The Lesser Art of Virtue and The Greater Art of Virtue
الأدب الصغير والأدب الكبير
ناشر
دار صادر
پبلشر کا مقام
بيروت
اصناف
مقدمة
ابن المقفع: ١٠٦-١٤٢هـ، ٧٢٤-٧٥٩م.
حياته، ومقتله
هو عبد الله بن المقفع، فارسي الأصل، كان اسمه قبل إسلامه روزبه، وكنيته أبا عمرو، فلما أسلم سمي عبد الله، وكني بأبي محمد.
ويعود لقبه بابن المقفع إلى أن أباه داذويه كان متوليًا خراج بلاد فارس من قبل الحجاج، فأخذ بعض أموال السلطان، فضربه الحجاج على يديه فتقفعتا، فلقب بالمقفع.
نشأ ابن المقفع في ولاء بني الأهتم، وهم أهل فصاحة وبلاغة، فكان لهذه النشأة تأثير عظيم فيه، وفيما إليه من درجة رفيعة في الأدب.
كتب لداود بن هبيرة، ثم لعم المنصور عيسى بن علي بن عبد الله زمن ولايته على كرمان، ثم لأخيه سليمان بن علي أيام ولايته على البصرة.
وكان في أثناء ذلك أن خرج عبد الله بن علي والي الشام على ابن أخيه المنصور، فطارده المنصور، فلجأ إلى أخويه سليمان وعيسى في البصرة، فطلبه المنصور، فأبيا أن يسلماه إياه إلا بأمان يمليان شروطه، فرضي المنصور بذلك، وعهدا إلى ابن المقفع بكتابة الأمان، فشدد فيه على المنصور تشديدا أحفظه عليه، وجعله يضمر له الشر.
1 / 5
ثم عزل المنصور عمه سليمان عن البصرة، وولى مكانه سفيان بن معاوية، فطفق ابن المقفع يسخر منه، ومن أنفه الكبير، فنقم عليه، وذات يوم دخل ابن المقفع إلى دار سفيان، ولم يخرج منها، فقد قتله سفيان، ويقال: إنه كان للمنصور رأي في قتله.
صفاته:
كان ابن المقفع مشهورًا بذكائه، وسعة علمه، حتى قيل فيه: إنه لم يكن في العجم أذكى منه، وكان كريمًا جوادًا، وافر المروءة، وقد اشتهر بحبه للصديق، وحادثته مع عبد الحميد بن يحيى كاتب الخليفة الأموي مروان بن محمد شهيرة، وكان يقول: ابذل لصديقك دمك ومالك.
وقد اتهمه حساده بالزندقة، ولكن لا شيء في كتبه يثبت هذه التهمة عليه.
كتبه:
آثار ابن المقفع الأدبية كثيرة، جمع فيها أدب الفرس إلى أدب العرب،
ومن أشهر مؤلفاته: كليلة ودمنة، وقد نقله عن الفارسية، وهو كتاب يرمي إلى إصلاح الأخلاق، وتهذيب العقول،؛ ومنها الأدب الكبير، والصغير، وهما اللذان يجمعهما هذا المجلد.
الأدب الكبير:
يعترف ابن المقفع بأنه أخذ كتابه هذا من أقوال المتقدمين، وقد قدم له بتوطئة في: فضل الأقدمين على العلم، وشروط درسه، والغرض من هذا الكتاب، وقسمه إلى مبحثين: الأول في السلطان، ومصاحبه، وما يجمل بكل منهما من الخلال، وفي هذا المبحث بابان: الأول في آداب السلطان، والثاني
1 / 6
في صحبة السلطان.
أما المبحث الثاني فقد خصه بالأصدقاء، وحسن اختيار الصديق، وحسن معاملته، وكل ما له علاقة بالأصدقاء.
الأدب الصغير:
كان ابن المقفع في الأدب الصغير ناقلًا أيضًا، فقد قال: وقد وضعت في هذا الكتاب من كلام الناس المحفوظ حروفًا، غير أنه تصرف فيما نقله، وهذا الكتاب كناية عن دروس أخلاقية اجتماعية، ترغب في العلم، وتدعو المرء إلى تأديب نفسه، ويوصي بالصديق، ويتكلم على سياسة الملوك والولاة.
