The Messengers and the Messages
الرسل والرسالات
ناشر
مكتبة الفلاح للنشر والتوزيع،الكويت،دار النفائس للنشر والتوزيع
ایڈیشن نمبر
الرابعة
اشاعت کا سال
١٤١٠ هـ - ١٩٨٩ م
پبلشر کا مقام
الكويت
اصناف
الباب الأول الرسل والأنبياء
التعريف بالنبي والرسول والفرق بينهما
المطلب الأول
تعريف النبي (١)
النبي - في لغة العرب - مشتق من النبأ وهو الخبر، قال تعالى: (عمَّ يتساءلون - عن النبأ العظيم) [النبأ: ١-٢] .
وإنّما سمّي النبيُّ نبيًّا لأنه مُخْبرٌ مُخْبَر، فهو مُخْبَر، أي: أنَّ الله أخبره، وأوحى إليه (قالت من أنبأك هذا قال نَبَّأَنِيَ العليم الخبير) [التحريم: ٣]، وهو مُخْبرٌ عن الله تعالى أمره ووحيه (نَبِّئْ عبادي أنّي أنا الغفور الرَّحيم) [الحجر: ٤٩] (وَنَبِّئْهُمْ عن ضيف إبراهيم) [الحجر: ٥١] .
وقيل: النبوة مشتقة من النَّبْوَة، وهي ما ارتفع من الأرض، وتطلق العرب لفظ النبيّ على علم من أعلام الأرض التي يهتدى بها، والمناسبة بين لفظ النبي والمعنى اللغوي، أنَّ النبيَّ ذو رفعة وقدر عظيم في الدنيا والآخرة، فالأنبياء هم أشرف الخلق، وهم الأعلام التي يهتدي بها الناس فتصلح دنياهم وأخراهم.
المطلب الثاني
تعريف الرسول (٢)
الإرسال في اللغة التوجيه، فإذا بعثت شخصًا في مهمة فهو رسولك، قال تعالى حاكيًا قول ملكة سبأ: (وإني مرسلة إليهم بهديَّةٍ فناظرة بم يرجع المرسلون) [النمل: ٣٥]، وقد يريدون بالرسول ذلك الشخص الذي يتابع
_________
(١) راجع في هذه المسألة: لسان العرب: ٣/٥٦١، ٥٧٣، بصائر ذوي التمييز: ٥/١٤، لوامع الأنوار البهية: ١/٤٩، ٢/٢٦٥.
(٢) راجع في هذه المسألة: لسان العرب: (٢/١١٦٦-١١٦٧)، المصباح المنير: ص٢٦٦.
1 / 13
أخبار الذي بعثه، أخذًا من قول العرب: " جاءت الإبلُ رَسَلًا " أي: متتابعة.
وعلى ذلك فالرُّسل إنّما سمّوا بذلك لأنَّهم وُجّهوا من قبل الله تعالى: (ثُمَّ أرسلنا رسلنا تترًا) [المؤمنون: ٤٤]، وهم مبعوثون برسالة معينة مُكلَّفون بحملها وتبليغها ومتابعتها.
المطلب الثالث
الفرق بين الرسول والنبيّ
لا يصحُّ قول من ذهب إلى أنه لا فرق بين الرسول والنبيّ، ويدلُّ على بطلان هذا القول ما ورد في عدة الأنبياء والرسل، فقد ذكر الرسول ﷺ أنَّ عدة الأنبياء مائة وأربعة وعشرون ألف نبي، وعدَّة الرسل ثلاثمائة وبضعة عشر رسولًا (١)، ويدلّ على الفرق أيضًا ما ورد في كتاب الله من عطف النبيِّ على الرسول (وما أرسلنا من قبلك من رسولٍ ولا نبي إلاَّ إذا تمنَّى ألقى الشَّيطان في أُمنيَّته) [الحج: ٥٢]، ووصف بعض رسله بالنبوة والرسالة مما يدُل على أن الرسالة أمر زائد على النبوة، كقوله في حقِّ موسى ﵇: (واذكر في الكتاب موسى إنَّه كان مخلصًا وكان رسولًا نبيًَّا) [مريم: ٥١] .
والشائع عند العلماء أنَّ النبي أعم من الرسول، فالرسول هو من أُوحي إليه بشرع وأُمر بتبليغه، والنبيُّ من أوحي إليه ولم يؤمر بالبلاغ، وعلى ذلك فكلُّ رسول نبي، وليس كل نبي رسولًا (٢) .
وهذا الذي ذكروه هنا بعيد لأمور:
الأول: أن الله نصَّ على أنه أرسل الأنبياء كما أرسل الرسل في قوله: (وما أرسلنا من قبلك من رسولٍ ولا نبي ...) [الحج: ٥٢]، فإذا كان الفارق بينهما هو الأمر بالبلاغ فالإرسال يقتضي من النبيّ البلاغ.
الثاني: أنَّ ترك البلاغ كتمان لوحي الله تعالى، والله لا ينزل وحيه ليكتم ويدفن في صدر واحد من الناس، ثمَّ يموت هذا العلم بموته.
_________
(١) حديث صحيح رواه أحمد في مسنده حديث رقم: (٢١٥٤٦، ٢١٥٥٢) طبعة الرسالة.
(٢) شرح العقيدة الطحاوية: (١٦٧)، لوامع الأنوار البهية: (١/٤٩)، وانظر كلام الشيخ ناصر الدين الألباني على أسانيده في سلسلة الصحيحة: ٢٦٦٨.
1 / 14
الثالث: قول الرسول ﷺ فيما يرويه عنه ابن عباس: " عرضت عليَّ الأمم، فجعل يمرُّ النبي معه الرجل، والنبي معه الرجلان، والنبي معه الرهط، والنبي ليس معه أحد " (١) .
فدلّ هذا على أنَّ الأنبياء مأمورون بالبلاغ، وأنَّهم يتفاوتون في مدى الاستجابة لهم.
والتعريف المختار أنَّ " الرسولَ مَنْ أُوحي إليه بشرع جديد، والنبيَّ هو المبعوث لتقرير شرع من قبله " (٢) .
وقد " كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبيٌّ خلفه نبيٌّ ".
