The Relationship of the Crusader Christian Camp with Muslims Throughout History and Its Fundamental Premises
علاقة المعسكر النصراني الصليبي بالمسلمين عبر التاريخ ومنطلقاتها الأساسية
ناشر
الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
ایڈیشن نمبر
السنة السابعة
اشاعت کا سال
العدد الثاني شوال ١٣٩٤ هـ ١٩٧٤ م
اصناف
مدْخل
...
علاقَة المعسكر النَّصْرَانِي الصليبي بِالْمُسْلِمين عبر التَّارِيخ ومنطلقاتها الأساسية
بقلم: فَضِيلَة الشَّيْخ زُهَيْر الخالد
الْمدرس بالمعهد الثانوي بالجامعة
إِن الْحَمد لله نحمده ونستعينه وَنَسْتَغْفِرهُ ونعوذ بِاللَّه من شرور أَنْفُسنَا وسيئات أَعمالنَا.
من يهد الله فَلَا مضل لَهُ وَمن يضلل فَلَا هادي لَهُ.
وَأشْهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ وَأشْهد أَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله ﷺ.
أما بعد:
لقد قَامَت - عبر التَّارِيخ - علاقَة بَين الْمُسلمين وَبَين المعسكر النَّصْرَانِي الصليبي فعلى أَي أساس قَامَت هَذِه العلاقة؟
هَل قَامَت على أساس الْمحبَّة والإخاء فِي الإنسانية كَمَا يُقَال: وعَلى التعاون الْمُشْتَرك على مَا ينفع الطَّرفَيْنِ بِلَا أحقاد وَلَا أضغان وَلَا استغلال وَلَا استعمار، على اعْتِبَار أَن بَيْننَا وَبينهمْ صَعِيدا مُشْتَركا من الْإِيمَان بِاللَّه تَعَالَى وَالدَّار الْآخِرَة - كَمَا يَقُولُونَ -؟
أم قَامَت على أساس العداء والكره والتعصب والأحقاد والحروب الدامية؟
1 / 79
وَمَا هِيَ الْأَسْبَاب الجوهرية لتِلْك الحروب الدامية الَّتِي كَانَت بَيْننَا وَبينهمْ؟
وَهل هَذِه الْأَسْبَاب أصيلة أم عرضية يُرْجَى زَوَالهَا؟
أم قَامَت على هَذَا تَارَة وعَلى ذَاك تَارَة أُخْرَى؟ أم على غير ذَلِك كُله؟
ثمَّ مَا هِيَ الْحَال الَّتِي آلت إِلَيْهَا هَذِه العلاقة الْيَوْم؟ وَهل هِيَ متأثرة فِيمَا كَانَ بَيْننَا وَبينهمْ فِي الْمَاضِي؟ وَمَا هُوَ مدى تأثرها؟ أم أَنَّهَا بنت الْيَوْم لَا أثر للماضي فِيهَا وَلَا سُلْطَان لَهُ عَلَيْهَا؟
ثمَّ مَا هِيَ نظرة المعسكر النَّصْرَانِي الصليبي الْيَوْم لنا، وَمَا هِيَ منطلقاتها الأساسية؟ وَهل تستوي دوله وشعوبه وهيئاته ومؤسساته وكنائسه ورؤوسه فِي نظرتهم إِلَيْنَا أم يَخْتَلِفُونَ؟ وَإِذا اخْتلفُوا فَمَا هُوَ السِّرّ فِي ذَلِك؟
هَذَا مَا سأحاول الْإِجَابَة عَلَيْهِ - إِن شَاءَ الله تَعَالَى - فِي محاضرتي هَذِه موجزًا مَا أمكنني الإيجاز، وَإِن كَانَ من عادتي - وَللَّه الْحَمد - أَن لَا أتولى الْإِجَابَة بنفسي، وَإِنَّمَا أدع الْحَقَائِق الَّتِي استخلصها من أصدق المصادر الَّتِي لَا يتَطَرَّق إِلَيْهَا شكّ هِيَ الَّتِي تتولى الْإِجَابَة فِي مثل هَذِه الموضوعات الشائكة الَّتِي تشكل مجالًا كَبِيرا لاخْتِلَاف الاجتهادات والمذاهب، وَكَذَلِكَ الآراء الشخصية والرغبات الذاتية لَهَا أَثَرهَا الْوَاضِح وَحَتَّى الْأَهْوَاء والأغراض تتْرك عَلَيْهَا بصماتها.. مِمَّا يكون لهَذَا كُله أَثَره العميق فِي حجب الرُّؤْيَة الصَّحِيحَة وتشويش الصُّورَة الْحَقِيقِيَّة أَو طمس معالمها فِي الأذهان.. وَلَكِن أذهان من؟ إِنَّهَا أذهان الْمُسلمين وحدهم - وللأسف الشَّديد - إِلَّا من رحم رَبك وَقَلِيل مَا هم بِالنِّسْبَةِ لعامة الْمُسلمين وذراريهم..
المصادر الَّتِي اعتمدها: لقد قلت إِنَّنِي لَا أُجِيب بنفسي وَإِنَّمَا أدع الْحَقَائِق الَّتِي أستخلصها من أصدق المصادر الَّتِي لَا يتَطَرَّق إِلَيْهَا شكّ هِيَ الَّتِي تتولى الْإِجَابَة، فَمَا هِيَ هَذِه المصادر؟
المصادر الَّتِي اعتمدها: لقد قلت إِنَّنِي لَا أُجِيب بنفسي وَإِنَّمَا أدع الْحَقَائِق الَّتِي أستخلصها من أصدق المصادر الَّتِي لَا يتَطَرَّق إِلَيْهَا شكّ هِيَ الَّتِي تتولى الْإِجَابَة، فَمَا هِيَ هَذِه المصادر؟
1 / 80
إِنَّهَا مصدران اثْنَان، هما: الْوَحْي الإلهي فِي الْكتاب وَالسّنة ثمَّ الْوَاقِع التاريخي.
الْمصدر الأول: الْوَحْي الإلهي فِي الْكتاب وَالسّنة:
إِن وَحي الله ﷿ سَوَاء كَانَ فِي الْقُرْآن الْكَرِيم، أَو على لِسَان الرَّسُول الْكَرِيم، مُحَمَّد بن
عبد الله - صلوَات الله وَسَلَامه عَلَيْهِ - هُوَ أوثق المصادر على الْإِطْلَاق، فَهُوَ الَّذِي لَا يرقى إِلَيْهِ شكّ وَلَا يَأْتِيهِ الْبَاطِل من بَين يَدَيْهِ وَلَا من خَلفه لِأَنَّهُ تَنْزِيل من حَكِيم حميد. قَالَ تَعَالَى: ﴿وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾ فصلت: ٤٢. وَمن ثمَّ فَإِن تقريراته منزّهة عَمَّا تتعرض لَهُ تقريرات الْبشر واستنباطاتهم من نتائج مَا فطروا عَلَيْهِ من جهل وقصور بشري، ورغبات فِي النَّفْع الذاتي ومحاباة لِذَوي السُّلْطَان والنفوذ وَالْمَال والجاه، أَو مجاراة للتيارات السائدة، وَالسَّعْي وَرَاء الْأَغْرَاض والأهواء، وَكَذَلِكَ مُرَاعَاة لجماهير الْأمة ومحاولات استرضائها والتقرب إِلَيْهَا.. وَمن ثمَّ فَالْقيمَة الْعُظْمَى والكبرى للتقريرات الربانية فِي الْكتاب وَالسّنة.
الْمصدر الثَّانِي: الْوَاقِع التاريخي:
وأعني بالواقع التاريخي: الْأَحْدَاث التاريخية كَمَا حدثت وَوَقعت بِالْفِعْلِ بأشخاصها ودوافعهم الْحَقِيقِيَّة، وأغراضهم وأهدافهم الْخَاصَّة والعامة. وَقد جَاءَ الْوَاقِع التاريخي مُصدقا ومترجمًا للتقريرات الربانية، وَهَذَا أَمر بديهي بل أَكثر من البديهي إِن صَحَّ هَذَا التَّعْبِير لِأَن الْمُقَرّر هُوَ الله ﷾ الَّذِي يَسْتَوِي لعلمه الْحَاضِر الْمشَاهد والماضي السحيق، والمستقبل الْغَائِب.
