كان التناقض بين الصديقين في الشكل عجيبا. فأما همام فطويل القامة عريض المنكبين يضع طربوشه معتدلا على رأسه، ويضع على فمه ابتسامة مطمئنة لا تبارحه، يرى فيه الرائي بشرا وثقة وهدوءا، وقد كان وجهه مستديرا في غير امتلاء، ذا شارب متقن الصبغة، وكانت سوالفه كثة سوداء أيضا كشاربه، وكانت عيناه عميقتين فيهما ذكاء وفيهما كوجهه اطمئنان وهدوء. أما فواز فقد كان قصير القامة مليء الجسم والوجه، حليق اللحية والشارب والرأس أيضا، وإن تكن الأيام هي التي تولت عنه نزع شعر رأسه، ولم يكن ضاحكا كصديقه، وإنما هو متجهم الوجه إلا حين يسمع نكتة، فإنه يخف إلى الضحك لها خفة الذكي اللماح، وقد كان هو نفسه مرح العبارة سريع اللفتة ضاحك الحديث. شيء واحد اتفق فيه الصديقان، هو ذلك الاطمئنان الذي يشيع في وجه كل منهما.
التقى الصديقان، ولم يمهل فواز صديقه أن يجلس، بل سارع قائلا: أما صفقة يا همام!
وازدادت الابتسامة اتساعا على وجه همام وهو يقول: ألم تيأس مني بعد؟ - بل ألم تعقل أنت بعد؟ - وأي جديد يدعوني إلى العقل الذي تحسبه أنت عقلا؟ - أرباحي، مكاسبي، انظر، أنا أغنى منك اليوم عشرات المرات. - المهم أن تظل كذلك. - ولماذا لم تسمع كلامي؟ كسبت من الصفقة الأخيرة ثروة، ثروة طائلة، ودعوتك لتربح معي فرفضت. - الحمد لله، كل رجائي أن أترك ما جمعت للأولاد. - أليس لي أولاد أنا الآخر، مم تخاف؟ - ألا تعرف؟ - الفقر؟ - أهو قليل؟ - لم تخفه أبدا. - كنت أخافه دائما كما تخافه أنت دائما. ولكننا كنا نخفي خوفنا. - أتذكر؟ - أذكر، وهل يمكن أن ننسى؟ - أتذكر يوم خسرنا كل أموالنا وخرج كل منا مدينا بعشرين ألف جنيه؟ - وهل ينسى ذلك اليوم؟ جلسنا في المقهى نلعب النرد، وجاء صديقنا محمد باشا يوسف يهمس في أذني أنه يريدني لأمر جليل. - نعم، كان محتاجا لألف جنيه سلفة. - يرحمه الله، كان رجلا. - لا أنسى ضيقك وألمك، يومذاك لم تهزك الكارثة وهزك أن صديقا لك قصدك وليس معك ما تجيب به طلبه، والله إنك رجل يا همام، اقترضت المبلغ بفائدة بشعة وذهبت به إلى صديقك. - وهل كان يمكن إلا هذا؟ - رجل والله. - الله يرحم محمد باشا. رد المبلغ وتوفى ولم يعلم أني كنت أشد منه إفلاسا. - ومع ذلك تخاف؟ - الأولاد يا فواز، الأولاد. - اسمع، لماذا لا تكتب الأرض باسم زوجتك؟
فقال همام جازعا: أتعني أهرب أموالي؟ - وما البأس! - أخون ثقة الناس، أسرق يا همام، أترضى لي ذلك؟ أتفعلها أنت؟ - يا أخي والله ... - ماذا؟ - لقد اضطررت أن أفعل هذا. - ماذا؟! - أليس لي الحق أن أخاف أنا أيضا؟ - هذه سرقة يا فواز! - وماذا أفعل؟ - توقف عن المضاربة. - لا أستطيع، وأنا لم أبتدع شيئا جديدا. - لا يا فواز، صداقتي بك في كفة وبقاء أموالك باسم زوجتك في كفة. - على مهلك يا همام. - أبدا، غدا، غدا يا فواز، غدا وليس بعد غد. - أترى هذا! - ولا صداقة بيننا حتى أرى أموالك باسمك، إلا هذا يا فواز، إلا هذا. - أمرك، لم يكن ضميري مستريحا أنا أيضا. - بل كان يجب على ضميرك ألا يقبل هذا من أول الأمر. - طيب يا سيدي، أمرك. - بل أمر الأخلاق يا رجل، غدا يا فواز. - غدا يا همام، غدا إن شاء الله. - وسأنسى لك هذه الحكاية وكأنها لم تكن. - لهذه الدرجة أنت غاضب؟! - أنت تعرف إلى أي مدى أنا غاضب. - والله لقد جئت إليك من أجل هذا، فمنذ نقلت أموالي وأنا أحس شيئا يخزني فلا أستطيع النوم أو الاستقرار. - أتنسى ما فعلناه مع حمدي الأسواني لأنه هرب أمواله؟ ألم أشتمه في وجهه وأيدتني أنت؟ - انظر إليه الآن، خسر مائة ألف جنيه ولم تمس أمواله بسوء. - ولكنه بلا كرامة. - أي كرامة تقصد؟ الناس جميعا يحترمونه! - يحترمونه في وجهه، ويحتقرونه إذا ابتعد عنهم. - يا أخي أنت مبالغ، انظر إلى سيد باشا الحديدي، أكل أموال أخيه وخرجوا إلى المقاهي يسألون الصدقة، وقد ترك لهم أبوهم ألف فدان، ومع ذلك يحترم الناس سيد باشا ويحتقرون أولاد أخيه. الناس لهم الغنى، لا يهمهم من أين أو كيف أصبح غنيا. المهم عندهم أنه غني. - أتحترم أنت سيد باشا؟ - والله ... والله ... - أتفكر؟ إن كنت تحترمه، فأنت لست صديقي! - ماذا؟ أأصبحت صداقتي هينة عليك إلى هذا الحد؟ - إنما أنت عزيز علي؟ وهذا الذي تقوله كبير وليس هينا كما تظن. - طيب يا سيدي وهو كذلك، أعود إليك غدا إن شاء الله ومعي ما يرضيك. - وإني منتظر.
