The Veil in Law and Nature
الحجاب في الشرع والفطرة
ناشر
دار المنهاج
ایڈیشن نمبر
الأولى
اشاعت کا سال
١٤٣٦ هـ - ٢٠١٥ م
اصناف
الحِجَابُ
في الشَّرْعِ والفِطْرةِ
1 / 1
كل الحقوق محفوظة
الطبعة الأولى
١٤٣٦ هـ - ٢٠١٥ م
1 / 2
الحِجَابُ
في الشَّرْعِ والفِطْرةِ
بينَ الدَّلِيل، والقَوْلِ الدَّخِيل
تأليفُ
عبدِ العَزِيزِ بنِ مَرْزُوقٍ الطَّرِيفِيّ
دار المنهاج
1 / 3
بسم الله الرحمن الرحيم
1 / 4
مقدِّمة
الحمدُ لله ربِّ العالمين، الذي أقامَ الشريعةَ وقوَّمَ الفِطْرةَ وأحسَنَ الخِلْقة، والصلاةُ والسلامُ على النبيِّ الأمين، سيِّد المرسَلِين، وعلى آلِه وصحبِه ومَن تَبِعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين ..
أما بعد:
فإنَّ مسألةَ الحجابِ ولباسِ المرأة عند الأجانبِ مِن المسائل الجَلِيّة، ولم تَحْتَجْ على مَرِّ قرونِ الإسلامِ إلى فقيهٍ يُصنِّفُ فيها مؤلَّفًا مفرَدًا، ولم يكن أئمةُ المذاهبِ الأربعةِ يُفردونها بفُصولٍ، وإنما تَرِدُ في كلامِهم استطرادًا وتَبَعًا لغيرِها؛ لوضوحِ حكمِها وجلائِه.
وكانت أدلةُ الحجابِ واللباسِ توضَعُ في موضِعِها الذي أُنزلت فيه، وتَجْرِي على العملِ الذي كان الصحابةُ وأتباعُهم عليه، حتى جاء القرنُ الرابعَ عشَرَ والخامِسَ عشَرَ للهجرة، واحتُلَّ أكثَرُ بُلدانِ الإسلام عقودًا، وتأثَّرت كثيرٌ مِن الأفهام والعقولِ بالمشاهَدةِ والمخالَطةِ؛ فأُخذت أدلةٌ
1 / 13
ووُضِعَت في غيرِ موضعِها، وجُعِلت أقوالُ الفقهاءِ في غيرِ سياقِها، فلم يُفَرَّقْ بين حُرَّةٍ وأَمَةٍ، ولا بين شابَّةٍ وعجوزٍ، ولا بين ما قبلَ فرضِ الحجابِ وبعدَه، ولا بين محكَمٍ ومتشابِه!
حتى ظَهَر الترويجُ لأقوالٍ لا تعرِفُها مذاهبُ الفقهاء، ونُسِب إلى مالكٍ وأبي حنيفةَ والشافعيِّ القولُ بـ (أن تغطيةَ المرأةِ لوجهِها ليس بشريعةٍ)، أو بـ (أنَّ المرأةَ لا يجبُ عليها تغطيةُ وجهِها ولو فَتَنَت، ولا تَأثَمُ حينَها ولو كَشَفَتْ)! ويؤخَذُ كلامُهم في عورةِ السترِ والصلاةِ فيُجْعَلُ في عورةِ النظرِ، حتى يَظُنَّ القارئُ -مِن كثرةِ تعارُضِ النقولِ وتضادِّها- اضطرابَ المذاهبِ وتناقُضَها!