هَذَا الَّذِي أعنيه بالواقع التاريخي وَلَيْسَت كتب التَّارِيخ وَمَا كتب فِيهَا جملَة وحوته بَين صفحاتها..لِأَن هُنَاكَ فرقا كَبِيرا جدا وبونًا شاسعًا بَين الْوَاقِع التاريخي كَمَا وَقع وَحدث بِالْفِعْلِ وَبَين مَا كتب عَنهُ وسجل فِي كتب التَّارِيخ،
1 / 81
لَا سِيمَا الَّتِي بَين أَيدي أَبْنَائِنَا وَالَّتِي كتبت خصيصًا لأبناء الْمُسلمين فِيمَا أُعِيد كِتَابَته من تراثنا الإسلامي وبأيدي المستشرقين النَّصَارَى وَالْيَهُود أَو تَحت إشرافهم وبتوجيه دوائرهم حِين بدأوا غزونا الفكري وسأتعرض لهَذَا الْمَوْضُوع إِن شَاءَ الله ﷿ فِي نِهَايَة هَذِه المحاضرة.
إننا كثيرا مَا نجد فِي هَذَا النَّوْع المبثوث بَين أَيدي أَبْنَائِنَا من كتب التَّارِيخ لَا أصل لَهَا أَو حوادث أخذت يَد التَّغْيِير والتبديل تلعب فِيهَا وتدس عَلَيْهَا حَتَّى طمستها ومسخت حَقِيقَتهَا، وشوهت صورتهَا وأعطت عَنْهَا صُورَة أُخْرَى تغير حَقِيقَتهَا كل الْمُغَايرَة، كالافتراءات على الصَّحَابَة - رضوَان الله تعلى عَلَيْهِم - خير أجيال البشرية بعد أَنْبيَاء الله وَرُسُله عَلَيْهِم - الصَّلَاة وَالسَّلَام - الَّذين اخْتَارَهُمْ الله تَعَالَى لحمل أكمل دين أنزلهُ، ولصحبه خير نَبِي أرْسلهُ - عَلَيْهِ أفضل الصَّلَاة وَالسَّلَام -. كَمَا نجد فِيهَا بطولات مختلقة لَا أصل لَهَا تنتحل للطوائف غير الْمسلمَة فِي عَالم الْمُسلمين، فِي الْوَقْت الَّذِي نجد فِيهِ طمسًا لبطولات الْمُسلمين تشويهًا لَهَا بِأَن يَجْعَل الْبَاعِث عَلَيْهَا هُوَ طلب الدُّنْيَا ومتاعها، أَو تستند لغير الْمُسلمين وبشكل خَبِيث وَمَا كرّ بِأَن يَجْعَل امْرَأَة أَو أحد أَفْرَاد الطوائف غير الْمسلمَة وَرَاء أبطال الْمُسلمين الَّذين يقومُونَ بهَا، كَمَا يفعل الْكَاتِب النَّصْرَانِي الحاقد جُرجي زَيْدَانَ، فِي رِوَايَات الْهلَال، وَغَيره كثير.
كَمَا نشاهد أَن كتب التَّارِيخ الَّتِي قررت فِي مدارس الْمُسلمين وَفِي بِلَادهمْ قد أغفلت ذكر حوادث ووقائع تاريخية على الرغم من شهرتها ووضوحها وَذَلِكَ مُرَاعَاة لفئةٍ أَو طائفةٍ أَو خدمَة لغرضٍ فِي نفس الْمُؤلف أَو سواهُ. وَمن هَذَا الْقَبِيل إغفال ذكر كل صدام وَقع بَين الْمُسلمين وَبَين الطوائف غير الْمسلمَة وإغفال وقُوف الطوائف غير الْمسلمَة إِلَى جَانب الصليبيين والتتار الوثنيين ضد الْمُسلمين وَذَلِكَ إِلَى جَانب الإستعمار الأوربي فِي الْعَصْر الحَدِيث ثمَّ الزَّعْم بعد هَذَا أَنهم أَصْحَاب بطولات وطنية وَحرب على الاستعمار وهم الضالعون مَعَه.
فَهَذَا شَاعِر نَصْرَانِيّ مثلا يُسَمِّي المستعمرين الفرنسيين بالفاتحين ويتحمس
1 / 82
لَهُم حِين يدْخلُونَ بعض الْبِلَاد الْعَرَبيَّة وَيطْلب أهل مِلَّته بالتعصب لَهُم فَيَقُول:
وتعصبوا للفاتحين نكايةً ... بِالْمُسْلِمين الْعَرَب وَالْإِسْلَام!
كَذَلِك نجد فِيهَا تفسيرات وتوجيهات للحوادث التاريخية، الَّتِي يَسْتَحِيل طمسها، بعد مسخها، كالحروب الصليبية فقد مسخت حَتَّى حصرت بحدود قرنين من الزَّمَان هما السَّادِس وَالسَّابِع الهجريان، وَلَيْسَ هَذَا فَحسب بل حصرت بعدة حملات صليبية جَاءَت على شريط ضيق على السَّاحِل السوري والمصري فَقَط، ثمَّ لما اطمأنوا إِلَى أَن عملية المسخ هَذِه انطلت على الْكثير من الْمُسلمين مسخوها كُلية فَقَالُوا: إِنَّهَا لَيست صليبية فِي حَقِيقَتهَا وَإِنَّمَا هِيَ حروب استعمارية اقتصادية وسياسية وَلكنهَا جَاءَت تَحت شعار الصَّلِيب وباسم الدّين، لِأَن العصور الْوُسْطَى هِيَ عصور دينية، وَبعد هَذَا المسخ المتواصل لَا تكَاد تَجِد لَهَا بحثا فِي هَذَا النَّوْع من كتب التَّارِيخ، وَإِنَّمَا مُجَرّد ذكر هُوَ للْإِشَارَة أقرب مِنْهُ للبحث.
كَمَا نجد تفسيرات متعسفة وتوجيهات لأحداث تاريخية هَامة انتصارًا لفكرة فَاسِدَة وتأييدًا لمَذْهَب بَاطِل..إِلَى آخر مَا هُنَالك من صور التشويه والدس على تَارِيخ الْمُسلمين مِمَّا لَا يُمكن حصره فِي هَذِه الْمُقدمَة لهَذِهِ المحاضرة..إِلَّا أَن الَّذِي أُرِيد أَن أقوله: إِن هَذَا النَّوْع المشوه من كتب التَّارِيخ قد كثر كَثْرَة فَاحِشَة فِي هَذِه الْأَيَّام، مِمَّا بَات مَعَه من الضَّرُورِيّ جدا أَن ينْهض الْمُسلمُونَ لكتابة تاريخهم من جَدِيد، فَإِن التَّارِيخ الإسلامي، لم يكْتب بعد كَمَا يجب أَن يكْتب، وَلم ينل الْعِنَايَة الكافية من أبنائه، بل لعلّي لَا أبالغ إِذا قلت أَن تاريخنا الإسلامي الْيَوْم لم ينل الْحَد الْأَدْنَى من الْعِنَايَة بِهِ من الْمُسلمين، وَمن ثمَّ لَا يُوجد أمامنا مِنْهُ سوى المؤلفات الضخمة الَّتِي وَضعهَا عُلَمَاؤُنَا الأفذاذ على طريقتهم الَّتِي لَا تصل إِلَّا للمختصين والباحثين، كَمَا سنشير بعد قَلِيل إِن شَاءَ الله تَعَالَى. وَنَوع آخر من كتب التَّارِيخ وَهُوَ مَا عنيته بِالذكر مِمَّا كتبه المستشرقون أَو تَحت إشرافهم الْمُبَاشر أَو غير الْمُبَاشر وبتوجيه من دوائرهم بشتى طرق التَّوْجِيه الَّتِي أقلهَا أَلا يصبر المؤرخ الْمُحدث على المؤلفات الْقَدِيمَة أَو لَا يحسن الْبَحْث فِيهَا، فَلَا يجد مرجعًا لَهُ سوى مَا وَضعه المبشرون ومؤسساتهم فيعتمدها وَمن ثمَّ تتسرب
1 / 83
توجيهاتهم وأغراضهم إِلَى مَا يكْتب ويؤرخ، ويستنتج ويقرر، والأمثلة كَثِيرَة على هَذِه الْأَنْوَاع كلهَا..
