The Scientific Foundations of the Salafi Da'wah
الأصول العلمية للدعوة السلفية
ناشر
الدار السلفية
ایڈیشن نمبر
الثانية
اشاعت کا سال
١٣٩٨ هـ
پبلشر کا مقام
الكويت
اصناف
بسم الله الرحمن الرحيم
الأصول العلمية للدعوة السلفية
الباب الأول بين يدي الكتاب
مقدمة الطبعة الثانية
الحمد لله حمدًا يليق بذاته، ويكافئ مزيد إحسانه، ويتجدد بتجدد نعمه وأفضاله. والصلاة والسلام على نبيه ورسوله الداعي إلى الصراط المستقيم، والهادي إلى دينه القويم. وأشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله.
وبعد:
فمنذ سبع سنوات تقريبًا صدرت أول طبعة لهذه الرسالة المباركة، التي تلقفتها أيدي إخواننا السلفيين في كل مكان، حيث استنسخها بعضهم بقلمه، وتداول آخرون النسخة الواحدة واحدًا بعد واحد، وصورها آخرون ووزعوها ونشروها، وكل ذلك من فضل الله وإحسانه.
ولقد كانت -على صغر حجمها- وافية بحمد الله في موضوعها، واضعة معالم الطريق السلفي، مرشدة لأهداف الرسالة الإسلامية، موضحة غايات الدعوة السلفية، واضعة أصول المنهج السلفي الذي هو المنهج القويم لفهم الإسلام والعمل به، والذي هو بحمد الله طريق الخلاص للأمة وسبيل عزتها ونصرها.
ولقد شاهدنا بركات ذلك ودلائله بحمد الله؛ فالنماذج السلفية الفريدة التي تربت على هذا المنهج قد أثبتت بأخلاقها وصفاتها وعلمها وعملها أنها على طريق السلف الصالح حقًا، وعلى مثال قرون الخير الأولى صدقًا، وأن هذا الدين لا تنتهي عجائبه ولا تنفد ذخائره، وأنه لا تزال طائفة من هذه الأمة على الحق ظاهرين حتى يقاتل آخرهم الدجال.
رأينا بحمد الله الأخوة السلفيين الذين درسوا على هذا المنهج فهموا الإسلام فهمًا سليمًا صحيحًا، وطبقوه في أنفسهم وذويهم، وقاموا بواجب الدعوة إلى الله على علم وبصيرة، وتصدوا لكل انحراف في العقيدة والشريعة والسلوك، وقاوموا أهل الباطل، وجاهدوا بكل أنواع الجهاد المتاحة لهم، وأعادوا للإسلام إشراقته وبهجته وحياته وحركته وشبابه ونضرته. ولا يزال ركب الخير والحمد لله كل يوم في زيادة. شبهات وردود: ولم تسلم الدعوة السلفية المعاصرة من أهل الهون الذين ما فتئوا يلقون شبهاتهم حول الدعوة، ونحمد الله ﷾ أن هذه الشبهات تسقط دائمًا تحت الأقدام، وتتعرى دائما مع الأيام، ويستطيع كل طالب مبتدئ فهم الإسلام على منهج السلف الصالح أن يرد على هذه الشبهات. ومن هذه الشبهات على سبيل المثال: قولهم: لماذا تتسمون بالسلفية وهو لم يرد في كتاب ولا سنة؟ ". والرد على ذلك أن نقول: إن إطلاق الأسماء على أي حقيقة لا ضرر منه مطلقًا، سواء في الشرعيات أو المباحات، والتسمية لأي أمر شرعي -إذا لم يشتمل على باطل- فليس فيه ضرر، بل قد يكون هذا من الواجبات: كما أطلق المسلمون على علم الإسناد: (مصطلح الحديث)، ولم يكن على عهد الرسول مثل هذا العلم، وليس هذا بدعة؛ لأن التثبت في الأخبار والنقل عن الرسول مطلوب. وكذلك سمي بعض المسلمين بـ (المهاجرين) من أجل الهجرة، وبعضهم بـ (الأنصار) من أجل النصرة، وبعضهم بـ (التابعين) من أجل اتباعهم للسلف من المهاجرين والأنصار المشهود لهم بالخير. فما هو الضير من أن نتسمى بـ (السلفيين)؛ أي: الذين يتبعون منهج السلف الصالح في فهم الدين، والسلف الصالح الذين نتبعهم هم الصحابة وتابعوهم بإحسان، وهم خير القرون.
وهذه التسمية ضرورية؛ لتميز هذه الطائفة المهتدية عن سائر طوائف الضلال الذين تركوا منهج الصحابة في فهم الدين، واتبعوا طريق الخوارج الغالين المتشددين، أو المؤولين المتنطعين، أو المقلدين الجامدين.. الخ. ومع هذا؛ فنحن لا نتعصب لهذا الاسم، بل نحب كل مسلم يشهد الشهادتين ويعمل حسب استطاعته بمقتضاهما، ونوالي كل مسلم يحب الله ورسوله، ولا ننصر السلفي إن كان مبطلًا، ولو كان عدوه كافرًا؛ فنحن لا نوالي السلفي في الظلم، بل نوالي كل مسلم حسب دينه واعتقاده وإيمانه. ونحن في النهاية حملة دعوة تسمى (الدعوة السلفية) . وهذه الدعوة منهج كامل لفهم الإسلام والعمل به والدعوة إليه ... وقد تضافر العلماء السلفيون على شرح هذه الدعوة وبيانها عبر القرون وإلى يومنا هذا، ونحن على منهج هؤلاء العلماء العاملين: فمن يستطيع أن يستغني عن أصول الفقه التي كتبها الإمام الشافعي في كتابه "الرسالة"؟! ومن يستطيع أن يستغني عن مناقشات ابن عباس وعلي بن أبي طالب ﵄ للخوارج ورده عليهم في استحلال أعراض المسلمين وأموالهم بالمعصية؟! ومن يستطيع أن يستغني عن فقه مالك وردود الإمام أحمد على شبهات الزنادقة وكتابات الإمام ابن تيمية في المصالح الشرعية وردوده على الفرق الضالة؟! كل هذا وغيره مما يشكل قواعد المنهج السلفي لا غنى عنها بتاتًا لطالب العلم المعاصر، هذا بالإضافة -أولًا وقبل كل شيء- إلى نصوص الكتاب والسنة. وهذه هي السلفية، تعني في جملتها الاتباع المستبصر لنصوص القرآن والسنة، واحترام العلماء الذين قاموا بفهم هذا الدين وتبليغه، واقتفاء آثارهم في ذلك. وعلى كل حال؛ الذين ينكرون على السلفيين اسمهم لم يسلموا هم أيضا من أن يطلقوا على أنفسهم اسمًا ما يتميزون به.. وهكذا يتهمون غيرهم بما هو فيهم، وهذا هو اتباع الهوى.
