The Legitimate Ruling on Divorce – Part of 'Al-Muallimi's Works'
الحكم المشروع في الطلاق المجموع - ضمن «آثار المعلمي»
تحقیق کنندہ
محمد عزير شمس
ناشر
دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع
ایڈیشن نمبر
الأولى
اشاعت کا سال
١٤٣٤ هـ
اصناف
الرسالة التاسعة عشرة
الحكم المشروع في الطلاق المجموع
17 / 583
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الآيات وتفسيرها:
قال الله تعالى:
١ - ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٢٨)﴾.
٢ - ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٢٩)﴾.
٣ - ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٢٣٠)﴾.
٤ - ﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٣١)﴾.
٥ - ﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (٢٣٢)﴾ [البقرة: ٢٢٨ ــ ٢٣٢].
17 / 585
٦ - ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (٤٩)﴾ [الأحزاب: ٤٩].
٧ - ﴿يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (١)﴾.
٨ - ﴿فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (٢) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (٣)﴾ [الطلاق: ١ ــ ٣] (^١).
[ص ٣] صح عن عروة بن الزبير قال: قال رجل لامرأته على عهد النبي ﵌: لا آوِيكِ ولا أدعُكِ تَحِلِّين. فقالت له: كيف تصنع؟ قال: أطلِّقك، فإذا دنا مُضِيُّ عدتِك راجعتُك، فمتى تحلِّين؟ ! فأتت النبي ﵌، فأنزل الله ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾، فاستقبله الناس جديدًا، من كان طلَّق، ومن لم يكن طلَّق" (تفسير ابن جرير ج ٢/ ص ٢٥٨) (^٢).
_________
(^١) بعدها الصفحة الثانية فارغة في الأصل.
(^٢) (٤/ ١٢٦) ط. التركي. وفيها: "لا أُؤْوِيك" بدل "لا آوِيك".
17 / 586
هذا مرسلٌ صحيحٌ (^١)، وقد رفعه بعضهم، قال: "عن عروة عن عائشة" (^٢). وله عواضد، وسيأتي بسط ذلك في البحث مع الإمام الشافعي رحمه الله تعالى.
ومفاده: أن الطلاق في أول الإسلام لم يكن له حد، فكان للرجل إذا طلَّق أن يراجع قبل مضي العدة، ثم إذا طلَّق فله أن يراجع، ثم إذا طلَّق فله أن يراجع، وهكذا أبدًا، فا تخذ بعض الناس ذلك طريقًا للإضرار بالنساء، فأنزل الله ﷾ ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ﴾ (الآيتين: ٢ - ٣ من آيات البقرة).
فقوله تعالى في الآية الأولى: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ﴾ الآية، يحتمل في نزولها ثلاثة أوجه:
الأول: أن يكون نزولها متقدمًا على نزول ما بعدها بمدة.
الثاني: أن تكون نزلت مع ما بعدها معًا.
الثالث: أن يكون نزولها متأخرًا عما بعدها في النظم.
والأول أقرب؛ لأن التقدم في النظم يُشعِر بالتقدم بالنزول، وإن لم يكن ذلك حتمًا، ولأن ظاهرها عموم استحقاق الرجعة في كل طلاق، وهذا مطابقٌ للحكم المنسوخ بما بعدها، ولمرسل عروة وعواضده، فإن ظاهره أن قوله تعالى: ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ﴾ أول ما نزل بعد شكوى المرأة، وذلك يقتضي
_________
(^١) أخرجه الترمذي عقب حديث (١١٩٢) وابن أبي شيبة في "المصنف" (٥/ ٢٦٠).
(^٢) أخرجه الترمذي (١١٩٢) والحاكم في "المستدرك" (٢/ ٢٧٩) والبيهقي في "السنن الكبرى" (٧/ ٣٣٣).
17 / 587
أن الآيتين نزلتا منفصلتين عن الآية التي قبلها، وقد ثبت تقدمُها بالدليلين الأولين.
