وكان حامد قد بلغ منزله حينئذ وانتبه إلى السلم؛ فقد عوده حرصه على الحياة أن ينتبه إلى السلم كلما أوشك أن يصعد، فجميع الباقي من درجاته متآكل لا يسمح إلا بأطراف القدم أن تستقر عليه. كما تعود ألا يعتمد على الدرابزين. وكم عود الفقر حامد من عادات؛ فقد عودته ملابسه القديمة مثلا أن يتأنى في مشيته وحركاته حتى لا يشتد الاحتكاك بها فتبلى البقية الباقية منها. وقد ظن كثير من الناس أن هذا البطء في المشي والحركة وليد كبر يعتمل بنفسه، ويعلم الله، ويعلم حامد، أنه لولا الفقر لتحرك مثل سائر الناس. وهكذا كان حامد دقيقا في تفكيره حريصا كل الحرص على ماله ونفسه.
بلغ حامد السلم وصعده في تأن وفي تفكير يبذله كلما ترك درجة إلى أخرى. وحين بلغ شقته فتح الباب فوجد أمه جالسة في البهو، ويجلس إلى جانبها فهمي الفهلوي وقد انهمك كل منهما في حديث أخذ بمجامع تفكيرهما كل مأخذ. وكانت الجملة التي بلغت أذن حامد عند فتحه الباب: أنا أعجبك جدا يا ست أم حامد.
وأنقذ حامد أمه من الإجابة وهو يقول: أهلا وسهلا، كيف حالك يا أسطى فهمي؟ - معدن يا حامد أفندي، معدن والحمد لله، ماشية، الدكان يكسب خمسين قرشا يوميا على الأقل. - ربنا يزيد ويبارك. - أنا والله لا أعرف ما الذي لا يعجبك في. - لماذا يا أخي - لا قدر الله - أنت تعجب السلطان. - يا أخي العفو، كل مناي أن أعجبك أنت فقط. - ربنا يهيئ الخير يا أسطى حامد. - الخير بيدك أنت يا سي حامد أفندي. - شربت القهوة؟ - شربناها والحمد لله، أستأذن أنا. - ولماذا العجلة؟ - الدكان وحده، البركة فيك يا ست أم حامد، فقد يرضى علينا الأستاذ، سلام عليكم.
وشيعته همهمة من حامد وأمه أشبه ما تكون برد لتحيته، وما كاد فهمي يغلق الباب حتى قالت الست مريم: والله إنه ابن حلال.
فقال حامد محاولا أن يغير الحديث: وهل قلت إنه ابن حرام؟ - فما عيبه؟ - يا ستي اتركي هذا الموضوع. - ولماذا أتركه؟ رجل يا بني ويستر على أختك. - وهل هي بائرة؟ - لا قدر الله، ولكني لا أرى فيه عيبا. - كيف هذا يا أمه؟ أين هو منا؟ - يا ابني العظمة لله، أليس هو فهمي ابن الحاج سيد الفهلوي الذي كان صديق أبيك العمر كله؟ - يا أمه الدنيا تتغير . - ولكن النفوس يا بني لا تتغير. - كل شيء يتغير. - إلا النفوس الحلوة يا ابني، لم تكن هكذا أبدا، يا ابني، فهمي ابن حلال ونعرفه، نعرفه وهو طفل صغير، وسيكون لدولت كأخيها، لماذا ترفض؟ - أنا لا أزوج أختي من عامل! - وإذا كانت هي تقبله؟ - أنا لا أقبل. - وماذا ينتظر لها؟ - واحد متعلم. - وماذا يفعل بها المتعلم؟ هل تراها نالت الشهادات. - إنها تقرأ وتكتب، وعلى كل حال لا يهم، فالمتعلم سيطلبها من أجلي أنا. - وهل سيتزوجك أنت هذا المتعلم، المتعلم يريد المتعلمة مثله أو الغنية، ونحن والحمد لله لا علم ولا مال، اقبل فهمي يا حامد يا ابني، من يعرف؟ لعله أحسن من غيره. - لا يا ستي، أنا لا أقبل أن يعيرني زملائي بأني زوجت أختي من شخص جاهل، عامل. - يا ابني مصلحة أختك أهم من أقوال زملائك. - أنا أدرى بمصلحتها، وعلى كل حال هي ما زالت صغيرة، صغيرة جدا. - يا ابني هذا حرام، في أيامنا كانت البنت لا تصل الحادية عشرة إلا وهي متزوجة. - اسمعي، فعندي خبر مهم. - خير، اترقيت؟ - لا، لا. - خطبت؟! - أليس في ذهنك إلا الزواج؟ - وماذا أهم من الترقية إلا الزواج؟ - بعثة.
وضربت أم حامد على صدرها في ذعر: ماذا؟
بعثة.
لمن؟
لك!
أجننت؟ - سؤالك عجيب، لمن تكون البعثة إن لم تكن لي؟ - وتتركني أنا وأختك يا حامد؟ - كم سنة فقط، وأعود الدكتور حامد عبد الكريم. - دكتور؟! ألست مدرسا؟ - نعم، دكتور في التدريس. - وتتركنا يا حامد؟ - أليست مصلحتي هي أهم شيء عندك؟ - طبعا. - هذه هي مصلحتي.
نامعلوم صفحہ