The Rectification of the Dictionary of Verbal Prohibitions
المستدرك على معجم المناهي اللفظية
ناشر
دار طيبة النشر والتوزيع
ایڈیشن نمبر
الأولى
اشاعت کا سال
١٤٢٧ هـ - ٢٠٠٦ م
پبلشر کا مقام
الرياض - السعودية
اصناف
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
مقَدّمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين؛ نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
أمَّا بعد: فإنَّ مصنفات الشيخ العلّامة الدكتور بكر أبو زيد -سلمه الله- قد تفرّدت في هذا العصر بجودة انتقاء موضوعاتها، وحُسن بيانها، وصدروها عن علم شرعي مؤصل متين؛ ممَّا أنزلها المحل الأعلى عند طلبة العلم ومحبيه، وجعلها تنتشر في بلاد المسلمين كمرجع أساس فيما احتوته من مسائل وموضوعات.
ويأتي في مقدمة هذه المصنفات الفريدة: "معجم المناهي اللفظية" الَّذي اختار له الشيخ موضوعًا مهمًا متميزًا يحتاجه المسلمون في هذا العصر؛ وهو معرفة كثير من المناهي اللفظية الَّتي ينبغي أن تحيد عنها ألسنتهم؛ ليسلموا من غوائلها وتبعاتها. فكان الشيخ بهذا المصنَّف البديع رائدًا لمن كتب بعده من المؤلفين الذين نسجوا على منواله في هذا الموضوع، بل جعله كثير منهم عمدة له في مؤلفه (^١).
_________
(^١) صدرت -بعد كتاب الشيخ- كثير من المؤلفات (الكبيرة والصغيرة) المهتمة بموضوع "المناهي اللفظية" منها على سبيل المثال: "الكلمات النافعة في الأخطاء الشائعة" للشيخ وحيد عبد السلام بالي، و"النبراس في المخالف للشريعة من كلام النَّاس" للشيخ فكري الجزار، و"تحذير المسلمين من ألفاظ الكفر" للدكتور بسام العموش، و"أخطاء شائعة" للأستاذ خَالد الخراز، و"الفريد في المخالفات" الأستاذ أسامة آل عبد اللطيف، و"عبارات موهمة" للشيخ محمد =
1 / 5
فكنتُ حال مطالعتي المتفرقة في الكتب المتنوعة أُقيّد ما يمر بي من منهيات لفظية لم يذكرها الشيخ في "معجمه" بطبعتيه الأولى والثالثة (^١)؛ حتَّى تجمع عندي منها كثير، وإنَّما السيل في اجتماع النُقَط؛ فأحببتُ أن أفردها في مصنف مستقل يكون بمثابة "مستدرك" على معجم الشيخ، وما كان لمثلي -تقصيرًا وضآلة علم- أن يستدرك على من هو في قامة الشيخ -حفظه الله- وهو من هو علمًا واطلاعًا؛ ولكني آثرتُ أن أتجشم هذا الأمر متمثلًا بقول الشاعر:
أسيرُ خلف، ركاب النُجب ذا عرجٍ … مؤملًا كشف ما لاقيت من حرجٍ
فإن لحقتُ بهم من بعدما سبقوا … فكم لربّ الورى في ذاك من فرَجِ
ومتعللًا بأن الشيخ لم يرمِ إلى الاستيعاب في "معجمه".
_________
= بازمول، و"الإيقاظ في تصحيح الأمثال والألفاظ" لمحمد بن فتحي آل عبد العزيز، و"ألفاظ مذمومة" للأستاذ أحمد بادويلان، و"أخطاء عقدية" للشيخ عبدالرحمن المحمود، و"مفاهيم خاطئة في أقوال وأمثال شائعة" للأستاذ فيصل الجودي، و"مفاهيم وأخطاء" للدكتور محمد مصطفي مَنْصور، و"مصطلحات ومفاهيم" للأستاذ عبد الآخر الغنيمي، و"أخطاء شائعة" للشيخ محمد جميل زينو، ومصطلحات يهودية احذروها" للأستاذ عيسى القدومي، و"نظرات إسلامية في مصطلحات وأسماء شائعة" للدكتور محمد أبو فارس، و"مفاهيم ومصطلحات إسلامية معاصرة" للأستاذ محمود حموده وصاحبه، و"مفاهيم معاصرة في ضوء الإسلام" للدكتور محمد هلال، و"التنبيه لما يرد من الأخطاء للجاهل والنبيه"، للأستاذ أحمد بن الأمير، واستُل من فتاوى الشيخ ابن عثمين ﵀ "أسئلة وأجوبة عن ألفاظ ومفاهيم في ميزان الشريعة" و"المناهي اللفظية"، وغيرها.
(^١) كانت الطبعة الأولى من المعجم تحتوي على (٨٠٠) لفظ، ثمَّ ضاعفها الشيخ إلى (١٥٠٠) لفظ في الطبعة الثالثة.