وعلى هذا فكلمة (المطلقات) على عمومها، ولا ينافيه قوله في أثناء الآية: ﴿وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ﴾؛ لأن الآية نزلت قبل تحديد الطلاق كما سمعت، ويكون قوله تعالى: ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ ...﴾ (الآيتين) ناسخًا لبعض ما دخل في الآية الأولى، وهو استحقاق الرجعة بعد الطلاق الثالث.
وأما على الوجهين الآخرين، فيحتمل في قوله تعالى: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ﴾ أن يكون (^١) من العام المراد به الخصوص، أو من العام المخصوص، أو (^٢) أن يكون باقيًا على عمومه، ولكن الضمير في قوله: ﴿وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ﴾ أخصُّ من مرجعه، كأنه قال: "وبعولة بعضهن"، والمراد ببعضهن: المطلقات مرةً أو مرتين فقط.
وهذا الأخير ــ وإن ذكروه ــ بعيدٌ جدًّا؛ لمخالفته سنة الكلام من مطابقة الضمير لمرجعه، وتوجيهُه بإضمار "بعضهن" تعسفٌ، وهو شبيه بالاستخدام، وقد تكلمت على الاستخدام في مقالتي في بيان مَنِ المراد بقوله تعالى: ﴿وَآخَرِينَ مِنْهُمْ﴾ (^٣).
والحق في توجيه هذا أن الضمير عامٌّ كمرجعه، ولكن قد يرد التخصيص على العام باعتبار الحكم الواقع مع الضمير دون الحكم الأول،
_________
(^١) في الأصل: "تكون".
(^٢) في الأول: "و".
(^٣) انظر كلام المؤلف على المراد بهم في (ص ٣١٦ - ٣١٨).
17 / 588
فيكون الظاهر عامًّا باقيًا على عمومه، والضمير عامًّا مخصوصًا.
وعلى هذا، فالضمير مطابقٌ لمرجعه على ما هو سنة الكلام.
وإذ قد ترجح الاحتمال الأول، فلا حاجة لبسط الكلام في الاحتمال الثاني.
وأما الآية الرابعة؛ وهي قوله تعالى: ﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٣١)﴾.
ففيها احتمالان:
١ - أن تكون متقدمة النزول على الآيتين اللتين قبلها.
وعليه؛ فهي على ظاهرها من أن الطلاق تحل الرجعة بعده مطلقًا، أي: سواء في المرة الأولى، أو الثانية، أو الثالثة، وهكذا.
٢ - وتحتمل أن تكون متأخرة عنهما.
وعليه؛ فقوله: ﴿إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ﴾ من العام المراد به الخصوص، أو العام المخصوص، أو على عمومه، ولكنَّ الضمير في قوله: ﴿فَأَمْسِكُوهُنَّ﴾ أخص من مرجعه، ولكن هذا الثالث بعيدٌ، أو باطلٌ ههنا، فإن الآية إنما سيقت لأجل هذا الحكم خاصة، أعني قوله: ﴿فَأَمْسِكُوهُنَّ﴾ الآية.
17 / 589
وأما آيات سورة الطلاق؛ فيتعين فيها النزول معًا على نظمها؛ لأنها كلامٌ واحدٌ مرتبطٌ أوثقَ الارتباط.
ويبقى النظر بينها وبين قوله تعالى: ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ﴾ (الآيتين)، فإن كانت آيات سورة الطلاق نزلت قبل آيتي ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ﴾ فلا إشكال في هذا.
وإن كانت نزلت بعدُ، فتحتاج إلى تأويل، فيقال: إن قوله تعالى: ﴿إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ﴾ إما عامٌّ مرادٌ به الخصوص، وإما عامٌ مخصوص، وإما على عمومه، وإن كان التعليل بقوله تعالى: ﴿لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا﴾ يختص بمن طلقت مرةً أو مرتين فقط.