ومسألةُ الحجابِ ولباسِ المرأة لا تحتاجُ إلى توسُّعٍ في التأليف، ولا إلى جمعِ كلامِ الفقهاءِ وحَشْدِه، وإنما تحتاجُ إلى إعادةِ نصوصِ الوحيَيْن إلى مواضعِها، وإرجاعِ أقوال الفقهاءِ إلى سياقاتِها التي قِيلَت فيها، وإلحاقِ متشابِهِ النصوصِ بمُحْكَمِها، مع بيان التبديلِ الذي طَرَأ عليها، ورَدْمِ عقودِ التبديلِ؛ ليتّصلَ الفقهُ الصحيحُ بأهلِه، ولا يُقوَّلَ أئمةُ المذاهب ما لم يقولُوه؛ فإنَّ المتشابِهَ والعامَّ إذا كانا في كلام الله فإنَّهما في كلام الفقهاءِ أظهَرُ وأكثَرُ.
1 / 14
وتلك الحاجةُ مِن التصنيف هي المقصودةُ في هذه الرسالةِ، ومِن الله نستمِدُّ العونَ، ونَستلهِمُه الرُّشد، ونسألُه السَّداد.
عبد العزيز الطريفي
الاثنين ٢٠ - ٤ - ١٤٣٦ للهجرة
1 / 15
الحمدُ لله الذي أنزَلَ القرآنْ، وأحسَنَ فطرةَ الإنسانْ، وأكرَمَه بالإيمانْ، وطبَعَهُ على معرفةِ الحقِّ مِن الباطِلِ، وتمييزِ الخيرِ مِن السرِّ، وأُصَلِّي وأُسَلِّمُ على النبيِّ الأمينِ محمَّدِ بنِ عبدِ الله، وعلى آلِهِ وصحبِه، ومَنِ اتَّبَع ..
أمَّا بعدُ:
فإنَّ الذي أنزَلَ الشرعَ هو الذي خلَقَ الطبعَ، وجعَلَ طبائعَ الإنسانِ الصحيحةَ التي لم تتبدَّلْ تتوافقُ كتوافُقِ كَفَّيِ الرَّجُلِ الواحدِ، وتتطابقُ الفطرةُ الصحيحةُ والشريعةُ المنزَّلةُ كتطابُقِ أسنانِ التُّرْسِ حينما يُقابِلُ مِثْلَه، فيَدُورانِ بانتظامٍ لا ينتَهِي حتى يختلَّ أحدُهما؛ ولهذا جاءَتِ الشرائعُ السماويةُ بأصلَيْنِ عظيمَيْنِ:
أوَّلُهما: امتثالُ الأمرِ وحفظُه؛ ﴿وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ﴾ [الكهف: ٢٧]، وقال: ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ﴾ [الأنعام: ١١٥].
ثانيهما: التحذيرُ مِن تغييرِ الطبعِ الفِطْرِيِّ الصحيحِ
1 / 17
وتبديلِه؛ ﴿فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾ [الروم: ٣٠].
ولتوافُقِ الفطرةِ والشريعةِ وامتزاجِهما فقد يُسمي اللهُ دينَه فِطْرةً، ويسمِّي فِطْرتَهُ دينًا، وهكذا في تفسيرِ الصحابةِ للفطرةِ والخِلْقةِ بالدِّينِ في القرآن.
وكلُّ تغييرٍ في واحدٍ منهما، يُورِثُ خللًا في الاستجابةِ والسيرِ على مرادِ الله؛ ولذا يحرِصُ الشيطانُ على إحداثِ خلَلٍ فيهما جميعًا؛ لتقلَّ الاستجابةُ، ويشتدَّ الانحرافُ، وإنْ عجَزَ عنهما، حَرَصَ على تغييرِ واحدٍ منهما؛ حتى لا يُقْبَلَ الآخَرُ، ولا يستجابَ له.
وقد أخبَرَ اللهُ عنِ اجتهادِ إبليسَ في تغييرِ الشريعةِ، وتحريفِها، وتغييرِ الفطرةِ، وتبديلِها؛ قال اللهُ عنه: ﴿وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ﴾ [النساء: ١١٩]، وفي تبديلِ الشريعة وتغييرِها يسمِّي اللهُ تحريفَ الشيطانِ للأدلةِ زخرفةً وتزيينًا؟ قال اللهُ: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ﴾ [الأنعام: ١١٢]، وقال تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ [الحجر: ٣٩]؛ فجعَلَ الزَّخْرفةَ والتزيينَ مقدِّماتٍ يتبَعُها الفعلُ
1 / 18
والإغواءُ؛ ولكنْ يبقى عمَلُه تزيينًا وزخرفةً للمَظَاهِر، ولا يستطيعُ أن يُغَيِّرَ الجواهِر.