أَمَام هَذِه الافتراءات على التَّارِيخ تَارَة، والتنكر لحوادثه والتغيير وَالْمَسْخ فِي حقائقه تَارَة أُخْرَى والتفسيرات المتعسفة لوقائعه وَالْعرض الماكر لأحداثه تَارَة ثَالِثَة نجد أَنْفُسنَا مضطرين للتمييز بَين الْوَاقِع التَّارِيخ كَمَا حدث وَوَقع بِالْفِعْلِ وَبَين مَا كتب عَنهُ وَسمي تَارِيخا!.
إِلَّا أننا نجد أَنْفُسنَا أَمَام سُؤال يطْرَح نَفسه وَهُوَ: كَيفَ السَّبِيل للوصول إِلَى الْوَاقِع التاريخي كَمَا حدث وَوَقع بِالْفِعْلِ؟
إِن الْوُصُول للْوَاقِع التاريخي كَمَا حدث وَوَقع - بِالْفِعْلِ - أَيهَا الْأُخوة لَيْسَ مستحيلًا.. بل هُوَ مُمكن إِذا صحت الْعَزِيمَة وصدقت النِّيَّة وتوفرت الإمكانات، إِذْ أَن سَبيله قَائِمَة، وأولها: الْوَحْي الإلهي فِي الْكتاب وَالسّنة، كَمَا ذكرنَا حَيْثُ يشكل نورا يستضيء بِهِ المؤرخ الْمُسلم فِي بَحثه عَن الْوَاقِع التاريخي. وَثَانِيها: أُمَّهَات كتب التَّارِيخ الَّتِي ألفها عُلَمَاؤُنَا الأفذاذ كالطبري وَابْن كثير وَابْن الْأَثِير وَغَيرهم كثير، وَقد امتازت كتبهمْ بِذكر السَّنَد فِي الرِّوَايَة التاريخية مِمَّا يُمكن المؤرخ المتتبع الْيَوْم من تحري الْحَادِثَة التاريخية كَمَا وَقعت بدراسة سندها على طَريقَة عُلَمَاء الحَدِيث فِي الْجرْح وَالتَّعْدِيل وَكَذَلِكَ تمحيص متن الرِّوَايَة التاريخية على ضوء الْكتاب وَالسّنة لاسيما إِذا كَانَت تتَعَلَّق بالصحابة - رضوَان الله تَعَالَى عَلَيْهِم - وتتعرض لعدالة أحد مِنْهُم.. الخ. وَبِذَلِك يتَمَكَّن المؤرخ من تحري الْوَاقِعَة التاريخية، وإبعاد مَا تعرض لنسيان الرَّاوِي - زِيَادَة كَانَ أَو نقصا - أَو مَا تعرض مِنْهَا لتشيع الرَّاوِي أَو غير ذَلِك من الشوائب الَّتِي تنقص من قيمَة الْوَاقِعَة التاريخية. بل إِن بعض مؤرخينا الأفذاذ سَارُوا على هَذِه الطَّرِيقَة فِي تَجْرِيد بعض الرِّوَايَات وَترك الْأُخْرَى جَريا على عَادَتهم فِي جمع كل مَا يصلونَ إِلَيْهِ من رِوَايَات التَّارِيخ دون تمحيص تاركين لمن يَأْتِي بعدهمْ أَن يقوم بِهَذِهِ المهمة، بعد أَن مهدوا لَهُ الطَّرِيق بِذكر سَنَد الرِّوَايَة التاريخية. جزاهم الله تَعَالَى عَن الْإِسْلَام وَالْمُسْلِمين خيرا.
1 / 84
لَا شكّ أَن هَذَا عمل لَيْسَ من السهولة بِحَيْثُ يَسْتَطِيع الْقيام بِهِ رجل وَاحِد أَو رجلَانِ لَا سِيمَا إِذا كَانَ مَشْغُولًا بالسعي لطلب الرزق لَهُ وَلمن يعول. بل لَا بُد من توافر جهود المثير من الْمَعْنيين بدراسة التَّارِيخ مِمَّن عِنْدهم الاستعداد النَّفْسِيّ والوعي الفكري والثقافي، والنضج العلمي، وتفريغهم لهَذَا الْعَمَل الْهَام جدا، وَالَّذِي ستتعمق معرفتنا لأهميته كلما أدركنا مدى خطورته بِالنِّسْبَةِ لنا ولمستقبل أمتنَا..وَلَيْسَ من الضَّرُورِيّ طبعا أَن يجْتَمع الْعدَد الْمَطْلُوب فِي مَكَان وزمان وَاحِد، فَإِن حصل هَذَا فَذَلِك غَايَة النهى فِي هَذَا الْمطلب الْعَزِيز، وَإِن لم يتوفر فحسبنا أَن نشق الطَّرِيق أَو نمشي بضع خطوَات أَو نقطع مرحلة مِنْهُ تاركين لمن يَأْتِي بَعدنَا مُتَابعَة السّير فِي طَرِيق شقّ وبدئ السّير فِيهِ حَتَّى يصل الْمُسلمُونَ بِإِذن الله - تَعَالَى - إِلَى هَذِه الْغَايَة المرجوة من كِتَابَة تاريخهم الإسلامي وتاريخ الْعَالم كَمَا يجب أَن يكْتب بأيدي مسلمة أمينة وَاعِيَة. وأليس تقصيرًا من الْمُسلمين يخْشَى أَن يَكُونُوا آثمين فِيهِ أَن ينْهض أعداؤهم لكتابة تاريخهم الإسلامي وصياغته وفْق أغراضهم، والمسلمون ينظرُونَ، أَو يقتفون آثَارهم وتنطبع فِي أذهان أبنائهم وأجيالهم وذراريهم الصُّور المشوهة الَّتِي أرادها أعداؤنا عَن سلفنا الصَّالح وعظمائنا، مِمَّا دفع الْكثير من أَبنَاء الْمُسلمين أَن يستحيوا من الانتساب إِلَى تاريخهم وسلفهم الصَّالح ويتجملوا بتقليد أعدائهم؟.
إِن إِعَادَة كِتَابَة تاريخنا الإسلامي أَمر يحْتَاج إِلَى جهود ضخمة، هَذَا صَحِيح وَلَكِن أَي جهد صَادِق واع خلص لله - سُبْحَانَهُ - يبْذل فِيهِ لَا بُد أَن يُؤْتِي ثماره الطّيبَة بِإِذن الله تَعَالَى وَلَو بعد حِين.
مَاذَا نعني بمصطلح معسكر؟ إِن الدارس لأحوال النَّاس الدِّينِيَّة والاجتماعية والفكرية يلحظ ظَاهِرَة هَامة جدا فِي حَيَاة النَّاس وَهِي: أَن النَّاس يَجْتَمعُونَ بِنَاء على اتِّفَاقهم فِي الدّين والعقيدة والفكرة وَالْمذهب.. ويفترقون إِذا اخْتلفُوا فِيهَا.. وَلَيْسَت هَذِه الظَّاهِرَة إِلَّا تَرْجَمَة لما فطر عَلَيْهِ جنس الْإِنْسَان وَهُوَ الارتياح إِلَى من يشاركونه
مَاذَا نعني بمصطلح معسكر؟ إِن الدارس لأحوال النَّاس الدِّينِيَّة والاجتماعية والفكرية يلحظ ظَاهِرَة هَامة جدا فِي حَيَاة النَّاس وَهِي: أَن النَّاس يَجْتَمعُونَ بِنَاء على اتِّفَاقهم فِي الدّين والعقيدة والفكرة وَالْمذهب.. ويفترقون إِذا اخْتلفُوا فِيهَا.. وَلَيْسَت هَذِه الظَّاهِرَة إِلَّا تَرْجَمَة لما فطر عَلَيْهِ جنس الْإِنْسَان وَهُوَ الارتياح إِلَى من يشاركونه
1 / 85
فِي الدّين والعقيدة، والفكرة وَالْمذهب والميل إِلَيْهِم وموالاتهم والاندفاع لمناصرة قضاياهم والتحمس لَهَا. وَبِالْعَكْسِ من ذَلِك فَإِنَّهُ لَا يرتاح إِلَى من يخالفونه فِي ذَلِك ويشعر بغربة دينهم، وينفر مِنْهُم، بل ويحاربهم إِذا اقْتضى الْأَمر مهما تكن الروابط المادية بَينه وَبينهمْ، وَمَا ذَلِك إِلَّا لِأَن الآصرة الَّتِي يجْتَمع عَلَيْهَا النَّاس ويفترقون، هِيَ الدّين والعقيدة، أَو الفكرة وَالْمذهب وَلَيْسَت اتِّحَاد الْجِنْس وَالنّسب أَو الِاشْتِرَاك فِي الأَرْض وَالْحُدُود الجغرافية أَو السياسية وَلَيْسَت هِيَ الْمصَالح وَالْمَنَافِع الْقَرِيبَة.. فَهَذِهِ كلهَا أُمُور عرضية لَا علاقَة لَهَا بجوهر الْإِنْسَان الْكَرِيم..