وهكذا الضمير في قوله: ﴿فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾.
والاحتمال الأول أولى؛ لتسلَم الآياتُ من مخالفة الظاهر.
ولا ينافي ما تقدم في الآية الرابعة من آيات البقرة، وما قلناه ههنا قولهم: "إن التخصيص أولى من النسخ"، فإن محله حيث لم يتحقق النسخ، وها هنا قد تحقق النسخ في الجملة كما تقدم.
فأما على قول الحنفية ومن وافقهم: أن العام المتأخر ينسخ الخاص المتقدم، فيتعين القول بتأخر نزول آيات سورة الطلاق، وإلا لزم أن يكون ناسخًا لقوله: ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ﴾ الآيتين.
17 / 590
وكذلك لا ينافيه ما جاء أن سورة البقرة نزلت قبل سورة الطلاق بمدة؛ لأن المراد فيه معظم سورة البقرة، فقد صح عن ابن عباس: "أن آخر ما نزل من القرآن آية الربا" يعني التي في سورة البقرة. رواه البخاري وغيره (^١)، وروي مثله عن عمر (^٢)، ولذلك نظائر في القرآن. انظرها في "الإتقان" (^٣).
[ص ٤] فصل
قوله تعالى: ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ﴾ "ال" للعهد، أي: الطلاق الذي تعهدونه من حيث إن من شأنه أن الرجل إذا أوقعه كان له أن يراجع.
وهذه الحيثية كانت سبب نزول الآية، كما تقدم في مرسل عروة، والذي من شأنه ما قاله ذلك الرجل، والذي تقدم ذكره في الآية السابقة، وهي قوله: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ﴾ إلى قوله: ﴿وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ﴾.
ولا ينافي هذا ما اخترناه من تقدم نزول آية ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ﴾ بمدة؛ لأنها في علم الله تعالى متصلة بها، وجعلت في النظم متصلة بها.
والعهد هنا أولى من الجنس لأمرين:
الأول: لما تقرر في الأصول: أنه إذا تحقق عهدٌ تعين المصير إليه.
الثاني: قوله: ﴿مَرَّتَانِ﴾ مع أن جنس الطلاق ــ مع صرف النظر عن المراجعة ــ ثلاث بمقتضى هاتين الآيتين.
_________
(^١) البخاري (٤٥٤٤). وأخرجه أيضًا أبو عبيد في "فضائل القرآن" (ص ٢٢٣ ــ ٢٢٤) والطبري في "تفسيره" (٥/ ٦٧)، والبيهقي في "دلائل النبوة" (٧/ ١٣٨).
(^٢) أخرجه البيهقي في "الدلائل" (٧/ ١٣٨).
(^٣) (١/ ١٨٠).
17 / 591
وقال ابن جرير (^١): "اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: هو دلالة على عدد الطلاق الذي يكون للرجل فيه الرجعة على زوجته". ثم ذكر مرسل عروة (^٢)، ومرسلًا في معناه عن قتادة (^٣)، وآخر عن ابن زيد (^٤)، ثم ذكر عن السدي (^٥) قال: "هو الميقات الذي يكون عليها فيه الرجعة". ثم ذكر أثرًا عن عكرمة (^٦).
ثم قال (^٧): "وقال آخرون: إنما أُنزِلت هذه الآية على نبي الله ﵌ تعريفًا من الله تعالى ذكرُه عبادَه سنةَ طلاقهم" (تفسير ابن جرير ٢/ ص ٢٥٨ - ٢٥٩).
وقد ذكر في موضعٍ آخر عن قتادة، ولفظه (^٨): عن قتادة قال: "جعل الله الطلاق ثلاثًا، فإذا طلَّقها واحدةً فهو أحقُّ بها ما لم تنقضِ عدتُها، وعدتها ثلاث حيض، فإن انقضت العدة قبل أن يكون راجعها، فقد بانت منه بواحدةٍ، وصارت أحقَّ بنفسها، وصار خاطبًا [من الخُطَّاب] (^٩)، فكان الرجل إذا أراد طلاق أهله نظر حَيْضَتها، حتى إذا طهرت طلَّقها تطليقة في
_________
(^١) "تفسيره" (٤/ ١٢٥) ط. التركي.