1 / 6
وليتنبه القارئ الكريم قبل ولوج هذا "المستدرك" إلى أمور:
١ - أنَّه ليس لي من عمل في معظمه سوى نقل تلك المناهي والتعليق عليها من بطون الكتب الَّتي تجد الإشارة إليها في الهامش.
٢ - أنني أذكر -أحيانًا- بعض المنهيات الَّتي سبق للشيخ أن أوردها في "معجمه" مختصرة؛ إذا عثرتُ على من أسهب الكلام عنها وأتى بفوائد لم تأت عند الشيخ.
٣ - أني رتبتُ الألفاظ ترتيبًا ألفبائيًا في الفهرس، أمَّا داخل الكتاب فقد تركتها كما جُمعت دون ترتيب حرفي؛ لتسهل الزيادة عليها في الطبعات القادمة -إن شاء الله- فجمعتُ -فيما أحسب- بين مصلحة المؤلف والقارئ.
٤ - أني قدمتُ هذا "المستدرك" بمقال قَيّم مناسب لهذا الكتاب، للدكتور سيد العربي، نشره في مجلة البيان (العدد ١٦٧) بعنوان "مسؤولية الكلمة - دعوة لتصحيح ألفاظنا كما نصحح نياتنا".
٥ - أنني أطلب من إخواني القراء تزويدي بملحوظاتهم أو زياداتهم على هذا "المستدرك" لأفيد منها في الطبعات القادمة.
أسأل الله أن ينفع بما جمعتُ، وأن يضاعف الأجر للشيخ بكر، ويوفقني وإياه وإخواننا المسلمين لما يحب ويرضى، واللهُ أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلَّم
كتبه / سُلَيْمَان الخراشي
1 / 7
مسؤولية الكلمة
دعوة لتصحيح ألفاظنا كما نصحح نياتنا
العقيدة أو التوحيد أو الإِيمان -وهي مسميات لقضية واحدة- تتضمن الاعتقاد القلبي والكلام اللساني وعمل الجوارح، وهذا يعني أن الكلام أو الكلمة من مهمات الاعتقاد؛ وقد دل الدَّليل الشرعي من كتاب الله وسنة رسول الله ﷺ -بما يفوق الحصر- على أن الكلام من أعمال المسلم الَّتي يحاسب بمقتضاها، وأنَّه يترتب عليه من الثواب أو العقاب ما الله به عليم؛ قال تعالى: ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ (^١)، وقال: ﴿سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ﴾ (^٢)، وقال: ﴿سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا﴾ (^٣)، وقال: ﴿وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (١٠) كِرَامًا كَاتِبِينَ (١١) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ﴾ (^٤)، وقال: ﴿كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا﴾ (^٥)، وقال: ﴿إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ (^٦).
إن هذه النُّصوص القرآنية الجامعة وغيرها تبين خطورة الكلمة والكلام في دين الله ﷿ وأنها معدودة على قائليها، مسجلة عليهم، وأنهم محاسبون على ما يتكلمون؛ لأنَّ الكلام من جملة الدِّين الَّذي يُسأل الإنسان
_________
(^١) سورة ق، الآية (١٨).
(^٢) سورة الزخرف، الآية (١٩).
(^٣) سورة آل عمران، الآية (١٨١).
(^٤) سورة الانفطار، الآيات (١٠ - ١٢).
(^٥) سورة مريم، الآية (٧٩).
(^٦) سورة الجاثية، الآية (٢٩).
1 / 8
عنه، وكذلك جاء في السُّنَّة المطهرة الكثير من الأحاديث الَّتي تثبت خطر الكلام وأثره في دين العبد ثوابًا أو عقابًا؛ فمن ذلك ما أخرجه التِّرْمِذِيّ وابن ماجه وأحمد من حديث معاذ بن جبل أنَّه قال: يا رسول الله! وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال ﷺ: ثكلتك أمك يا معاذ! وهل يكب النَّاس في النار على وجوههم -أو على مناخرهم- يوم القيامة إلَّا حصائد ألسنتهم؟ ".
وأخرج التِّرْمِذِيّ وابن ماجه والحاكم في مستدركه من حديث أبي هريرة ﵁ أنَّه سمع رسول الله ﷺ يقول: "إن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يرى بها بأسًا يهوي بها سبعين خريفًا في النار" (^١).
وأخرج التِّرْمِذِيّ وابن ماجه وابن حِبَّان عن بلال بن الحارث المزني أن رسول الله ﷺ قال: "إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما كان يظن أن تبلغ ما بلغت، يكتب الله بها رضوانه إلى يوم يلقاه، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما كان يظن أن تبلغ ما بلغت، يكتب الله له بها سخطه إلى يوم يلقاه" (^٢).
