل دكان صانع الأحذية مع المتملق الذي يقرظ قدم سيده ويقول إنها أبدع من الحذاء الذي يريد أن يشتريه (راجع اللوحة رقم 2)، ونستمع إلى كثير الكلام الذي يغرق رجلا لا يعرفه في سيل كاسح من الأقوال والأحلام والتأملات والحسرات على سوء الأحوال، فضلا عن الطموحات الشخصية والآمال (اللوحة رقم 3)، ونرى كيف يقف الوقح وقليل الحياء في دكان الجزار بالقرب من الميزان، ولا يستحي من وضع قطعة لحم أو عظم في كفته، أو يخطف على الأقل شيئا من العفشة (كما تسمى المصارين في العامية المصرية!) ثم ينصرف ضاحكا (اللوحة 9)، وكيف يتسكع الفظ بين الدكاكين، ويفرض ظله الثقيل على الباعة، ويخطف أثناء ثرثرته معهم جوزة من هنا وقطعة فاكهة من هناك (رقم 11)، وكيف يختال الطموح المغرور في السوق بثياب الفرسان حتى بعد انتهاء موكب الاحتفال لكي يلفت إليه الأنظار (رقم 21)، ويخفي الوضيع مشترياته من اللحم والخضر في طيات ثوبه أثناء رجوعه إلى بيته (22)، ويتنطع الفشار في سوق الخيول مدعيا أنه يريد أن يشتري خيولا أصيلة 23).
وإذا غادرنا السوق وما يجري فيه، ودخلنا أحد الحمامات العامة، شاهدنا وسمعنا الريفي وهو يغني (4)، والفظ الذي يضن على صاحب الحمام ب «البقشيش» الذي يستحقه (9)، والمقزز الذي يستعمل زيتا قذرا بحجة أنه يريد أن يرفع نبضه أو ينتعش (19)، والمتعلم على كبر وهو يتبختر ويهز عجيزته مقلدا اللاعبين في حلبة المصارعة، ويحاول أن يتدارك ما فاته من العلم والمعرفة ومباهج الشباب وألعابه (27)، والبخيل وكيف يتطيب بزيت مستعار، ويتجمل بثياب غيره من الناس، ويتفنن في الشح والدناءة (30). ثم نذهب إلى المسرح أيضا فنرى كيف يرتب المتملق وسائد المقعد للشخصية المهمة التي يتملقها بدلا من أن يترك ذلك للخادم أو العبد، كما يتعمد الجلوس في الصفوف الأولى مع الشخصيات المرموقة (5)، وكيف يطلق الفظ نكاته السخيفة (11)، وينعس البليد أثناء العرض المسرحي (14)، ويرفض البخيل دخول المسرح إلا إذا ضمن ألا يكلفه ذلك ثمن التذكرة (30). وأخيرا نجد أنفسنا في المجلس الشعبي، حيث نستمع إلى بعض الخطب، ونلاحظ تأفف الغني المتعالي من جلوس الفقير إلى جواره، كما نتابع تصرفات الناس، سواء كانوا ضيوفا أو مضيفين، وأصدقاء أو معارف، ومشاركين في تقديم الأضاحي أو عالة عليها. وتسقط الأضواء على الحياة السياسية والاقتصادية والدينية التي يضطرب فيها الناس فنعرف آراءهم، ونسمع تعليقاتهم وإشاعاتهم، ونفهم أوضاع السادة والعبيد، والأزواج والزوجات، والمواطنين والأجانب، ونلتقط مشاهد ومسامع من اللغة الجارية والعبارات والشعارات السائدة، ونخرج من الكتاب كما نخرج من دار السينما بعد مشاهدة عرض ممتع لحياة زاخرة متلاطمة بأمواج من البشر والأفكار والعادات والأخلاق والطرائف والغرائب التي يصعب نسيانها. (10)
ربما أكون قد أسرفت على القارئ في تصوير «الخلفية» الفلسفية لهذا الكتاب إعمالا للدقة والإحاطة على قدر الطاقة، لكن الكتاب نفسه يمكنه أن يغني القارئ عن أي تمهيد طال أو قصر عن مدى أهميته من الجوانب التاريخية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية؛ فهو قادر بنفسه على مخاطبة القارئ مباشرة، والحديث الشيق معه بلا مقدمات فلسفية أو غير فلسفية. ولا يرجع هذا للشكل البسيط الذي صيغ به على هيئة «تقارير عن الأحوال» كما قد نقول اليوم، ولا إلى المواقف وردود الأفعال المضحكة التي تبعث فينا الرغبة في الابتسام، بل ولا ترجع للبراعة الفائقة في رسم «الطبع» بخطوط مرهفة سريعة وشديدة الدقة والإيحاء. إن تأثرنا به - ميلا أو نفورا - يرجع إلى المادة ذاتها؛ أعني إلى نماذج الشخصيات أو الطباع التي تتمثل أمام أعيننا وهي تفيض بالحيوية وتضطرب وتتعثر تحت ثقل الهموم والمشكلات، أو تختال وتتبختر مزهوة بنفسها وحظها وكأنها مخلدة، أو تمشي بطيئة محنية الظهور تحت وطأة الطبيعة الموروثة التي تقهرها قهر القدر «الإغريقي» المتهجم كأنها دمى عاجزة سلبت منها الإرادة والعقل بعدما حرمت من التربية والصقل.