كما ثبت في الحديث (٣)، وأنبياء بني إسرائيل كلّهم مبعوثون بشريعة موسى: التوراة وكانوا مأمورين بإبلاغ قومهم وحي الله إليهم (ألم تر إلى الملإ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لَّهم ابعث لنا ملكًا نقاتل في سبيل الله قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألاَّ تقاتلوا ...) [البقرة: ٢٤٦] فالنبي كما يظهر من الآية يُوحَى إليه شيء يوجب على قومه أمرًا، وهذا لا يكون إلا مع وجوب التبليغ.
واعتبر في هذا بحال داود وسليمان وزكريا ويحي فهؤلاء جميعًا أنبياء، وقد كانوا يقومون بسياسة بني إسرائيل، والحكم بينهم وإبلاغهم الحق، والله أعلم بالصواب.
أهمية الإيمان بالرّسل
المطلب الأول
الإيمان بالأنبياء والرسل من أصول الإيمان
الإيمان بالرسل أصل من أصول الإيمان، قال تعالى: (قل آمنَّا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وَالنَّبِيُّونَ من رَّبهم لا نفرق بين أحدٍ منهم ونحن له
_________
(١) رواه البخاري: ٥٧٥٢، ومسلم: ٢٢٠، واللفظ للبخاري.
(٢) تفسير الآلوسي: (٧/١٥٧) .
(٣) رواه البخاري عن أبي هريرة: ٣٤٥٥.
1 / 15
مسلمون) [آل عمران: ٨٤] .
ومن لم يؤمن بالرسل ضل ضلالًا بعيدًا، وخسر خسرانًا مبينًا (ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضلَّ ضلالًا بعيدًا) [النساء: ١٣٦] .
المطلب الثاني
الصلة بين الإيمان بالله والإيمان بالرسل والرسالات
الذين يزعمون أنَّهم مؤمنون بالله ولكنّهم يكفرون بالرسل والكتب هؤلاء لا يقدرون الله حقَّ قدره، (وما قدروا الله حقَّ قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشرٍ من شيءٍ) [الأنعام: ٩١] . فالذين يقدرون الله حقَّ قدره، ويعلمون صفاته التي اتصف بها من العلم والحكمة والرحمة لا بدَّ أن يوقنوا بأنَّه أرسل الرسل وأنزل الكتب، لأن هذا مقتضى صفاته، فهو لم يخلق الخلق عبثًا، (أيحسب الإنسان أن يترك سُدًى) [القيامة: ٣٦] .
ومن كفر بالرسل وهو يزعم أنَّه يؤمن بالله فهو عند الله كافر لا ينفعه إيمانه، قال تعالى: (إنَّ الَّذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعضٍ ونكفر ببعضٍ ويريدون أن يتَّخذوا بين ذلك سبيلًا - أولئك هم الكافرون حقًّا) [النساء: ١٥٠-١٥١] .
فقد نصَّت الآية على كفر من زعم الإيمان بالله وكفر بالرسل (ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله)، يقول القرطبي في هذه الآية: " نصّ سبحانه على أنَّ التفريق بين الله ورسله كفر، وإنَّما كان كفرًا لأنَّ الله فرض على الناس أن يعبدوه بما شرعه على ألسنة الرسل، فإذا جحدوا الرسل ردّوا عليهم شرائعهم، ولم يقبلوها منهم، فكانوا ممتنعين من التزام العبودية التي أُمروا بالتزامها، فكان كجحد الصانع سبحانه، وجحد الصانع كفر لما فيه من ترك التزام الطاعة والعبودية، وكذلك التفريق بين الله ورسله " (١) .
سس زيادة
المطلب الثالث
وجوب الإيمان بجميع الرسل
الكفر برسول واحد كفر بجميع الرسل، قال تعالى: (كذَّبت قوم نوحٍ المرسلين) [الشعراء: ١٠٥]، وقال: (كذَّبت عاد المرسلين) [الشعراء: ١٢٣]، وقال: (كذَّبت ثمود المرسلين) [الشعراء: ١٤١]، وقال: (كذَّبت قوم لوطٍ المرسلين) [الشعراء: ١٦٠]، ومن المعروف أنَّ كلَّ أمةٍ كذَّبت رسولها، إلا أن التكذيب برسول واحد يعدّ تكذيبًا بالرسل كلِّهم، ذلك أنَّ الرسل حملة رسالة واحدة، ودعاة دين واحد، ومرسلهم واحد، فهم وحدة، يبشر المتقدم منهم بالمتأخر، ويصدق المتأخر المتقدم.
ومن هنا كان الإيمان ببعض الرسل والكفر ببعض كفرًا بهم جميعًا، وقد وسم الله من هذا حاله بالكفر (إنَّ الَّذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعضٍ ونكفر ببعضٍ ويريدون أن يتَّخذوا بين ذلك سبيلًا - أولئك هم الكافرون حقًّا) [النساء: ١٥٠-١٥١]، وقد أمرنا الله بعدم التفريق بين الرسل والإيمان بهم جميعًا (قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي النبيُّون من رَّبهم لا نفرق بين أحدٍ منهم ونحن له مسلمون) [البقرة: ١٣٦]، ومن سار على هذا النهج فقد اهتدى (فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا) [البقرة: ١٣٧]، والذي يخالفه فقد ضلَّ وغوى (وَّإن تولَّوا فإنَّما هم في شقاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ الله وهو السَّميع العليم) [البقرة: ١٣٧] .
وقد مدح الله رسول هذه الأمة والمؤمنين الذين تابعوه لإيمانهم بالرسل كلهم، ولعدم تفريقهم بينهم، قال تعالى: (آمن الرسول بما أنزل إليه من رَّبه والمؤمنون كلٌّ آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحدٍ من رُّسله) [البقرة: ٢٨٥] .
ووعد الله الذين لم يفرقوا بين الرسل بالمثوبة والأجر الكريم (والَّذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحدٍ منهم أولئك سوف يؤتيهم أجورهم وكان الله غفورًا رَّحيمًا) [النساء: ١٥٢] .
وقد ذم الله أهل الكتاب لإيمانهم ببعض الرسل وكفرهم ببعض (وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وَرَاءهُ وهو الحقُّ مصدقًا لما معهم) [البقرة: ٩١] .