فأصبَحَ الإنسانُ المفسِدُ الذي لم يَجِدِ استجابةً لفسادِه، يسعَى لإحداثِ تغييرٍ؛ إمَّا في الشريعةِ، أو في فطرةِ الناسِ؛ حتَّى يَجِدَ مدخلًا لفسادِه وانحرافِه في النفوسِ، وهذه أساليبُ تُستعمَلُ في كلِّ زمانٍ، وفي مواجهةِ كلِّ رسالةٍ صحيحةٍ، حتى إنَّ قريشًا عندَما واجَهُوا دعوةَ النبيِّ ﷺ، طلَبُوا التبديلَ؛ قال اللهُ تعالى: ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي﴾ [يونس: ١٥]، وقال عنِ المنافِقِين: ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ﴾ [الفتح: ١٥]؛ حتى أصبحَتْ منهجًا وعادةً لمَن يريدُ التغييرَ في الأُمَمِ والمجتمعاتِ، إمَّا أنْ يُغَيِّرُوا الأدلَّةَ والبراهينَ الصحيحةَ، أو يبدِّلُوا الفِطَرَ السليمةَ؛ حتى لا تتطابقَ ولا تتوافقَ، ثم لا تَقْتنِعَ ولا تؤمِنَ ولا تُسلِّمَ.
وبيَّنَ اللهُ أن هذه عادةٌ لهم: ﴿أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: ٧٥].
ولكنَّ الشريعةَ أسرعُ في التغييرِ مِن الفطرةِ وأسهلُ،
1 / 19
فتجِدُ أنَّ الانحرافَ عن الفطرةِ لا يكونُ في جيلٍ واحدٍ؛ بل في أجيالٍ، وربما قُرونٍ، وأمَّا الشريعةُ فيمكِنُ أن تتغيَّرَ في عِقْدٍ أو عِقْدَيْنِ أو ثلاثةٍ، ورُبَّما أقَلّ، بحسبِ قوَّةِ براهينِ التبديلِ، فالتعرِّي لا يمكِنُ أن يتوغَّلَ في بلدٍ نَشَأَ على الفطرةِ والعفافِ والحياءِ والسترِ، إلا بعقودٍ أو قرنٍ أو أكثَرَ؛ لأنَّ الإنسانَ مخلوقٌ عليها، وممزوجٌ فطرةً بها؛ لهذا سمَّى اللهُ فِطْرتَهُ الصحيحةَ صِبْغةً؛ كما في قولِه: ﴿صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً﴾ [البقرة: ١٣٨].
وإذا تغيَّرتِ الفطرةُ وانحرَفَتْ، فرجوعُها إلى أصلِها أسهلُ مِن خروجِها منه، ولكنَّه شاقٌّ، فيصعُبُ أن يقتنِعَ إنسانٌ حَيِيٌّ محتشِمٌ، فيتعَرَّى في يومٍ ولو أُقْنِعَ بأدلةٍ بصحةِ التعرِّي، ولن يقدِرَ على الاستجابةِ مرةً واحدةً، حتى يتدرَّجَ، ولكنْ لو أقنَعْتَ مَن يتعَرَّى بأدلةِ السترِ والحجابِ، يسهُلُ عليه أن يستتِرَ ويستجيبَ مرةً واحدةً، ولو كانت درجةُ الإقناعِ واحدةً عندَهما جميعًا؛ لأنَّ الأولَ يخرُجُ مِن الفطرةِ الصحيحةِ، والثانيَ يعودُ إليها، والأصلُ الفطريُّ غلَّابٌ جذَّاب، ولو دُلِّسَ على العقلِ بالأدلَّةِ.