والفرق بيننا وبين غيرنا أننا لا نتعصب لهذا الاسم، ولا نهادي عليه، ولا نجعله شعارًا بديلًا عن الإسلام، بل نحن مسلمون أولًا وأخيرا إن شاء الله، بهذا سمًانا الله، وقد رضينا بالإسلام دينًا.. و(السلفية) لا تعني عندنا أكثر من الإسلام الصحيح الموافق للكتاب والسنة والمتبع للسلف الصالح رضوان الله عليهم. الشبهة الثانية: قول بعضهم: "أنتم مقلدون". وهذا افتراء؛ فلسنا مقلدين، وإنما السلفي الحقيقي متبع للحق والدليل، معظم لعلماء الأمة، مقدر لجهودهم، وغير متطاول على فقههم وعلمهم. ومتبع للحق أنَى وجده؛ غير طعّان ولا لعّان ولا فاحش ولا بذئ. والسلفي الحقيقي أيضًا يستحيل أن يكون غلامًا لم يبلغ الحلم بعد وقد درس قليلًا من القرآن والسنة، ثم يضع نفسه موضع علماء الأمة المشهود لهم بالخير والفضل، فيقول مثلا: أنا مثل مالك أو الشافعي! أو أفهم كما يفهم أحمد بن حنبل وأبو حنيفة!! بل يضع نفسه موضعها، ويعرف حق سلف الأمة وعلمائها، ويجلهم، ويحترمهم، ويقدسهم؛ بقدر تقديسهم للحق واتباعهم له، وإذا رأى شيئا من أقوالهم مخالفًا للدليل؛ اتهم نفسه أولًا بعدم فهم الدليل، وعذرهم ثانيًا في اجتهادهم، لربما لم يصل إليهم الدليل، وربما فهموا من دلالته غير ما فهمنا نحن؛ كما نصً على ذلك الإمام ابن تيمية ﵀ في كتاب "رفع الملام عن الأئمة الأعلام". وقد رأيت بعيني غلمانا لم يتجاوزوا السابعة عشرة من عمرهم، لم يحصلوا من العلم إلا قليلًا، إذا ذكر له اجتهاد إمام؛ يقول: "نحن رجال وهم رجال". عجبًا! متى كنت رجلًا في العلم حتى تضع نفسك على قدم المساواة مع أولئك؟! وكان الأولى أن تقول: هذا ما فهمته، أو: هذا حد علمي، ولم يتعبدني الله إلا بما استطعت فهمه وإدراكه. باختصار: السلفيون ليسوا مقلدين، وإنما هم متبعون.
ثم هم أيضا ليسوا من أهل الوقاحة والتطاول على مقام العلماء بالتجريح والطعن والتشنيع، وإنما مقالتهم دائمًا: ﴿رَبنَا اغفرْ لَنَا وَلإخوَننَا الذينَ سَبَقونَا باَلإيمَن وَلاَ تَجعَل في قلوبنَا غلا للذينَ ءامَنوا رَبَنَا إنَكَ رَءوف رَحيم﴾ (الحشر: ١٠) . وكذلك السلفيون يردون ما اختلف فيه من علم إلى كلام الله وكلام رسوله، ويسترشدون في فهم كلام الله وكلام رسوله بكلام أئمتهم وسلفهم الصالح من الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين. وليس عيبا أن نسترشد بأقوال هؤلاء لنفهم مراد الله ومراد رسوله؛ لأننا لم نشاهد التنزيل أولًا، والصحابة أعلم منا بكلام الله وكلام رسوله، وكذلك العلماء المشهود لهم بالخير أفقه منا وأعلم، وذلك بإخلاصهم وتفرغهم الطويل للعلم والعمل. وأما أن يكون الأطفال والغلمان الذين لم يحسنوا بعد النطق بالقرآن وفهم الجار والمجرور والفعل والفاعل على قدم المساواة مع أئمة الدين وسادة المسلمين؛ فهذا هو الضلال المبين. ولقد رأيت بنفسي كيف يتلاعب بكلام الله وكلام رسوله من بعض الغلمان؛ ممن جعلوا أنفسهم علماء بالقرآن والسنة، وأخذوا يفتون في الحلال والحرام والدعوة والسياسة والعبادات وسائر المعاملات بمخاريق وألاعيب تجعل دين الإسلام الحكيم أشبه بدين المجانين والحمقى والمغفلين! فأي حماقة أكبر من أن يتصدى لتبليغ الذين واستنباط الأحكام من القرآن والسنة من لا يفهم العربية ولا يدرك من أصول الفقه وقواعده شيئا؟! وباختصار؛ السلفي ليس مقلدًا، وهو أيضًا ليس متبجحًا وقحًا، يزعم أنه يستطيع الاستغناء عن فهم الصحابة والتابعين وعلماء الأمة وسادتها الذين حملوا هذا الدين بحق وبلغوه بإخلاص عبر عصور الإسلام إلى يومنا هذا.
ولكن السلفي الحقيقي متبع مسترشد مبصر، باحث عن الحق أبدًا، وعن الدليل مطلقًا، معظم لعلماء الأمة وساداتها، غير مفتش عن العيوب والهفوات التي لم ينج منها أحد بعد الرسول ﷺ، ملتزم بجماعة المسلمين، عامل على وحدتهم، غير داع إلى فرقة وخصام لجاجة. هذا هو السلفي الحقيقي، ونسأل الله أن يجعلنا كذلك. هذه إضافة لا بد منها في مقدمة هذه الرسالة المباركة إن شاء الله، وقد يسر الله لي أن انظر في الرسالة مرة ثانية، وأنقح بعض عباراتها، وأزيد في آخرها إضافة جديدة عن أهم مميزات الدعوة السلفية وبركاتها. والله سبحانه أسأل أن يكتب هذا عنده في ميزان حسناتنا، وأن يجمع هذه الأمة على كلمة سواء، وأن يأخذ بأيدينا لعزة الإسلام ونصره، والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون. عبد الرحمن عبد الخالق الكويت الجمعة ٢٦ محرم ١٤٠٣هـ ١٢ نوفمبر ١٩٨٢م
رأينا بحمد الله الأخوة السلفيين الذين درسوا على هذا المنهج فهموا الإسلام فهمًا سليمًا صحيحًا، وطبقوه في أنفسهم وذويهم، وقاموا بواجب الدعوة إلى الله على علم وبصيرة، وتصدوا لكل انحراف في العقيدة والشريعة والسلوك، وقاوموا أهل الباطل، وجاهدوا بكل أنواع الجهاد المتاحة لهم، وأعادوا للإسلام إشراقته وبهجته وحياته وحركته وشبابه ونضرته. ولا يزال ركب الخير والحمد لله كل يوم في زيادة. شبهات وردود: ولم تسلم الدعوة السلفية المعاصرة من أهل الهون الذين ما فتئوا يلقون شبهاتهم حول الدعوة، ونحمد الله ﷾ أن هذه الشبهات تسقط دائمًا تحت الأقدام، وتتعرى دائما مع الأيام، ويستطيع كل طالب مبتدئ فهم الإسلام على منهج السلف الصالح أن يرد على هذه الشبهات. ومن هذه الشبهات على سبيل المثال: قولهم: لماذا تتسمون بالسلفية وهو لم يرد في كتاب ولا سنة؟ ". والرد على ذلك أن نقول: إن إطلاق الأسماء على أي حقيقة لا ضرر منه مطلقًا، سواء في الشرعيات أو المباحات، والتسمية لأي أمر شرعي -إذا لم يشتمل على باطل- فليس فيه ضرر، بل قد يكون هذا من الواجبات: كما أطلق المسلمون على علم الإسناد: (مصطلح الحديث)، ولم يكن على عهد الرسول مثل هذا العلم، وليس هذا بدعة؛ لأن التثبت في الأخبار والنقل عن الرسول مطلوب. وكذلك سمي بعض المسلمين بـ (المهاجرين) من أجل الهجرة، وبعضهم بـ (الأنصار) من أجل النصرة، وبعضهم بـ (التابعين) من أجل اتباعهم للسلف من المهاجرين والأنصار المشهود لهم بالخير. فما هو الضير من أن نتسمى بـ (السلفيين)؛ أي: الذين يتبعون منهج السلف الصالح في فهم الدين، والسلف الصالح الذين نتبعهم هم الصحابة وتابعوهم بإحسان، وهم خير القرون.