أسلوبه الإنشائي:
لابن المقفع أسلوب خاص به، هو السهل الممتنع، وإننا نجد في هذا الأسلوب أفكارًا متسقة، وقوة منطق، وألفاظًا سهلة، فصيحة منتقاة، قوية المدلول على المعاني، ونجد فيه من البلاغة أرفع درجاتها، وقد كان يوصي بالابتعاد عن وحشي الألفاظ، ومبتذل المعنى، فيقول مخاطبًا أحد الكتاب: إياك والتتبع لوحشي الكلام؛ طمعًا في نيل البلاغة، فإن ذلك العي الأكبر.
وقد ساد أسلوبه، واحتذاه بلغاء الكتاب، وظل سائدا حتى ظهر أسلوب الجاحظ.
فضله على العربية:
وابن المقفع على كونه في تفكيره أعجميًا يتعصب لآداب قومه وعلومهم، فلا يرى في كتبه من العربية إلا اللغة، وقلما استشهد بشعر أو مثل أو
1 / 7
حكمة، أو أشار إلى وقائع العرب، وآرائهم، فإن فضله عظيم على العربية، فهو أول من أدخل إليها الحكمة الفارسية، الهندية، والمنطق اليوناني، وعلم الأخلاق، وسياسة الاجتماع، وأول من عرَّب، وألَّف، ورفع في كتبه النثر العربي إلى أعلى درجات الفن.
1 / 8
الأدب الصغير
بسم الله الرحمن الرحيم
قال ابن المقفع:
أما بعد، فإن لكل مخلوق حاجة، ولكل حاجة غاية، ولكل غاية سبيلًا. والله وقَّت١ للأمور أقدارها، وهيأ إلى الغايات سبلها، وسبب٢ الحاجات ببلاغها.
فغاية الناس وحاجاتهم صلاح المعاش والمعاد٣، والسبيل إلى دركها٤، العقل الصحيح، وأمارة٥ صحة العقل اختيار الأمور البصر٦، وتنفيذ البصر بالعزم.
_________
١ وقَّت: حدد وقتًا.
٢ سبب: أوجد.
٣ المعاش، والمعاد: الحياة الدنيا، والآخرة.
٤ دَركها: إدراكها.
٥ أمارة: علامة.
٦ البصر: أي البصر في الأمور، العلم بعواقبها.
1 / 11
الأدب ينمي العقول
وللعقول سجيات وغرائز١، بها تقبل الأدب، وبالأدب تسمى العقول وتزكو.
فكما أن الحبة المدفونة في الأرض لا تقدر أن تخلع يبسها، وتظهر قوتها، وتطلع فوق الأرض بزعوتها وزيعها٢، ونضرتها ونمائها، إلا بمعونة الماء الذي يغور إليها في مستودعها، فيذهب عنها أذى اليبس والموت، ويحدث لها بإذن الله القوة والحياة، فكذلك سليقة٣ العقل مكنونة في مغرزها من القلب: لا قوة لها، ولا حياة بها، ولا منفعة عندها، حتى يعتملها٤ الأدب، الذي هو ثمارها، وحياتها، ولقاحها.
وجل الأدب بالمنطق، وجل المنطق بالتعلم، ليس منه حرف من حروف معجمه، ولا اسم من أنواع أسمائه، إلا وهو مروي، متعلم، مأخوذ عن إمام سابق، من كلام أو كتاب.
وذلك دليل على أن الناس لم يبتدعوا أصولها، ولم يأتهم علمها إلا من قبل العليم الحكيم.
فإذا خرج الناس من أن يكون لهم عمل أصيل، وأن يقولوا قولا
_________
١ السجيات، الواحدة سجية: الطبيعة والخلق، الغرائز، الواحدة غريزة: الطبيعة.
٢ ريعها: نموها.
٣ السليقة: الطبيعة.
٤ يعتملها: يعملها.
