The Salafis and the Four Imams
السلفيون والأئمة الأربعة ﵃ -
ناشر
الدار السلفية
ایڈیشن نمبر
الثانية
اشاعت کا سال
١٣٩٨ هـ - ١٩٧٨ م
پبلشر کا مقام
الكويت
اصناف
السلفيون والأئمة الأربعة
﵃
نامعلوم صفحہ
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، أحمده سبحانه، وأشهد أن لا إله إلا هو، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، الداعي إلى صراط ربه، والذي قال [تركتكم على البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك] (رواه ابن ماجة ٤٣، وأحمد (١٢٦: ٤» وأسأله تعالى، أن يهدينا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم، من النبيين، والصديقين، والشهداء، والصالحين. .
وبعد، فإن المسلمين اليوم، في أمس الحاجة إلى الاجتماع على كلمة واحدة، ولا يمكن أن يحصل لهم ذلك إلا إذا اجتمعت كلمتهم على الكتاب والسنة عقيدة وتشريعًا وسلوكًا وإن الدعوة إلى الكتاب والسنة، تصطدم بتحجر المقلدين، الذين يظنون أن في الدعوة إلى الكتاب والسنة، وتوحيد الفقه والتشريع، تنقيصًا من شأن الأئمة الأربعة ﵃ أو انتقاصًا لهم، ولذلك يقومون بالتشويش على دعوة الكتاب والسنة، زاعمين أنها دعوة لإلغاء الفقه، وفتح باب التخرصات في الدين، وهذه الرسالة الميسرة المباركة -إن شاء الله- بيان لحقيقة الدعوة
1 / 5
السلفية في أمر الاجتهاد والتشريع، وبيان موقف السلفيين الحق من الأئمة الأربعة ﵃، والله نسأل أن ينفع بها إخواننا المسلمين وأن يتقبلها منا إنه هو السميع العليم.
عبد الرحمن عبد الخالق
الكويت ١١من رجب سنة ١٣٩٧هـ
1 / 6
حاجتنا إلى الاجتهاد
يقسم العلماء العلم الذي جاء به الرسول ﷺ من ربه إلى ثلاثة أقسام: قسم إخباري وهو يتعلق بأمور الغيب والآخرة كصفات الله سبحانه وأعماله، والرسالات والملائكة، والجنة والنار والحساب وغير ذلك مما يدخل في مسائل الغيب والإيمان.
وقسم يتعلق بالأعمال وهو التشريع والأعمال التي كلفنا بها فمنها ما يتعلق بالصلة بين العبد وربه فتسمى العبادات وأعظمها الصلاة والصوم والزكاة والحج، ومنها ما يتعلق بين الناس بعضهم مع بعض كالزواج والطلاق والبيع، والهبة والميراث وهكذا كافة الشئون المالية والسياسية. . الخ، وقسم آخر يتعلق بالكمال الإنساني وهو الأخلاق والتزكية وهذا القسم يتعلق بكلا القسمين الآنفين فهو من ناحية عمل قلبي، فسلامة الصدر من الغل والحسد خلق، وهو من ناحية ثانية عمل ظاهري تشريعي، فالسماحة والبذل والشجاعة وإكرام الضيف وما إلى ذلك أعمال ظاهرية.
والقسم الأول العقائد لا يدخله التغيير ولا التبديل ولا
1 / 7
الزيادة أو النقص فهو ثابت في الرسالات جميعها وعلى لسان الأنبياء جميعًا.
وأما القسم الثاني فهو خاضع للظروف والملابسات والزمان والمكان بل هو في حركة دائمة كما قال ﷾: ﴿لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجًا﴾ (المائدة: ٤٨) ولذلك اختلفت شرائع الأنبياء بعضهم عن بعض، ولا يعني هذا الاختلاف من جميع الوجوه بل أصول الشرائع أيضًا متفقة.
وبالرغم من أن شريعة الإسلام قد كملت بوفاة النبي ﷺ فإن المسلمين في تاريخهم الطويل قد احتاجوا إلى أن يستنبطوا من هذه الشريعة أحكامًا لقضاياهم ومشكلاتهم المتجددة بتجدد الزمان والمكان والحوادث. ولذلك كان التشريع للحياة حركة متجددة بتجدد الحياة. وهذا يعني أيضًا أو وقف التشريع للوقائع المتغيرة هو عزل للشريعة عن حياة الناس لأن الحياة مستمرة. والتشريع ضوابط لهذه الحياة والحركة المستمرة، فإذا تخلفت هذه الضوابط انفلت الناس إلى شرائع أخرى وقوانين جديدة وهذا ما حدث تمامًا بالنسبة للشريعة الإسلامية حيث عزلت عن حياة الناس وعن التقنين لهم بجمود الحركة الفقهية التشريعية أولًا ثم بالعزل السياسي والاجتماعي للتشريع الإسلامي.