الفصل السابع
طال مرض فايزة والمسكينة لا تملك إلا طاعة الأطباء دون أن تجدي الطاعة أو يجدي الأطباء. وقد كان خيري خليقا أن يزورها في كل يوم ليرى وفية ويطمئن على فايزة، ولكنه حين أعمل عقله وجد أن الامتحان الحاسم أصبح على الأبواب، ووجد أن الاطمئنان على فايزة يمكن أن يتم عن طريق محسن، أما مذاكرته هو لدروسه فلا يمكن أن تتم إلا عن طريق المذاكرة نفسها بلا طريق آخر. واستطاع بالأمل الذي وضعته أمه له عند النجاح أن يكبح هوى قلبه وإلحاحه عليه أن يزور وفية ، فظل في بيته وقد تولاه سعار من المذاكرة، وطلب إلى محسن أن يأتي ليذاكر معه حتى يتهيأ لهما جو بعيد عن مرض فايزة، وحتى يستطيع محسن أن يبتعد قليلا عن خوفه على أخته ويفرغ إلى هذا الامتحان الذي يتقدم منهما حثيثا لا يوقفه مرض فايزة أو خوف محسن.
كان خيري حائرا، أيريد الأيام أن تمضي سراعا، فتدنو به إلى الأمل المرتقب، أم يريدها أن تمر رهوا بطيئة وهي تحمل في قوابلها الامتحان وما في الامتحان من رعب؟ حيرة سرعان ما تدور بها المذاكرة فتذوي في طوايا النفس لا تعود إلا عند فراغ - وما أقل الفراغ - أو قبيل نوم - وأين منه النوم؟
أما محسن فقد كان يجد في الذهاب إلى خيري مسلاة عن هذا المرض الذي انصب على أخته فكأنما انصب على البيت جميعا، وقد كان خليقا أن يجد عند أصدقائه في المقهى هذه المسلاة نفسها، ولكنه لم يجد في نفسه خفة إلى مرح أصدقائه هؤلاء، كما أن خيري لم يتح له الذهاب إليهم، فهو لا يزال به يذكره بقرب الامتحان وبضرورة المذاكرة حتى لوى به عن طريق المقهى إلى البيت.
كان خيري ومحسن منهمكين في المذاكرة حين دلفت نادية إلى الحجرة فلم يحس بها واحد منهما. ووقفت نادية قليلا ثم ضاقت بهذا الصمت الذي ران على الصديقين. واشتد ضيقها أن لم يرحب بمقدمها أحد، وهي لم تدخل حجرة إلا واستقبلها الترحيب المرح الفرحان. ولم تطق السكوت فقالت في غضب: يا سلام، طيب أنا أيضا أذاكر ولن أكلم أحدا.
واختطفت كتابا وأمسكته وأولت الشابين ظهرها في سرعة خفيفة طفلة، وانتبه الاثنان إلى نادية جازعين لصوتها في الوهلة الأولى، ثم لم يلبثا أن استغرقا في قهقهة طويلة. وقام إليها خيري يعتذر وسعى بها إلى محسن، وتركا المذاكرة حينا وراحا يحادثان نادية ويحاولان استرضاءها. ولم يلبث خيري أن رأى الدموع تطفر من عيني محسن، فتذكر مثل هذه الجلسة حول فايزة، وما لبثت الدموع أن طفرت من عينيه هو أيضا فسارع إلى عينيه يزجرهما بيده، ثم تمالك من أمر نفسه ما كان يفلت وصاح بمحسن: ماذا جرى يا أخي لا قدر الله؟ إنه مجرد مرض ويزول. - أيزول حقا يا خيري! - إن شاء الله يا أخي، لماذا هذا التشاؤم؟ - فقط لو نعلم ما هو المرض! - حرارة، مجرد حرارة. - مسكينة يا خيري، صغيرة ولا تحتمل المرض! - على العكس، فإن الصغار يتحملون المرض أكثر مما نحتمله نحن.
نامعلوم صفحہ