The Last Campaign on Constantinople in the Umayyad Era
الحملة الأخيرة على القسطنطينية في العصر الأموي
ناشر
الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
ایڈیشن نمبر
السنة السادسة والثلاثون العدد (١١٢) ١٤٢٤هـ/٢٠٠٤م
اصناف
مقدمة:
الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم وصلى الله تعالى وسلم على المبعوث رحمة للعالمين؛ عربيهم وأعجميهم، أبيضهم وأسودهم، قاصيهم ودانيهم، لانتشالهم من حمأة الشرك ودرك الرذيلة والهوى إلى صفاء التوحيد ونقاء الفطرة وعبادة رب العباد تعالى وتقدس، أما بعد:
ففي خِضَمِّ منظومة قوافل التوحيد التي انطلقت في جميع الاتجاهات تحمل رسالة الإسلام وتُبلِّغ دعوته استرعى الانتباه تلكم الحملات التي اتجهت نحو عاصمة الدولة البيزنطية؛ مدينة القسطنطينية Constantinople ولاسيما الحملة (الأخيرة) في العصر الأموي في عهد الخليفة سليمان بن عبد الملك (٩٦-٩٩؟/ ٧١٥-٧١٧م) التي بذلت فيها جهود، وسخرت لها إمكانات، وخرجت فيها قوى كبيرة، وخطط لها بعناية، فكانت بحق من أشد الحملات الإسلامية خطورة على القسطنطينية في عصر بني أمية، ومع ذلك فقد عجزت عن تحقيق هدفها المنشود. وهي من أكثر الحملات ذكرًا في المصادر والروايات التاريخية؛ حتى إنها أفردت بتأليف مستقل ١، ولكن مع كثرة الروايات في المصادر التاريخية العربية عنها، فإنه يكتنفها شيء من الغموض والاضطراب وعدم الدقة، شأنها شأن بعض أحداث التاريخ الإسلامي التي تحتاج إلى إعادة نظر وتدقيق، وتوقُّفٍ عند بعض الروايات فيها لتحريرها وتمحيصها، فكان أن وفقني الله تعالى لجمع المعلومات والروايات المتعلقة بها، والنظر فيها ودراستها
_________
١ ينسب هذا الكتاب إلى عبد الله بن قيس الهمداني، انظر الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد ٩/٣٣٨، وابن عساكر، تاريخ دمشق ٢٠/١٥٣، وهو مفقود الآن، ومنه نص عند ابن عساكر في تاريخ دمشق ٩/١٦٧-١٦٩.
1 / 423
وتحليلها، وتحرير المتشابه منها، أملًا في المساهمة ولو بجهد قليل في خدمة هذا التاريخ. ولاسيما أنني تمكنت بفضل من الله تعالى من الوقوف على روايات جديدة في تاريخ دمشق لابن عساكر عن شهود عيان مشاركين في هذه الحملة أفادتني كثيرًا في تقويم الروايات، وكان هذا مما شجعني على المضي في هذا البحث، ومع أن الهدف هو دراسة الروايات العربية لكن الرجوع إلى بعض المراجع الغربية أحيانًا كان ضرورة لدعم تحرير بعض الروايات أو للمقارنة، وليتحمل القارئ معي ثقل إدراج بعض النصوص من المصادر القديمة؛ إذ أن طبيعة دراسة الروايات وتحريرها يتطلب ذلك أحيانًا.
وقد مُهّد للبحث بموجز عن أهمية مدينة القسطنطينية، والمحاولات الأولى لفتحها من قبل الأمويين، ثم بدأ بتفصيل أحداث الحملة؛ استعداداتها، انطلاقها وخط سيرها، قصة ليو١ الثالث الأيسوري Leo III The Isaurian مع المسلمين ووصوله إلى العرش البيزنطي (٧١٧-٧٤١ م)، ثم عَرَض صورًا من الروايات التي تصف أحداث الحصار والموقفَ الإسلامي والبيزنطي، ثم وضَّح كيف فُكَّ الحصار عن المدينة، ثم توقف مستقرئًا لأهم الأسباب التي أدت إلى عجز المسلمين عن فتح المدينة مرة أخرى، وكان اختتامه باستنباط وتأمل في أبرز النتائج والدروس والعبر التي تمخصت عنها هذه الحملة.
والله تعالى المؤمَّل أن يعصم من الزلل ويغفر الخطأ، فهو المستعان وعليه التكلان، وصلى الله تعالى وسلم على المصطفى وآله.
_________
١ يعرف في المصادر العربية باسم (اليون)، وهذا ما سنستخدمه في هذا البحث.