وأما الأخلاق فبالرغم من ثباتها من حيث المبادئ والأصول،
1 / 8
فالجانب العملي فيها يتغير تبعًا للظروف والملابسات، فالصبر والشجاعة والكرم وإن كان المعنى الأصلي فيها ثابتًا باقيًا إلا أن المواقف التي تقتضي ذلك متغيرة أيضًا.
هذه الحركة المتغيرة الدائبة للتشريع الإسلامي تقتضي أن يكون لدينا في كل العصور وعلى مدار التاريخ رجال علماء أكفاء يضبطون حياة الناس ويوجهونها وفق الإسلام. وهؤلاء العلماء لا يجوز فقط أن يكونوا في موقف الإفتاء فقط، بل أيضًا في موقع التنفيذ والقضاء، ولذلك اشترط المسلمون للإمام العام أن يكون مجتهدًا وذلك أنه يحتاج في كل يوم أن يتخذ من المواقف والأحكام مع المسلمين وغيرهم من الأعداء المحاربين، والمسالمين والمستأمنين والمعاهدين ما يتفق مع الدين الذي أنزله الله ﷾ وهذا يحتاج إلى الاجتهاد، وكذلك اشترط في القاضي أيضًا أن يكون مجتهدًا لأن الوقائع والمشاكل التي تعرض على القضاء ليست متماثلة بما وقع في صدر الإسلام وفي عهد التشريع من كل وجه، بل في كل يوم يواجه القضاء مشكلات جديدة وحيلًا شتى ووقائع متغيرة، وما لم يكن القاضي فقيهًا مجتهدًا فإنه لا بد وأن يحكم بالجهل ويقع في الظلم.
لهذه الأسباب فالمسلمون يحتاجون في كل يوم بل في كل ساعة إلى اجتهاد فقهي جديد: اجتهاد في الإفتاء، واجتهاد في القضاء، واجتهاد لتنفيذ الأحكام وتطبيق الشريعة وفق مقتضيات
1 / 9
الحال وتغير المشكلات. ولنضرب على هذا أمثلة من واقعنا السياسي: -
* سياسيًا: المسلمون اليوم في حاجة ماسة إلى خلافة راشدة فكيف توجد الآن وما هو الطريق لها وفق الكتاب والسنة؟ ! يحتاج هذا إلى اجتهاد ودعوة. . نقابل اليوم أعداء كثيرين فاليهود تحتل أرضنا وتشرد رجالنا ونساءنا وأطفالنا، فما هو الواجب اليوم معهم؟ هل الواجب الحرب أم العهد أم السلام والصلح؟ ! وإذا كان الحرب فكيف؟ ! وإذا كان العهد فما هي مواصفاته وشروطه؟ ! ! وإذا كان السلام فما أيضًا مواصفاته وشروطه؟ !
* إقتصاديًا: هل يجوز أن نودع أموالنا في بلاد الغرب؟ ! وإذا كان جائزًا فهل يجوز وضع هذا المال بالفوائد أم بدونها؟ وإذا لم يكن جائزًا فما الحل؟ . . هذا إلى عشرات ومئات المشكلات الاقتصادية في العمل، والشركات، والتأمين، والتجارة، وتحويل المال و. . وكل هذا يحتاج إلى علماء أعلام يفهمون الحياة ونظم المال الحاضرة ويفتون المسلمين بما يجب عليهم في كل هذا.
وهكذا مشكلاتنا الاجتماعية والخلقية والنفسية، ومشكلات التطبيق للشريعة الإسلامية في العصر الراهن ومشكلات المسلمين
1 / 10
في بلاد الكفار إلى آلاف المشكلات وكلها تحتاج إلى اجتهاد وحلول.