وليس غريبا بعد هذا - كما سبق القول - أن يجد القارئ المعاصر في هذه النماذج والأنماط مرايا تعكس بعض معارفه وأصدقائه وأهله، وليس عجيبا أن يصل به الأمر إلى حد أن يجد فيه نفسه أو جزءا من أجزائها على الأقل (إذا أخذنا بالمفهوم السائد في ذلك الحين ومنذ أفلاطون عن أجزاء النفس وقواها، لا بالمفاهيم الحديثة عن النفوس المتصارعة في داخلنا. تذكر فاوست وفرويد والمواكب المتلاحقة لعلماء النفس والطب العقلي). ولا يستبعد أيضا أن يلاحظ التناظر الشديد بين بعض هذه الطباع - حتى في حركاتهم وإيماءاتهم وتعبيراتهم ولازماتهم اللغوية ... إلخ - وبين بعض المحيطين به إلى الحد الذي ينسيه الهاوية الزمنية التي تفصله عنها، وتبلغ كما أشرنا مرارا ما يزيد على الألفين وثلاثمائة عام (من حسابنا البشري للحاضر الأبدي الممتد الذي يتحدى حدودنا الهشة وتقسيماتنا العاجزة). ولا يتصور القارئ أنني أجره إلى أوهامي وأحلام يقظتي؛ لأنه لن يكون أول من مر بهذه التجربة ورأى نفسه وناس عصره في «الطباع»؛ يكفي القول بأن أحد الرهبان في العصر الوسيط قد تعرف - أثناء قيامه بنسخ الكتاب - على بعض زملائه الذين يعيشون معه في الدير من خلال عدد من أصحاب الطباع، وأنه قد استبدل - سهوا أو عمدا لا ندري! - بكلمة «الورش» أو «المصانع الصغيرة» التي وردت في بعض اللوحات كلمة «الأديرة».
19
وهذا شبيه بما صنعه مترجم الكتاب إلى الفرنسية (1688)، وهو لابرويير (1640-1696)، الذي لم يكتف بترجمة الأصل - ترجمة فقيرة وغير دقيقة! - وإنما أسقط شخصياته وطباعه على شخصيات عصره وبلده التي لم يرحمها قلمه الساخر سخرية مرة.
هل نستدل من هذا - كما سبق أن فعلنا - على الجانب «الثابت» من الطبيعة الإنسانية؟ وهل يوافقنا أحد اليوم على هذا التعميم عن طبيعة إنسانية أو عن «ثبات» التغير والتحول المستمر في كل شيء؟ الواقع أن الذي نقصده أبسط من ذلك بكثير؛ فالوحدة التي نتحدث عنها بين أبناء البشر لا تتجلى فحسب في اشتراكهم في الآمال والأحلام والمخاوف والآلام، وإنما تؤكد نفسها قبل ذلك في أخطائهم الصغيرة وجوانب ضعفهم الكثيرة، وتعثر خطواتهم على طرق طموحهم الذي يفلت عادة من كل الحدود. ذلك فيما أظن هو الجانب الذي يمكن القول بأنه مشترك بين البشر، أو أنه يوحد بينهم على الرغم من بعد الشقة بينهم في المكان والزمان واللغات والأديان والألوان. وهذا الجانب المشترك هو الذي عجزت أساليب التربية في أيام ثيوفراسط أن تغير منه شيئا. ولعل ذلك العجز كان أحد الأسباب التي حفزت فيلسوفنا الأديب على تقديم «شواهده» على سوء التربية والتعليم وفساد الطباع والأخلاق - ترى، ماذا كان يمكن أن يفعل لو عايش أو حتى سمع عن «مافيا» التعليم الفاسد عندنا، وقبح بعض «المعلمين» الذين حولوا العلم إلى سمسرة حقيرة وتجارة رخيصة وإرهاق وحشي للتلاميذ المساكين ولآبائهم المظاليم؟! - وهل يعزينا قليلا أن نعاين نفس الوجوه القبيحة قبل ثلاثة وعشرين قرنا، وإن كان قبح الوجوه المعاصرة أشد ضراوة وخبثا وبشاعة مما كانت عليه الطباع القديمة، التي تبدو بالقياس إليها كالأطفال السذج المساكين أمام عمالقة الشر والغدر ووحوش الجشع والأنانية والانتهازية المفترسين؟! (11)
ونصل إلى تأثير «الطباع» على العصور والكتاب والقراء، فنجد أنه يحقق المقولة التي يبدئ فيها النقد الحديث ويعيد من أن العمل الواحد تختلف تفسيراته باختلاف القراء الذين يتلقونه، و«يبدعه» كل واحد منهم على طريقته أو على الأقل يشارك في إبداعه؛ فقد تراوح «التلقي» للكتيب الذهبي بين التحمس له والإضافة إليه من فرط الإعجاب به، وبين إهماله والسكوت عنه طوال عصر أو قرن كامل.
نامعلوم صفحہ