أَلا ترى إِلَى الْيَهُودِيّ كَيفَ يتحمس لقضايا الْيَهُود فِي الْعَالم ويناصرها، ويوالي قيادتهم وَلَا يطمئن إِلَّا لِلْيَهُودِيِّ وَقد كشف الْقُرْآن الْكَرِيم لنا كَيفَ يُوصي بَعضهم بَعْضًا وَيَقُولُونَ: ﴿وَلا تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ﴾ (آل عمرَان: ٧٣)
وَكَذَلِكَ الماركسي (شيوعيًا كَانَ أَو اشتراكيًا) هَوَاهُ مَعَ الْعَالم الماركسي ودوله وأحزابه الشيوعية والاشتراكية، فيهتم لأخبارهم ويناصر قضاياهم ويدافع عَن موقفهم وقضاياهم ويبرر أخطاءهم حَتَّى وَلَو كَانَت ضد شعبه هُوَ أَو ضد بَلَده وقضاياه..
وَقل مثل ذَلِك عَن النَّصْرَانِي والوثني.
أما شَأْن الْمُسلم فَهُوَ أَكثر وضوحًا فَهُوَ يهتم لأمر الْمُسلمين، فيحزن لما أَصَابَهُم ويفرح لما نالوه من خير فِي مَشَارِق الأَرْض وَمَغَارِبهَا، فَإِن لم يجد مثل هَذَا الشُّعُور فَهُوَ دَلِيل الْمَرَض فِي قلبه، والضعف فِي إيمَانه، وَمَا أصدق وأعمق دلَالَة هَذَا الْأَثر: "من لم يهتم بِأَمْر الْمُسلمين فَلَيْسَ مِنْهُم".. بل إِن الْمُسلم مَأْمُور بِنَصّ كتاب الله - تَعَالَى - وَسنة رَسُوله ﵊ أَن لَا يوالي بعد الله - سُبْحَانَهُ - وَرَسُوله ﷺ غير الْمُسلمين الملتزمين بِإِسْلَامِهِمْ الَّذين لم يخلطوا مَعَه مبدءًا أَو مذهبا أَو شعارًا آخر لَيْسَ من الْإِسْلَام. قَالَ تعلى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ
1 / 86
أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ، فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ﴾ .. الْآيَات.
ثمَّ يَقُول تَعَالَى: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ، وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ﴾ (الْمَائِدَة: ٥١ - ٥٢ - ٥٥ - ٥٦) .
وَهَكَذَا وبسبب هَذِه الْفطْرَة وَكَون العقيدة هِيَ جَوْهَر الْإِنْسَان، فَإِن الْإِنْسَان يجد مَعَ الَّذين يشاركونه فِي الدّين والعقيدة، والفكرة وَالْمذهب، وحدة آمال وأهداف، وأفراح وأتراح وبواعث ومواقف، وَيشكل مَعَهم كتلة وَاحِدَة، وجبهة وَاحِدَة أَو معسكرًا وَاحِدًا.. فالمعسكر إِذن هُوَ: أَتبَاع الدّين الْوَاحِد أَو العقيدة الْوَاحِدَة أَو الْمَذْهَب الْوَاحِد.. الخ. وَمَا ينشأ عَن هَذَا الْإِيمَان من مشاعر وعواطف وانفعالات ومواقف متشابهة أَو وَاحِدَة، وَكَذَلِكَ من عمل وسعي لمناصرة قضاياه وموالاة قياداته ورؤوسه.
هَذَا وَإِن دراسة وَاعِيَة للتاريخ والحاضر تكشف لنا أَن أَتبَاع الدّين أَو الْمَذْهَب أَو الفكرة الْوَاحِدَة الَّذين يعْملُونَ لَهَا ويناصرون قضاياها ويتخذونها قضايًا لَهُم، ويجعلونها مُنْطَلقًا أساسيًا لَهُم فِي موقفهم من غَيرهم ومعاملتهم.. يشكلون فِيمَا بَينهم معسكرًا وَاحِدًا على اخْتِلَاف مستوياتهم ورقعة الأَرْض الَّتِي يسكنونها وَكَذَلِكَ - ولعلنا لَا نبالغ - إِذا قُلْنَا مَعَ اخْتِلَاف أزمانهم..فالواقع التاريخي إِذن يثبت هَذَا الَّذِي نَذْهَب إِلَيْهِ.
وَبِنَاء على هَذَا فاليهود على اخْتِلَاف أجناسهم وهيئاتهم وجماعاتهم ومؤسساتهم يشكلون معسكرًا وَاحِد هُوَ المعسكر الْيَهُودِيّ الصهيوني..
وَكَذَلِكَ النَّصَارَى يشكلون معسكرًا وَاحِدًا هُوَ المعسكر النَّصْرَانِي الصليبي.
والشيوعيون والاشتراكيون الماركسيون يشكلون المعسكر الماركسي الملحد.
1 / 87
والوثنيون يشكلون المعسكر الوثني الْمُشرك..
وَهَذِه المعسكرات كلهَا تشكل فِيمَا بَينهَا وعَلى اختلافها حزبًا وَاحِدًا هُوَ حزب الشَّيْطَان..
وَلما كَانَت هَذِه المعسكرات لَا تهتدي بِهَدي الله تَعَالَى وَلَا تحكم شَرِيعَته - سُبْحَانَهُ -
وَلما كَانَت الْجَاهِلِيَّة هِيَ كل حَالَة أَو وضع لَا يَهْتَدِي بِهَدي الله تَعَالَى وَلَا يحكم شَرِيعَته - سُبْحَانَهُ - وَلَيْسَت فَتْرَة زمنية محدودة١، فوصف الْجَاهِلِيَّة يشملهم جَمِيعًا، فهم إِذن معسكرات جَاهِلِيَّة وأممهم أُمَم جَاهِلِيَّة، بل كَافِرَة ومشركة. وَقد نَص الْقُرْآن الْكَرِيم وَالسّنة المطهرة على كفرهم جَمِيعًا الْيَهُود وَالنَّصَارَى وَالْمُشْرِكين والملحدين. وَالْكفْر يشكل بَينهم عَاملا مُشْتَركا "الْكفْر مِلَّة وَاحِدَة".
أما الْمُسلمُونَ فَإِنَّهُم يشكلون فِيمَا بَينهم وَمن دون النَّاس جَمِيعًا أمة وَاحِدَة هِيَ الْأمة الْمسلمَة أَو الإسلامية، ومعسكرًا وَاحِدًا هُوَ المعسكر الإسلامي، وحزبًا وَاحِدًا هُوَ حزب الله تَعَالَى مَا داموا مُتَمَسِّكِينَ بِكِتَاب الله تَعَالَى وَسنة - رَسُوله ﷺ.
من هَذَا الْوَاقِع وَهُوَ كَون المعسكرات الْجَاهِلِيَّة كلهَا كَافِرَة، وَكَون الْمُسلمين يشكلون أمة من دون النَّاس، من هَذَا الْوَاقِع نشأت علاقَة غير الْمُسلمين بِالْمُسْلِمين وتحدد نوعها وَهُوَ العداء. عداؤهم لنا وَقد كشف الْقُرْآن الْكَرِيم عَنْهَا بقوله تَعَالَى: ﴿إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا﴾ (النِّسَاء:١٠١) .
وَفِي الْقُرْآن الْكَرِيم آيَات أُخْرَى وَردت كهذه الْآيَة الْكَرِيمَة، بصيغ نهائية قَطْعِيَّة
_________
(١) انْظُر الْكتاب الْقيم: جَاهِلِيَّة الْقرن الْعشْرين للداعية الإسلامي الْمُجَاهِد الْأُسْتَاذ مُحَمَّد قطب حفظه الله تَعَالَى ورعاه.