(^٢) سبق تخريجه.
(^٣) "تفسير الطبري" (٤/ ١٢٦).
(^٤) المصدر نفسه (٤/ ١٢٦).
(^٥) المصدر نفسه (٤/ ١٢٧). وأخرجه أيضًا البيهقي في "السنن الكبرى" (٧/ ٣٦٧).
(^٦) المصدر نفسه (٤/ ١٢٧). وأخرجه أيضًا ابن أبي شيبة في "المصنف" (٥/ ٢٦١).
(^٧) المصدر نفسه (٤/ ١٢٧).
(^٨) المصدر نفسه (٤/ ١٦٦).
(^٩) ما بين المعكوفتين مخروم من الأصل.
17 / 592
قُبل عدتها، عند شاهدَيْ عدلٍ، فإن بدا [له مراجعتها] راجعها ما كانت في عدتها، وإن تركها حتى تنقضي عدتها فقد بانت منه بواحدةٍ، وإن بدا له طلاقها بعد الواحدة وهي في عدتها نظر حيضتها، حتى إذا طهرت طلَّقها تطليقةً أخرى في قُبل عدتها، فإن بدا له مراجعتها راجعها، فكانت عنده [على] واحدة، وإن بدا له طلاقها طلَّقها الثالثةَ عند طهرها، فهذه الثالثة التي قال الله تعالى ذكره: ﴿فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾ " (تفسير ابن جرير ج ٢/ ص ٢٧٠) (^١).
[ص ٩ مكرر] ودل على هذا قوله تعالى: ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ﴾ ولم يقل: ثلاث، ولا وجه لذلك إلا أنه أراد الذي تكون معه الرجعة، وهو الذي عهده الناس من قبل نزول الآية، والذي تقدم ذكره.
قال تعالى: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ﴾.
قال ابن جرير (^٢): "فقال بعضهم: هو دلالة على عدد الطلاق الذي يكون للرجل فيه الرجعةُ على زوجته".
ثم استدل على ذلك بمرسل عروة وما شاكله، ثم حكى أقوالًا مضطربة، ثم روى عن الضحاك قال (^٣): "يعني تطليقتين بينهما مراجعة، فأمر أن يمسك، أو يطلق بإحسان".
_________
(^١) كتب الشيخ بعدها: "ملحق". ويقصد به الآتي.
(^٢) "تفسيره" (٤/ ١٢٥).
(^٣) المصدر نفسه (٤/ ١٣٢).
17 / 593
واعترضه ابن جرير من جهة غير ما نحن بصدده.
ثم قال ابن جرير (^١): "فبيِّنٌ أن تأويل الآية: الطلاق الذي لأزواج النساء على نسائهم فيه الرجعة مرتان، ثم الأمر بعد ذلك إذا راجعوهن في الثانية إما إمساكٌ بمعروف، وإما تسريحٌ منهم لهن بإحسان بالتطليقة الثالثة".
ثم قال (^٢) في قوله تعالى: ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾: "فقال بعضهم: دل على أنه إن طلَّق الرجل امرأته التطليقة الثالثة بعد التطليقتين اللتين قال الله تعالى ذكره فيهما: ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ﴾ فإن امرأته تلك لا تحلُّ له بعد التطليقة الثالثة حتى تنكح زوجًا غيره".