وهذه التسمية ضرورية؛ لتميز هذه الطائفة المهتدية عن سائر طوائف الضلال الذين تركوا منهج الصحابة في فهم الدين، واتبعوا طريق الخوارج الغالين المتشددين، أو المؤولين المتنطعين، أو المقلدين الجامدين.. الخ. ومع هذا؛ فنحن لا نتعصب لهذا الاسم، بل نحب كل مسلم يشهد الشهادتين ويعمل حسب استطاعته بمقتضاهما، ونوالي كل مسلم يحب الله ورسوله، ولا ننصر السلفي إن كان مبطلًا، ولو كان عدوه كافرًا؛ فنحن لا نوالي السلفي في الظلم، بل نوالي كل مسلم حسب دينه واعتقاده وإيمانه. ونحن في النهاية حملة دعوة تسمى (الدعوة السلفية) . وهذه الدعوة منهج كامل لفهم الإسلام والعمل به والدعوة إليه ... وقد تضافر العلماء السلفيون على شرح هذه الدعوة وبيانها عبر القرون وإلى يومنا هذا، ونحن على منهج هؤلاء العلماء العاملين: فمن يستطيع أن يستغني عن أصول الفقه التي كتبها الإمام الشافعي في كتابه "الرسالة"؟! ومن يستطيع أن يستغني عن مناقشات ابن عباس وعلي بن أبي طالب ﵄ للخوارج ورده عليهم في استحلال أعراض المسلمين وأموالهم بالمعصية؟! ومن يستطيع أن يستغني عن فقه مالك وردود الإمام أحمد على شبهات الزنادقة وكتابات الإمام ابن تيمية في المصالح الشرعية وردوده على الفرق الضالة؟! كل هذا وغيره مما يشكل قواعد المنهج السلفي لا غنى عنها بتاتًا لطالب العلم المعاصر، هذا بالإضافة -أولًا وقبل كل شيء- إلى نصوص الكتاب والسنة. وهذه هي السلفية، تعني في جملتها الاتباع المستبصر لنصوص القرآن والسنة، واحترام العلماء الذين قاموا بفهم هذا الدين وتبليغه، واقتفاء آثارهم في ذلك. وعلى كل حال؛ الذين ينكرون على السلفيين اسمهم لم يسلموا هم أيضا من أن يطلقوا على أنفسهم اسمًا ما يتميزون به.. وهكذا يتهمون غيرهم بما هو فيهم، وهذا هو اتباع الهوى.
والفرق بيننا وبين غيرنا أننا لا نتعصب لهذا الاسم، ولا نهادي عليه، ولا نجعله شعارًا بديلًا عن الإسلام، بل نحن مسلمون أولًا وأخيرا إن شاء الله، بهذا سمًانا الله، وقد رضينا بالإسلام دينًا.. و(السلفية) لا تعني عندنا أكثر من الإسلام الصحيح الموافق للكتاب والسنة والمتبع للسلف الصالح رضوان الله عليهم. الشبهة الثانية: قول بعضهم: "أنتم مقلدون". وهذا افتراء؛ فلسنا مقلدين، وإنما السلفي الحقيقي متبع للحق والدليل، معظم لعلماء الأمة، مقدر لجهودهم، وغير متطاول على فقههم وعلمهم. ومتبع للحق أنَى وجده؛ غير طعّان ولا لعّان ولا فاحش ولا بذئ. والسلفي الحقيقي أيضًا يستحيل أن يكون غلامًا لم يبلغ الحلم بعد وقد درس قليلًا من القرآن والسنة، ثم يضع نفسه موضع علماء الأمة المشهود لهم بالخير والفضل، فيقول مثلا: أنا مثل مالك أو الشافعي! أو أفهم كما يفهم أحمد بن حنبل وأبو حنيفة!! بل يضع نفسه موضعها، ويعرف حق سلف الأمة وعلمائها، ويجلهم، ويحترمهم، ويقدسهم؛ بقدر تقديسهم للحق واتباعهم له، وإذا رأى شيئا من أقوالهم مخالفًا للدليل؛ اتهم نفسه أولًا بعدم فهم الدليل، وعذرهم ثانيًا في اجتهادهم، لربما لم يصل إليهم الدليل، وربما فهموا من دلالته غير ما فهمنا نحن؛ كما نصً على ذلك الإمام ابن تيمية ﵀ في كتاب "رفع الملام عن الأئمة الأعلام". وقد رأيت بعيني غلمانا لم يتجاوزوا السابعة عشرة من عمرهم، لم يحصلوا من العلم إلا قليلًا، إذا ذكر له اجتهاد إمام؛ يقول: "نحن رجال وهم رجال". عجبًا! متى كنت رجلًا في العلم حتى تضع نفسك على قدم المساواة مع أولئك؟! وكان الأولى أن تقول: هذا ما فهمته، أو: هذا حد علمي، ولم يتعبدني الله إلا بما استطعت فهمه وإدراكه. باختصار: السلفيون ليسوا مقلدين، وإنما هم متبعون.