1 / 88
مِمَّا يُفِيد أَن عداوتهم لَيست عرضية زائلة بل هِيَ أصيلة طَوِيلَة الأمد لَا يُرْجَى لَهَا زَوَال مَا دَامَ على الأَرْض كفر وكفار.
هَذَا وَقد نَشأ عَن هَذَا العداء الْأَصِيل للْمُسلمين من قبل غَيرهم حقيقتان تاريخيتان هما:
الأولى: اسْتِحَالَة الْمصلحَة والتعايش بِسَلام دَائِم بَين الْمُسلمين وَأي من المعسكرات الْجَاهِلِيَّة سَوَاء كَانُوا الصهاينة أَو الصليبيين أَو الْمُلْحِدِينَ أَو الوثنيين، وَقد بيّن رَسُول الله ﷺ اسْتِحَالَة هَذَا اللِّقَاء والتعايش واستحالة الْمُصَالحَة بَين الْمُؤمنِينَ والكافرين بقوله: "لَا ترَاءى ناراهما".
وَإِذن لَا يُمكن أَن يتعايش الْمُؤْمِنُونَ الْمُسلمُونَ مَعَ الْكَافرين أيًا كَانَ دينهم ومعسكرهم إِلَّا إِذا أمكن أَن يعِيش الْإِيمَان إِلَى جَانب الْكفْر فِي قلب رجل وَاحِد، وَهَذَا مُسْتَحِيل، نعم مُسْتَحِيل لِأَن المعركة قَائِمَة مُنْذُ بَدْء الْحَيَاة البشرية إِلَى مَا يَشَاء الله تَعَالَى بَين الْإِيمَان وَالْكفْر، وَبَين الْإِسْلَام والجاهلية بَين الْهدى والضلال بَين الْحق وَالْبَاطِل، بَين التَّوْحِيد والشرك.. وَمن ثمَّ فالمعركة قَائِمَة ومستمرة بَين الْمُؤمنِينَ الْمُسلمين أَتبَاع الْحق وَالْهدى، أهل التَّوْحِيد وَبَين الْكَافرين أَتبَاع الْبَاطِل والضلال أهل الشّرك والوثنيات..
أما سَبَب هَذِه المعركة الطَّوِيلَة الأمد وسرها فَهُوَ الْخلاف الْأَصِيل والمناقضة التَّامَّة بَين الْإِسْلَام وطبيعته وَمَا يهدف إِلَيْهِ فِي حَيَاة الْبشر، وَبَين الْكفْر وطبيعته وَمَا يهدف إِلَيْهِ فِي حَيَاة الْبشر..
الْإِسْلَام بِمَا فِي طَبِيعَته من حق يُرِيد تَحْرِير النَّاس من الْعُبُودِيَّة لغير الله ﵎ أيًا كَانَ شكل هَذِه الْعُبُودِيَّة وصورتُها، وَيُرِيد إخلاصها لله - تَعَالَى - وَحده، فَلَا يعبد غير الله - تَعَالَى - مَعَه أَو دونه.
أما الْكفْر فبمَا فِي طَبِيعَته من بغي (ممثلًا بإبليس عَلَيْهِ لعنة الله - وجنده وأوليائه) فيريد فتْنَة النَّاس عَن دين الله ﵎ وتعبيدهم لغير الله - سُبْحَانَهُ -.
1 / 89
﴿قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ، ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ﴾ (الْأَعْرَاف ١٦ - ١٧) .
﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي﴾ (الْقَصَص: ٣٨)
وهدّد فِرْعَوْن مُوسَى ﵊ قَائِلا: ﴿لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ﴾ (الشُّعَرَاء: ٢٩) . فَهُوَ لَا ترضيه السيطرة على أوضاع النَّاس بل يطغى للسيطرة على عُقُولهمْ وَقُلُوبهمْ فَلَا تَنْشَرِح لشَيْء إِلَّا بعد اسْتِئْذَانه وَلَو كَانَ الْإِيمَان بِاللَّه تَعَالَى. قَالَ فِرْعَوْن لسحرته حِين أَسْلمُوا وَلم يستأذنوه بانشراح صُدُورهمْ للْإيمَان بِاللَّه تَعَالَى وتغيير معتقدهم الْبَاطِل، وتصديق مُوسَى ﵊ ﴿قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ﴾ (طه ٧١) . إِنَّهَا بِنَظَر الْكفْر هِيَ الجريمة الْكُبْرَى الَّتِي يسْتَحقُّونَ عَلَيْهَا الْقَتْل والصلب وتقطيع الْأَيْدِي والأرجل من خلاف فهددهم قَائِلا: ﴿فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ﴾ .
وَالْإِسْلَام بِمَا فِي طَبِيعَته من طهر ونظافة يُرِيد تَطْهِير النَّاس وضمائرهم وَبُيُوتهمْ وواقعهم من لوثات الْكفْر وَالْفِسْق والعصيان.
وَلَكِن الْكفْر بِمَا فِي طَبِيعَته من انحراف وفجور ورجس: ﴿إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ﴾ (بَرَاءَة ٢٨) يكره هَذَا الَّذِي يُريدهُ الْإِسْلَام للنَّاس وينقم عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ يُرِيد لَهُم الانحراف وَاتِّبَاع الشَّهَوَات.
قَالَ تَعَالَى: ﴿وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا﴾ (النِّسَاء٢٦) .
وَالْإِسْلَام بِمَا فِي طَبِيعَته من حيوية وحركة وجد ينْطَلق يُجَاهد الْكفْر أنّى وُجد ويطارده من الْقُلُوب والعقول، وَمن وَاقع النَّاس وأنظمتهم.. وَقد ظهر إِصْرَار الْإِسْلَام، على مطاردة الْكفْر، فِي انطلاقه خطْوَة بعد خطْوَة، وغزوة بعد غَزْوَة، ومرحلة بعد مرحلة، يطارد الْكفْر ويحطم قواه الَّتِي بهَا يصول
1 / 90
ويجول، ويزيل أنظمته وأوضاعه الْجَاهِلِيَّة الَّتِي يعبد بهَا النَّاس لغير رَبهم - سُبْحَانَهُ - ويفتنهم عَن دين الله تَعَالَى وهداه.١
وَأما الْكفْر فَهُوَ الآخر بِمَا فِي طَبِيعَته من طغيان يعْمل على محاربة الْإِسْلَام وملاحقته والصد عَنهُ مَا واتته الفرصة من ليل أَو نَهَار، وَقد ظهر إِصْرَار الْكفْر على محاربة الْإِسْلَام ومحاولات رد الْمُسلمين عَن دينهم فِي ظاهرتين اثْنَتَيْنِ:
الظَّاهِرَة الأولى: مسارعة رُؤُوس الْكفْر وأئمة الضلال فِي قوم كل نَبِي يُرْسِلهُ الله - تَعَالَى - للوقوف فِي وَجه نَبِيّهم ﵊ والصد عَن دين الله - تَعَالَى - وفتنة الْمُؤمنِينَ بِهِ.
الظَّاهِرَة الثَّانِيَة: مسارعة المعسكرات الْجَاهِلِيَّة لنقض عهودها مَعَ الْمُسلمين حالما تلوح لَهُم فرْصَة ضعف الْمُسلمين وعجزهم عَن تَأْدِيب ناقضي الْعَهْد مَعَهم.
وَهَكَذَا نجد أَن كلا من الْإِسْلَام وَالْكفْر يعْمل بإصرار على إِزَالَة الآخر من الْعُقُول والضمائر والقلوب وَمن حَيَاة النَّاس وأوضاعهم وأنظمتهم، لِأَنَّهُ لَا يُوجد أَحدهمَا إِلَّا حَيْثُ يخسر الآخر وينسحب، وَلَا وجود لأَحَدهمَا إِلَّا على حِسَاب الآخر، وَأَن بداية أَحدهمَا فِي عقل أَو ضمير أَو قلب، أَو وضع أَو نظام أَو مَكَان هِيَ بداية النِّهَايَة للْآخر..
قَالَ تَعَالَى: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ﴾ (الْأَنْفَال:٣٩) .
وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً﴾ (التَّوْبَة: ٣٦) .
وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا﴾ (الْبَقَرَة: ٢١٧) .
_________
١ - انْظُر سُورَة بَرَاءَة فِي الْكتاب الْقيم (فِي ظلال الْقُرْآن) للْعَالم الشَّهِيد سيد قطب - رَحمَه الله تَعَالَى -.
1 / 91
٢ - أما الْحَقِيقَة التاريخية الثَّانِيَة فَهِيَ تعاون القوى الْكَافِرَة ومعسكراتها ضد الْإِسْلَام وَالْمُسْلِمين.. وَهَذَا مَا كشف عَنهُ الْكتاب وَالسّنة أَيْضا فِي أَكثر من آيَة وَحَدِيث.. وبأكثر من أسلوب تَصْرِيحًا وتلميحًا.. من ذَلِك جمع الْكفَّار كلهم فِي سِيَاق آيَة وَاحِدَة، والْحَدِيث عَن مُرَادهم فِي الْمُسلمين وموقفهم مِنْهُ مِمَّا يدل على وحدة بواعثهم وأهدافهم تجاه الْإِسْلَام وَالْمُسْلِمين، وَكَذَلِكَ وحدة مواقفهم كَقَوْلِه تَعَالَى - على سَبِيل الْمِثَال لَا الْحصْر: ﴿مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ (الْبَقَرَة: ١٠٥) ١.
أما الْوَاقِع التاريخي فقد ترْجم هَذِه الْحَقِيقَة وأظهرها خلال الْأَرْبَعَة عشر قرنا من الزَّمَان ﴿لمن كَانَ لَهُ قلب أَو القي السّمع وَهُوَ شَهِيد﴾ وَمَا يزَال يظهرها الْيَوْم ويبينها أجلى مَا يكون بَيَانا..
وَهَذِه الْحَقِيقَة التاريخية وسابقتها تحْتَاج إِلَى محاضرة مُسْتَقلَّة إِن لم يكن أَكثر من محاضرة، وَأَرْجُو أَن أوفق لذَلِك فِي الْمُسْتَقْبل بِإِذن الله تَعَالَى. وَهَذِه إشارات خاطفة على سَبِيل الْمِثَال لَا الْحصْر:
أَيهَا الْأُخوة: كلنا يعلم الحروب الطَّوِيلَة الأمد الَّتِي كَانَت بَين الْفرس وَالروم، وَأَن هَذِه الحروب توقفت فَجْأَة بِظُهُور الْإِسْلَام وتحولت القوتان المتخاصمتان دهرًا طَويلا إِلَى قوتين متعاونتين ضد الْإِسْلَام وَالْمُسْلِمين..فحارب الْمُسلمُونَ على الجبهتين الفارسية والرومية فِي وَقت وَاحِد ونصرهم الله تَعَالَى عَلَيْهِمَا..
كَذَلِك إِن الَّذِي يدرس تَارِيخ الحروب الصليبية وغزو التتار لبلاد الْمُسلمين يعلم السفارات الَّتِي كَانَت تتبادل بَين دوَل المعسكر الصليبي وإماراته ورؤوسه وَبَين التتار فِي بِلَادهمْ قبل بدئهم بغزو الْعَالم الإسلامي، وَلما جَاءُوا إِلَى بِلَاد
١ - وَكَقَوْلِه ﷺ: "يُوشك أَن تداعى عَلَيْكُم الْأُمَم كَمَا تداعى الْأكلَة إِلَى قصعتها".. الحَدِيث..
1 / 92
الْإِسْلَام انْضَمَّ إِلَيْهِم غير الْمُسلمين من الطوائف الْأُخْرَى فِي بَغْدَاد وبلاد الشَّام وَغَيرهمَا وتعاونوا مَعَهم، بل إِن النَّصَارَى هللوا وَاسْتَبْشَرُوا بقدوم التتار الوثنيين واعتبروا غزوهم لبلاد الْمُسلمين حَملَة صليبية جَدِيدَة جَاءَت من الشرق بَدَلا من أَن تَأتي من الغرب، وَقد رَأينَا كَيفَ أَنه لم ينج من مذبحتهم الرهيبة فِي بَغْدَاد إِلَّا هَؤُلَاءِ الَّذين تعاونوا مَعَهم من الطوائف غير الْمسلمَة، ومنحهم الْغُزَاة قُصُور الْمُسلمين وأمرائهم الَّذين ذَبَحُوا مِنْهُم من ذَبَحُوا، وفر مِنْهُم من اسْتَطَاعَ الْفِرَار، واختفى الْبَاقُونَ فِي الأقنية والسراديب، فَلَمَّا خَرجُوا لقوا حتفهم بِسَبَب الْمَرَض الَّذِي فتك بهم.
أما تعاون القوى الْكَافِرَة والمعسكرات الْجَاهِلِيَّة فِيمَا بَينهَا الْيَوْم ضد الْإِسْلَام وَالْمُسْلِمين وقضاياهم فَهِيَ أوضح من أَن تحْتَاج إِلَى بَيَان فِي فلسطين وباكستان الشرقية والفلبين والحبشة بل فِي إفريقيا كلهَا وَفِي كل قَضِيَّة يكون الْمُسلمُونَ طرفا فِيهَا..
أَيهَا الْأُخوة: إِن إدراكنا لهَذَا الْوَاقِع، وَهُوَ كَون الْمُسلمين أمة من دون النَّاس، وَكَون الْكفْر عَاملا مُشْتَركا بَين سَائِر المعسكرات الْجَاهِلِيَّة "الْكفْر مِلَّة وَاحِدَة"..
وَإِن إدراكنا لسر الصراع الطَّوِيل الأمد بَين الْحق وجنده، وَبَين الْبَاطِل وجنده.. إِن هَذَا يمكننا من إِدْرَاك عدَّة أُمُور هَامة جدا فِي حياتنا الْيَوْم، يجب أَن تبحث وتفصل حَتَّى يعرفهَا شبابنا وأبناؤنا ليكونوا على بَصِيرَة بعصرهم هَذَا الَّذِي أَقبلت فِيهِ الْفِتَن كَقطع اللَّيْل المظلم، وَركب بَعْضهَا بَعْضًا، وَأخذ بَعْضهَا برقاب بعض، بِحَيْثُ تدع الْحَلِيم حيرانًا، فَمَا بالك بِغَيْر الْحَلِيم؟! ..
وَمن هَذِه الْأُمُور: انه يمكننا من فهم طبيعة الْجِهَاد فِي سَبِيل الله - تَعَالَى - وبواعث الْمُجَاهدين من سلفنا الصَّالح ولماذا كَانُوا لَا يقتلُون إِلَّا المقاتلين الَّذين لَا يرْمونَ السِّلَاح وَهُوَ يمكننا من فهم أَسبَاب الحروب الطَّوِيلَة الَّتِي شنتها المعسكرات الْجَاهِلِيَّة على الْمُسلمين فِي كل مَكَان غلب فِيهِ الْمُسلمُونَ على أَمرهم، وَكَذَلِكَ لماذا كَانَت حروبهم مَعنا وَلنَا حَرْب إبادة واستئصال؟
1 / 93
وَهُوَ يمكننا من فهم أسرار الطغيان وعمليات السحق الوحشية لشباب الْمُسلمين والفتك بعلمائهم وقادة فكرهم على أَيدي الأنظمة الْجَاهِلِيَّة وأوضاعها، ومطاردتهم وتشريدهم؟ !
وَهُوَ يمكننا كَذَلِك من فهم الصمت المطبق فِي وَسَائِل الْإِعْلَام العالمية حِين تكون الضحية مسلمة والقضية إسلامية، والضجة الْكُبْرَى حِين يُوَجه إِيذَاء لغير الْمُسلمين أَو يمْنَعُونَ من ممارسة شعائرهم أَو نشاطاتهم؟ ١
كَمَا أَنه يمكننا من إِدْرَاك حَقِيقَة العلاقة الَّتِي قَامَت عبر التَّارِيخ وَتقوم الْآن بَيْننَا وَبَين المعسكر النَّصْرَانِي الصليبي هُوَ أحد معسكرات الْكفْر، وَمن ثمَّ فعلاقته بِنَا إِذن تنبثق من العداء الْأَصِيل بَين الْحق وَأَهله وَبَين الْبَاطِل وَأَهله، وَأَن كل مَا بَين الْإِسْلَام وَالْكفْر من عداء وإصرار كل مِنْهُمَا على ملاحقة الآخر وَتعقب آثاره لتصفيته من دنيا النَّاس وواقعهم وَقُلُوبهمْ وضمائرهم هُوَ قَائِم بَين الْمُؤمنِينَ الْمُسلمين وَبَين المعسكر النَّصْرَانِي الصليبي.