ثم أخرج (^٣) عن قتادة قال: "جعل الله الطلاق ثلاثًا، فإذا طلَّقها واحدةً فهو أحقُّ بها ما لم تنقضِ العدة، وعدتها ثلاثُ حِيَض، فإن انقضت العدة قبل أن يكون راجعها، فقد بانت منه بواحدةٍ، وصارت أحقَّ بنفسها، وصار خاطبًا من الخطاب، فكان الرجل إذا أراد طلاق أهله نظر حيضتها، حتى إذا طهرت طلَّقها تطليقةً في قُبُل عدتها، عند شاهدي عدلٍ، فإن بدا له مراجعتها راجعها ما كانت في عدتها، ... وإن بدا له طلاقها طلَّقها الثالثة عند طهرها، فهذه الثالثة التي قال الله تعالى ذكره: ﴿فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾ ".
_________
(^١) المصدر نفسه (٤/ ١٣٢).
(^٢) المصدر نفسه (٤/ ١٦٥).
(^٣) المصدر نفسه (٤/ ١٦٦).
17 / 594
ثم روى (^١) بسند ضعيف عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس يقول: "إن طلَّقها ثلاثًا فلا تحِلُّ حتى تنكح زوجًا غيره".
وأخرج عن الضحاك قال (^٢): "إذا طلَّق واحدة أو اثنتين فله الرجعة ما لم تنقضِ العدة، قال: والثالثة قوله: ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا﴾ ... ".
وعن السدي (^٣): "فإن طلَّقها بعد التطليقتين".
ثم حكى عن مجاهد (^٤) ما حاصله أن الطلقة الثالثة قد تقدمت في قوله: ﴿أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾، وقوله: ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا﴾ تفسيرٌ لذلك، كأنه قال: فإن وقع التسريح بالإحسان.
وقد قدَّم في تفسير التسريح حديث أبي رزين (^٥) قال: قال رجل: يا رسول الله! يقول الله تعالى: ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ﴾ فأين الثالثة؟ قال: "التسريح بإحسان".
وروى عن مجاهد وقتادة نحوه (^٦).
وحكى عن السدي والضحاك أنهما قالا (^٧): "الإمساك: المراجعة،
_________
(^١) المصدر نفسه (٤/ ١٦٦).
(^٢) المصدر نفسه (٤/ ١٦٧).
(^٣) المصدر نفسه (٤/ ١٦٧).
(^٤) المصدر نفسه (٤/ ١٦٧).
(^٥) المصدر نفسه (٤/ ١٣٠).
(^٦) المصدر نفسه (٤/ ١٣١).
(^٧) المصدر نفسه (٤/ ١٣١، ١٣٢).
17 / 595
والتسريح: أن يدعها حتى تمضي عدتها".
وعلى كل حال فهم متفقون أن قوله تعالى: ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا﴾ أراد به الثالثة، سواء من قال: إنه لم يتقدم لها ذكر، ومن قال: بل قد تقدم.
وهكذا ما روي عن ابن عباس ــ وإن لم يصح ــ من قوله: "إن طلَّقها ثلاثًا"، فإنه إنما أراد الثلاث التي تقدمت، وهي المرتان اللتان (^١) راجع بعد كل منهما، والتسريح.
هكذا يجب أن يُفهم، فإنه إن فُهِم على معنى: إن طلَّقها ثلاثًا دفعة واحدة، كان على خلاف سياق القرآن، وخلاف ما عليه سائر المفسرين.
[منتصف ص ٤] وقوله تعالى: ﴿مَرَّتَانِ﴾ لماذا عُدِل به عن "طلقتان"؟
عنه ثلاثة أجوبة:
الأول: أن يقال: إنما عُدِل عنه؛ لأن تكرار الحروف يوجب ثقلًا في اللفظ.
وليس هذا الجواب بشيءٍ؛ لأن التكرار هنا لا يوجب ثقلًا يعتدُّ به. وقد وقع في القرآن كثيرًا ما هو مثله، أو أدخلُ منه في شبهة الثقل، مثل ﴿مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً﴾، ﴿وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا﴾، ﴿عَاهَدُوا عَهْدًا﴾، ﴿أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا﴾، وأبلغ من ذلك قوله تعالى: ﴿وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ﴾، اجتمعت فيها سبع ميمات.