ثم هم أيضا ليسوا من أهل الوقاحة والتطاول على مقام العلماء بالتجريح والطعن والتشنيع، وإنما مقالتهم دائمًا: ﴿رَبنَا اغفرْ لَنَا وَلإخوَننَا الذينَ سَبَقونَا باَلإيمَن وَلاَ تَجعَل في قلوبنَا غلا للذينَ ءامَنوا رَبَنَا إنَكَ رَءوف رَحيم﴾ (الحشر: ١٠) . وكذلك السلفيون يردون ما اختلف فيه من علم إلى كلام الله وكلام رسوله، ويسترشدون في فهم كلام الله وكلام رسوله بكلام أئمتهم وسلفهم الصالح من الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين. وليس عيبا أن نسترشد بأقوال هؤلاء لنفهم مراد الله ومراد رسوله؛ لأننا لم نشاهد التنزيل أولًا، والصحابة أعلم منا بكلام الله وكلام رسوله، وكذلك العلماء المشهود لهم بالخير أفقه منا وأعلم، وذلك بإخلاصهم وتفرغهم الطويل للعلم والعمل. وأما أن يكون الأطفال والغلمان الذين لم يحسنوا بعد النطق بالقرآن وفهم الجار والمجرور والفعل والفاعل على قدم المساواة مع أئمة الدين وسادة المسلمين؛ فهذا هو الضلال المبين. ولقد رأيت بنفسي كيف يتلاعب بكلام الله وكلام رسوله من بعض الغلمان؛ ممن جعلوا أنفسهم علماء بالقرآن والسنة، وأخذوا يفتون في الحلال والحرام والدعوة والسياسة والعبادات وسائر المعاملات بمخاريق وألاعيب تجعل دين الإسلام الحكيم أشبه بدين المجانين والحمقى والمغفلين! فأي حماقة أكبر من أن يتصدى لتبليغ الذين واستنباط الأحكام من القرآن والسنة من لا يفهم العربية ولا يدرك من أصول الفقه وقواعده شيئا؟! وباختصار؛ السلفي ليس مقلدًا، وهو أيضًا ليس متبجحًا وقحًا، يزعم أنه يستطيع الاستغناء عن فهم الصحابة والتابعين وعلماء الأمة وسادتها الذين حملوا هذا الدين بحق وبلغوه بإخلاص عبر عصور الإسلام إلى يومنا هذا.
ولكن السلفي الحقيقي متبع مسترشد مبصر، باحث عن الحق أبدًا، وعن الدليل مطلقًا، معظم لعلماء الأمة وساداتها، غير مفتش عن العيوب والهفوات التي لم ينج منها أحد بعد الرسول ﷺ، ملتزم بجماعة المسلمين، عامل على وحدتهم، غير داع إلى فرقة وخصام لجاجة. هذا هو السلفي الحقيقي، ونسأل الله أن يجعلنا كذلك. هذه إضافة لا بد منها في مقدمة هذه الرسالة المباركة إن شاء الله، وقد يسر الله لي أن انظر في الرسالة مرة ثانية، وأنقح بعض عباراتها، وأزيد في آخرها إضافة جديدة عن أهم مميزات الدعوة السلفية وبركاتها. والله سبحانه أسأل أن يكتب هذا عنده في ميزان حسناتنا، وأن يجمع هذه الأمة على كلمة سواء، وأن يأخذ بأيدينا لعزة الإسلام ونصره، والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون. عبد الرحمن عبد الخالق الكويت الجمعة ٢٦ محرم ١٤٠٣هـ ١٢ نوفمبر ١٩٨٢م
نامعلوم صفحہ
مقدمة الطبعة الأولى
إن الحمد لله؛ نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله؛ فلا مضل له، ومن يضلل؛ فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد:
فإن خير الكلام كلام الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد:
فقد ابتلي المسلمون خلال تاريخهم الطويل بفتن عظيمة، ونسب إلى هذا الدين كثير من البدع والضلالات، وألقي على الكتاب الكريم كثير من التحريفات والشبهات، وتعرضت سنة الرسول ﷺ للانتحال والوضع تارة، والرد والإبطال تارات.. وكانت الواحدة من هذه العظائم كافية لطمس معالم الدين،
1 / 6
وتضيع أصوله، وتشويهه، وإتلافه؛ لولا أن الله ﷾ شاء حفظه وأراد، ورد كيد أعدائه، وجعل سعيهم في تحريفه إلى ضلال، وهيأ في كل عصر من عصور الإسلام من ينفي عن هذا الدين تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، ولولا ذلك؛ لانطمست طريق هذا الدين كما انطمست اليهودية والنصرانية.
ولقد كانت هذه الحركات التصحيحية التجديدية لهذا الدين هي الحركة السلفية التي حافظت على أصول هذا الدين نقية خالصة، ونفت عنه كل بدعة، وردت عنه كل ضلالة، وصححت كل تأويل وتحريف.
فالصحابة العدول ﵃ نقلوا الأمانة كاملة، وبلغوها غير منقوصة، ووقفوا بالمرصاد لكل تأويل باطل وكل انتحال وتحريض، وحمل الراية من بعدهم علماء التابعين ومن وراءهم.
وفي عهدهم اتسعت دائرة الأمة الإسلامية، وكثر الداخلون من الفرس والروم والشعوب الأخرى، وأراد بعضهم أن يدخل في الدين ما ليس منه؛ بقصد أو بغير قصد، فقام هؤلاء العلماء الأجلاء حراسًا لكتاب الله وسنة رسوله ﷺ، وحفظ لنا التاريخ جهادهم في هذا السبيل؛ حربًا للمبطلين، وردًا للزيف عن هذا الدين، ووقوفًا في وجه انحراف الحكم والسياسة، ونشرًا للدين النقي الخالص في كل الربوع، حتى سلموا الراية لمَن بعدهم في العلم والإيمان كاملة، عزيزة الجانب، ظاهرة عالية.
1 / 7
وما يزال هذا الدين يخوض المعركة برجاله المخلصين وأبنائه البررة الميامين، الذين أخلصوا دينهم لله، فآمنوا بكتاب الله كما أنزل، وبسنة رسول الله ﷺ كما جاءت، وتمسكوا بهما، وعضوا عليهما بالنواجذ، وحاربوا كل أفاك أثيم، يروم حمى هذا الدين؛ تحويلًا له وتحريفًا، أو زيادة له ونقصًا، وتمزيقًا له وتقطيعًا.
وفي عصرنا الراهن زادت الهجمة على هذا الدين، وتميزت قلوب الكافرين عليه من الغيظ؛ أن دامت سيادته كل هذه القرون، واستمر عزه كل تلك السنين.. ورأوا من أبناء الإسلام غفلة عن كتاب ربهم وسنة رسوله الذين كان بهما العز والنصر والغلب، فأمكنوا السيوف من رقابهم، وأعملوا الفساد في هذا الدين برجال أعدوهم لهذا، ودربوهم عليه من أبنائهم أولًا، ونشؤوا من أبناء المسلمين تلامذة لهم، يقولون ويعتقدون مثل ما يعتقدون، فحارب الإسلام أبناؤه، وطعن الكتاب والسنة ورائهما. وليس لهذه الفتن الماحقة إلا رجال ينشؤون على الطراز الأول والمنهاج الأنف الذي كان به العز والسيادة والنصر والتمكين.