1 / 424
تمهيد عن أهمية القسطنطينية، والمحاولات الأولى لفتحها:
بدأت الحياة تدب نشيطة في هذه المدينة عندما اختارها الإمبراطور الروماني قسطنطين الكبير Consantine I (٣٠٦-٣٣٧ م) لتكون عاصمة لدولته سنة ٣٣٠ م، بعد تعميرها وبنائها في موقع قرية قديمة تعرف ببيزنطة. كان هذا المكان يتميز بموقع جغرافي فريد عند أقرب نقطة التقاء بين قارتي آسيا وأوربا في أرضية تلالية مرتفعة أشبه بالمثلث رأسه قبالة الشاطئ الآسيوي وضلعاه متساويان يمتد أحدهما شمالًا حيث القرن الذهبي١، والآخر جنوبًا حيث بحر مرمرة، وقاعدته مفتوحة برًا تجاه أوربا، ودُعِّم هذا الموقع المتميز بأسوار وتحصينات وأبراج أقيمت عليها عبر العصور، فصارت مدينة القسطنطينية من أمنع مدن العالم وأهمها، ومن ثم أصبحت مركز الثقل للإمبراطورية البيزنطية في جميع مناحي حياتها، ووقفت صامدة أمام محاولات الفتح الإسلامي لها عندما زحف الأمويون إليها وطرقوا أبوابها مرات عديدة٢.
وقد كان اهتمام الأمويين بفتح القسطنطينية ظاهرًا منذ أن توطد الملك لمعاوية بن أبي سفيان ﵁ (٤١-٦٠؟/٦٦١-٦٨٠ م)؛ إذ رأى أن الدولة البيزنطية عدو خطر اقتطع المسلمون من أملاكه بلاد الشام ومصر، لكن
_________
١ قبل اتصال مياه البسفور ببحر مرمرة يمتد داخل البر الأوربي خليج يصل طوله إلى سبعة أميال في انحناء شبيه بالمنجل أو القرن، فصار يعرف في التاريخ بالقرن الذهبي، انظر خريطة القسطنطينية في الملحق رقم ٢
٢ عن موقع القسطنطينية وأهميته انظر العيون والحدائق في أخبار الحقائق، لمؤلف مجهول ص ٢٧، والإدريسي، نزهة المشتاق في اختراق الآفاق ٢/٨٠١، وياقوت الحموي، معجم البلدان ٤/٣٤٧، وإبراهيم العدوي، الأمويون والبيزنطيون ص ١٢٣، وعبد الشافي محمد عبد اللطيف، العالم الإسلامي في العصر الأموي ص ٢٤٢-٢٤٤.
1 / 425
ظلت عاصمته وأجزاء الإمبراطورية الأخرى سليمة، ولمس هذه الخطورة في فترة الخلاف التي حدثت بينه وبين علي بن أبي طالب ﵁ (٣٥-٤٠؟/٦٥٦-٦٦٠ م)، فرسم سياسة محكمة لمواجهة خطر هذه الدولة تقوم على إشغالها بحروب متواصلة على جبهة حدودها مع الدولة الإسلامية، مع انتهاز الفرص عندما تتاح لغزو القسطنطينية ذاتها، تحفزه هو وخلفاؤه الذين جاءوا من بعده والذين ساروا على منهجه في التصميم على الفتح تلكم الأحاديث النبوية الصريحة الرافعة من شأن الفاتحين والواعدة بالمغفرة والمنزلة الرفيعة لهم، منها:
عن خالد بن معدان أن عمير بن الأسود العنسي حدثه أنه أتى عبادة بن الصامت وهو نازل في ساحة حمص، وهو في بناء له، ومعه أم حرام١، قال عمير: فحدثتنا أم حرام أنها سمعت النبي ﷺ يقول: "أول جيش من أمتي يغزون البحر قد أوجبوا"٢، قالت أم حرام: قلت: يا رسول الله: أنا فيهم؟ قالت: "أنت فيهم"، ثم قال النبي ﷺ: "أول جيش من أمتي يغزون مدينة قيصر مغفور لهم، فقلت: أنا فيهم؟ قال: لا"٣.
_________
١ أم حرام بنت ملحان الأنصارية خالة أنس بن مالك، كانت تخرج مع الغزاة، فخرجت مع زوجها عبادة لفتح قبرص فوقصتها دابتها هناك فماتت بالجزيرة، انظر عنها ابن سعد، الطبقات الكبرى ٨/٤٣٥، وابن عبد البر، الاستيعاب ٨/١٩٣١.
٢ أي أتوا بالموجبة من الحسنات فوجبت لهم الجنة.