باختصار، المسلمون اليوم في حاجة ماسة إلى حركة اجتهادية تجديدية لا تكتفي فقط بإصدار الفتوى ولكن أيضًا بمواكبة العمل بالإسلام في إطار الفرد والجماعة والدولة. وهذه الحركة الاجتهادية التجديدية هي التي تميز للمسلمين طريق العمل بالإسلام في الوقت الحاضر وتأخذ بخطاهم خطوة خطوة نحو تحكيم الشريعة في جميع شئون الحياة، وبدون هذه الحركة التجديدية الاجتهادية الكاملة ستبقى الشريعة الإسلامية بمعزل عن حياة الناس وواقع التطبيق كما هو حادث الآن.
1 / 11
كيف نجتهد
عرف العلماء الاجتهاد الشرعي بأنه بذل الجهد للوصول إلى ظن بحكم شرعي. وهذا يعني أن المجتهد يبذل جهده ليعرف مراد الله ﷾ في قضية ما. فإما أن نعرف الحكم من نص قرآني أو حديث نبوي أو إجماع للصحابة رضوان لله عليهم.
وأما أن يعرف هذا باستنباط وفهم من آية أو حديث وهذا الفهم يصيب ويخطئ، ولذلك كان الاجتهاد الذي ينبني على الفهم والاستنباط ظنيًا لأن الفهم والاستنباط غير معصوم ولذلك قال الإمام مالك ﵀: كل رجل يؤخذ من قوله ويرد عليه إلا صاحب هذا القبر. يعني النبي ﷺ (إرشاد السالك (٢٢٧: ١» .
والذي يعمل عقله وفهمه لمعرفة حكم ما لا بد بالطبع أن يكون أهلًا لذلك، ولذلك وضع العلماء شروطًا للاجتهاد أعدلها: أن يكون المجتهد على علم بالقرآن والسنة وفهم لغة العرب وفهم الحادثة والواقعة المراد التشريع لها ومعرفة النصوص الخاصة في شأن مثل هذه الواقعة. وهذا العلم بحمد الله متيسر
1 / 12
لكل من بذل في هذا جهدًا مناسبًا كما قال تعالى: ﴿ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر﴾ (القمر: ١٧)، وقال ﷺ: [بعثت بالحنيفية السمحة] (أخرجه أحمد (٢٦٦: ٥) والطبراني (٧٨٦٨) وهو حديث حسن)، وقال: [إن هذا الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه] (أخرجه البخاري (٩٣: ١)، ويسر الإسلام ليس في العمل فقط بل في الفهم أيضًا. ولذلك لم يخل تاريخ المسلمين في كل عصورهم -بحمد الله- وتوفيقه من رجال أكفاء كانوا على مستوى الاجتهاد والفهم العام لدين الله ﷾ وتعليم الأمة وتوجيه مسارها إلى ما يرضي الله ﷾.
ولا يشترط بالضرورة أن يكون كل من قال قولًا في الدين أن يكون قوله صوابًا موافقًا للحق بل كل من اجتهد في هذا الدين بعد رسول الله وإلى يومنا هذا قد أصاب وقد أخطأ وقد رد على غيره ورد غيره عليه كما قال الإمام مالك أيضًا: ما منا إلا قد رد ورد عليه.
فهذا عمر بن الخطاب يرد عليه الصحابة في وقائع كثيرة جدًا كالتيمم وتقسيم السواد، وتحديد المهور، وكذلك عثمان
1 / 13
﵁ رد عليه الصحابة في وقائع كثيرة من العبادات والمعاملات، وعلي خالفه الصحابة في كثير من القضايا الفقهية والسياسية. . الخ (انظر أعلام الموقعين لابن القيم) .
فكيف بغيرهم من العلماء والفقهاء؟ ! !
ومهما كان الأمر فإن الله ﷾ الذي ضمن لنا حفظ هذا الدين لم يضمن حفظ نصوصه فقط بل ضمن ﷾ تطبيقه وفهمه في الأمة وإلى قيام الساعة، فلا يزال قائم لله بحجة فردًا. كان أو جماعة حتى يأتي الدجال كما قال ﷺ: [لا تزال طائفة من أمتي على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك] (اخرجه البخاري (١٦٤: ١) ومسلم (١٥٢٤: ٣) وهو حديث متواتر) .
وهذه الطائفة التي تقوم بالحق لا شك أنه يعترضها كل يوم من المشكلات والأقضيات والحوادث ما لم يكن في زمن الصدر الأول ولا شك أن هذه الطائفة محتاجة دائمًا إلى اجتهاد دائم ينير طريقها وفق كتاب الله وسنة رسوله ﷺ. وهذا الاجتهاد الدائم المتجدد للحوادث المتجددة هو ما نحتاجه دائمًا. وهو ما يقع فيه الخطأ والصواب.