الشرائعُ والطبائعُ .. وتغييرُها:
الفطرةُ تُفسِّرُ نَفْسَها، ويصعُبُ تفسيرُها مِن جميعِ
1 / 20
الوجوهِ بنصٍّ، وخلَقَها اللهُ صحيحةً سليمةً، فإذا نزلَتْ عليها شرائِعُه، فَهِمَتْ هذه الفطرةُ تلك الشرائعَ بلا تفسيرٍ، وتطابقَتْ معها كتطابُقِ أغطيةِ الأقلامِ على الأقلامِ؛ فمثلًا:
اللهُ يأمُرُ بأنْ يأخُذَ الإنسانُ زينَتَهُ عند كلِّ مسجدٍ: ﴿خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾ [الأعراف: ٣١]، لكنَّه لا يفسِّرُ له تلك الزينةَ؛ لأنه مطبوعٌ على معرفتِها بنَظَرِه.
ويأمرُهُ بتحسينِ الصوتِ بالقرآنِ؛ قال النبيُّ ﷺ: (زَيِّنُوا القُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ) (١)؟ لكنَّه لا يُفسِّرُ له ما الصوتُ الحسَنُ مِن القبيحِ؛ لأنَّه مطبوعٌ على معرفتِه بسمعِه وحِسِّه.
ويأمرُهُ بالتطيُّبِ بالرائحةِ الحسنةِ، ولكنْ لا يُفسِّرُ اللهُ له ما الرائحةُ الطيبةُ مِن الخبيثةِ؛ فلن تُعرَفَ بدليلٍ أكثرَ مما هو مطبوعٌ عليه بشَمِّه.
وإذا تغيَّرتِ الفطرةُ التي طُبعَ عليها الإنسانُ، فلن يفهَمَ الأوامِرَ الشرعيةَ التي أمرَهُ اللهُ بها، حتى تُعدَّلَ الفطرةُ عنِ انتكاستِها؛ لتستوعِبَ؛ كالإناءِ المقلوبِ لا بُدَّ مِنْ تعديلِه حتَّى يستوعِبَ ما يوضعُ فيه؛ لهذا شدَّد اللهُ
_________
(١) أخرجه أبو داود (١٤٦٨)، والنسائي (١٠١٥ و١٠١٦)، وابن ماجه (١٣٤٢)؛ مِن حديثِ البَرَاءِ بنِ عازِبٍ ﵁.
1 / 21
في أمرِ الفطرةِ، وحذَّر مِن تغييرِها؛ لأنَّها تؤثِّرُ على استيعابِ أوامرِه ونواهِيه، والإيمانِ بعلَلِها ومقاصدِها، وكُلَّما كانتِ الفطرةُ أشدَّ تغييرًا، كانَتْ أشدَّ ردًّا للجزئياتِ؛ لأنَّها لم تَفْهَمِ القواعدَ والكُلِّيَّاتِ، فالأُمَمُ التي تُحِلُّ الزِّنَى وتُبِيحُهُ وتُشَرِّعُه لن تفهَمَ الحجابَ، وتحريمَ الخلوةِ والاختلاطِ؛ لأنَّها مقدِّماتٌ وحواجزُ بعيدةٌ لشيءٍ لا يؤمِنُون بتحريمِه.
والإنسانُ مفطورٌ على فِطَرٍ عديدةٍ، وهذه الفِطَرُ منها ما يُمكِنُ تغييرُه، ومنها ما لا يمكِنُ تغييرُه؛ لتجذُّرِه وامتزاجِهِ بالخِلْقةِ البشريةِ، وتكوُّنِ الإنسانِ منها كتكوُّنِ الماءِ مِن عناصرِه.