فاليهود لا يؤمنون بعيسى ولا بمحمد، والنصارى لا يؤمنون بمحمد ﷺ.
عدد الأنبياء والطريق إلى معرفتهم
المطلب الأول
_________
(١) تفسير القرطبي: (٦/٥) .
1 / 16
الأنبياء والرسل جمّ غفير
اقتضت حكمة الله - تعالى - في الأمم قبل هذه الأمّة أن يرسل في كلّ منها نذيرًا، ولم يرسل رسولًا للبشرية كلّها إلاّ محمدًا ﷺ، واقتضى عدله ألاّ يعذب أحدًا من الخلق إلاّ بعد أن تقوم عليه الحجة: (وما كنَّا معذبين حتَّى نبعث رسولًا) [الإسراء: ١٥] . من هنا كثر الأنبياء والرسل في تاريخ البشرية كثرة هائلة، قال تعالى: (وإن من أمَّةٍ إلاَّ خلا فيها نذيرٌ) [فاطر: ٢٤] .
وقد أخبرنا رسول الله ﷺ بعدّة الأنبياء والمرسلين، فعن أبي ذرّ قال: قلت: يا رسول الله، كم المرسلون؟ قال: " ثلاثمائة وبضعة عشر جمًّا غفيرًا " وقال مرة: " خمسة عشر "، وفي رواية أبي أمامة، قال أبو ذر: قلت: يا رسول الله، كم وفاء عدة الأنبياء؟ قال: مائة ألف وأربعة وعشرون ألفًا، الرُّسل من ذلك ثلاثمائة وخمسة عشر جمًّا غفيرًا " (١) .
من الأنبياء والرسل من لم يقصصهم الله علينا:
وهذا العدد الكبير للأنبياء والرسل يدلنا على أنَّ الذين نعرف أسماءهم من الرسل والأنبياء قليل، وأنَّ هناك أعدادًا كثيرة لا نعرفها، وقد صرّح القرآن بذلك في أكثر من موضع، قال تعالى: (ورسلًا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلًا لم نقصصهم عليك) [النساء: ١٦٤]، وقال: (ولقد أرسلنا رسلًا من قبلك منهم مَّن قصصنا عليك ومنهم من لَّم نقصص عليك) [غافر: ٧٨] .
فالذين أخبرنا الله بأسمائهم في كتابه أو أخبرنا بهم رسوله ﷺ لا يجوز أنّ نكذّبَ بهم، ومع ذلك فنؤمن أنَّ لله رسلًا وأنبياء لا نعلمهم.
_________
(١) عزاه التبريزي في مشكاة المصابيح: (٣/١٢٢) إلى أحمد في مسنده، وقد حكم الألباني عليه بالصحة، وقد أطال الشيخ الألباني الكلام في تخريجه من كتب السنة، وبيان أسانيده في كتب السنن وأقوال العلماء فيه في (سلسلة الصحيحة: ورقمها فيها (٢٦٦٨) وقال مجملًا القول فيه: " وجملة القول: إن عدد الرسل المذكورين في حديث الترجمة صحيح لذاته، وأن عدد الأنبياء المذكورين في أحد طرقه، وفي حديث أبي ذر من ثلاث طرق، فهو صحيح لغيره " وانظر الحديث في مسند أحمد برقم: (٢١٥٤٦، ٢١٥٥٢، ٢٢٢٨٨) طبعة مؤسسة الرسالة، فقد حكم الشيخ شعيب الأرنؤوط على طرقه وأسانيده بالضعف.
1 / 17
المطلب الثاني
الأنبياء والرسل المذكورون في القرآن
ذكر الله في كتابه خمسة وعشرين نبيًا ورسولًا، فذكر في مواضع متفرقة آدم وهودًا وصالحًا وشعيبًا وإسماعيل وإدريس وذا الكفل ومحمدًا ﵈.
قال تعالى: (إنَّ الله اصطفى آدم ...) [آل عمران: ٣٣]، وقال: (وإلى عادٍ أخاهم هودًا) [هود: ٥٠]، (وإلى ثمود أخاهم صالحًا) [هود: ٦١]، (وإلى مدين أخاهم شعيبًا) [هود: ٨٤]، (وإسماعيل وإدريس وذا الكفل كلٌّ من الصَّابرين) [الأنبياء: ٨٥] (مُّحمَّدٌ رَّسول الله ...) [الفتح: ٢٩] .
وذكر ثمانية عشر منهم في موضع واحد في سورة الأنعام (وتلك حجَّتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجاتٍ مَّن نشاء إنَّ ربَّك حكيم عليمٌ - ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلًاّ هدينا ونوحًا هدينا من قبل ومن ذُريَّته داود وسليمان وأيُّوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين - وزكريَّا ويحى وعيسى وإلياس كلٌّ من الصَّالحين - وإسماعيل واليسع ويونس ولوطًا وكلًاّ فضَّلنا على العالمين) [الأنعام: ٨٣-٨٦] .
أربعة من العرب:
من هؤلاء الخمسة والعشرين أربعة من العرب، فقد جاء في حديث أبي ذر في ذكر الأنبياء والمرسلين: " منهم أربعة من العرب: هود، وصالح، وشعيب، ونبيك يا أبا ذر" (١) .
ويقال للعرب الذين كانوا قبل إسماعيل: العرب العاربة، وأمّا العرب المستعربة فهم من ولد إسماعيل بن إبراهيم الخليل (٢)، وهود وصالح كانا من العرب العاربة.
الأسباط:
_________
(١) رواه ابن حبان في صحيحه: ٢/٧٦ (٣٦١)، وقال الشيخ شعيب: إسناده ضعيف جدًا " صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان " طبعة مؤسسة الرسالة، البداية والنهاية: (١/١٢٠) .
(٢) البداية والنهاية: (١/١١٩-١٢٠) .
1 / 18
الأنبياء الذين سبق ذكرهم مذكورون في القرآن بأسمائهم، وهنا بعض الأنبياء أشار القرآن إلى نبوتهم، ولكننا لا نعرف أسماءهم، وهم الأسباط، والأسباط هم أولاد يعقوب، وقد كانوا اثني عشر رجلًا عرّفنا القرآن باسم واحد منهم وهو يوسف، والباقي وعددهم أحد عشر رجلًا لم يعرفنا الله بأسمائهم، ولكنه أخبرنا بأنّه أوحى إليهم، قال تعالى: (قولوا آمنَّا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط) [البقرة: ١٣٦] .