1 / 12
بديعًا، فليعلم الواصفون المخبئون أن أحدهم، وإن أحسن وأبلغ، ليس زائدا على أن يكون كصاحب فصوص١؛ وجد ياقوتا، وزبرجدا ومرجانا، فنظمه قلائد وسموطا٢ وأكاليل، ووضع كل فص موضعه، وجمع إلى كل لون شبهه، وما يزيده بذلك حسنا، فسمي بذلك صانعا رفيقا، وكصاغة الذهب والفضة، صنعوا منها ما يعجب الناس من الحلي والآنية، وكالنحل؛ وجدت ثمرات أخرجها الله طيبة، وسلكت سبلا؛ جعلها الله ذللا٣، فصار ذلك شفاء وطعاما، وشرابا منسوبا إليها، مذكورا بها أمرها وصنعتها.
فمن جرى على لسانه كلام يستحسنه، أويستحسن منه، فلا يعجبن إعجاب المخترع المبتدع، فإنه إنما إجتباه كما وصفنا.
الاقتداء بالصالحين:
ومن أخذ كلامًا حسنًا عن غيره، فتكلم به في موضعه، وعلى وجهه، فلا ترين عليه في ذلك ضؤولة٤، فإنه من أعين على حفظ كلام المصيبين، وهدي للاقتداء بالصالحين، ووفق للأخذ عن الحكماء، ولا عليه أن لا يزداد، فقد بلغ الغاية، وليس
_________
١ الفصوص، الواحد فص: ما يركب في الخاتم من الحجارة الكريمة.
٢ السموط، الواحد سمط: الخيط ما دام الخرز أو اللؤلؤ منتظمًا فيه.
٣ ذللًا، الواحد ذلول: السهل.
٤ ضؤولة: أراد حطة شأن.
1 / 13
بناقصه في رأيه، ولا غامطه١ من حقه أن لا يكون هو استحدث ذلك وسبق إليه. فإنما إحياء العقل الذي يتم به، ويستحكم: خصال سبع: الإيثار بالمحبة، والمبالغة في الطلب، والتثبت في الاختيار، والاعتياد للخير، وحسن الرعي، والتعهد لما اختير واعتقد، ووضع ذلك موضعه قولًا وعملًا.
أما المحبة فإنها تبلغ المرء مبلغ الفضل في كل شيء من أمر الدنيا والآخرة حين يؤثر بمحبته، فلا يكون شيء أمرأ٢، ولا أحلى عنده منه.
وأما الطلب، فإن الناس لا يغنيهم حبهم ما يحبون، وهواهم ما يهوون عن طلبه وابتغائه، ولا تدرك لهم بغيتهم، ونفاستها في أنفسهم، دون الجد والعمل.
وأما التثبت والتخير، فإن الطلب لا ينفع إلا معه وبه، فكم من طالب رشد، وجده والغي معًا، فاصطفى منهما الذي منه هرب، وألغى الذي إليه سعي، فإذا كان الطالب يحوي غير ما يريد، وهو لا يشك في الظفر، فما أحقه بشدة التبين وحسن الابتغاء!
وأما اعتقاد الشيء بعد استبانته، فهو ما يطلب من إحراز الفضل بعد معرفته.
_________
١ غمطه حقه: نقصه إياه.
٢ أمرأ، أفعل مرأ الطعام: ساغ من غير غصص.
1 / 14
وأما الحفظ والتعهد، فهو تمام الدرك؛ لأن الإنسان موكل به النسيان والغفلة؛ فلا بد له إذا اجتبى١ صواب قول أو فعل من أن يحفظه عليه ذهنه لأوان حاجته.
وأما البصر بالمواضع، فإنما تصير المنافع كلها إلى وضع الأشياء مواضعها، وبنا إلى أهل كله حاجة شديدة، فإنا لم نوضع في الدنيا موضع غنى وخفض٢، ولكن بموضع فاقة وكد، ولسنا إلى ما يمسك أرماقنا٣ من المأكل والمشرب بأحوج منا إلى ما يثبت عقولنا من الأدب الذي به تقاوت العقول، وليس غذاء الطعام بأسرع في نبات الجسد من غذاء الأدب في نبات العقل، ولسنا بالكدِّ في طلب المتاع الذي يلتمس به دفع الضرر، والغلبة، بأحق منا بالكد في طلب العلم الذي يلتمس به صلاح الدين والدنيا.