من هذه النُّصوص وغيرها يتبين أن الكلمة في دين الله عظيمة الشأن من حيث الربح أو الخسارة؛ ولله در صاحب الداء والدواء -ابن القيِّم- عندما قال في ذلك الكتاب: "وأمَّا اللفظات فحفظها بألا يخرج لفظة ضائعة، بألا يتكلم إلَّا فيما يرجو فيه الربح والزيادة في دينه، فإذا أراد أن يتكلم بالكلمة نظر: هل ربح فائدة أم لا؟ فإن لم يكن فيها ربح أمسك عنها، وإن كان فيها ربح نظر: هل تفوت بها كلمة هي أربح منها فلا يضيعها بهذه؟ " إلى أن
_________
(^١) صححه الألباني في الصحيحة برقم (٥٤٠)، وفي صحيح الجامع برقم (١٦١٨).
(^٢) صححه الألباني في الصحيحة برقم (١٨٨)، وفي صحيح الجامع برقم (١٦١٩).
1 / 9
قال: "ومن العجب أن الإنسان يهون عليه التحفظ والاحتراز من أكل الحرام والظلم والزنا والسرقة وشرب الخمر، ومن النظر إلى المحرم وغير ذلك، ويصعب عليه التحرز من حركة لسانه، حتَّى ترى الرجل يشار إليه بالدين والزهد والعبادة، وهو يتكلم بالكلمات من سخط الله لا يلقي لها بالًا، ينزل بالكلمة الواحدة منها أبعد ما بين المشرق والمغرب، وكم ترى من رجل متورع عن الفواحش والظلم، ولسانه يفري أعراض الأحياء والأموات ولا يُبالي ما يقول؛ وإذا أردت أن تعرف ذلك فانظر فيما رواه مسلم في صحيحه من حديث جندب بن عبد الله قال: قال رسول الله ﷺ: "قال رجل: والله لا يغفر الله لفلان! فقال الله ﷿: من ذا الَّذي يتألى (^١) عليَّ أني لا أغفر لفلان؟ قد غفرت له وأحبطت عملك". فهذا العابد الَّذي عَبَدَ الله ما شاء أن يعبده، أحبطت هذه الكلمة الواحدة عمله كله، ثمَّ قال أبو هريرة -صاحب الرِّواية الأخرى من الحديث-: "تكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته" (^٢) (^٣).
كل منا على خطر دائم ممَّا يجنيه لسانه، ولو كان مجرد كلام فيما لا يعنيه، وما أكثر ما نتكلم به فيما لا يعنينا، وقد روى التِّرْمِذِيّ في جامعه من حديث أنس ﵁ قال: "توفي رجل من الصَّحابة، فقال رجل: أبشر بالجنة! فقال رسول الله ﷺ: "وما يدريك؟ فلعله تكلم فيما لا يعنيه، أو بخل بما لا ينقصه"، وفي لفظ: "إن غلامًا استشهد يوم أحد، فوجد على بطنه
_________
(^١) يتألى من الإيلاء، وهو اليمين.
(^٢) رواه أبو داود، برقم (٤٩٠١)، وأحمد: (٢/ ٣٢٣، ٣٦٣).
(^٣) الداء والدواء لابن قيم الجوزية، ص ١٧، المطبعة السَّلَفية ومكتبتها.
1 / 10
صخرة مربوطة من الجوع، فمسحت أمه التراب عن وجهه وقالت: هنيئًا لك يا بني الجَنَّة، فقال النَّبِيّ ﷺ: "وما يدريك؟ لعله كان يتكلم فيما لا يعنيه، ويمنع ما لا يضره".
لهذا كان الصمت أحيانًا أضمن طريق للنجاة من ورطات اللسان؛ حيث يمتنع الإنسان عن التكلم إلَّا فيما يعلم حقًا أنَّه خير، وهذه وصية رسول الله ﷺ الَّتي أخرجها الشَّيخان في صحيحيهما؛ فقد قال ﵊: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت" (^١).
لقد كان رسول الله ﷺ يتخوف علينا من ألسنتنا، ويأمرنا بالاستقامة الَّتي يدخل فيها استقامة اللسان؛ فقد طلب سُفْيَان بن عبد الله الثَّقَفِي من رسول الله ﷺ طلبًا عزيزًا: قال له: يا رسول الله! قل لي في الإسلام قولًا لا أسأل عنه أحدًا بعدك. قال: "قل: آمنت بالله، ثمَّ استقم" (^٢)، فقال: يا رسول الله! ما أخوف ما تخاف عليّ؟ فأخذ بلسان نفسه، ثمَّ قال: "هذا" (^٣).
فاحذر أخي -رحمني الله وإياك- أن تخرج من فمك الألفاظ الضائعة الَّتي لا تعي معناها؛ فقد تكون من كلام الشر والسوء الَّذي يضرك في دنياك وآخرتك؛ فالله -تعالى- يقول: ﴿وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ
_________
(^١) متفق عليه: رواه البُخَاري برقم (٦٤٧٥)، ومسلم برقم (٤٧).
(^٢) رواه مسلم بنحوه رقم (٣٨).
(^٣) أخرجه النّسَائي والتِّرْمِذِيّ وقال التِّرْمِذِيّ: حسن صحيح، وأخرجه ابن ماجه، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (٤٣٩٥).
1 / 11
وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ﴾ (^١).