والإسلام منذ أنزله الله ﷾ على رسوله ﷺ قد راعى ذلك، فالرسول الموحى إليه علم الله أنه لن يبقى في الأمة إلى نهاية الدنيا وأنه سيخلفه الخلفاء
1 / 14
وسينقطع الوحي من السماء ويبقى لهم الفهم والاستنباط والاجتهاد، وعلم الرب ﵎ أيضًا أنهم سيتعرضون للخطأ والصواب ولذلك لم يكلفهم شططًا بالوصول إلى الصواب في كل رأي وفي كل اجتهاد لأن هذا تكليف بما لا يطاق ولذلك قال ﷺ: [إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر] (رواه البخاري ومسلم وأحمد)، ووقعت حوادث بعد وفاة الرسول ﷺ اقتضت الاجتهاد واجتمع الصحابة فيها أحيانًا على رأي واحد واختلفوا أحيانًا إلى آراء كثيرة. وكان من هذه المشكلات: الخلافة لمن؟ وهل ينفذ جيش أسامة وقد ارتد العرب أم يحارب المرتدون؟ وهل مانعوا الزكاة مرتدون يجب قتالهم أم مسلمون لا يجوز سفك دمائهم؟ وهل يحارب فارس والروم أم لا؟ وهل عمر بن الخطاب يستحق الخلافة بالعهد أم لا؟ ومن يتولى بعد عمر هل بعهد كما فعل أبو بكر أم بترك الأمر للمسلمين كما فعل رسول الله؟ واقترح عمر النفر الستة الذين توفى الرسول وهو عنهم راض ونظم نظامًا فريدًا لاختيار رجل منهم. ومئات المشكلات في خلافة عثمان ومثلها في خلافة علي بن أبي طالب هذا إلى مئات من المشكلات الاجتماعية التي كان للخليفة رأي مخالف لرأي الناس نحو مشكلة اسكان سبى الفرس وصناعهم بالمدينة النبوية: رأى عمر أن تطهر المدينة منهم ورأى العباس
1 / 15
وابنه عبد الله أنه لا بأس بهذا وكان رأي الخليفة الراشد عمر بن الخطاب ﵁ أن يمنعوا من سكنى المدينة.
هذه المشكلات وغيرها كثير جدًا احوجت المسلمين إلى اجتهاد، وإذا جئت تعدد مشكلاتنا اليوم في كل ناحية من نواحي الحياة لوجدت أننا في حاجة ماسة إلى جهود عظيمة واجتهاد بالغ وفهم عميق للكتاب والسنة لنستطيع أن نسير حياتنا وفق منهج الله ﷾.
1 / 16
هل يوجد المجتهد المطلق؟
أنزل الله سبحانه دينه ليسع الناس جميعًا. وليسع الأرض جميعًا، وليسع الزمان جميعًا من لدن محمد ﷺ وإلى قيام الساعة.
وهذه السعة في الزمان والمكان والخلق على تعدد المشكلات واختلاف النيات وكثرة الاحتمالات لا يسعها عقل مهما أوتي من قدر في الحفظ والذكاء. والدين الذي أنزله ﷾ ليس شأنًا واحدًا من شئون الناس، وإنما هو شئونهم جميعًا: حياتهم وموتهم، وعبادتهم ومعاملاتهم، وأخلاقهم. فما من شأن من شئونهم إلا وهو في إطار الدين وجوبًا أو إباحة أو ندبًا أو تحريمًا أو كراهة، فقلوب الناس يجب صياغتها وفق عقائد هذا الدين وموازينه، وأخلاق الناس يجب تقويمها وفق أخلاق هذا الدين ومثالياته، ومعاملات الناس -على تعدد هذه المعاملات- قد وضع لها أصول وقواعد وضوابط لتحقيق العدل والسعادة، وتحت كل باب من هذه الأبواب فروع كثيرة جدًا، وهذه الفروع تكثر بكثرة المشكلات وتتجدد بتجددها.