قَالَ تَعَالَى: ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾ (التَّوْبَة: ٢٩) .
وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ﴾ (الْبَقَرَة: ١٢٠)
وَهَذَا مَا تَرْجمهُ الْوَاقِع التاريخي طوال الْأَرْبَعَة عشر قرنا من الزَّمَان..
أَيهَا الْأُخوة: لقد قُلْنَا: من وَاقع كَون الْمُسلمين أمة من دون النَّاس جَمِيعًا، وَكَون المعسكرات الْجَاهِلِيَّة كلهَا كَافِرَة نشأت علاقَة غير الْمُسلمين بِالْمُسْلِمين
١ - انْظُر الْكتاب الْقيم (فِي ظلال الْقُرْآن) للْعَالم الشَّهِيد سيد قطب رَحمَه الله تَعَالَى. ج
1 / 94
وتحدد نوعها وَهُوَ عداؤهم لنا عداء أصيلًا مستمرًا لَا يُرْجَى لَهُ زَوَال مَا دَامَ على الأَرْض كفر وكفار أَو يتَحَوَّل الْمُسلمُونَ عَن دينهم إِلَى الْكفْر - وَالْعِيَاذ بِاللَّه تَعَالَى -، وَأَن الْقُرْآن الْكَرِيم كشف عَن هَذَا بقوله تَعَالَى: ﴿إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا﴾ هَذَا من جِهَة، وَمن جِهَة أُخْرَى: فَإِن الْإِسْلَام بِمَا فِيهِ من حق وطهر وحيوية وحركة لَا بُد وَأَن ينْطَلق يحرر النَّاس ويطارد الْكفْر بشتى صوره، ويحطم قواه الَّتِي يصول بهَا ويجول ويزيل أنظمته الْجَاهِلِيَّة وأوضاعه الَّتِي يفتن بهَا النَّاس عَن دين الله - تَعَالَى - ويصدهم عَنهُ.. وَكَانَ بديهيًا ومنتظرًا أَن يصطدم بالمعسكر النَّصْرَانِي الصليبي القابع فِي شمال الجزيرة الْعَرَبيَّة - بِاعْتِبَارِهِ أحد معسكرات الْكفْر - وَالَّذِي بَدَأَ يَتَحَرَّك ويتحفز للانقضاض على الْمُسلمين مُنْذُ أَن أصبح لَهُم دولة وَقُوَّة فِي هَذِه الْمَدِينَة المنورة، ويترجم بذلك خوف الْكفْر وحذره من انطلاق الْإِسْلَام وإصراره على حَرْب الْإِسْلَام ومحاولات الْقَضَاء عَلَيْهِ، ومدفوعًا بطغيان الْكفْر وبغيه وَكَرِهَهُ لِلْإِسْلَامِ.. فَكَانَت غَزْوَة مُؤْتَة وَكَانَت غَزْوَة تَبُوك، وَغَيرهمَا..
هَذَا بعض مَا كَانَ مِنْهُ، أَو بَدَأَ بِهِ، أما مَا كَانَ من الْإِسْلَام.. فَإِن الْإِسْلَام مَا أَن أخضع الجزيرة الْعَرَبيَّة واستخلصها لنَفسِهِ قَاعِدَة لَهُ لَا يُشَارِكهُ فِيهَا دين آخر " لَا يجْتَمع فِي جَزِيرَة الْعَرَب دينان" حَتَّى بَدَأَ بالزحف على المعسكر النَّصْرَانِي فِي انطلاقه الْعَام لتحرير النَّاس كلهم وتعبيدهم لخالقهم وَحده، فَكَانَت اليرموك وَكَانَ غَيرهَا..وَاسْتمرّ الصراع حَتَّى الْيَوْم، لم يهدأ، وَلم يفتر، بل كثرت ألوانه وأساليبه، وَترك بصماته قَوِيَّة على مكانة الْعَالم النَّصْرَانِي العالمية، وأحدث تغييرًا كَبِيرا فِي خارطته وأوضاع الشعوب الَّتِي كَانَت تخضع لَهُ، مِمَّا كَانَ لَهُ تَأْثِيره العميق على تفكيره ونفسيته، واتصالاته بِنَا وتجاربه الَّتِي خرج بهَا خلال هَذِه الْقُرُون الْأَرْبَعَة عشر، فَنَشَأَتْ من ذَلِك أُمُور أخذت مَعَ الزَّمن تترسم فِي أذهان قادته ورؤوسه من ملوكه وأمرائه وَرِجَال كنيسته وتترسخ فِي قُلُوبهم ومشاعرهم وتشكل منطلقات أساسية لنظرتهم إِلَيْنَا وعلاقتهم بِنَا، لَا يَسْتَطِيعُونَ فكاكًا مِنْهَا، وَلَا تخلصًا من ضغطها بل التحمت بلحمهم وعظمهم، وسرت روحًا فِي كيانهم لَا تفارقهم لَحْظَة من ليل أَو نَهَار.. وَقد كَانَت أولى هَذِه الْأُمُور:
1 / 95
روحًا صليبية حاقدة..فَمَا هِيَ الرّوح؟ وَكَيف تشكلت عبر التَّارِيخ؟ وَمَا هُوَ مدى تأثيرها على نظرتهم إِلَيْنَا وعلاقتهم بِنَا؟
هَذَا مَا أبدأ الْإِجَابَة عَلَيْهِ (بِإِذن الله تعلى) .
الرّوح الصليبية ونشأتها: ١ - لقد كَانَ عِيسَى بن مَرْيَم ﵊ آخر الرُّسُل قبل سيدهم وخاتمهم مُحَمَّد بن عبد الله صلوَات الله وَسَلَامه عَلَيْهِ وَعَلَيْهِم أَجْمَعِينَ. وَمن ثمَّ كَانَ حواريوه من بعده هم أساتذة الْعَالم ومرشدي الْأُمَم.. لَكِن المسيحية أَصَابَهَا انحراف كَبِير وخطير نقلهَا من ديانَة توحيدية سهلة إِلَى ديانَة وثنية معقدة وَذَلِكَ فِي عهدها الباكر، وَفِي منتصف الْقرن المسيحي الأول على يَد الْيَهُودِيّ الماكر (بولس) . إِلَّا أَن النَّصَارَى ممثلين بِرِجَال كنيستهم ظلوا يمنحون أنفسهم وكنيستهم ذَلِك الِاعْتِبَار الَّذِي كَانَ لحواريي عِيسَى ﵊ وحواريوه - رَحِمهم الله تَعَالَى - وعَلى الرغم من إمعانهم فِي تَحْرِيف مَا ورثوه من هَذِه النَّصْرَانِيَّة المحرفة وحشوها بالخرافات والأضاليل الكنسية، حَتَّى ظُهُور الْإِسْلَام، وَحَتَّى يَوْمنَا هَذَا.. فَلَمَّا ظهر الْإِسْلَام بتوحيده الصافي وَحقه الْمُبين، كشف انحراف النَّصْرَانِيَّة وَبطلَان مَا آلت إِلَيْهِ وَأظْهر ضلال رجال كنيستها وأتباعها وأقصاهم عَمَّا زعموه لأَنْفُسِهِمْ من أستاذية الْعَالم وهدايته، وآلت الصدارة لِلْإِسْلَامِ وَغدا الْمُسلمُونَ هم أساتذة الْعَالم وَهُدَاة البشرية وقادة الْأُمَم ومرشدي النَّاس إِلَى الْحق وَالْهدى، وانتزعوا تِلْكَ المكانة من النَّصَارَى (كَمَا انتزعوها من الْيَهُود فِي هَذِه الْمَدِينَة المنورة بعد الْهِجْرَة إِلَيْهَا) . وَقضى الْمُسلمُونَ على مَا كَانَ لرجال الْكَنِيسَة من سلطة ومصالح، وَمَا