وقال: (أم تقولون إنَّ إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هودًا أو نصارى..) [البقرة: ١٤٠] .
1 / 19
المطلب الثالث
أنبياء عرفناهم من السنّة
هناك أنبياء عرفناهم من السنة، ولم ينصّ القرآن على أسمائهم، وهم:
١- شيث:
يقول ابن كثير: " وكان نبيًّا بنصّ الحديث الذي رواه ابن حبان في صحيحه عن أبي ذر مرفوعًا أنّه أنزل عليه خمسون صحيفة " (١) .
٢- يوشع بن نون:
روى أبو هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: " غزا نبيٌّ من الأنبياء، فقال لقومه: لا يتبعني رجل قد ملك بضع امرأة، وهو يريد أن يبني بها، ولمّا يبنِ، ولا آخر قد بنى بنيانًا ولما يرفع سقفها، ولا آخر قد اشترى غنمًا أو خلفات وهو منتظر ولادها، قال: فغزا، فأدنى للقرية حين صلاةِ العصر، أو قريبًا من ذلك، فقال للشمس: أنت مأمورة، وأنا مأمور، اللهمَّ احبسها عليَّ شيئًا، فحسبت عليه حتى فتح الله عليه " (٢) .
والدليل على أنَّ هذا النبيّ هو يوشع قوله ﷺ: " إنَّ الشمس لم تحبس إلاّ ليوشع ليالي سار إلى بيت المقدس " (٣) .
المطلب الرابع
صالحون مشكوكٌ في نبوتهم
١- ذو القرنين:
ذكر الله خبر ذي القرنين في آخر سورة الكهف، ومما أخبر الله به عنه أنه خاطبه (قلنا يا ذا القرنين إمَّا أن تعذب وإمَّا أن تتَّخذ فيهم حسنًا) [الكهف: ٨٦] .
_________
(١) البداية والنهاية: (١/٩٩) .
(٢) رواه البخاري: ٣١٢٤، ومسلم: ١٧٤٧، واللفظ لمسلم.
(٣) قال ابن كثير في البداية والنهاية: (١/٣٢٣) انفرد به أحمد من هذا الوجه وهو على شرط البخاري. وهو في " مسند أحمد" ١٤/٦٥ (٨٣١٥) طبعة مؤسسة الرسالة.
1 / 21
فهل كان هذا الخطاب بواسطة نبيّ كان معه، أو كان هو نبيًّا؟ جزم الفخر الرازي بنبوته (١)، وقال ابن حجر: " وهذا مرويٌّ عن عبد الله بن عمرو، وعليه ظاهر القرآن " (٢) ومن الذين نفوا نبوته عليُّ بن أبي طالب (٣) .
٢- تبع:
ورد ذكر تبع في القرآن الكريم، قال تعالى: (أهم خير أم قوم تُبَّعٍ والَّذين من قبلهم أهلكناهم إنَّهم كانوا مجرمين) [الدخان: ٣٧]، وقال: (كذَّبت قبلهم قوم نوحٍ وأصحاب الرَّس وثمود - وعادٌ وفرعون وإخوان لوطٍ - وأصحاب الأيكة وقوم تُبَّعٍ كلٌّ كذَّب الرُّسل فحقَّ وعيد) [ق: ١٢-١٤]، فهل كان نبيًّا مرسلًا إلى قومه فكذبوه فأهلكهم الله؟ الله أعلم بذلك.
الأفضل التوقف في أمر ذي القرنين وتُبّع:
والأفضل أن يتوقف في إثبات النبوة لهذين، لأنه صحّ عن الرسول ﷺ أنه قال: " ما أدري أتُبّع نبيًّا أم لا، وما أدري ذا القرين نبيًا أم لا " (٤) . فإذا كان الرسول ﷺ لا يدري، فنحن أحرى بأن لا ندري.
٣- الخضر:
الخضر هو العبد الصالح الذي رحل إليه موسى ليطلب منه علمًا، وقد حدثنا الله عن خبرهما في سورة الكهف.
وسياق القصة يدلّ على نبوته من وجوه (٥):
أحدها: قوله تعالى: (فوجدا عبدًا من عبادنا آتيناه رحمةً من عندنا
_________
(١) فتح الباري: (٦/٣٨٢) .
(٢) المصدر السابق.
(٣) هذا الأثر أخرجه الحاكم عن علي، وقال: سنده صحيح، انظر فتح الباري: (٦/٣٨٢) .
(٤) رواه الحاكم والبيهقي: (انظر صحيح الجامع الصغير: (٥/١٢١) .
(٥) ذكر هذه الوجوه ابن كثير في البداية والنهاية: (١/٣٢٦) .
1 / 22
وعلَّمناه من لَّدُنَّا علمًا) [الكهف: ٦٥]، والأظهر أنّ هذه الرحمة هي رحمة النبوة، وهذا العلم هو ما يوحى إليه به من قبل الله.
الثاني: قول موسى له: (هل أتَّبعك على أن تعلمن ممَّا عُلمت رُشدًا - قال إنَّك لن تستطيع معي صبرًا - وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرًا - قال ستجدني إن شاء الله صابرًا ولا أعصى لك أمرًا - قال فإن اتَّبعتني فلا تسألني عن شيءٍ حتَّى أُحدث لك منه ذكرًا) [الكهف: ٦٦-٧٠] فلو كان غير نبيّ لم يكون معصومًا، ولم يكن لموسى - وهو نبيٌّ عظيم، ورسول كريم، واجب العصمة - كبيرُ رغبةٍ، ولا عظيم طلبة في علم وَليَّ غير واجب العصمة، ولما عزم على الذهاب إليه، والتفتيش عنه، ولو أنَّه يمضي حقبًا من الزمان، قيل: ثمانين سنة، ثمَّ لما اجتمع به، تواضع له، وعظّمه، واتبعه في صورة مستفيد منه، دلّ على أنه نبيٌّ مثله، يوحى إليه كما يوحى إليه، وقد خصّ من العلوم اللدنيَّة والأسرار النبويَّة بما لم يطلع الله عليه موسى الكليم، نبيّ بني إسرائيل الكريم.