ما وضع في هذا الكتاب:
وقد وضعت في هذا الكتاب من كلام الناس المحفوظ حروفًا فيها عون على عمارة القلوب، وصقالها، وتجلية أبصارها، وإحياء للتفكير وإقامة للتدبير، ودليل على محامد الأمور، ومكارم الأخلاق إن شاء الله!
_________
١ اجتبى: اختار.
٢ الخفض: سعة العيش.
٣ الأرماق، الواحد رمق: بقية الحياة.
1 / 15
انظر أين تضع نفسك
الواصفون١ أكثر من العارفين، والعارفون أكثر من الفاعلين.
فلينظرِ امرؤ أين يضع نفسه؛ فإن لكل امرئ لم تدخل عليه آفة نصيبًا من اللب يعيش به، لا يحب أن له به من الدنيا ثمنًا، وليس كل ذي نصيب من اللب بمستوجب أن يسمى في ذوي الألباب، ولا يوصف بصفاتهم، فمن رام أن يجعل نفسه لذلك الاسم والوصف أهلًا، فليأخذ له عتاده٢، وليعد له طول أيامه، وليؤثره على أهوائه، فإنه قد رام أمرًا جسيمًا لا يصلح على الغفلة، ولا يدرك بالمعجزة، ولا يصير على الأثرة٣، وليس كسائر أمور الدنيا وسلطانها ومالها وزينتها التي قد يدرك منها المتواني ما يفوت المثابر، ويصيب منها العاجز ما يخطئ الحازم.
جماع الصواب، وجماع الخطأ:
وليعلم أن على العاقل أمورًا إذا ضيعها، حكم عليه عقله بمقارنة الجهال.
فعلى العاقل أن يعلم أن الناس مشتركون، مستوون في الحب
_________
١ أراد بالواصفين: المكثرين الكلام.
٢ العتاد: ما أعدَّ لأمر ما.
٣ الأثرة: أن يختار المرء لنفسه أحسن الأشياء دون أصحابه.
1 / 16
لما يوافق، والبغض لما يؤذي، وأن هذه منزلة اتفق عليها الحمقى والأكياس١، ثم اختلفوا بعدها في ثلاث خصال هن جماع الصواب وجماع الخطأ، وعندهن تفرقت العلماء والجهال، والحزمة والعجزة.
الباب الأول من ذلك٢:
أن العاقل ينظر فيما يؤذيه، وفيما يسره، فيعلم أن أحق ذلك بالطلب، إن كان مما يحب، وأحقه بالاتقاء، إن كان مما يكره، أطوله وأدومه وأبقاه، فإذا هو قد أبصر فضل الآخرة على الدنيا، وفضل سرور المروءة على لذة الهوى، وفضل الرأي الجامع الذي تصلح به الأنفس والأعقاب على حاضر الرأي الذي يستمتع به قليلا، ثم يضمحل، وفضل الأكلات على الأكلة، والساعات على الساعة٣.
الباب الثاني من ذلك:
أن ينظر فيما يؤثر من ذلك، فيضع الرجاء، والخوف فيه
_________
١ الحمقى، الواحد أحمق: قليل العقل، فاسده. الأكياس، الواحد كيِّس: الحسن الفهم، والأدب، والفطنة.
٢ أراد بالباب الأول: الخصلة الأولى، وهكذا أراد بالباب الثاني والباب الثالث: الخصلة الثانية، والخصلة الثالثة.
٣ أراد عرف كيف يعزف عن ملذات الدنيا الزائلة إلى نعيم الآخرة الدائم.
1 / 17
موضعه، فلا يجعل اتقاءه لغير المخوف، ولا رجاءه في غير المدرك.
فسيتوقى عاجل الذات طلبًا لآجلها، ويحتمل قريب الأذى توقيًا لبعيده، فإذا صار إلى العاقبة، بدا له أن فراره كان تورطًا١ وأن طلبه كان تنكبًا٢.
الباب الثالث من ذلك:
هو تنفيذ البصر بالعزم بعد المعرفة بفضل الذي هو أدوم، وبعد التثبت في مواضع الرجاء والخوف، فإن طالب الفضل بغير بصر تائه حيران، ومبصر الفضل بغير عزم ذو زمانة٣ محروم.