فلو جئت إلى باب العقائد ومسائل الإيمان -مثلًا- لعلمت
1 / 17
أنك تستطيع أن تلم بعقائد الإسلام وعلومه في الغيب في وقت يسير، ولكن إذا أردت تصحيح عقائد الناس وفقًا للعقيدة الإسلامية لوجدت أنك أمام بحر متلاطم من المشكلات والحوادث والباطل الذي يحتاج إلى ردود وتفنيد، ولو وجدت أيضًا أنك أمام شبهات حول الدين تكاد لا تدع فرعية من فرعيات هذه الدين إلا وشوهت صورتها وطمست معالمها، وكل هذا يحتاج إلى رد وإبطال. وهكذا فالحركة بهذا الدين تحتاج إلى جهد جهيد وجهاد طويل لا يقف عند حد، وكذلك الشأن في جميع أبواب علوم الإسلام التي تنظم حياة الناس جميعًا. ولما كانت هذه العلوم جميعها لا يستوعبها عقل، ولا يحيط بها فكر كان القيام بالدين جهادًا وعملًا ودعوة وقضاء وسياسة أمر متعذر لا يمكن أن نرى المجتهد المطلق الذي يعلم كل شيء ويفتي في كل شيء ويحكم على كل شيء، لأنه إن كان يوجد عالم على هذا النحو فليس إلا الله وحده العليم بكل شيء ﷾. وأما البشر فمهما أوتوا من سعة العلم، وسعة الأقوال وحدة الذكاء فلن يستطيعوا أن يحيطوا من الدين إلا بجوانب منه تضيق وتتسع بما ينعم الله ﷾ على من يشاء منهم.
ولذلك لا يجوز بتاتًا أن نتصور المجتهد المطلق في أي
1 / 18
حقبة من حقب التاريخ لهذا الدين: خليفة كان أو إمامًا أو قاضيًا أو مفتيًا بل يجب أن نتصور دائمًا أن سعة الدين أكبر من سعة الفرد. وأنه لا يسع الدين كله إلا الجماعة ولذلك أصبحنا نحتاج في دراسة الإسلام إلى أمرين هامين: -
أولًا: المعرفة الكلية العامة للدين، وهذه المعرفة الكلية لا بد وأن تشمل أساسيات هذا الدين من إيمان وعبادات ومعاملات وأخلاق ليأخذ كل فرد التصور العام للدين بمجموعه لا بتفصيلاته.
ثانيًا: المعرفة الجزئية التخصصية لأبواب هذا الدين وفرعياته. فيحتاج المسلمون دائمًا إلى متخصصين في علوم القرآن وفي علوم الحديث وأصول الفقه، والفقه، والمعاملات والسياسات، وإلى متخصصين في الدعوة والجهاد بالكلمة والرد على شبهات الخصوم. وهكذا وبمجموع هؤلاء المتخصصين يستطيع المسلمون أن يثبتوا في وجه الزحف الجاهلي الذي يريد اقتلاع حضارتهم ودينهم. وكذلك نحتاج من هؤلاء المتخصصين إلى المجتهدين الماهرين لا إلى المقلدين الجامدين الذين يعيشون على مستوى الأحداث فهمًا ومواجهة وتفاعلًا. . فهمًا للأحداث الجارية، ومواجهة للباطل من هذه الأحداث بما تقتضيه هذه المواجهة، وتفاعلًا مع هذه الأحداث على النحو
1 / 19
الذي يثري أمة الإسلام في أفرادها وعلومها ويحقق لها عزتها ومكانتها.
باختصار، لم يوجد المجتهد المطلق في تاريخ الإسلام ولن يوجد هذا المجتهد المطلق حتى قيام الساعة، وإنما هناك العلماء الذين يأخذ كل منهم من العلم بقدر استيعابه وفهمه فيخطئ ويصيب، وتبقى الأمة بمجموعها معصومة عن الخطأ (إشارة إلى قوله ﷺ:
[إن الله لا يجمع أمتي على ضلالة] وهو حديث صحيح لطرقه. رواه الترمذي وغيره)، ويبقى الصواب موزعًا بين أفراد هذه الأمة، والصواب فضل الله، يؤتيه من يشاء، ولا يمكن ولا يجوز أن يحتكر رجل من الرجال بعد رسول الله ﷺ الصواب كله أبدًا وأن تكون أقواله كلها قرآنًا ووحيًا منزلًا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
1 / 20
الثابت والمتغير في الدين
أصاب المسلمين ضرر عظيم من فهم بعضهم الخاطئ لقوله تعالى: ﴿اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا﴾ (المائدة: ٣)، هذه الآية من القرآن وما يشهد لمعناها من الحديث كقوله ﷺ: [من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد] (أخرجه البخاري ومسلم وابن ماجة)، وحكموا على كل إضافة في الدين بالبطلان والرد، وبذلك عطلوا بابًا من أعظم أبواب الإسلام وهو باب الإجتهاد التطبيقي، ووقفوا جامدين أمام مشكلات التطبيق وتغير الأحوال.