الثالث: أنّ الخضر أقدم على قتل ذلك الغلام، وما ذاك إلا للوحي إليه من الملك العلام، وهذا دليل مستقلٌّ على نبوتَّه، وبرهان ظاهر على عصمته (١)، لأنَّ الولي لا يجوز له الإقدام على قتل النفوس بمجرد ما يلقى في خلده، لأنَّ خاطره ليس بواجب العصمة، إذ يجوز الخطأ عليه بالاتفاق، ولما أقدم الخضر على قتل ذلك الغلام الذي لم يبلغ الحلم علمًا منه بأنّه إذا بلغ يكفر، ويحمل أبويه على الكفر لشّدة محبتهما له، فيتابعانه عليه، ففي قتله مصلحة عظيمة تربو على بقاء مهجته صيانة لأبويه عن الوقوع في الكفر وعقوبته دلّ ذلك على نبوته وأنّه مؤيد من الله بعصمته.
_________
(١) ضلَّ أقوام من هذه الأمة إذ ينتكهون الحرمات، ويرتكبون المنهيات، فإذا أنكر عليهم منكر، قالوا: حقيقة الأمر الخافية غير المظهرة البائنة، ويحتجون على ذلك بقصة الخضر، وإفساده للسفينة، وقتله للغلام، وهذا ضلال كبير، يفتح باب الشر ولا يستطاع إغلاقه بعد ذلك، والقول بنبوة الخضر يغلق هذا الباب، ثمَّ ليس لأحد من هذه الأمة أن يخالف الشريعة الإسلامية، فالحلال ما أحله الله، والحرام ما حرّمه الله، فمن رام خلاف الشريعة عوقب معاقبة المخالف، وإن زعم ما زعم. ومما ينبغي التنبيه إليه أن موسى صاحب شريعة لم يكن له أن يخالفها، ولذلك أنكر على الخضر قتله الغلام، لأنّه محرم في شريعته، ومن هنا اختار فراقه، والعودة إلى قومه.
1 / 23
الرابع: أنّه لمَّا فسر الخضر تأويل تلك الأفاعيل لموسى، ووضح له عن حقيقة أمره وجلاَّه، قال بعد ذلك كلّه: (رحمةً من رَّبك وما فعلته عن أمري) [الكهف: ٨٢]، يعني ما فعلته من تلقاء نفسي، بل أمرت به، وأوحي إليّ فيه (١) .
_________
(١) ذهب جمع كثير من العلماء إلى أن الخضر حي لم يمت، وقد وردت في ذلك أخبار كثيرة، وقد فتح القول بحياته بابًا للخرافة والدجل، فأخذ كثير من الناس يزعم أنّهم قابلوا الخضر، وأنّه وصّاهم بوصايا، وأمرهم بأوامر، ويروون في ذلك حكايات غريبة، وأخبارًا يأباها العقل السليم. وقد ذهب إلى تضعيف هذه الأخبار جمع من كبار المحدثين منهم البخاري، وابن دحية، وابن كثير، وابن حجر العسقلاني، وأقوى ما يردُّ به على هؤلاء القائلين بحياته أنه لم يصح في ذلك حديث، وأنو لو كان حيًا لكان فرض عليه أن يأتي إلى الرسول ﷺ ويتابعه وينصره، فقد أخذ الله العهد على الأنبياء من قبل بالإيمان بمحمد ونصرته إذا أدركه زمانه (وإذ أخذ الله ميثاق النَّبيين لما آتيتكم من كتابٍ وحكمةٍ ثُمَّ جاءكم رسولٌ مصدقٌ لما معكم لتؤمننَّ به ولتنصرنَّه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشَّاهدين) [آل عمران: ٨١]، وقد أخبر الرسول ﷺ أنه لو كان موسى حيًا ما وسعه إلا اتباعه. وقد سأل إبراهيم الحربي أحمد بن حنبل عن تعمير الخضر وإلياس، وأنهما باقيان يريان ويروى عنهما، فقال أحمد: من أحال على غائب لم ينصف منه، وما ألقى هذا إلا الشيطان. (مجموع فتاوى شيخ الإسلام: ٤/٣٣٧) . وسُئل البخاري عن الخضر وإلياس: هل هما في الأحياء؟ فقال: كيف يكون هذا وقد قال النبي ﷺ: " لا يبقى على رأس مائة سنة ممن هو على وجه الأرض أحد" (مجموع فتاوى شيخ الإسلام: ٤/٣٣٧) ..وقد أطال جماعة من محققي العلماء في إيراد الأدلة المبطلة لهذه الخرافة، منهم ابن كثير في البداية والنهاية (١/٣٢٦) والشيخ محمد الأمين الشنقيطي في أضواء البيان (٤/١٨٤)، وقد ألف ابن حجر العسقلاني رسالة في ذلك سمّاها: الزهر النضر في نبأ الخضر، وهي مطبوعة ضمن مجموعة الرسائل المنيرية: ٢/١٩٥.
1 / 24
المطلب الخامس
لا نثبت النبوة لأحد إلاّ بدليل
يذكر علماء التفسير والسير أسماء كثير من الأنبياء نقلًا عن بني إسرائيل، أو اعتمادًا على أقوال لم تثبت صحتها، فإن خالفت هذه النقول شيئًا مما ثبت عندنا من كتاب ربنا وسنة نبينا ﷺ رفضناها، كقول الذين قالوا: " إنَّ الرسل ثلاثة الذين أرسلوا إلى أصحاب القرية المذكورة قصتهم في سورة يس كانوا من أتباع عيسى، وأن جرجيس وخالد بن سنان كانا نبيين بعد عيسى " (١) .
نردّ هذّا كله، لأنَّه ثبت في الحديث الصحيح أنّه ليس بين عيسى ابن مريم وبين رسولنا صلوات الله وسلامه عليهما نبيٌّ (٢) .، فالرسل المذكورون في آية سورة يس إما رسل بعثوا قبل عيسى، وهذا هو الراجح، أو هم - كما يقول بعض المفسرين - مبعوثون من قبل عيسى وهذا بعيد، لأ، الله أخبر أنّه مرسلهم، والرسول عند الإطلاق ينصرف إلى الاصطلاح المعروف، وما ورد من أنَّ خالد بن سنان نبي عربي ضيعه قومه فهو حديث لا يصحُّ، وهو مخالف لحديث صحيح أخبر الرسول ﷺ فيه أنَّ عدد الأنبياء الذين من العرب أربعة (٣) .