لقد فقه السلف مسؤولية الكلمة، وعرفوا أمانتها، ووعوا خطورتها؛ فهذا صدِّيق هذه الأمة: أبو بكر ﵁ كان يضع حصاة في فيه يمنع بها نفسه عن الكلام، وكان يشير إلى لسانه ويقول: "هذا الَّذي أوردني الموارد" (^٢).
وكان عبد الله بن مسعود ﵁ يقول: "والله الَّذي لا إله إلَّا هو! ما شيء أحوج إلى طول سجن من لسان"، وقال طاووس: "لساني سبع؛ إن أرسلته أكلني" (^٣).
لقد فهم سلفنا الصالح وعلموا أن النجاة في كف اللسان إلَّا من ذلك الَّذي أشار إليه القرآن في التناجي بين النَّاس؛ ولهذا سأل عُقبة بن عامر الجهني رسول الله ﷺ قائلًا: ما النجاة؟ قال: "أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابكِ على خطيئتك" (^٤).
قال النَّووي ﵀: "أعلم أنَّه ينبغي لكل مكلف أن يحفظ لسانه عن جميع الكلام إلَّا كلامًا ظهرت فيه المصلحة، ومتي استوى الكلام وتركه في المصلحة؛ فالسنة الإمساك عنه؛ لأنَّه قد ينجرُّ الكلام المباح إلى حرام أو مكروه؛ وذلك كثير في العادة، والسلامة لا يعدلها شيء" (^٥).
وقد يقول قائل عند التنبيه بما تقدَّم: "إنني عند تكلمي بالكلمة السيئة
_________
(^١) سورة النور، الآية (١٥).
(^٢) رواه مالك في الموطأ برقم (١٨٥٥).
(^٣) انظر: جامع العلوم والمحكم، لابن رجب الحَنْبَلي، شرح حديث: "قل آمنت بالله ثمَّ استقم".
(^٤) أخرجه ابن المُبَارَك في الزُّهْد، وأحمد والتِّرْمِذِيّ، وصححه الألباني في الصحيحة برقم (٨٩٠).
(^٥) رياض الصالحين، للإمام النَّووي، باب تحريم الغيبة والأمر بحفظ اللسان.
1 / 12
الخبيثة المحرمة؛ فإنَّ نيتي تكون حسنة، ولا أعتقد ما وراء هذه الكلمة من اعتقاد سيء خبيث، ولا أعتقد حِلِّها بل أعتقد حرمتها؛ لأنَّ نيتي وقصدي حسن؛ فهل أعاقب بما أقول والحال كذلك؟ والجواب: أنَّه ينبغي أن يصحح العبد لفظه كما يصحح نيته؛ فمتي علم أن الكلمة في دين الله حرام، وجب عليه تصحيحها، أو التخلي عنها، وإن لم يعتقد حل القول بها أو جوازها، وهذا ما أجاب بنحوه الشيخ محمد بن صالح العثيمين ﵀ عندما سئل: "بعض النَّاس يقول: إن تصحيح الألفاظ غير مهم مع سلامة القلب؛ فهل هذا صحيح؟ فأجاب ﵀: إن أراد بتصحيح الألفاظ إجراؤها على اللغة العربية؛ فهذا صحيح؛ فإنَّه لا يهم أن تكون الألفاظ غير جارية على اللغة العربية ما دام المعنى مفهومًا سليمًا، أمَّا إذا أراد بتصحيح الألفاظ ترك الألفاظ الَّتي تدلُّ على الكفر والشرك، فكلام غير صحيح، بل تصحيحها مهم، ولا يمكن أن تقول للإنسان: أطلق لسانك في قول كل شيء ما دامت النِّيَّة صحيحة، بل نقول: الكلمات مقيدة بما جاءت به الشريعة الإِسلامية" ا. هـ (^١).
ومن أخطر ما يمكن أن يجري على لسان الإنسان: أن يقع في الاستهزاء بدين الله أو شيء من دين الله ظانًا أن ذلك يجوز على سبيل الفكاهة واللعب؛ يقول ابن تيمية ﵀ محذرًا من عاقبة ذلك في أثناء بيانه المعنى قول الله -تعالى-: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ
_________
(^١) نقلًا عن كتاب (المناهي اللفظية)، للعلامة الشيخ بكر أبو زَيْد، مكتبة السُّنَّة بالقاهرة.
1 / 13
وَنَلْعَبُ﴾ (^١): "فاعترفوا واعتذروا، ولهذا قيل لهم: ﴿لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ﴾ (^٢) فدل على أنَّهم لم يكونوا عند أنفسهم قد أتوا كفرًا، بل ظنوا أن ذلك ليس بكفر، فبيَّن أن الاستهزاء بالله وآياته ورسوله كفر يكفر به صاحبه بعد إيمانه؛ فدل على أنَّهم كان عندهم إيمان ضعيف ففعلوا هذا المحرم الَّذي عرفوا أنَّه محرم، ولكن لم يظنوه كفرًا، وكان كفرًا كفروا به، فإنهم لم يعتقدوا جوازه" (^٣).