وقام بإزاء هؤلاء طائفة أخرى زعموا أن كل قول في الدين صدر عن إمام أو عالم فهو حق لأنه من الدين، وقد يكون مستندًا إلى الدليل. وبذلك أصبح الدين عند أولئك واسع سعة كل الفتاوى والآراء والأقوال التي صدرت عن مجتهدين، ووسع هؤلاء الاجتهاد أيضًا حتى شمل العقائد والعبادات والأخلاق وبذلك صار الدين عند هؤلاء مسخًا مشوهًا لا تناسق فيه بأي وجه من الوجوه بل في كل قضية رأيان وثلاثة
1 / 21
وعند هؤلاء أن كل هذه الأقوال صواب يجوز للمسلم أن يأخذ رأيًا منها وأن يعمل به.
وبين الفئة الأولى التي وقفت عند النصوص فقط بلا فهم ولا وعي لمتطلبات تطبيقها والتي جعلت أبواب الدين كلها بابًا واحدًا لا يجوز الزيادة فيه والاجتهاد وبين الفئة الثانية التي جعلت كل رأي صدر من عالم ما يجوز العمل به. أقول: بين هاتين الفئتين قامت المعارك الكلامية والمناقشات واستخدمت الآيات والأحاديث وأولت تأويلًا بعيدًا وشغل المسلمون وما زالوا مشغولين. . وقد غاب عن هؤلاء وهؤلاء بعض القواعد والموازين التي تضع الحق في نصابه، وهذه القواعد تتلخص في وجوب التفريق بين الثابت والمتغير من أمور الدين وهاك هذه القواعد:
أولًا: الله ﷾ هو الحق وكل ما صدر عنه من خبر فهو صدق، وكل ما صدر عنه من حكم فهو عدل كما قال تعالى: ﴿وتمت كلمة ربك صدقًا وعدلًا﴾ (الأنعام: ١١٥)، و" كلمة " مفرد مضاف إلى معرفة فتعم أي كلمات، و" صدقًا " أي في الأخبار و" عدلًا " أي في الأحكام. فالكتاب الموحى به للنبي ﷺ والسنة الموحى بها إليه أيضًا كلها حق. ومن ظن غير ذلك فقد كفر، وهذه أول الثوابت.
1 / 22
ثانيًا: القرآن نزل بلسان عربي، والسنة نقلت إلينا باللسان العربي، وللعرب تصريف بليغ في كلامهم ودلالات الألفاظ مختلفة أحيانًا. والمعاني تختلف أيضًا باختلاف صيغ التراكيب من التقديم والتأخير والحذف. وأفانين القول العربي واستخدامه لأنواع من الكنايات والتشبيهات والاستعارات كل هذا يجعل الحذق والفهم للنصوص القرآنية والحديثية متفاوتًا عند الأفراد، ولا يقول عاقل أن فهم الناس جميعًا لنصوص الكتاب والسنة بدرجة واحدة وهو يشاهد ثقافتهم واستيعابهم وفهمهم لأساليب اللغة وتراكيب الكلام وأفانين القول ولهذين السببين تفاوت الناس في الفهم، هذا مع العلم أن الأصل واحد والحق واحد لا يتعدد وهذه ثانية، الفهم متغير بتغير الأفراد والحق واحد لا يتغير بل الفرد الواحد يتغير فهمه في النص الواحد بتغير الزمان والوقت فأنت قد تفهم الآن آية على نحو ما، ثم تفهمها على نحو مخالف تمامًا في وقت آخر. وقد تقرأ آية دهرًا من عمرك ثم ينشأ لك فيها فهم جديد ما خطر ببالك قط. وهذا عمر ما كاد يسمع قول الله من فم أبي بكر الصديق: ﴿إنك ميت وإنهم ميتون﴾ (الزمر: ٣٠)، حتى قال: والله لكأني ما سمعتها إلا الساعة. والحوادث في هذا الباب كثيرة وليراجع كل منا نفسه في هذا. والشاهد: أن الفهم يتغير ويختلف باختلاف الأفراد والحالات والحق في ذلك كله واحد لا يتعدد. والموفق إلى الحق من
1 / 23