محاسبة النفس:
وعلى العاقل مخاصمة نفسه، ومحاسبتها، والقضاء عليها، والإثابة والتنكيل بها٤.
أما المحاسبة، فيحاسبها بما لها، فإنه لا مال لها إلا أيامها المعدودة التي ما ذهبت منها لم يستخلف كما تستخلف النفقة، وما جعل منها في الباطل لم يرجع إلى الحق، فيتنبه لهذه المحاسبة
_________
١ تورط: وقع أمر مشكل، يصعب عليه الخلاص منه.
٢ التنكت: التجنب.
٣ الزمانة: العاهة، تعطيل القوى.
٤ أراد بالإثابة: مكافأة نفسه على ما عملته من عمل صالح، وبالتنكيل بها: معاقبتها على ما عملته من عمل فاسد.
1 / 18
عند الحول١ إذا حال، والشهر إذا انقضى، واليوم إذا ولى، فينظر فيما أفنى من ذلك، وما كسب لنفسه، وما اكتسب عليها في أمر الدين وأمر الدنيا، فيجمع ذلك في كتاب فيه إحصاء، وجد، وتذكير للأمور، وتبكيت للنفس، وتذليل لها؛ حتى تعترف، وتذعن.
وأما الخصومة، فإن من طباع النفس الآمرة بالسوء أن تدعي المعاذير فيما مضى، والأماني فيما بقي، فيرد عليها معاذيرها، وعللها، وشبهاتها.
وأما القضاء، فإنه يحكم فيما أرادت من ذلك على السيئة بأنها فاضحة، مردية، موبقة٢، وللحسنة بأنها زائنة، منجية، مربحة.
وأما الإثابة، والتنكيل، فإنه يسر نفسه بتذكر تلك الحسنات، ورجاء عواقبها، وتأميل فضلها، ويعاقب نفسه بالتذكر للسيئات، والتبشع بها، والاقشعرار منها، والحزن لها.
فأفضل ذوي الألباب أشدهم لنفسه بها أخذًا، وأقلهم عنها فيه فترة.
ذكر الموت:
وعلى العاقل أن يذكر الموت في كل يوم وليلة مرارًا، ذكرًا
_________
١ الحول: السنة.
٢ موبقة: مهلكة.
1 / 19
يباشر به القلوب، ويقدع الطماع١، فإن في كثرة ذكر الموت عصمة من الأشر، وأمانًا، بإذن الله، من الهلع٢
إحصاء المساوئ:
وعلى العاقل أن يحصي على نفسه مساويها في الدين، وفي الأخلاق، وفي الآداب، فيجمع ذلك كله في صدره، أو في كتاب، ثم يكثر عرضه على نفسه، ويكلفها إصلاحه، ويوظف ذلك عليها توظيفًا من إصلاح الخلة٣، والخلتين، والخلال في اليوم أو الجمعة أو الشهر.
فكلما أصلح شيئًا محاه، وكلما نظر إلى محو استبشر، وكلما نظر إلى ثابت اكتأب.
الخصال الصالحة:
وعلى العاقل أن يتفقد محاسن الناس، ويحفظها على نفسه، ويتعهدها بذلك مثل الذي وصفنا في إصلاح المساوي.
وعلى العاقل أن لا يخادن، ولا يصاحب، ولا يجاور من الناس ما استطاع، إلا ذا فضل في العلم والدين والأخلاق، فيأخذ عنه، أو موافقًا له على إصلاح ذلك، فيؤيد ما عنده، وإن لم يكن له عليه فضل.
_________
١ يقدع: يكبح. الطماح: أراد جماح النفس، وركوبها هواها.
٢ الهلع: الجزع.
٣ الخلة: الخصلة.
1 / 20
فإن الخصال الصالحة من البر١ لا تحيا، ولا تنمى إلا بالموافقين والمؤيدين، وليس لذي الفضل قريب، ولا حميم أقرب إليه ممن وافقه على صالح الخصال، فزاده، وثبته.
ولذلك زعم بعض الأولين أن صحبة بليد نشأ مع العلماء، أحب إليهم من صحبة لبيب نشأ مع الجهال.