وما يمكِنُ تغييرُه، يختلِفُ في مقدارِ الزمانِ والقوةِ التي يَحْتاجُ إليها للتغييرِ، بحسبِ ثباتِه في الفطرةِ ورسوخِه فيها، والشيطانُ يحرِصُ على تغييرِ الفطرةِ أشَدَّ مِن حرصِهِ على تغييرِ الشريعةِ؛ لأنَّها أشدُّ في الانحرافِ والإعراضِ، ثم إنَّ العودةَ إلى الفطرةِ الصحيحةِ تحتاجُ إلى عقودٍ طويلةٍ، ورُبَّما قرون، وأما تغييرُ الشريعةِ فيحتاجُ إلى مجدِّدٍ يعيدُ الأدلَّةَ إلى حقيقتِها، فتتلقَّاها الفطرةُ الصحيحةُ بسهولةٍ، وإن كابَرَتْ فلا يطولُ عنادُها، حتى تستَسْلِمَ وتُذْعِنَ لها.
1 / 22
ثم إنَّ تغييرَ الفطرةِ الواحدةِ يُلْغِي معه شرائعَ كثيرةً متعدِّدةً؛ كقَطْعِ أغصانِ الشجرةِ الكبيرةِ يسقُطُ معها ما لا يُحصى مِن عيدانِها وأوراقِها، لو تتبَّعَها وحدَها، أتعَبَتْه جهدًا، وطالَتْ معه زمنًا؛ ولهذا فمِن وسائلِ الشيطانِ وأعوانِه: تغييرُ أصولِ الفطرةِ؛ ليسهُلَ سقوطُ توابِعِها من مقرَّراتِ الشريعة.
فطرةُ العفافِ وتغييرُها:
ومِن أعظمِ أصولِ الفطرةِ: فطرةُ العفافِ، وإنْ غُيِّرَتْ فإنها يتغَيَّرُ معها -تبعًا- شرائعُ كثيرةٌ؛ كغَضِّ البَصَرِ، وخَفْضِ صوتِ المرأةِ، وعدمِ خضوعِها به، والحجابِ، وإخفاءِ المفاتِنِ منعًا للإثارةِ، وعدمِ الاستهانةِ بالخلوةِ، والفصلِ بين الجنسَيْنِ، وتركِ الغَزَلِ، وعدمِ اتخاذِ الأصدقاءِ بين الجنسَيْنِ، وغيرِ ذلك، فهذه وغيرُها تسقُطُ، إن سقطَتْ فطرةُ العفافِ، تبعًا.
لهذا نَجِدُ أنَّ جميعَ الأنبياءِ يَدْعُونَ إلى حفظِ أصول الفطرةِ مع التوحيدِ؛ لأنَّ التوحيدَ أصلُ العباداتِ، والفطرةَ أصلُ المُرُوءاتِ، وقد كان النبيُّ ﷺ يَدْعُو بمَكَّةَ إلى هذا، فقد قال أبو سفيانَ لهِرَقْلَ مَلِكِ الرُّومِ لَمَّا سأله عما يدعو إليه النبيُّ ﷺ: يأمُرُنا بالصلاةِ والصدقِ والعفافِ،
1 / 23
قال هِرَقْلُ: «هذه صفةُ نَبِيٍّ» (١).
ولعِظَمِ هذا الأصلِ الفِطْرِيِّ؛ العفافِ، جعَلَ اللهُ له حُرَّاسًا وحُمَاةً؛ فضلًا عن حمايةِ الإنسانِ الواحدِ نَفْسَه، حتَّى يقاوِمُوا دوافِعَ تمرُّدِ الواحدِ على فطرتِه؛ فخلَقَ اللهُ في الإنسانِ الغَيْرَةَ على غيرِه، كما تغارُ الزوجةُ على زوجِها، فتكونُ رقيبةً عليه، ويكونُ هو لغَيْرتِه رقيبًا عليها، والوالدُ مع بِنْتِه، والأخُ مع أُخْتِه، والعكسُ كذلك، بل تقَعُ الغَيْرةُ بين الغرباءِ بعضِهم على بعضٍ، جعَلَهم اللهُ حُرَّاسًا، يتناوَبُون على عدمِ تمرُّدِ الواحدِ على عفافِ نَفْسِه، وعفافِ غيرِه.