فانظر -يرحمني الله وإياك- خطورة الكلمة؛ حيث لا يصح الاعتذار بالنية؛ فإنَّ ذلك تلبيس إبليس؛ فالكلام الفاسد والعمل الفاسد، لا تشفع له النية الصالحة، والنية السيئة الخبيثة لا يشفع لها العمل الصحيح والكلام الحسن، وصدق من قال:
احفظ لسانك أيها الإنسان … لا يلدغنك إنَّه ثعبان
كم في المقابر من قتيل لسانه … كانت تهاب لقاءه الشجعان
وقال آخر:
يصاب الفتي من عثرة لسانه … وليس يصاب المرء من عثرة الرجِل
فعثرة في القول تُذهب رأسه … وعثرة في الرِّجل تبرأ على مَهَل
_________
(^١) سورة التوبة، الآية (٦٥).
(^٢) سورة التوبة، الآية (٦٦).
(^٣) مجموع فتاوى ابن تيمية، (٧/ ٢٧٣).
1 / 14
تجديد الخطاب الديني:
قال الشيخ صالح الفوزان -حفظه الله- تحت عنوان "ماذا يراد بتجديد الخطاب الديني": "الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبيه الأمين. نبينا محمد وآله وأصحابه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان واقتفي أثرهم إلى يوم الدِّين، وبعد:
تدور في هذه الأيام عبارات نسمعها ونقرؤها في وسائل الإعلام حول إصلاح الخطاب الديني. ولا ندري ماذا يقصد بها؟!
هل يقصد بها تغيير نصوص الكتاب والسُّنة الَّتي تأمرنا بجهاد الكفار والمنافقين وبغضهم ومعاداتهم إذا لم يقبلوا هدى الله الَّذي جاء به محمد ﷺ، وتأمرنا بالقيام بالدعوة إلى الله والدخول في دينه وترك الكفر والشرك والبدع، وتأمرنا بالتقيد بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟
هل معني إصلاح الخطاب الديني أن نترك هذه المهمات العظيمة تحت شعار: حرية الرأي وعدم كره الآخر والرأي الآخر وحرية العقيدة كما يقولون؟ وكما قاله مَنْ قبلهم للنبي ﷺ: ﴿ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ﴾ (^١) وقال تعالى: ﴿وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا﴾ (^٢). وقال تعالى: ﴿كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ (^٣). ولو كانت هذه
_________
(^١) سورة يونس، الآية (١٥).
(^٢) سورة الإسراء، الآية (٧٣).
(^٣) سورة البقرة، الآية (١١٨).
1 / 15
المقالة تصدر من اليهود والنصارى وحدهم لم نستغربها منهم؛ لأنَّهم حرفوا كتابهم وبدلوا وغيروا فيه، ولكن الغريب والعجيب أن تصدر هذه المقالة من بعض كتابنا وتنشر في بعض صحفنا، وقد تعقد لها ندوات ومؤتمرات تأثرًا بمقالة الكفار وتنفيذًا لها.
أمَّا إن كان المراد بإصلاح الخطاب الديني تغيير الغلط الَّذي يحل من بعض المسلمين في أسلوب الدعوة إلى الله، وفي الاعتداء على النَّاس والغدر في العهد والأمان مع الكفار اللذين يكونان بين المسلمين والكفار، فهذا الأسلوب ليس هو الخطاب الديني؛ لأنَّ الله يقول: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ (^١) ويقول لموسى وهارون ﵉ في مخاطبتهما لفرعون: ﴿فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى﴾ (^٢) ويقول جل وعلا: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ (^٣) فالذي يخالف هذا التوجه الإلهي في أسلوبه مع النَّاس لا يسمي خطابه هذا الخطاب الديني، وإنَّما هذا خطابه هو، وإنَّما الخطاب الديني: وضع الأمور في مواضعها، وتسمية الأشياء بأسمائها، والتمييز بين أولياء الله وأعداء الله وإنزال النَّاس منازلهم، وتسمية المسلم مسلمًا والمنافق منافقًا والكافر كافرًا والعاصي عاصيًا أو فاسقًا، والتعامل مع كلٍّ ما يليق به من غير ظلم ولا عدوان ولا غلوٍّ، ويجب تقسيم الكفار إلى
_________
(^١) سورة النحل، الآية (١٢٥).
(^٢) سورة طه، الآية (٤٤).
(^٣) سورة البقرة، الآية (٨٣).
1 / 16
محارب ومعاهد ومستأمن، وإعطاء كلِّ حكمه الشرعي من غير محاباة لأحد ولا تنازل عن شيء من أحكام الدِّين طاعة للكفار والمنافقين؛ قال تعالى: ﴿فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (٨) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ﴾ (^١)؛ وقال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٧٢) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ﴾ (^٢) أي إلَّا يكن المؤمنون بعضهم أولياء بعض، والكفار بعضهم أولياء بعض، فتوالوا المؤمنين وتعادوا الكافرين، فإنها ستحصل الفتنة في الدِّين فلا يميز بين المؤمن والكافر، وبين الكفر والإيمان، وحينئذ تختلط الأمور وتفسد الأحوال ولا حول ولا قوة إلَّا بالله العظيم. وصلى الله وسلَّم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين" (^٣).