من نسي وتهاون خسر:
وعلى العاقل أن لا يحزن على شيء فاته من الدنيا أو تولى، وينزل ما أصابه من ذلك، ثم انقطع عنه، منزلة ما لم يصب، وينزل ما طلب من ذلك، ثم لم يدركه، منزلة ما لم يطلب، ولا يدع حظه من السرور بما أقبل منها، ولا يبلغن ذلك سكرًا ولا طغيانًا، فإن مع السكر النسيان، ومع الطغيان التهاون، ومن نسي، وتهاون خسر.
إيناس ذوي الألباب:
وعلى العاقل أن يؤنس ذوي الألباب بنفسه، ويجرئهم عليها، حتى يصبروا حرسًا على سمعه وبصره ورأيه، فيستنيم إلى ذلك، ويريح له قلبه، ويعلم أنهم لا يغفلون عنه إذا هو غفل عن نفسه.
_________
١ البر: الطاعة، الصلاح، الصدق.
1 / 21
ساعة عون على الساعات:
وعلى العاقل، ما لم يكن مغلوبًا على نفسه، أن لا يشغله شغل عن أربع ساعات: ساعة: يرفع فيها حاجته إلى ربه، وساعة: يحاسب فيها نفسه، وساعة: يفضي فيها إلى إخوانه، وثقاته الذين يصدقونه عن عيوبه، وينصحونه في أمره، وساعة: يخلي فيها بين نفسه، وبين لذتها مما يحل ويجمل، فإن هذه الساعة عون على الساعات الأُخَر، وإن استجمام١ القلوب، وتوديعها٢ زيادة قوة لها، وفضل بلغة٣.
الرغبات الثلاث:
وعلى العاقل أن لا يكون راغبًا إلا في إحدى ثلاث: تزود لمعاد، أو مرمة لمعاش، أو لذة في غير محرم.
الناس طبقتان متباينتان:
وعلى العاقل أن يجعل الناس طبقتين متباينتين، ويلبس لهم لباسين مختلفين، فطبقة من العامة يلبس لهم لباس
_________
١ الاستجمام: الراحة.
توديعها: تركها وادعة مطمئنة.
٣ البلغة: ما يكفي من العيش، ولا يفضل منه.
٤ مرمة لمعاش: أي الاكتفاء بما هو ضروري للحياة.
1 / 22
انقباض وانحجاز وتحفظ في كل كلمة وخطوة، وطبقة من الخاصة يخلع عندهم لباس التشدد، ويلبس لباس الأنسة واللطفة والبذلة١ والمفاوضة، ولا يدخل في هذه الطبقة إلا واحدًا من الألف، وكلهم ذو فضل في الرأي، وثقة في المودة، وأمانة في السر، ووفاء بالإخاء.
الصغير يصير كبيرًا:
وعلى العاقل أن لا يستصغر شيئا من الخطأ في الرأي، والزلل في العلم، والإغفال في الأمور؛ فإنه من استصغر الصغير أوشك أن يجمع إليه صغيرًا وصغيرًا، فإذا الصغير كبير، وإنما هي ثلم٢ يثلمها العجز والتضييع، فإذا لم تسدَّ أوشكت أن تتفجر بما لا يطاق، ولم نر شيئًا قط إلا قد أتى من قبل الصغير المتهاون به، قد رأينا الملك يؤتى من العدو المحتقر به، ورأينا الصحة تؤتى من الداء الذي لا يحفل به، ورأينا الأنهار تنبثق من الجدول الذي يستخف به.
وأقل الأمور احتمالًا للضياع الملك؛ لأنه ليس شيء يضيع، وإن كان صغيرًا، إلا اتصل بآخر، يكون عظيمًا.
_________
١ أراد بالبذلة: إطلاع من يثق به على أسراره، وما تكنه نفسه.
٢ الثلم، الواحدة ثلمة: الخلل في الجدار، وغيره.
1 / 23
الرأي والهوى عدوان:
وعلى العاقل أن يجبن عن المضي على الرأي الذي لا يجد عليه موافقًا، وإن ظن أنه على اليقين.
وعلى العاقل أن يعرف أن الرأي والهوى متعاديان، وأن من شأن الناس تسويف الرأي، وإسعاف الهوى، فيخالف ذلك، ويلتمس أن لا يزال هواه مُسَوَفًّا ورأيه مسعفًا.