وتغييرُ الفطرةِ أخطرُ مِن تغييرِ سُنَنِ الكَوْنِ، وأشدُّ أَثَرًا على دِينِ الإنسانِ، وقد كان نبيُّ اللهِ موسى ﵇ حَيِيًّا سَتِيرًا، وكان يستَحْيِي أن يبدُوَ مِن جِلْدِه ما يتساهلُ بنو إسرائيلَ في إبدائِه، حتى آذَوْهُ وقالُوا: ما يستتِرُ هذا التستُّرَ إلا مِن عيبٍ بجِلْدِه؛ إمَّا بَرَصٍ، وإما أُدْرَةٍ، وأمَّا آفةٍ، فأرادَ اللهُ أن يبرِّئَه، ولا يبدِّلَ فطرتَه، فلما أراد أن يغتسِلَ، وضَعَ ثيابَهُ على حَجَرٍ، فلَمَّا قضَى غُسْلَه، وأراد أن يأخُذَ
_________
(١) أخرجه البخاري (٧)، ومسلم (١٧٧٣).
1 / 24
ثيابَه، عدا الحَجَرُ، وهرَبَ بثوبِه، وأخذَ موسى عصاهُ، وطلَبَ الحجَرَ، يقولُ: ثَوْبِي حَجَرُ! ثَوْبِي حَجَرُ! حتى خرَجَ لبني إسرائيلَ فرأوْهُ، وعلموا أنَّه مبرَّأٌ مما قالوا؛ فأنزلَ اللهُ على نبيِّه محمَّدٍ ﷺ مذكِّرًا بتلك الحال: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا﴾ [الأحزاب: ٦٩]، والحديثُ أخرَجَه البخاريُّ ومسلمٌ مِن حديثِ أبي هريرةَ ﵁ (١).
واللهُ تعالى لم يأمُرْ موسى أن يَنْزِعَ ملابِسَه ويخرُجَ للناسِ ليبرِّئَ نفسَه؛ ولكنْ غيَّر سننَ الكونِ وجاذبيَّةَ الأرضِ، وأوجَدَ في الحجَرِ قوَّةً للسيرِ بثيابِه، لِيَتْبَعَها؛ ليكونَ ظهورُ جسَدِه وعوراتِه بلا اختيارٍ منه؛ فلا يكونُ هناكَ أدنى قناعةٍ للنفسِ بإمكانِ اختيارِ مثلِ هذا الفعلِ؛ لأنَّ خَرْقَ الفطرةِ إنْ بدأَ، اتَّسَعَ وتدَرَّجَ اتساعًا حتى لا يَنْتهِي.
لهذا فالعاقلُ العفيفُ حينَما يُصَابُ بمرضٍ في موضِعِ عورتِه، ويُضطرُّ لجراحةِ طبيبٍ يلزَمُ منها كَشْفُها، تجدُه يُحِبُّ أن يبنَّجَ ويخدَّرَ؛ لِيغيبَ وَعْيُه، وتُنْزعَ عنه عورتُه مِن غيرِه، بلا اختيارٍ منه، لا أن يقومَ هو بنفسِه باختيارِه،
_________
(١) أخرجه البخاري (٢٧٨)، ومسلم (٣٣٩).
1 / 25
مع أنَّ المؤدَّى واحدٌ؛ لكنَّ نَزْعَ الإنسانِ بنَفْسِه يُصاحِبُه نزعُ هيبةِ العفافِ مِن النفسِ والفطرةِ؛ فإنَّ كَسْرَ الحياءِ والعفافِ حينئذٍ يكونُ بالاختيارِ؛ ومَن جَرَّبَه مرةً، تساهَلَ به أخرَى في حالةٍ أقلَّ حاجةً.