الرّوح الصليبية ونشأتها: ١ - لقد كَانَ عِيسَى بن مَرْيَم ﵊ آخر الرُّسُل قبل سيدهم وخاتمهم مُحَمَّد بن عبد الله صلوَات الله وَسَلَامه عَلَيْهِ وَعَلَيْهِم أَجْمَعِينَ. وَمن ثمَّ كَانَ حواريوه من بعده هم أساتذة الْعَالم ومرشدي الْأُمَم.. لَكِن المسيحية أَصَابَهَا انحراف كَبِير وخطير نقلهَا من ديانَة توحيدية سهلة إِلَى ديانَة وثنية معقدة وَذَلِكَ فِي عهدها الباكر، وَفِي منتصف الْقرن المسيحي الأول على يَد الْيَهُودِيّ الماكر (بولس) . إِلَّا أَن النَّصَارَى ممثلين بِرِجَال كنيستهم ظلوا يمنحون أنفسهم وكنيستهم ذَلِك الِاعْتِبَار الَّذِي كَانَ لحواريي عِيسَى ﵊ وحواريوه - رَحِمهم الله تَعَالَى - وعَلى الرغم من إمعانهم فِي تَحْرِيف مَا ورثوه من هَذِه النَّصْرَانِيَّة المحرفة وحشوها بالخرافات والأضاليل الكنسية، حَتَّى ظُهُور الْإِسْلَام، وَحَتَّى يَوْمنَا هَذَا.. فَلَمَّا ظهر الْإِسْلَام بتوحيده الصافي وَحقه الْمُبين، كشف انحراف النَّصْرَانِيَّة وَبطلَان مَا آلت إِلَيْهِ وَأظْهر ضلال رجال كنيستها وأتباعها وأقصاهم عَمَّا زعموه لأَنْفُسِهِمْ من أستاذية الْعَالم وهدايته، وآلت الصدارة لِلْإِسْلَامِ وَغدا الْمُسلمُونَ هم أساتذة الْعَالم وَهُدَاة البشرية وقادة الْأُمَم ومرشدي النَّاس إِلَى الْحق وَالْهدى، وانتزعوا تِلْكَ المكانة من النَّصَارَى (كَمَا انتزعوها من الْيَهُود فِي هَذِه الْمَدِينَة المنورة بعد الْهِجْرَة إِلَيْهَا) . وَقضى الْمُسلمُونَ على مَا كَانَ لرجال الْكَنِيسَة من سلطة ومصالح، وَمَا
1 / 96
زعموه لأَنْفُسِهِمْ من وصاية على الْبشر وأوضاعهم وعَلى عُقُولهمْ وأرواحهم، وَمَا فرضوه عَلَيْهِم من حق السخرة وَمَا ابتزوه من أَمْوَالهم ضريبة يؤدونها إِلَى رجال الْكَنِيسَة دون تلكؤ أَو تردد أَو مُرَاجعَة أَو استفسار.. وَهَذَا كُله عدا تعبيدهم لَهُم من دون الله ﵎..
قَالَ تَعَالَى: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ .
وَقَالَ رَسُول الله ﷺ: "إِنَّهُم حرمُوا عَلَيْهِم الْحَلَال، وَأَحلُّوا لَهُم الْحَرَام، فاتبعوهم، فَذَلِك عِبَادَتهم إيَّاهُم".
فَكَانَت ذَلِك سَببا أصيلًا وعميقًا فِي كَرَاهِيَة النَّصَارَى - لاسيما رجال كنيستهم - لِلْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمين، وَكَانَ وَرَاء ذَلِك محاولاتهم المستمرة للصد عَن الْإِسْلَام ورد الْمُسلمين عَن دينهم أَو الْقَضَاء عَلَيْهِم وعَلى إسْلَامهمْ..
قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ﴾ (الْبَقَرَة: ١٢٠) .
وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقّ﴾ (الْبَقَرَة: ١٠٩) .
٢ - ثمَّ نَشأ سَبَب آخر زَاد فِي عمق وتأصيل كَرَاهِيَة النَّصَارَى - لَا سِيمَا رؤوسهم من رجال كنيستهم وملوكهم - لِلْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمين، والجهد فِي حَرْب المعسكر الإسلامي.. هَذَا السَّبَب هُوَ: انطلاق الْإِسْلَام فِي الأَرْض لتحرير النَّاس من الْعُبُودِيَّة لله تعلى وَحده ولإخراجهم من ضيق الدُّنْيَا إِلَى سَعَة الْآخِرَة وَمن جور الْأَدْيَان إِلَى عدل الْإِسْلَام.. واصطدامه بالمعسكر النَّصْرَانِي الصليبي وتحطيمه جيوشه وأنظمته.. والفتوحات الَّتِي أحرزها فِي الْعَالم النَّصْرَانِي نَفسه، وانتزاعه مِنْهُ بِلَاد الشَّام ومصر وشمال إفريقيا، ووثبته على الأندلس وتوغله فِي أوربا من الغرب حَتَّى شَاءَ الله - تَعَالَى - أَن يقف الْمُسلمُونَ فِي تِلْكَ الجولة قَرِيبا من (باريس) عَاصِمَة فرنسا، ثمَّ دُخُوله أوروبا
1 / 97
مرّة أُخْرَى من الشرق وانتزاعه مِنْهُ الأناضول والبلقان، وقضاؤه على الإمبراطورية البيزنطية وفتحه عاصمتها الْقُسْطَنْطِينِيَّة وَتَحْوِيلهَا إِلَى عَاصِمَة الْإِسْلَام (إِسْلَام بَوْل) وتوغله بعْدهَا فِي قلب أوروبا حَتَّى شَاءَ الله ﷿ أَن يقف فِي هَذِه الجولة عِنْد أسوار فيينا عَاصِمَة النمسا. وَكَذَلِكَ صُعُوده على أوروبا من الْجنُوب من إيطاليا حَتَّى دق أَبْوَاب روما وهدد دولة الفاتيكان. ثمَّ صُعُوده على روسيا القيصرية وانتزاعه مِنْهَا أطرافها الجنوبية والشرقية..
وجد المعسكر النَّصْرَانِي الصليبي نَفسه أَمَام عملاق قوي خرج من هَذِه الْمَدِينَة المنورة، فحطم لَهُ قواه وجيوشه الَّتِي كَانَ بهَا يصول ويجول وَيحكم بهَا نصف الْعَالم، وطارده حَتَّى حصره فِي أوروبا وَحدهَا بل فِي جُزْء مِنْهَا وطوقه من الشرق والغرب بذراعين قويتين يهدده بهما صباح مسَاء..
فَكَانَ هَذَا، أَيْضا، سَببا فِي تأصيل كَرَاهِيَة المعسكر النَّصْرَانِي الصليبي وعدائه لِلْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمين وتعميق هَذِه الْعَدَاوَة والكراهية وامتزاجها بلحنه وَدَمه وعظمه وعصبه، وغدوها جُزْءا من تركيبه وتحولها إِلَى روح خبيثة من الحقد الدفين الَّذِي أُترع بِهِ قلبه، وامتلأ بهَا صَدره وأكلت كبده، فظهرت على أَلْسِنَة رؤوسه وَرِجَاله ﴿وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ﴾ (آل عمرَان: ١١٩) .
هَذِه الرّوح الحاقدة على الْإِسْلَام وَالْمُسْلِمين هِيَ الرّوح الصليبية..
فالروح الصليبية إِذن: هِيَ روح العداء والحقد والكراهية لِلْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمين فِي نفوس رُؤُوس المعسكر النَّصْرَانِي الصليبي، من رجال كنيسته وملوكه، وَمن والاهم وأطاع أوامرهم وخضع لَهُم وَعمل بتوجيهاتهم واقتفى أَثَرهم فِي كره الْإِسْلَام وَالْمُسْلِمين وحربهم والحقد عَلَيْهِم..
لقد سرت هَذِه الرّوح فِي جسم المعسكر الصليبي - بِفعل رؤوسه - حَتَّى كَادَت تَشْمَل كيانه وتتغلغل فِي أَجْزَائِهِ وتشمل شعوبه وجماعاته وطوائفه وأفراده لَوْلَا وجود مجموعات أَو طوائف بَدَت مِنْهُم الْمَوَدَّة لِلْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمين، بِسَبَب بقائهم أَو قربهم من التَّوْحِيد الَّذِي جَاءَ بِهِ عِيسَى ﵊
1 / 98