ورحم الله مالكًا إذ يقول: "لا يصلح أمر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها".
رجال يعلمون الكتاب كما أنزل، والسنة كما بلغت؛ حسب الأصول والقواعد التي وضعها علماء السلف؛ جيلًا بعد جيل، وعصرًا بعد عصر، ويقفون بعد ذلك
1 / 8
في وجه هذا الباطل الزائف الذي ملأ الأرض شرًا أو كاد.
والله غالب على أمره، وقد شاء أن تظل طائفة من هذه الأمة على الحق منصورة ظاهرة إلى قيام الساعة.
وهذه الرسالة الموجزة المختصرة بيان واضح للأصول التي ابتنى عليها مذهب علماء السلف في فهمهم للكتاب والسنة والعمل بهما، أردنا بها توضيح الطريق لسالكها؛ حتى لا تختلط الدروب، ويعمى على الناس الطريق المستقيم من الطرق المعوجة الهالكة.
والله أسأل أن ينفع بهذا البيان ما بقيت الدنيا؛ إنه سميع مجيب، وأن يجعله خالصًا لوجهه الكريم.
عبد الرحمن عبد الخالق
الكويت ربيع الثاني ١٣٩٥ هـ
1 / 9
الباب الثاني الأصول العلمية للدعوة السلفية
أولًا: التوحيد
الأصل الأول من أصول الدعوة السلفية هو التوحيد. ولا يعني هذا الأصل ما يؤمن به وما يفهمه كثير من الناس من معنى التوحيد، وهو أنه لا خالق إلا الله، بل يفهم السلفي ويعلم من معاني التوحيد أصولًا عظيمة، وقضايا كبيرة، الإخلال بقضية منها إشراك بالله تعالى، أو إلحاد في أسمائه.
وكثير من المسلمين يجهل كثيرًا من هذه الأصول والقضايا، فيقع في الشرك، ويظن نفسه مؤمنًا موحدًا، والحال أنه إما أن يكون ملحدًا في صفات الله وأسمائه مؤمنًا بها على وجه آخر، أو مشركًا عابدًا لغير الله ﷾.
وأصول التوحيد في المعتقد السلفي كما يلي:
أولًا: الإيمان بصفات الله سبحانه وأسمائه على الوجه الذي يليق به ﷾ دون تحريف أو تأويل
فالله ﷾ قد وصف نفسه في كتابه في آيات كثيرة جدًا، ووصفه رسوله ﷺ في أحاديث كثيرة جدًا، مدونة في كتب السنة؛ كالبخاري، ومسلم، و"مسند" الأمام أحمد، وغير ذلك؛ مما هو صحيح ثابت حسب قواعد أهل مصطلح الحديث.
وما أخبرنا الله بذلك عن نفسه؛ إلا لنصدق ونؤمن.
بل الأيمان
1 / 10
بصفات الله ﷾ هو أكبر قضية من قضايا العبادة والأيمان؛ كما جاء في الحديث: أن: ﴿قل هو الله أحد﴾ تعدل ثلث القرآن، وليس فيها إلا صفة الله ﷾.
والمحرفون المؤولون عمدوا إلى هذه الآيات، فحجبوا نورها عن المسلمين:
فإما أن يقولوا: هي آيات متشابهة، لا نخوض في معناها، ونؤمن بها كما جاءت؛ يعنون: أنه لا يجوز للمؤمن أن يفهم من معناها شيئًا، فيكون عند ذلك ﴿وجاء ربك والملك صفا صفا﴾، كقوله تعالى: ﴿الم﴾، ﴿كهيعص﴾، فكما أننا لا نفهم معنى محددا من هذه الحروف المقطعة؛ فآيات الصفات عندهم كذلك.
وبذلك حجبوا نور هذه الآيات أن ينفذ إلى قلوب المؤمنين، وأن يستشعر المسلم عظمة الله كما يليق بجلاله وعلو شأنه وذاته.
وبذلك فرغوا التوحيد من أعظم قضاياه، وهو الإيمان بصفات الله جل وعلا.
وهل الإيمان إلا امتلاء القلب بنور صفات الله وإشراقه بمعرفة إلهه ومولاه؟!
ومع ذلك؛ فقد زعموا -وخاب زعمهم- أن هذا الإيمان الأبله هو معتقد السلف، وحاشاهم، بل هم آمنوا بآيات الصفات وفق معناها الذي نزلت به باللغة العربية، مؤمنين أن الله جلت قدرته وعظمته لا يقدر قدره على الحقيقة إلا هو ﷾.
وإما أن هؤلاء المؤولين يعمدون إلى آيات الصفات، فيحرفونها؛ زاعمين أنه تأويل! فيؤولون مجيء الله يوم القيامة بمجيء أمره، واستواءه على عرشه باستيلائه عليه، ويده بقدرته، ووجهه
1 / 11
﷾ بذاته..
ولا يؤمنون بذات فوق العرش، وإنما يقولون: ليس ثم عرش، وإنما العرش الملك، وليس لله مكان، فليس هو في مكان، بل إما أن يقولوا: لا مكان له في شيء من العالم، بل ولا خارجه.
ولذلك لا يجوز عندهم أن يقول مؤمن: ربي في السماء. فإنهم يبدعونه، وقد يكفرونه.
ويأتون إلى الأحاديث التي تذكر فيه صفة الله؛ كـ[ينزل ربنا إلى سماء الدنيا كل ليلة]، فيسبون من يصدق ذلك بأقبح السباب، ويقولون: بل تنزل رحمته، وأما هو ﷾؛ فلا ينزل ولا يصعد؛ لأنه ليس فوق العرش شيء، بل ما ثم هناك عرش.
وينفون عن الله ﷾ كلامه، ويزعمون أن الله إذا أراد أن يكلم أحدًا؛ خلق فيه الفهم لمراده، فيكون كلام الله عندهم؛ كالنفث في الروع، وبذلك يكذبون أحاديث البخاري التي جاء فيها أن الله يتكلم يوم القيامة بصوت يسمعه من قرب كمن بعد؛ قائلًا: [أنا الملك! أين ملوك الأرض؟] (رواه البخاري) .
وقد فصلنا هذه الأقوال والردود عليها بحمد الله في محاضرات التوحيد.
والمهم هنا الإشارة إلى هذه الطوائف من المسلمين، الذين زعموا الهداية لأنفسهم، وهذا كذبهم على الله وافتراؤهم عليه.