وقد فطَرَ اللهُ آدمَ وحواءَ -وهُما أوَّلُ البَشَرِ- على العفافِ والسترِ، فلمَّا أكَلَا مِن الشجرةِ، وسقطَ عنهما لباسُهما، دعاهم داعي الفطرةِ والطبعِ الذي خُلِقُوا عليه، إلى رَدَّةِ فعلٍ؛ طلبًا للسترِ؛ فأخذَا يَجْمَعانِ الورَقَ ويؤلِّفانِه بعضَه إلى بعضٍ؛ ليستُرَ عوراتِهما، وفي ذلك قال اللهُ: ﴿فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ﴾ [الأعراف: ٢٢].
والسُّنَّةُ الكونيةُ: أنَّ العفافَ إن نُزِعَ أوَّلُه، تتابَعَ وتساقَطَ، ومنه حجابُ المرأةِ، إنْ سقطَ أوَّلُه، تداعَى إلى آخِرِه، وهذا مشاهَدٌ في كلِّ المجتمعاتِ والشعوبِ، حتى أصبَحَ في كثيرٍ منها عادةً معاكِسةً للفطرةِ الصحيحةِ.
والإنسانُ يمكِنُ أن يتطبَّعَ ويألَفَ ما يُخالِفُ بعضَ الفطرةِ، وإنما يحتاجُ إلى كثرةِ مخالَطةٍ ومشاهَدةٍ ومجاوَرةٍ، وتدرُّجٍ بذلك مع صَبْرٍ حتى يتشرَّبَها كتشَرُّبِ الإسفنْجِ للماءِ، فيستطيعَ الإنسانُ أن يُجاوِرَ أنتَنَ الروائحِ وأكرَهَها؛
1 / 26
كجِيفَةِ المَيْتةِ، فإنْ جاوَرَها شَقَّ عليه، حتَّى إذا طالَتْ مجاوَرَتُه لها ليومٍ وأيَّامٍ، اعتاد عليها، ولم يشعُرْ بما يستَنْكِرُه المارَّةُ عليه، كذلك الأفعالُ والأفكارُ، ومنها السفورُ والتعرِّي، حتى لو تكاثَرَ الناسُ على مجاوَرَتِها وتشرُّبِها، آنَسَ بعضُهم بعضًا، ونظَرَ بعضُهم إلى بعضٍ، فلم يستنكِرُوا شيئًا، وظَنُّوا أنَّ صاحبَ الفطرةِ الصحيحةِ شاذٌّ، وهكذا كان قومُ لُوطٍ؛ تدرَّجُوا بالانحرافِ حتى جاوَرُوه، وقارَفُوه، وتكاثَرُوا، وطالَ عهدُهم عليه؛ قالوا في لوطٍ -تهكُّمًا-: ﴿أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ﴾ [النمل: ٥٦] عابُوهم والعيبُ فيهم!
الحجابُ .. عبادةٌ وعادةٌ:
لا يختلِفُ البشَرُ أنَّ سَتْرَ الإنسانِ لبَدَنِه فطرةٌ طُبِعَ عليها؛ ولو لم يكن هناك حَرٌّ ولا بَرْدٌ ولا مَطَر؛ بل حتى لو كانَ الإنسانُ وحدَه لا يراهُ أحَدٌ، أَحَبَّ أن يلبَسَ ويتزيَّنَ ولو لنَفْسِه؛ ولهذا كان آدَمُ وحواءُ يستترانِ لنَفْسَيْهِما، لا وجودَ لبَشَرٍ معهما؛ ولذا قال اللهُ -مبيِّنًا أنَّ عقوبةَ كشفِ لباسِهما، كانت لتَرَى أعينُهما سوْءَاتِهما متقابِلَيْنِ بلا داعٍ-: ﴿يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا﴾ [الأعراف: ٢٧].
1 / 27
ولكن يختلِفُ الناسُ في حدودِ هذه الفطرةِ، وفي حجمِ ما يُستَرُ مِن البَدَنِ؛ بحَسَبِ ما يحكُمُهم مِن نقلٍ أو عقلٍ أو عرفٍ، أو ما يَحرِفُهم مِن شَهَواتٍ أو شُبُهاتٍ.