أما ما ورد عن بني إسرائيل من أخبار بتسمية بعض الأنبياء مما لا دليل عليه من الكتاب والسنة، فلا نكذَّبه، ولا نصدّق به، لأنَّ خبرهم يحتمل الصدق والكذب.
_________
(١) فتح الباري: (٦/٤٨٩) .
(٢) حديث صحيح رواه البخاري: (٣٤٤٢) ومسلم: (٢٣٦٥) ونصه: " ليس بيني وبينه نبي ".
(٣) رواه ابن حبان في صحيحه: ٢/٧٦ (٣٦١) .
1 / 26
حَاجة البشريّة إلى الرّسُل والرّسَالات
1 / 27
تمهيد:
حَاجة البشريّة إلى الرّسُل والرّسَالات
تمهيد
إذا كان الناس في القديم يجادلون الرسل، ويرفضون علومهم، ويعرضون عنهم فإن البشر اليوم في القرن العشرين - حيث بلغت البشرية ذروة التقدم المادي، فغاصت في أعماق البحار، وانطلقت بعيدًا في أجواز الفضاء، وفجرت الذرة، وكشفت كثيرًا من القوى الكونية الكامنة في هذا الوجود - أشدُّ جدالًا للرسل، وأكثر رفضًا لعلومهم، وأعظم إعراضًا عنهم، وحال البشر اليوم من الرسل وتعاليمهم كحال الحمر المستنفرة حين ترى الأسد فتفرّ لا تلوي على شيء، قال تعالى: (فما لهم عن التَّذكرة معرضين - كأنَّهم حمرٌ مُّستنفرةٌ - فرَّت من قسورة) [المدثر: ٤٩-٥١] .
والبشر - اليوم - يأبون أكثر من قبل التسليم للرسل وتعاليمهم اغترارًا بعلومهم، واستكبارًا عن متابعة رجال عاشوا في عصور متقدمة على عصورهم (ذلك بأنَّه كانت تَّأتيهم رسلهم بالبينات فقالوا أبشر يهدوننا فكفروا وتولَّوا واستغنى الله والله غنيٌّ حميدٌ) [التغابن: ٦] .
واليوم ينفخ شياطين الإنس في عقول البشر يدعونهم إلى التمرد على الله وعلى شريعة الله، ورفض تعاليم الرسل، بحجة أنَّ في شريعة الله حجرًا على عقولهم، وتوقيفًا لركب الحياة، وتجميدًا للحضارة والرقي ّ، وقد أقامت الدول اليوم نظمها وقوانينها وتشريعاتها على رفض تعاليم الرسل، بل إنَّ بعض الدول تضع الإلحاد مبدأ دستوريًا، وهو الذي يسمى بالعلمانية، وكثير من الدول التي
1 / 29
تتحكم في رقاب المسلمين تسير على هذا النهج، وقد ترضى عوامّ الناس بأن تضع مادة في دستورها تقول: دين الدولة الإسلام، ثمَّ تهدم هذه المادة بالموادّ السابقة واللاحقة، والتشريعات التي تحكم العباد.
فهل صحيح أنَّ البشرية بلغت - اليوم - مبلغًا يجعلها تستغني عن الرسل وتعاليم الرسل؟ وهل أصبحت البشرية اليوم قادرة على أن تقود نفسها بعيدًا عن منهج الرسل؟
يكفي في الإجابة أن ننظر في حال تلك الدول التي نسميها متقدمة متحضرة كأمريكا وبريطانيا وفرنسا وروسيا والصين - لنعلم مدى الشقاء الذي يغشاهم، نحن لا ننكر أنَّهم بلغوا في التقدّم المادي شأوًا بعيدًا، ولكنّهم في الجانب الآخر الذي جاء الرسل وجاءت تعاليمهم لإصلاحه انحدروا انحدارًا بعيدًا.
لا ينكر أحد أنَّ الهموم والأوجاع النفسية والعقد النفسية - اليوم - سمة العالم المتحضر، الإنسان في العالم المتحضر اليوم فقد إنسانيته، خسر نفسه، ولذلك فإن الشباب هناك يتمردون، يتمردون على القيم والأخلاق والأوضاع والقوانين، أخذوا يرفضون حياتهم التي يعيشونها، وأخذوا يتبعون كل ناعق من الشرق أو الغرب يلوِّح لهم بفلسفة أو دروشة أو سفسطة يظنون فيه هناءهم، لقد تحوّل عالم الغرب إلى عالم تنخر الجريمة عظامه، وتقوده الانحرافات والضياع، لقد زلزلت الفضائح أركان الدول الكبرى، والخافي أعظم وأكثر من البادي، إن الذين يسمّون - اليوم - بالعالم المتحضر يخربون بيوتهم بأيديهم، حضارتهم تقتلهم، حضارتهم تفرز سمومًا تسري فيهم فتقتل الأفراد، وتفرق المجتمعات، الذين نسميهم اليوم بالعالم المتحضر كالطائر الجبّار الذي يريد أن يحلق في أجواز الفضاء بجناح واحد.
إننا بحاجة إلى الرسل وتعاليمهم لصلاح قلوبنا، وإنارة نفوسنا، وهداية عقولنا ... ونحن بحاجة إلى الرسل كي نعرف وجهتنا في الحياة، وعلاقتنا بالحياة وخالق الحياة.
نحن بحاجة إلى الرسل كيلا ننحرف أو نزيغ فنقع في المسنقع الآسن.