_________
(^١) في الأصل: "اللتين".
17 / 596
الثاني: ما قاله الجصاص في "أحكام القرآن" وغيره: أنه عُدِل عن "طلقتان" للدلالة على وجوب تفريق الطلاق، إما بأن يطلق واحدةً يقتصر عليها، ولا يطلق أخرى إلا إذا راجع بعد الأولى، وإما بأن يطلق عند كل طهر واحدةً، قولان لأهل العلم.
قالوا: فقوله: ﴿مَرَّتَانِ﴾ دلالة على ذلك.
قال الجصاص: "وذلك يقتضي التفريق لا محالة؛ لأنه لو طلَّق اثنتين معًا لما جاز أن يقال: طلَّقها مرتين، وكذلك لو دفع رجل إلى آخر درهمين لم يجز أن يقال: أعطاه مرتين حتى يفرق الدفع" (أحكام القرآن ج ١/ ص ٣٧٨).
بل في الطلاق نفسه لو قال قائلٌ: إن فلانًا طلَّق زوجته اليوم مرتين، لفُهِم منه التفريق، ولم يفهم منه أنه قال: أنت طالق طلقتين، أو أنت طالق أنت طالق.
ومع ذلك ففي هذا الجواب نظرٌ؛ لأنه كان الظاهر أن يقال: "ثلاث مرات"، فلماذا قال: ﴿مَرَّتَانِ﴾، ثم ذكر الطلقة الثالثة بعدُ؟
ولأن التفريق يصدق بما لو طلَّقها طلقةً، ثم بعد ساعة طلَّقها أخرى بدون تخلل رجعة، فلو أريد تفريق مخصوص، لكان الظاهر أن يقام عليه دليلٌ.
نعم، من قال: إن السنة أن يطلق طلقة واحدة، ثم يدعها حتى تنقضي عدتها، فإن راجعها في العدة ثم بدا له أن يطلق، فليطلق مرة أخرى، فله أن يجيب بأن المراد بـ ﴿مَرَّتَانِ﴾ طلاقان يعقب كلًا منهما رجعة، وهذا لا يكون ثلاثًا، وبأن في الآية دليلًا على هذا التفريق بخصوصه، وهو قوله: ﴿فَإِمْسَاكٌ
17 / 597
بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ بناءً على تفسير الإمساك بالرجعة، والتسريح بعدمها.
وفيه: أن ذلك إنما يتم لو كان المعنى: فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان بعد كل مرة، وهذا محتمل فيما حكاه ابن جرير عن الضحاك (^١) [ص ٥] قال: "يعني: تطليقتين بينهما مراجعة، فأمر أن يُمسِك أو يُسرِّح بإحسان، قال: فإن هو طلَّقها ثالثة فلا تحل له حتى تنكح زوجًا غيره".
وقد فسره ابن جرير بقوله: "وكأن قائلي هذا القول الذي ذكرناه عن السدي والضحاك ذهبوا إلى أن معنى الكلام: الطلاق مرتان، فإمساكٌ [في] كل واحدة منهما لهن بمعروف أو تسريح لهن بإحسان" (تفسير ابن جرير ج ٢/ ص ٢٦٠) (^٢).
أقول: ولفظ السدي (^٣): "إذا طلَّق واحدةً أو اثنتين إما أن يمسك ــ ويُمسك: يراجع بمعروف ــ، وإما سكت عنها حتى تنقضي عدتها، فتكون أحقَّ بنفسها".
وقوله: "واحدة أو اثنتين" أراد به على ما فهمه ابن جرير: الأولى أو الثانية، ولم يرد اثنتين لم تتخللهما رجعة.
ولكن ابن جرير رد هذا القول بحديث رواه، كما سيأتي.
_________
(^١) (٤/ ١٣٢).