فإذا كان الله قد أنكر أشد الإنكار على من قال: إن الله حرم هذا،
1 / 12
ولم يحرمه الله؛ فكيف بمن وصف الله حسب هواء، فعمد إلى آياته فحرفها، وأحاديث رسوله فحجب نورها، وضلل المصدق المؤمن بها؟!
وخلاصة هذا الأمر الأول: أن السلفي يؤمن بصفات الله وأسمائه ﷾؛ كما جاءت في كتابه، على لسان رسوله ﷺ، سواء كانت أخبارًا متواترة، أو أخبار آحاد صحيحة.
فخبر الآحاد الصحيح يوجب العلم والعمل؛ لأنهما سواء؛ فلا علم دون عمل، ولا عمل دون علم بل لا يجوز لمسلم أن يعمل عملًا ما من أعمال الدين إلا إذا ثبت عنده صدق المخبر به عن الله أو عن رسوله ﷺ.
وبذلك يفترق السلفي عن جمهور كثير يظنون أنفسهم موحدين لله، وما هم كذلك، وقد حرفوا صفات الله، ومنعوا الناس عن الإيمان بها والتصديق بمعانيها، أو بدلوا لهم معانيها وأمروهم أن يؤمنوا بها على نحو آخر.
ثانيًا: إفراد الله ﷾ وحده بالعبادة
وعندما نقول: إفراده بالعبادة؛ فلا نعني الصلاة والزكاة والصوم والحج فقط، بل نعني كل ما يندرج تحت هذه اللفظة من معانيها، وعلى رأس ذلك الدعاء.
فالدعاء هو العبادة، فلا دعاء لغير الله كائنًا من كان؛ رسولًا أو وليًا حقًا أو وليًا مزعومًا.
ويأتي بعد الدعاء: السجود، وأنواع من الحب، والتعظيم، والخشية، والخوف، وكذلك الذبح والنذر،
1 / 13
والرغبة.
وكل هذه الأمور من حق الله ﷾، وقد صرفها كلها أو بعضها كثير من الناس لغير الله، ويكفيك زيارة واحدة لقبر من القبور المشيدة حتى تشاهد كل ذلك الطلب الصريح من صاحب القبر بكل ما لا يجوز أن يطلب إلا من الله؛ كشفاء المرضى والانتصار من الأعداء، والشفاعة عند الله، والمدد، وإعطاء الأولاد، وخير الدنيا..
وبالجملة؛ فإنه يطلب من هؤلاء الأموات خيري الدنيا والآخرة، وهذا شرك أكبر، مخرج من ملة الإسلام.
ويفعل هذا طوائف كثيرة ينسبون إلى الإسلام!
ولا يكتفون بالدعاء، بل ويذبحون لهؤلاء تقربا؛ كما كانت الجاهلية تفعل عند طواغيتها، وينذرون لهم، بل ويطوفون بالقبور كما يطاف بالكعبة، ويسجدون عندها كما يسجد لله، وليس هناك شرك أكبر من هذا.
وهذه الأمور لا يصنعها عوام الناس وجهلاؤهم فقط، بل ويصنعها كثيرون ممن يزعمون العلم الشرعي، ويحملون فيه شهادات عريضة، وكذلك من يزعمون التقوى والصلاح من أهل الطرق الصوفية والمناهج العبادية المبتدعة، ولا تجد دينهم ينبني إلا على تعظيم هذه القبور وبنائها وإسراجها ودعوة الناس إلى الذبح لها والنذر لها ودعائها من دون الله ﷿، بل والطواف بها.
وقد أصبح الله عند هؤلاء نسيًا منسيًا؛ لا يدعى ولا يرجى إلا بواسطة هذه القبور والأضرحة، ويظنون بعد ذلك أنهم مسلمون، وما هم بمسلمين، وقد شابهوا المشركين الذين عبدوا غير الله وقالوا: ﴿ما نعبدهم
1 / 14
إلا ليقربونا إلى الله زلفى﴾ (الزمر: ٣) .
والدعوة السلفية تجعل نصب عينها تطهير معتقد الناس من هذا الشرك الظاهر الجلي، الذي لا يماري فيه إلا مشرك، ولا يكابر فيه أو يدافع عنه إلا مطموس القلب، بعيد عن نور التوحيد والإيمان.
ثالثًا: الإيمان بأن لله وحده ﷾ وليس لأحد سواء حق التشريع للبشر في شؤون دنياهم
كما قال جل وعلا: ﴿والله يحكم لا معقب لحكمه﴾ (الرعد: ٤١) .
وكما قال سبحانه: ﴿إن الحكم إلا لله﴾ (الأنعام: ٥٧) .
فالتشريع حق للرب جل وعلا؛ فالحلال ما أحله الله، والحرام ما حرمه الله، والدين والمنهج والطريق والصبغة هو ما شرعه الرب جل وعلا.
واعتداء سلاطين الأرض وملوكها ورؤسائها على شرعة الله؛ بتحليل ما حرم، وتحريم ما أحل: عدوان على التوحيد، وشرك بالله، ومنازعة له في حقه وسلطانه جل وعلا.
وأكثر سلاطين الأرض اليوم وزعماؤها قد تجرؤوا على هذا الحق، وتجرؤوا على الخالق الملك ﷾، فأحلوا ما حرم، وحرموا ما أحل، وشرعوا للناس بغير شرعه؛ زاعمين تارة أن تشريعه لا يوافق العصر والزمن، وتارة أنه لا يحقق العدل والمساواة والحرية، وأخرى بأنه لا يحقق العزة والسيادة.
والشهادة لهؤلاء الظالمين بالإيمان عدوان على الإيمان وكفر بالله ﷾.
ونأسف إن قلنا: إن سوادًا كبيرًا من الناس قد أطاعوا كبراءهم فيما شرعوا لهم
1 / 15
من شرع مخالف لشرعه ﷾، وكثير من هذا السواد يصلي ويصوم -مع ذلك- ويزعم أنه من المسلمين.
والدعوة السلفية جهاد بكل معاني الجهاد؛ لرد الحق إلى نصابه، وجعل الدين لله وحده، وتخليص الأمة من هذا الشرك الأكبر والكفر البواح الذي استشرى فيها، وذلك لتكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى، ولا تكون كذلك في واقع الناس؛ إلا إذا كان الحكم لله وحده، والتشريع لله وحده؛ وفق ما جاء في كتابه، وعلى لسان رسوله ﷺ، ووفق ما يجتهد فيه أئمة العصر من المسلمين؛ ليتوصلوا باجتهادهم إلى ما يرضي ربهم، ويوافق شرعته.
وتخليص الأمة من هذا الشرك بالبيان والدعوة والجهاد واجب؛ لأن هذه القضية إحدى قضايا المعتقد السلفي.