اللهم بأسرار الفاتحة ارحمنا أو فَرِّج عنا:
سُئل فضيلة الشيخ عبد الرَّحمن بن ناصر البراك -حفظه الله- عن هذا الدُّعَاء، فأجاب:
_________
(^١) سورة القلم، الآية (٨).
(^٢) سورة الأنفال، الآيتان (٧٢ - ٧٣).
(^٣) جريدة الجزيرة، الأحد ٢١/ صفر ١٤٢٥ هـ وانظر: مجلة الدعوة، ١٨ / صفر/ ١٤٢٥ هـ، وكتابًا قيّمًا للأستاذ محمد بن شاكر الشريف بعنوان "تجديد الخطاب الديني بين التأصيل والتحريف".
1 / 17
"الحمد لله، هذا الدُّعَاء بدعة لا أصل له، وليس له نظير في الأدعية المأثورة عن النَّبِيّ ﷺ، والسلف الصالح، فالواجب التوسل بما جعله الله وسيلة من الأسماء والصَّفات؛ كأن تقول: اللَّهُمَّ برحمتك أستجير، وبرحمتك أستغيث، وتقول: يا أرحم الراحمين ارحمنا، وتقول: اللَّهُمَّ فرج عنا يا ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم. قال الله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا﴾ (^١)، فهذا الدُّعَاء المسؤول عنه من الأدعية البدعية الَّتي يخترعها بعض النَّاس ويُعجبون بها. وهذا من تسويل الشيطان، فالخير كله في الاتباع، والشر كله في الابتداع" (^٢).
مصطلح أهل القبلة
يستعمل دعاة التقريب بين أهل السُّنَّة والمبتدعة هذا المصطلح كثيرًا في كتاباتهم، محاولة منهم خلط الحق بالباطل وتمييع قضايا "السُّنَّة" و"البدعة" وما يترتب عليها من أحكام. ويزعمون أنَّه يجب أن تلتقي طوائف الأمة الإِسلامية وتتآلف مع بقاء كل منها على عقيدته وآرائه يعلنها على الملأ، وينشرها مهما كانت! ما دام يصدق عليه أنَّه من "أهل القبلة"؛ ويعنون بهم من يستقبل القبلة في صلاته مهما كانت عقائده (كفرية) أو مخالفة للكتاب والسُّنَّة! دون تفريق.
ولا يرضون -بعد هذا- لأحدٍ أن يرد على أهل البدع أو يكشف
_________
(^١) سورة الأعراف، الآية (١٨٠).
(^٢) نقلًا عن موقع "صيد الفوائد" على الشبكة العنكبوتية، صفحة الشيخ عبد الرَّحمن البراك.
1 / 18
انحرافاتهم؛ لأنَّ هذا -عندهم- ممَّا يفرق "أهل القبلة"!
ويجهل هؤلاء الواهمون أو يغفلون عِدَّة حقائق تبين هذا المصطلح وما يراد به عند أهل العلم. هذه الحقائق باختصار هي:
١ - أن هذا المصطلح مقتبس من حديث للنبي ﷺ يقول فيه: "من صلي صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا، فذلك المسلم الَّذي له ذمة الله وذمة رسوله، فلا تخفروا الله في ذمته" (^١).
٢ - أن المقصود من هذا الحديث -كما بين العلماء- أن المسلم المصلي لا يجوز تكفيره وإخراجه من الإسلام؛ بل يبقى على هذا الأصل؛ إلَّا أن يأتي بأمر مكفِّر.
قال الحافظ ابن حجر في شرح هذا الحديث: "فيه أن أمور النَّاس محمولة على الظَّاهر؛ فمن أظهر شعار الذين أجريت عليه أحكام أهله ما لم يظهر منه خلاف ذلك" (^٢).
ولهذا فقد أخرج البُخَاري عقب هذا الحديث ما يوضحه؛ وهو قوله ﷺ: أمرت أن أقاتل النَّاس حتَّى يقولوا لا إلهَ إلَّا اللهُ، فإذا قالوها، وصلوا صلاتنا، واستقبلوا قبلتنا، وذبحوا ذبيحتنا؛ فقد حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلَّا بحقها، وحسابهم على الله" (^٣).
فهذا الحديث متعلق بمسائل "التكفير"، وأنَّه لا يجوز تكفير المسلم -وإن
_________
(^١) رواه البخاري برقم (٣٩١).
(^٢) فتح الباري (١/ ٥٩٢).
(^٣) رواه البخاري برقم (٣٩٣).
1 / 19
كان مبتدعًا- بكل ذنب، ما لم تكن بدعته مكفرة.