(^٢) (٤/ ١٣٢).
(^٣) المصدر نفسه (٤/ ١٣٢).
17 / 598
وأقول: إن فيه بعدًا من جهة أن الظاهر في قوله: ﴿فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ أنه بعد المرتين كما تقتضيه الفاء.
الجواب الثالث: أنه إنما لم يقل: "طلقتان" إشعارًا بأنه لو قال: طلقتك وطلقتك وطلقتك، أو قال: طلقتك ثلاثًا، أو ألفًا، أو عدد ذرات العالم، كان هذا كله مرةً واحدةً، كما تقول: ضرب فلانٌ عبده اليوم مرتين، فيصدق بما لو ضربه كل مرة من المرتين ضربةً، أو ضربتين، أو ضربات.
ويحتج لهذا القول بأن الآية نزلت لإبطال ما سبق من تكرر الطلاق مع تكرر الرجعة مرارًا لا حدَّ لها، [إذ] كان لأحدهم أن يقول: أنت طالق ألفًا ثم يراجعها، ثم يقول: أنت طالق ألفًا ثم يراجعها، ثم يقول: أنت طالق ألفًا ثم يراجعها، وهكذا مرارًا لا حدَّ لها.
فقيل لهم: إن الطلاق الذي تعقبه الرجعة مرتان، لا مِرارٌ لا حدَّ لها، فالمرة الواحدة هي طلاق تعقبه رجعة، مع صرف النظر عن ذلك الطلاق أطلقةً كان أم ألفًا (^١).
وهذا جوابٌ جيد، لكنه لا يأتي إلا على قول الظاهرية والزيدية وعامة الشيعة ومن وافقهم: إن الطلاق الثلاث الذي يحرمها حتى تنكح زوجًا غيره، إنما هو طلاق يتبعه رجعة، ثم طلاق يتبعه رجعة، ثم طلاق. فأما أن يقول: طلقتك ألفًا، أو يكرر لفظ الطلاق في كلامٍ واحدٍ، أو يطلق مرارًا كثيرةً لم تتخللها رجعة، فهذا كله مرةٌ واحدةٌ.
_________
(^١) كتب المؤلف هنا: "ملحق". ويقصد به الكلام الآتي.
17 / 599
ويحتجون بالآية، والإنصاف أن ظاهرها معهم، فإنها أثبتت أن للرجل أن يطلق ثم يراجع، ثم يطلق ثم يراجع، ولم تحدّد الطلاق الواقع كل مرة.
ويحتجون بالآية الرابعة من آيات البقرة، فإنه تعالى قال: ﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ﴾ والإمساك هنا الرجعة اتفاقًا، قالوا: فأثبت لهم الرجعة بعد الطلاق، ولم يحدد الطلاق بحدّ، فهو صادق بأن يقول: طلقتك، وأن يقول: طلقتك وطلقتك وطلقتك، أو طلقتك ألفًا، أو عدد ذرات العالم، ولا حدَّدتْه بأنه أول طلاق، ولا أنه طلاق قد تقدمه طلاق ورجعة.
فإن قيل: إنك قد قدمت استظهار أن هذه الآية متقدمة على قوله: ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ﴾!
قلت: نعم، ولكن لهم أن يقولوا: إن آيتي ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ﴾ أقرت الآية الرابعة على هذا المعنى، ووافقتها عليه ــ كما تقدم ــ وإنما خالفتها في المرة الثالثة.
[ص ٥ مكرر] ويحتجون أيضًا بآيات سورة الطلاق، والكلام فيها كالكلام في الآية الرابعة من آيات البقرة سواء.
واحتج مخالفوهم بقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا﴾.
أخرج أبو داود بسندٍ صحيحٍ كما في الفتح (^١) عن مجاهد قال: "كنت
_________
(^١) (٩/ ٣٦٢). والأثر عند أبي داود (٢١٩٧).