رابعًا: نؤمن في المنهج السلفي أن قضايا التوحيد الثلاثة السالفة قضايا لا تتجزأ ولا تقبل المساومة؛ لأنها أركان في فهم العقيدة السليمة وفي معنى لا إله إلا الله
فمن آمن بإله واحد؛ يجب أن يعتقد أنه هو الموصوف سبحانه في كتابه وعلى لسان رسوله ﷺ، وأنه يجب الإيمان به وفق هذه الصفات.
وكذلك يجب دعاؤه ﷾ وحده، وإفراده بسائر أصناف العبادة؛ من ذبح، ونذر، وخوف، وخشية، وإنابة، وتوكل، وحلف، وتعظيم، وتطهير القلب مما يخدش هذا التوحيد أو يلغيه.
وكذلك يجب الإيمان والعمل لتكون كلمته وشرعه هو الأعلى وهو المحكم في حياة الناس جميعها؛ فلا دين إلا
1 / 16
ما شرع، ولا طاعة إلا لله أو ما يقتضي أن تكون طاعة الله؛ أعني: لا طاعة لمخلوق إلا بما يوفق طاعته سبحانه، فإن خالف طاعته؛ فلا طاعة.
والمنهج السلفي يأخذ هذه القضايا جملة، ويطهر قلوب أتباعه من الشرك فيها جميعًا؛ لأننا نعتقد أن من مات وهو يدعو غير الله؛ لم يكن من أهل الجنة، ونعتقد أيضا أن بعض التحريف لمعاني الصفات والأسماء؛ شرك بالله وكفر به، وإن كان بعضه لا يبلغ ذلك، ونعتقد كذلك أن من حكم بغير ما أنزل الله؛ فهو كافر، ومن اعتقد أن لأحد من البشر أن يشرع للناس في شؤون معاشهم ودنياهم دون الرجوع إلى شرع الله والالتزام به والسير بمقتضاه؛ فقد عبد غير الله وأشرك به شركًا جليًا؛ كما قال تعالى: ﴿فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجًا مما قضيت ويسلموا تسليمًا﴾ (النساء: ٦٥) .
هذه القضايا الثلاث السالفة هي الأركان التي يقوم عليها الأصل الأول من الأصول العلمية للدعوة السلفية.
إنها قضايا التوحيد الثلاثة التي إذا اختل شرط منها؛ اختل أصل التوحيد.
وهذا الأصل هو بمثابة المدخل للمعتقد السلفي؛ لأن التوحيد هو
1 / 17
أهم قضايا الدين، بل رأسه، وبدونه لا يكون المسلم مسلمًا.
وتحت القضايا السالفة توجد كثير من الفرعيات والتفصيلات، قد بينا بعضها في مواضع أخرى، وقد فصلها علماء السلف عبر القرون في كتبهم.
والسائر في المنهج السلفي يجعل نصب عينه دائما تعلم هذه الفرعيات؛ تكميلًا لتوحيده، وتثبيتًا لإيمانه.
وبهذا الأصل يفترق المنهج السلفي عن كثير من مناهج الإصلاح المنسوبة للإسلام، التي لا تدخل هذه القضايا في حسبانها، ولذلك نجد أن كثيرا منهم يفنون أعمارهم في قضايا فرعية عملية، وفي خلافات جزئية، وينسون أصل الدين الأصيل، وهو التوحيد الخالص الذي ما جاء الشرع إلا لأجله.
وأمثال هؤلاء لا يعنون من الشرك إلا عبادة المسيح والأصنام، وأما تلك الصور التي عرضناها عليك آنفًا؛ فإنهم لا ينكرونها، بل يباركونها ويوافقون أصحابها، وإن حصل لها عند بعضهم إنكار؛ فإنما هو كإنكار بدعة يسيرة لا تضر عندهم بالدين، والحال أنها أصل من أصول التوحيد، وتفويتها قدح في العقيدة والإسلام.
وقد يسأل سائل: لماذا تهتمون بالتوحيد هكذا وتجعلونه الأصل الأول من أصول الدعوة السلفي؟
والجواب على هذا السؤال يأتيك مفصلا بحمد الله في الباب الأخير من هذه الرسالة: (السلفية دعوة التوحيد) .
1 / 18
ثانيًا: الاتباع
بعد أن يعلم السائر في المنهج السلفي توحيد الله ﷾ حسب أركانه السالفة؛ فإنه يتوجب عليه إفراد الرسول ﷺ بالاتباع، وذلك تحقيقًا لقوله: "أشهد أن محمدًا رسول الله".
وهذه الشهادة لا تكون كاملة إلا بالأمور الآتية:
أولا: أن يعلم أن محمدًا ﷺ رسول مبلغ عن ربه جل وعلا، وأنه قد جاء بوحيين: الأول كتاب الله القرآن. الثاني: سنته ﷺ
وذلك لقوله ﷺ: [ألا وإني أوتيت القرآن ومثله معه] (رواه أبو داود وغيره بسند صحيح) .
فكلام رسول الله ﷺ مثل كلام الله تعالى؛ سواء في الاعتقاد والعمل والقبول؛ لأن هذا وهذا من الله ﷾، والرسول لا يأمر ولا ينهى ولا يحرم ولا يحل في أمور الدين بشيء من عند نفسه، بل بأمر الله ﷾، ولا يخبر بشيء من الغيب إلا بوحي منه جل وعلا؛ كما قال ﷾: ﴿ولو تقول علينا بعض الأقاويل، لأخذنا منه باليمين، ثم لقطعنا منه الوتين﴾ (الحاقة: ٤٤-٤٧) .
وإذا كان أمر السنة كذلك؛ فإنه يشملها جميع أحكام التكليف؛ من: واجب، ومندوب، وحرام، ومكروه، ومباح، ويكون من رد
1 / 19
الثابت الصحيح منها؛ كمن رد القرآن.
ثانيًا: الدين هو المنهج والطريق والحكم والصبغة العامة، وليس هو التقرب فقط؛ كالمفهوم الشائع بين الناس اليوم
ومعنى هذا أن الرسول ﷺ هو المشرع بأمر الله لجميع شؤون الحياة التي له فيها أمر ونهي وحكم، وليس للطاعات والقربات فقط؛ فمعصية أحاديث الرسول ﷺ في شؤون البيع والتجارة والزواج والطلاق والحكم والسياسة والحدود؛ كمعصيته في شؤون العبادة؛ كالصلاة والصيام والزكاة والحج وغيرها.
ثالثًا: للأمرين السابقين تصبح منزلة الرسول ﷺ في الطاعة المطلقة لا تدانيها منزلة لأحد من البشر
ولذلك، فلا يقبل قول أحد؛ سواء كان: إمامًا فقيهًا، أو زعيمًا سياسيًا، أو مفكرًا أو مصلحًا؛ يخالف قولًا للرسول ﷺ، ومن قدم قولًا لأحد على قول الرسول ﷺ فقد أساء وتعدى وظلم وخالف إجماع الأمة وكتاب الله وأحاديث الرسول ﷺ.