1 / 30
ابن القيم يبين مدى الحاجة إلى الرسل:
يقول ابن القيم مبينًا حاجة العباد إلى الرسل وتعاليمهم:
" ومن هاهنا تعلم اضطرار العباد فوق كل ضرورة إلى معرفة الرسول، وما جاء به، وتصديقه فيما أخبر به، وطاعته فيما أمر، فإنه لا سبيل إلى السعادة والفلاح لا في الدنيا، ولا في الآخرة إلاّ على أيدي الرسل، ولا سبيل إلى معرفة الطيب والخبيث على التفصيل إلاّ من جهتهم، ولا يُنال رضا الله ألبتة إلاّ على أيديهم، فالطيب من الأعمال والأقوال والأخلاق ليس إلاّ هديهم وما جاؤوا به، فهم الميزان الراجح، الذي على أقوالهم وأعمالهم وأخلاقهم توزن الأخلاق والأعمال، وبمتابعتهم يتميز أهل الهدى من أهل الضلال، فالضرورة إليهم أعظم من ضرورة البدن إلى روحه، والعين إلى نورها، والروح إلى حياتها، فأيّ ضرورة وحاجة فرضت فضرورة العبد وحاجته إلى الرسل فوقها بكثير.
وما ظنك بمن إذا غاب عنك هديه وما جاء به طرفة عين فسد قلبك، وصار كالحوت إذا فارق الماء، ووضع في المقلاة، فحال العبد عند مفارقة قلبه لما جاء به الرسل كهذه الحال، بل أعظم، ولكن لا يحسُّ بهذا إلاّ قلبٌّ حيٌّ.
ما لجرح بميت إيلام (١)
وإذا كانت سعادة العبد في الدارين معلقة بهدي النبي ﷺ فيجب على كل من نصح نفسه، وأحبَّ نجاتها وسعادتها أن يعرف من هديه وسيرته وشأنه ما يخرج به عن الجاهلين، ويدخل به في عداد أتباعه وشيعته وحزبه، والناس في هذا بين مستقلٍّ، ومستكثر، ومحروم، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، والله ذو فضل عظيم " (٢) .
ابن تيمية يبين الحاجة إلى الرسل والرسالات:
وممن جلى هذه المسألة وبينها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى
_________
(١) عجز بيت للمتنبي وصدره:
من يهن يسهل الهوان عليه
وهو في ديوانه: ٤/٢٧٧ من قصيدة يمدح بها أبا الحسن علي بن أحمد المري الخراساني.
(٢) زاد المعاد: (١/١٥) .
1 / 31
قال: " الرسالة ضرورية للعباد، لا بدَّ لهم منها، وحاجتهم إليها فوق حاجتهم إلى كل شيء، والرسالة روح العالم ونوره وحياته، فأيُّ صلاح للعالم إذا عدم الروح والحياة والنور؟ والدنيا مظلمة ملعونة إلا ما طلعت عليه شمس الرسالة، وكذلك العبد ما لم تشرق في قلبه شمس الرسالة، ويناله من حياتها وروحها فهو في ظلمة، وهو من الأموات، قال الله تعالى: (أو من كان ميتًا فأحييناه وجعلنا له نورًا يمشي به في النَّاس كمن مَّثله في الظُّلمات ليس بخارجٍ منها) [الأنعام: ١٢٢]، فهذا وصف المؤمن كان ميتًا في ظلمة الجهل، فأحياه الله بروح الرسالة ونور الإيمان، وجعل له نورًا يمشي به في الناس، وأمّا الكافر فميت القلب في الظلمات ".
وبين رحمه الله تعالى: " أن الله سمّى رسالته روحًا، والروح إذا عدم فقدت الحياة، قال الله تعالى: (وكذلك أوحينا إليك روحًا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورًا نَّهدي به من نَّشاء من عبادنا) [الشورى: ٥٢]، فذكر هنا الأصلين، وهما: الروح، والنور، فالروح الحياة، والنور النور " وبين رحمه الله تعالى: " أن الله يضرب الأمثال للوحي الذي أنزله حياة للقلوب ونورًا لها بالماء الذي ينزله من السماء حياة للأرض، وبالنَّار التي يحصل بها النور، وهذا كما في قوله تعالى: (أنزل من السَّماء ماءً فسالت أودية بقدرها فاحتمل السَّيل زبدًا رَّابيًا وممَّا يوقدون عليه في النَّار ابتغاء حليةٍ أو متاعٍ زبدٌ مثله كذلك يضرب الله الحقَّ والباطل فأمَّا الزَّبد فيذهب جفاءً وأمَّا ما ينفع النَّاس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال) [الرعد: ١٧] .
يقول شيخ الإسلام ﵀ معقبًا على الآية: " فشبه العلم بالماء المنزل من السماء لأن به حياة القلوب، كما أنَّ بالماء حياة الأبدان، وشبّه القلوب بالأودية، لأنّها محلّ العلم، كما أنَّ الأودية محل الماء، فقلب يسع علمًا كثيرًا، وواد يسع ماءً كثيرًا، وقلب يسع علمًا قليلًا، وواد يسع ماءً قليلًا، وأخبر تعالى أنَّه يعلو على السيل من الزبد بسبب مخالطة الماء، وأنّه يذهب جفاءً، أي: يرمى به، ويخفى، والذي ينفع الناس يمكث في الأرض ويستقر،
1 / 32
وكذلك القلوب تخالطها الشهوات والشبهات، ثم تذهب جفاءً، ويستقر فيها الإيمان والقرآن الذي ينفع صاحبه والناس، وقال: (وممَّا يوقدون عليه في النَّار ابتغاء حليةٍ أو متاعٍ زبدٌ مثله كذلك يضرب الله الحقَّ والباطل) [الرعد: ١٧] . فهذا المثل الآخر وهو الناري، فالأول للحياة، والثاني للضياء.
وبين ﵀ أن لهذين المثالين نظيرًا " وهما المثالان المذكوران في سورة البقرة في قوله تعالى: (مثلهم كمثل الَّذي استوقد نارًا فلمَّا أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلماتٍ لا يبصرون - صمُّ بكم عميٌ فهم لا يرجعون - أو كصيبٍ من السَّماء فيه ظلماتٌ ورعدٌ وبرقٌ يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصَّواعق حذر الموت والله محيط بالكافرين) [البقرة: ١٧-١٩] .