ولما كانت فطرةُ السترِ تتجاذبُها العقولُ، وأهواءُ النفوسِ وشبهاتُها، وتزيينُ الشيطانِ على الإنسانِ، جاءتِ الشريعةُ مِن اللهِ ضابطةً له وحاكمةً عليه بنصوصٍ كثيرةٍ في جميعِ الشرائعِ، ورسالاتِ الأنبياءِ على كلِّ الأُمَم، وتواتَرَ هذا في القرآنِ والسُّنَّةِ، وقد بيَّن اللهُ أنَّ كشفَ العوراتِ وظهورَ المفاتِنِ غايةٌ قديمةٌ لإبليسَ وذُرِّيَّتِه مع آدَمَ وذُرِّيَّتِه؛ كما قال تعالى: ﴿يَابَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا﴾ [الأعراف: ٢٧].
والشرائعُ أقوى هَيْبةً وحفظًا مِن العاداتِ في نفوسِ الناسِ، حتى وإنْ قصَّروا في دينِهم في العملِ الظاهِرِ؛ إلا أنَّ عاداتِهم تتغيَّرُ كثيرًا عبرَ القرونِ، ويبقى دينُهم محفوظًا بهَيْبَتِه في النفسِ، يذهَبُون ويَرْجِعُون إليه، وأمَّا العاداتُ الخالصةُ فإنْ ذهبَتْ فغالبًا لا تعودُ.
ولما كان السترُ عمومًا -وحجابُ المرأةِ خصوصًا- عبادةً ربانيَّةً تمتزِجُ مع الفطرةِ البشريةِ، كان مِن وسائلِ
1 / 28
الشيطانِ وأعوانِه: فَصْلُ عبوديَّةِ الحجابِ، والإبقاءُ على كونِه عادةً، حتى يسهُلَ تحكُّمُ الأهواءِ به؛ لأنَّ الأهواءَ كأَهْوِيةِ الرِّيَاح، لا تحمِلُ معها إلا الخفيفَ، وتخفيفُ الثقيلِ ثم إزالَتُه، أهوَنُ مِن إزالَتِه وهو ثقيلٌ.
وقد ظهرَتْ دعواتٌ تجعَلُ مِن حجابِ المرأةِ والسترِ عمومًا عادةً وتقليدًا، لا عبادةً ودِينًا؛ لأنَّ العبادةَ لا تقبلُ الهَدْمَ إلا بنزعِ أدلَّتِها، وأدلَّتُها إن كانتْ ثابتةً راسخةً لا تقبَلُ النَّزْعَ إلا بمواجهةِ الشريعةِ كُلِّها؛ لأنَّ مَن جحَدَ شيئًا مِن الدينِ بالضرورةِ، كان كمَن جَحَدَه كُلَّه.
وأدلةُ حجابِ المرأةِ في القرآنِ والسُّنَّةِ أقوى وأرسخُ مِن أن تَنزِعَها الأهواءُ، ولكنَّها تَقْدِرُ على استدبارِها وراءَ ظَهْرِها، ثم تَدَّعِي أنها لا تراها، وكلُّ شيءٍ تستدبِرُه أو تُغْمِضُ عينيكَ عنه، لن تراه، ولو أغمَضَ الإنسانُ عينَيْه عن نَفْسِه، لم يرَ نفسَه، وإن كانت هذه حُجَّةً فليس بعدَ هذا مثقالُ ذرَّةٍ مِن عَقْلٍ!
الحكمةُ مِن مشروعيَّةِ حجابِ المرأةِ:
لا يوجدُ أمرٌ محرَّمٌ ولا كبيرةٌ، إلا وحاطَها اللهُ وحَمَاها مِن جميعِ جهاتِها، حتى لا يَتوصَّلَ الناسُ إليها
1 / 29