رابعًا: لا تكمل هذه المتابعة للرسول ﷺ؛ إلا بكمال الحب له
كما قال ﷺ: [لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه ووالده والناس أجمعين] (متفق عليه) .
ومما يعين على هذا الحب: التزام أمره دائمًا، والمسارعة في طاعته، وتقديم قوله على كل قول، وتذكر مواقفه ومشاهده، ومدارسة سنته وسيرته
1 / 20
صلوات الله وسلامه عليه.
ومما يؤسف له في أوساط المسلمين اليوم أنه قد ضعفت هذه المتابعة، وخبا ذلك الحب للرسول ﷺ، وذلك للأسباب الآتية:
١- القول بجواز التقليد:
وذلك بعد تدوين الفروع الفقهية لكل مذهب من المذاهب الفقهية، والإفتاء بالعمل بهذه الفروع الفقهية مطلقًا، سواء كانت موافقة أو مخالفة للحديث الصحيح، بل والإفتاء بأنها جميعًا صواب، وإن كانت مختلفة متناقضة. وقد أدى هذا إلى الركون إلى كل قول ينسب إلى الفقه، والقعود عن طلب الدليل من القرآن والسنة، وبذلك ضعف العلم بكتاب الله ﷾ وبالأحاديث الصحيحة.
٢- الإفتاء بغير علم ودليل:
أ) بعد الإفتاء بأن كل رأي فقهي في مذهب ما صواب؛ أفتى المفتون كل مستفت بما يناسبه من قول منسوب إلى الفقه، بل بحث بعضهم على ما سماه بالأيسر من كل مذهب في كل مسألة فأفتى به.
وناهيك بما في هذا من توهين العمل بالشريعة، بل بزوالها، إذ ما من مذهب إلا وله كثير من الأقوال المتساهلة جدًا، التي جاء
1 / 21
القرآن والحديث بخلافها، وليست هذه الرسالة مجالًا لبيان ذلك.
بل وتساهل بعض الناس أكثر من هذا، فأفتى بأي قول يصدر عن عالم ما!
وقد علم القاصي والداني ما أفتى به كثير من العلماء المحدثين في شأن الربا والخمر وملابس النساء وحقوقهن والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر..
ولو جمعنا الفتاوى الباطلة في هذه وغيرها، لخرجنا بأكثر من مجلد فيه ما يهدم الإسلام جملة وتفصيلًا.
ب) لم يقف الأمر بالفتاوى الباطلة وبأن كل قول صواب عند الإفتاء في أمور الشريعة، بل تعدى ذلك إلى العقائد والغيبيات، فوقعت أيضًا تحت الرأي والظن، وبذلك نفى كثير من العلماء الأحاديث الصحيحة في أمور كثيرة من أمور العقائد، وقالوا بالرأي والظن والاجتهاد في أمور العقيدة والغيب التي لا اجتهاد فيها، وجاروا آراء العصر الصادرة عن غير المسلمين.
٣- توعير طريق دراسة القرآن والسنة:
وذلك بالتخويف والتحذير الذي لا نفتأ نسمعه من كل ناعق: أن دراسة القرآن والسنة والتلقي منهما ضلال (راجع كتاب "تنزيه السنة والقرآن عن أن يكونا من أصول الضلال والكفران" للقاضي أحمد بن حنبل حجر آل بن علي) !! وأنه يجب أولا عرض الآيات والأحاديث على أقوال الأئمة والفقهاء!! وكأن الأصل قد أصبح أقوال الناس لا قول الله ورسوله.
1 / 22
وبهذا التخويف والتحذير وعَّر هؤلاء طريق الفهم السليم للكتاب والسنة، وصدوا عن سبيل الله بعلم أو بغير علم، وجعلوها معوجة للسالكين فيها.
وقد خالفوا بذلك كتاب الله الذي يأمر باتباع الدليل مطلقًا، وبالبصيرة أبدًا، وينهى عن التقليد والسير على منهاج الآباء والأجداد دون دليل وبرهان، وخالفوا الرسول ﷺ الآمر بتبليغ حديثه مما نطق به ﷺ، حيث يقول: [نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها] . وقوله: [وبلغوا عني ولو آية] .
٤- إيقاف العمل بالشريعة في كثير من نواحي الحياة
لا يشك مسلم يفهم الإسلام في الوقت الحاضر أن الشريعة الإسلامية قد أقصيت إلا قليلًا عن مجالات حياة المسلمين، وذلك في شؤون كثيرة؛ كالحكم، والسياسة، وكثير من المعاملات، والحدود، والتربية، والاجتماع، والآداب العامة.
وكان لهذا أسباب كثيرة؛ كغلبة الكفار على أرض الإسلام وغرس أفكارهم وتقاليدهم وعاداتهم في بلاد الإسلام.
وكان من ذلك أيضًا مما نحن بصدده: جمود حركة الاجتهاد الفقهي، وذلك بالوقوف فقط عند ما دونه أئمة الفقه في عصور قديمة استحدثت بعدها كثير من الأقضيات والحوادث في شتى شئون
1 / 23
الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وكان لابد من حركة فقهية تحكم هذه الأمور؛ لتعطي المسلم الحركة الصحيحة بإسلامه في المجتمع الذي يعيش فيه.
ولكن هذا الجمود في الفقه وانفصال السلطة السياسية عن المنهج الإسلامي أدى إلى شل حركة المسلمين، وجعلهم حيارى بين ما يأخذون وما يدعون فيما جدَّ من أمورهم، وكانت الغلبة بالطبع للتيار القوي الذي تقوم عليه أجهزة الحكم وتوجهه أجهزة الإعلام المسخرة للسلطة السياسية.
وكان لهذا كله آثاره في انطماس طريق الإسلام وشريعته، وغياب المعنى الحقيقي لشهادة المسلم: أشهد أن محمدًا رسول الله.
والمنهج السلفي لفهم الإسلام والعمل به يضع نصب عينه تذليل هذه العقبات التي حالت بين الناس ومتابعة الرسول ﷺ، وذلك بأن ينادي دائمًا بالقول بتحريم التقليد، ويوجب على كل مسلم السؤال عن القول بدليله من الكتاب والسنة.
ولا يعنى هذا أننا نوجب على كل أحد أن يكون مجتهدًا، لا؛ إنما نأمر كل أحد بأن يكون متبعًا للدليل، باحثًا عن الحجة من كتاب ربه أو سنة نبيه.
وبذلك تتوحد صفوف الأمة، وينمو فيها معرفة الكتاب والسنة، وتزكو فيها الروح العلمية والمسامحة الأخوية، ولا يستطيع مضل أن يضلها بسهولة؛ لأن ميزان الكتاب والسنة سيكون منصوبًا لكل مفت ومتحدث في الدين، وبذلك أيضا يعظم عند المسلمين شأن الرسول
1 / 24