وبعد أن بيَّن الشيخ ﵀ وصف المؤمن، بين وصف الكافر، فقال: " وأمّا الكافر ففي ظلمات الكفر والشرك غير حيّ، وإن كانت حياته حياة بهيمية، فهو عادم الحياة الروحانية العلوية التي سببها الإيمان، وبها حصل للعبد السعادة والفلاح في الدنيا والآخرة، فإنّ الله - سبحانه - جعل الرسل وسائط بينه وبين عباده في تعريفهم ما ينفعهم وما يضرهم، وتكميل ما يصلحهم في معاشهم ومعادهم، وبعثوا جميعًا بالدعوة إلى الله وتعريف الطريق الموصل إليه، وبيان حالهم بعد الوصول إليه ".
ثم بيّن ﵀ هذه الأصول التي أشار إليها هنا فقال: " فالأصل الأول يتضمن إثبات الصفات والتوحيد والقدر، وذكر أيام الله في أوليائه وأعدائه، وهي القصص التي قصّها الله على عباده والأمثال التي ضربها لهم.
والأصل الثاني يتضمن تفصيل الشرائع والأمر والنهي والإباحة، وبيان ما يحبه الله وما يكرهه. والأصل الثالث يتضمن الإيمان باليوم الآخر، والجنّة والنار والثواب والعقاب ".
ثم بيّن أنَّ " على هذه الأصول الثلاثة مدار الخلق والأمر، والسعادة والفلاح موقوفة عليها، ولا سبيل إلى معرفتها إلاّ من جهة الرسل، فإنَّ العقل لا يهتدي إلى تفاصيلها ومعرفة حقائقها، وإن كان قد يدرك وجه الضرورة إليها من حيث
1 / 33
الجملة، كالمريض الذي يدرك وجه الحاجة إلى الطب ومن يداويه، ولا يهتدي إلى تفاصيل المرض، وتنزيل الدواء عليه " (١) .
مقارنة بين حاجة العباد إلى علم الرسل وعلم الطب:
عقد ابن القيم ﵀ في كتابه القيم «مفتاح دار السعادة» مقارنة بيّن فيها أنّ حاجة الناس إلى الشريعة أعظم من حاجتهم إلى علم الطب مع شدّة حاجة الناس إليه لصلاح أبدانهم، فحاجتهم إلى الرسالة أعظم من حاجتهم إلى غيرها من العلوم، قال: " حاجة الناس إلى الشريعة ضرورية، فوق حاجتهم إلى كل شيء، ولا نسبة لحاجتهم إلى علم الطب إليها، ألا ترى أنَّ أكثر العالم يعيشون بغير طبيب، ولا يكون الطبيب إلا في بعض المدن الجامعة، وأمَّا أهل البدو كلهم، وأهل الكفور كلّهم، وعامة بني آدم - لا يحتاجون إلى طبيب، وهم أصحُّ أبدانا، وأقوى طبيعة ممن هو متقيد بالطبيب، ولعّل أعمارهم متقاربة، وقد فطر الله بني آدم على تناول ما ينفعهم، واجتناب ما يضرهم، وجعل لكلّ قوم عادة وعرفًا في استخراج ما يهجم عليهم من الأدواء، حتى إنَّ كثيرًا من أصول الطب إنما أخذت من عوائد الناس، وعرفهم وتجاربهم.
وأمّا الشريعة فمبناها على تعريف مواقع رضا الله وسخطه في حركات العباد الاختيارية، فمبناها على الوحي المحض، والحاجة إلى التنفس فضلًا عن الطعام والشراب، لأنّ غاية ما يقدر في عدم التنفس والطعام والشراب موت البدن، وتعطل الروح عنه، وأما ما يقدر عند عدم الشريعة ففساد الروح والقلب جملة، وهلاك الأبد، وشتان بني هذا وهلاك البدن بالموت، فليس النّاس قطّ إلى شيء أحوج منهم إلى معرفة ما جاء به الرسول ﷺ والقيام به، والدعوة إليه، والصبر عليه، وجهاد من خرج عنه حتى يرجع إليه، وليس للعالم صلاح بدون
_________
(١) النصوص السابقة من هذا الحديث منقولة من مجموع فتاوى شيخ الإسلام: ١٩/٩٣-٩٦.
1 / 34
ذلك ألبتة، ولا سبيل إلى الوصول إلى السعادة والفوز الأكبر إلاّ بالعبور على هذا الجسم " (١) .
هل يمكن أن يستغني العقل عن الوحي:
يزعم الناس في عالم اليوم أنّه يمكنهم الاستغناء عن الرسل والرسالات بالعقول التي وهبهم الله إياها، ولذلك نراهم يسنُّون القوانين، ويحلُّون ويحرمون، ويخططون ويوجهون، ومستندهم في ذلك كلّه أن عقولهم تستحسن ذلك أو تقبحه، وترضى به أو ترفضه، وهؤلاء لهم سلف قالوا مثل مقالتهم هذه " فالبراهمة - وهم طائفة من المجوس - زعموا أن إرسال الرسل عبث، لا يليق بالحكيم، لإغناء العقل عن الرسل، لأنّ ما جاءت به الرسل إن كان موافقًا للعقل حسنًا عنده فهو يفعله، وإن لم يأت به، وإن كان مخالفًا قبيحًا - فإن احتاج إليه فعله وإلاّ تركه " (٢) .
ولا يجوز في مجال الحجاج والنزاع أن يبادر المسلم إلى إنكار قدرة العقل على إدراك الحسن والقبح، " فإنّ الله قد فطر عباده على الفرق بين الحسن والقبيح، وركب في عقولهم إدراك ذلك، والتمييز بين النوعين، كما فطرهم على الفرق بين النافع والضار والملائم لهم والمنافر، وركب في حواسهم إدراك ذلك، والتمييز بين أنواعه.
والفطرة الأولى: (وهي فطرته العباد على الفرق بين الحسن والقبيح) هي خاصة الإنسان التي تميز بها عن غيره من الحيوانات، وأما الفطرة الثانية (وهي فطرته للعباد على الفرق بين النافع والضار..) فمشتركة بين أصناف الحيوان " (٣) والذي ينبغي أن ينازع فيه أمور:
الأول: أنّ هناك أمورًا هي مصلحة الإنسان لا يستطيع الإنسان إدراكها
_________
(١) مفتاح دار السعادة: (٢/٢) .
(٢) لوامع الأنوار البهية: (٢/٢٥٦) .
(٣) مفتاح دار السعادة: ٢/١١٦.
1 / 35