٣ - قال الطحاوي في عقيدته: "ونسمي أهل قبلتنا مسلمين مؤمنين، ما داموا بما جاء به النبي ﷺ معترفين، وله بكل ما قال وأخبر مصدقين".
قال ابن أبي العز في شرحه: "قال رسول الله ﷺ: (من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا، فهو المسلم، له ما لنا وعليه ما علينا). ويشير الشيخ ﵀ بهذا الكلام إلى أن الإسلام والإيمان واحد، وأن المسلم لا يخرج من الإسلام بارتكاب الذنب ما لم يستحلَّه.
والمراد بقوله: "أهل قبلتنا" من يدعي الإسلام، ويستقبل الكعبة وإن كان من أهل الأهواء، أو من أهل المعاصي، ما لم يكذب بشيء مما جاء به الرسول ﷺ. وسيأتي الكلام على هذين المعنيين عند قول الشيخ: "ولا تكفر أحدا من أهل القبلة بذنب ما لم يستحلَّه" (^١).
وقال في الموضع المشار إليه (^٢): "قوله: (ولا نكفِّر أحدًا من أهل القبلة بذنب، ما لم يستحله، ولا نقول: لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله): أراد بأهل القبلة الذين تقدم ذكرهم في قوله: "ونسمي أهل قبلتنا مسلمين مؤمنين"، يشير الشيخ ﵀ إلى الرد على الخوارج القائلين بالتكفير بكل ذنب.
واعلم -رحمك الله وإيانا- أن باب التكفير وعدم التكفير بابٌ عظُمت الفتنة والمحنة فيه، وكثر فيه الافتراق، وتشتتت فيه الأهواء والآراء،
_________
(^١) شرح العقيدة الطحاوية، ص ٤٢٦، ٤٢٧، طبعة التركي والأرناؤوط.
(^٢) المرجع السابق نفسه، ص ٤٣٢ - ٤٣٤.
1 / 20
وتعارضت فيه دلائلهم؛ فالناس فيه -في جنس تكفير أهل المقالات والعقائد الفاسدة، المخالفة للحق الذي بعث الله به رسوله في نفس الأمر، أو المخالفة لذلك في اعتقادهم- على طرفين ووسط، من جنس الاختلاف في تكفير أهل الكبائر العملية.
فطائفة تقول: لا نكفِّر من أهل القبلة أحدًا، فتنفي التكفير نفيا عامًا، مع العلم بأن في أهل القبلة: المنافقين، الذين فيهم من هو أكفر من اليهود والنصاري بالكتاب والسنة والإجماع، وفيهم من قد يُظهر بعض ذلك حيث يمكنهم، وهم يتظاهرون بالشهادتين.
وأيضًا: فلا خلاف بين المسلمين أن الرجل لو أظهر إنكار الواجبات الظاهرة المتواترة، والمحرمات الظاهرة المتواترة، ونحو ذلك؛ فإنه يستتاب، فإن تاب، وإلا قُتل كافرًا مرتدًا.
والنفاق والردة مظنتهما البدع والفجور، كما ذكره الحلال في كتاب "السنة" بسنده إلى محمد بن سيرين، أنه قال: إن أسرع الناس ردة أهل الأهواء، وكان يرى هذه الآية نزلت فيهم: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ﴾ (^١).
ولهذا امتنع كثير من الأئمة عن إطلاق القول: بأنا لا نكفر أحدًا بذنب. بل يقال: لا نكفرهم بكل ذنب كما تفعله الخوارج .. ". انتهى كلام ابن أبي العز ﵀.
_________
(^١) سورة الأنعام، الآية (٦٨).
1 / 21
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية ﵀: "والعلماء قد تنازعوا في تكفير أهل البدع والأهواء وتخليدهم في النار، وما من الأئمة إلا من حكي عنه في ذلك قولان؛ كمالك والشافعي وأحمد وغيرهم، وصار بعضهم يحكي هذا النزاع في جميع أهل البدع وفي تخليدهم، حتى التزم تخليدهم كل من يُعتقد أنه مبتدع بعينه، وفي هذا من الخطأ ما لا يحصى، وقابله بعضهم فصار يظن أنه لا يُطلق كفر أحد من أهل الأهواء، وإن كانوا أتوا من الإلحاد وأقوال أهل التعطيل والإلحاد" (^١).
وقال -أيضًا-: "قد تقرر من مذهب أهل السنة والجماعة ما دل عليه الكتاب والسنة أنهم لا يُكفرون أحدًا من أهل القبلة بذنب، ولا يخرجونه من الإسلام بعمل، إذا كان فعلًا منهيًا عنه؛ مثل الزنا والسرقة وشرب الخمر، ما لم يتضمن ترك الإيمان. وأما إن تضمن ترك ما أمر الله به من الإيمان؛ مثل الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله، والبعث بعد الموت؛ فإنه يكفر به" (^٢).
قال الدكتور إبراهيم الرحيلي معلقًا: "لكن ينبغي مراعاة أن لا يكون الذنب منصوصًا على الكفر به كفرًا أكبر؛ كترك الشهادتين، أو ترك الصلاة .. وأن لا يكون الذنب مما ينافي الإيمان بالله" (^٣).