17 / 600
عند ابن عباس فجاءه رجل، فقال: إنه طلَّق امرأته ثلاثًا، فسكت حتى ظننت أنه سيردُّها إليه، فقال: ينطلق أحدكم فيركب الأُحموقةَ، ثم يقول: يا ابن عباس! يا ابن عباس! إن الله قال: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا﴾، وإنك لم تتق الله، فلا أجد لك مخرجًا، عصيتَ ربك، وبانتْ منك امرأتك".
ويجاب عن هذا بأن هذه الجملة وردت بعد أوامر ونواهي ليس فيها النهي عن جمع الطلاق، على أن من جملة الأوامر الطلاق للعدة، ومعلوم أن من طلَّق واحدة لغير العدة لا تبين منه امرأته إجماعًا.
فهذا يدل أن المخرج في الآية ليس في خصوص عدم البينونة، فمن لم يتق الله فطلق لغير العدة، ضيَّقَ الله تعالى عليه بوجوب الرجعة، ومن لم يتق الله فقال: هي طالقٌ ثلاثًا، أو ألفًا، يُضيِّق الله عليه بأن لا تقع إلا واحدة، فإن وافق ذلك هواه ضيَّق الله عليه من جهة أخرى، كأن يوقع الخلاف بينه وبين امرأته، فيضطر إلى مفارقتها، أو يعيش معها في نَكَدٍ، أو غير ذلك.
على أننا قد قدمنا أن الظاهر أن هذه الآيات نزلت قبل النسخ، وعليه فهذه الآية تشير إلى ما تقدم قبلها في الآية ﴿فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا﴾.
فكأنه قال: إن اتقيتم الله تعالى فلم تراجعوا المطلقات إلا بمعروف، جعل الله لكم مخرجًا بأن يستمر الحكم بعدم تحديد الطلاق، وإن لم تتقوا بل أخذتم تراجعون ضرارًا، فسيضيِّق الله تعالى عليكم.
17 / 601
وقد وقع هذا الوعيد، فإنهم لما أخذوا يراجعون ضرارًا، كما في مرسل عروة، ضيَّق الله عليهم بتحديد الطلاق، والله أعلم.
هذا ما يتعلق بهذه المسألة من كتاب الله ﷿، فلننظر الآن ما يتعلق بها من السُّنَّة.
17 / 602
الأحاديث التي احتج بها من يرى أن من قال: طلقتك ثلاثًا، أو ألفًا، أو كعدد ذرَّات العالم، أو نحو ذلك، فهي مرة واحدة، تكون له بعدها الرجعة
[ص ٦] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
في "صحيح مسلم" (^١) بسندٍ على شرطهما عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس قال: "كان الطلاق على عهد رسول الله ﵌ وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر بن الخطاب: إن الناس قد استعجلوا في أمرٍ قد كانت لهم فيه أناةٌ، فلو أمضيناه عليهم. فأمضاه".
وبسندٍ آخر (^٢) على شرطهما عن ابن جريج أخبرني ابن طاوس عن أبيه أن أبا الصهباء قال لابن عباس: "أتعلم أنما كانت الثلاث تُجعَل واحدةً على عهد النبي ﵌ وأبي بكر وثلاثًا من إمارة عمر؟ فقال ابن عباس: نعم".
وبسندٍ آخر (^٣) على شرطهما عن إبراهيم بن مَيْسَرة أن أبا الصهباء قال لابن عباس: "هاتِ من هَنَاتِك! ألم يكن الطلاقُ الثلاثُ على عهد رسول الله ﵌ وأبي بكر واحدةً؟ فقال: قد كان ذلك، فلما كان في عهد عمر تَتايَعَ الناسُ في الطلاق، فأجازه عليهم".
ورجال هذه الأسانيد أئمة أثبات.
_________
(^١) رقم (١٤٧٢).
(^٢) تابع للرقم السابق.
(^٣) تابع للرقم المذكور.
17 / 603