وعلى العاقل إذا اشتبه عليه أمران فلم يدر في أيهما الصواب، أن ينظر أهواهما عنده، فيحذره.
علم نفسك قبل تعليم غيرك:
ومن نصب نفسه للناس إمامًا في الدين، فعليه أن يبدأ بتعليم نفسه وتقويمها في السيرة والطعمة والرأي واللفظ والأخدان؛ فيكون تعليمه بسيرته أبلغ من تعليمه بلسانه، فإنه كما أن كلام الحكمة يونق٢ الأسماع، فكذلك عمل الحكمة يروق العيون والقلوب، ومعلم نفسه ومؤدبها أحق بالإجلال والتفضيل من معلم الناس ومؤدبهم.
_________
١ الطعمة: المكسب.
٢ يونق: يعجب.
1 / 24
أعمدة السلطان:
ولاية الناس بلاء عظيم، وعلى الوالي أربع خصال هي أعمدة السلطان١، وأركانه التي بها يقوم، وعليها يثبت: الاجتهاد في التخير، والمبالغة في التقدم، والتعهد٢ الشديد، والجزاء العتيد٣.
فأما التخير للعمال والوزراء، فإنه نظام الأمر، ووضع مؤونة البعيد المنتشر، فإنه عسى أن يكون يتخيره رجلًا واحدًا قد اختار ألفا؛ لأنه من كان من العمال خيارًا فسيختار كما اختير، ولعل عمال العامل، وعمال عماله يبلغون عددًا كثيرًا، فمن تبين التخيُّر فقد أخذ بسبب وثيق، ومن أسس أمره على غير ذلك لم يجد لبنائه قوامًا.
وأما التقديم والتوكيد، فإنه ليس كل ذي لب أو ذي أمانة يعرف وجوه الأمور والأعمال، ولو كان بذلك عارفًا، لم يكن صاحبه حقيقًا أن يكل ذلك إلى علمه، دون توقيفه عليه، وتبيينه له، والاحتجاج عليه به.
وأما التعهد، فإن الوالي إذا فعل ذلك كا سميعًا بصيرًا، وإن العامل إذا فعل ذلك به كان متحصنًا حريزًا.
وأما الجزاء فإنه تثبيت المحسن، والراحة من المسيء.
_________
١ السلطان: التسلط، والقدرة.
٢ التعهد: التفقد للشيء، والتحفظ به.
٣ العتيد: الحاضر، المهيأ.
1 / 25
بماذا يستطاع السلطان:
لا يستطاع السلطان إلا بالوزراء والأعوان، ولا ينفع الوزراء إلا بالمودة والنصيحة، ولا المودة إلا مع الرأي والعفاف١.
وأعمال السلطان كثيرة، وقليل ما تستجمع الخصال المحمودة عند أحد، وإنما الوجه في ذلك، والسبيل الذي به يستقيم العمل، أن يكون صاحب السلطان عالِمًا بأمور من يريد الاستعانة به، وما عند كل رجل من الرأي والغناء، وما فيه من العيوب.
فإذا استقر ذلك عنده عن علمه وعلم من يأتمن، وجَّه لكل عمل من قد عرف أن عنده من الرأي والنجدة٢ والأمانة ما يحتاج إليه فيه، وأن ما فيه من العيوب لا يضر بذلك، ويتحفظ من أن يوجه أحدًا وجهًا لا يحتاج فيه إلى مروءة، إن كانت عنده، ولا يأمن عيوبه، وما يكره منه.
ثم على الملوك، بعد ذلك، تعاهد عمالهم، وتفقد أمورهم، حتى لا يخفى عليهم إحسان محسن، ولا إساءة مسيء.
ثم عليهم، بعد ذلك، أن لا يتركوا محسنًا بغير جزاء، ولا يقروا مسيئًا ولا عاجزًا على الإساءة والعجز؛ فإنهم إن تركوا ذلك، تهاون المحسن، واجترأ المسيء، وفسد الأمر، وضاع العمل.
_________
١ أراد العفاف عن أموال الرعية، وأعراضها.
٢ النجدة: الشجاعة، الشدة والبأس.
1 / 26