وقال الشيخ سليمان بن سحمان ﵀ رادًا على بعض من اغتر
_________
(^١) مجموع الفتاوي (٧/ ٦١٨ - ٦١٩).
(^٢) مجموع الفتاوي (٢٠/ ٩٠).
(^٣) موقف أهل السنة والجماعة من أهل الأهواء والبدع (١/ ١٨٢).
1 / 22
بمقالة "عدم تكفير أهل القبلة" ليحملها على الجهمية: "وأما ما ذكرته من استدلال المخالف بقوله ﷺ "من صلَّى صلاتنا .. " وأشباه هذه الأحاديث، فهذا استدلال جاهل بنصوص الكتاب والسنة، لا يدري ولا يدري أنه لا يدري؛ فإن هذا فرضه ومحلّه في أهل الأهواء من هذه الأمة ومن لا تخرجه بدعته من الإسلام؛ كالخوارج ونحوهم، فهؤلاء لا يكفرون؛ لأن أصل الإيمان الثابت لا يحكم بزواله إلا بحصول مناف لحقيقته، مناقض لأصله، والعمدة استصحاب الأصل وجودًا وعدها، لكنهم يُبَدّعون، ويضللون، ويجب هجرهم، وتضليلهم، والتحذير عن مجالستهم ومجامعتهم، كما هو طريقة السلف في هذا الصنف.
وأما الجهمية وعباد القبور: فلا يستدل بمثل هذه النصوص على عدم تكفيرهم إلا من لم يعرف حقيقة الإسلام" (^١).
وقال الشيخ صالح الفوزان -حفظه الله-: "الآن لما فشا الجهل واشتدت غربة الدين، ظهر ناس من الذين يتسمون بالعلم، ويقولون: لا تكفِّروا الناس، يكفي اسم الإسلام، يكفي أنه يقول: أنا مسلم، ولو فعل ما فعل؛ لو ذبح لغير الله، لو سب الله ورسوله، لو فعل ما فعل، ما دام أنه يقول: أنا مسلم فلا تكفره!! وعلى هذا يدخل في التسمي بالإسلام الباطنية والقرامطة، ويدخل فيه القبوريون، ويدخل فيه الروافض، ويدخل فيه القاديانية، ويدخل فيه كل من يدَّعي الإسلام، يقولون: لا تكفروا أحدًا، ولو فعل ما فعل، أو اعتقد ما اعتقد لا تفرقوا بين المسلمين. سبحان الله! نحن لا نفرق بين المسلمين، ولكن هؤلاء
_________
(^١) إجماع أهل السنة النبوية على تكفير المعطلة الجهمية، ص ١٥٧.
1 / 23
ليسوا مسلمين؛ لأنهم لما ارتكبوا نواقض الإسلام خرجوا من الإسلام، فكلمة: (لا تفرقوا بين المسلمين)، كلمة حق والمراد بها باطل؛ لأن الصحابة ﵃ لما ارتد من ارتد من العرب بعد وفاة النبي ﷺ قاتلوهم، ما قالوا: لا تفرقوا بين المسلمين؛ لأنهم ليسوا مسلمين ما داموا على الردة، وهذا أشد من أنك تحكم لكافر بالإسلام، وسيأتيكم أن من الردة: من لم يكفر الكافر، أو شك في كفره، فهذه المسألة وهي من لم يكفر الكافر أو شك في كفره فهو كافر مثله، وهؤلاء يقولون لا تكفروا أحدًا ولو فعل ما فعل، ما دام أنه يقول: لا إله إلا الله، أنتم واجهوا الملاحدة واتركوا هؤلاء الذين يدعون الإسلام!! نقول لهم: هؤلاء أخطر من الملاحدة؛ لأن الملاحدة ما ادعوا الإسلام، ولا ادعوا أن الذي هم عليه إسلام، أما هؤلاء فيخدعون الناس ويدّعون أن الكفر هو الإسلام، فهؤلاء أشد من الملاحدة، فالردة أشد من الإلحاد -والعياذ بالله- فيجب أن تعرف موقفنا من هذه الأمور ونميزها ونتبينها؛ لأننا الآن في تعمية، فهناك ناس يؤلفون ويكتبون وينتقدون ويحاضرون، ويقولون: لا تكفروا المسلمين، ونقول: نحن نكفر من خرج عن الإسلام، أما المسلم فلا يجوز تكفيره" (^١).
قلت: فحق -بعد هذا- أن يقال لدعاة "التقريب الموهوم" ما قاله المتنبي:
فإن الجرح ينفر بعد حين … إذا كان البناء على فساد!
فلا لقاء ولا تآلف ولا تقارب بين الفرق الإسلامية ما لم تلتق على عقيدة السلف ومنهجهم. وأما بغير ذلك "فستبقى حزازات النفوس كما هي".
_________
(^١) سلسلة شرح الرسائل، ص ٢١٣ - ٢١٥.
1 / 24