٣ البخاري، الجامع الصحيح (كتاب الجهاد والسير، باب ما قيل في قتال الروم)، هذا وقد أخبر الصادق المصدوق ﷺ أمته بأن آخرهم سيفتحون القسطنطينية، ويستفيئون ما فيها من الأموال، ويقتلون الروم مقتلة عظيمة جدًا لم ير الناس مثلها، ولا يرون بعدها نظيرها، انظر صحيح مسلم (كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب إقبال الروم في كثرة القتل عند خروج الدجال)، وتفسير ابن كثير ١/٣٦٨. وهذا فتح آخر سيحدث مستقبلًا غير الفتح الذي تم على يد السلطان العثماني محمد الفاتح في سنة ٨٥٧؟ كما أخبر أن هذا الفتح الأخير سيكون قبل فتح المسلمين لرومية (روما)، مسند الإمام أحمد ٢/١٧٦، ومجمع الزوائد ٦/٢١٩، وقال: رجاله رجال الصحيح غير أبي قبيل وهو ثقة.
1 / 426
وعن بشر الغنوي أنه سمع النبي ﷺ يقول: لتفتحن القسطنطينية فلنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش ذلك الجيش١.
وعن بشر بن عبد الله بن يسار قال: كان عبد الله بن بسر صاحب النبي ﷺ يأخذ بأذني، ويقول: يا ابن أخي إن أدركت فتح القسطنطينية فلا تدع أن تأخذ بحظك منها٢.
فكانت هذه الأحاديث مما رفع من قيمة فتح القسطنطينية في نظرهم وشجعهم على اتخاذها هدفًا حيويًا مهمًا سعوا جادين إلى تحقيقه، وبذلوا في ذلك وسعهم وطاقاتهم رغبة في تحقق ذلك الوعد النبوي الصادق على أيديهم.
هذا وقد وصلت الجيوش الإسلامية في زمن معاوية بن أبي سفيان ﵁ إلى القسطنطينية وحاصرتها مرتين؛ وذلك بعد أن استكملت كافة الاستعدادات التي تساعد على تحقيق الهدف من الغزو٣.
كان الحصار الأول بين سنتي ٤٩-٥٠؟٤ (٦٦٩-٦٧٠ م) وشارك فيه عدد من الصحابة رضي الله تعالى عنهم٥، ويذكر شاهد عيان هو أبو عمران التجيبي أنهم صفوا أمام المدينة صفين طويلين ٦، والهدف من ذلك فيما
_________
١ الإمام أحمد، المسند ٤/٣٣٥، والهيثمي، مجمع الزوائد ٦/٢١٨، وقال: رجاله ثقات.
٢ الشيباني، الآحاد والمثاني ٣/٤٨، وأبو عمر الداني، السنن الواردة في الفتن ٦/١١٢٨.
٣ عن هذه الاستعدادات انظر عبد اللطيف، العالم الإسلامي ص٢٤٥ وما بعدها.
٤ تاريخ اليعقوبي ٢/٢٤٠، والذهبي، تاريخ الإسلام، حوادث (٤١-٦٠؟) ص ١٩، ٢١، والهيثمي، مجمع الزوائد ١٠/١١.
٥ منهم أبو شيبة الخدري، وأبو أيوب الأنصاري، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن الزبير، تاريخ الطبري ٥/٢٣٢، وتاريخ دمشق ٦٦/٢٩٠.
٦ الحاكم، المستدرك على الصحيحين ٣/٥١٨.
1 / 427
يظهر والله أعلم إرهاب العدو وبث الرعب والفزع في نفوسهم وإشعارهم أن مدينتهم واقعة تحت الحصار الفعلي، ويلاحظ على هذه الحملة أنها عادت دون أن تحقق هدفها وهو فتح القسطنطينية، لكنها نجحت في صرف همة البيزنطيين عن محارشة المسلمين والتركيز على الدفاع عن ما بحوزتهم من بلاد. وفاز هذا الجيش بفضيلة السبق لغزو هذه المدينة حيث الوعد النبوي بالمغفرة لأول جيش من المسلمين يغزو القسطنطينية١.
أما الحصار الثاني فقد تم أثناء ما عرف بحرب السنوات السبع ٢ (٥٤-٦٠؟/ ٦٧٣-٦٧٩م) حيث سارت قوة برية وبحرية نحو القسطنطينية ووصلت إليها دون مقاومة ٣، وكان المسلمون قد تمكنوا في هذه السنوات وما قبلها من فتح عدد من الجزر في بحر الروم (المتوسط) مثل قبرص Cyprus، ورودس Rhodes، وكوس Cos، وخيوس Chios، وفتحوا جزيرة أرواد Cyzicus في بحر مرمرة واتخذوها قاعدة بحرية لهم في هذه الحرب، كما فتحوا إزمير، وليكيا Lycia، وقيليقية Cilicia في آسيا الصغرى ٤، وتعرضت القسطنطينية للحصار في هذه السنوات مرات عديدة في فصول الصيف، لكن ذلك لم يؤد إلى نتائج حاسمة بسبب انقطاعه في فصول الشتاء وعدم إحكامه،
_________
١ مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ٣/٤١٣، ٤/٤٨٦، وهذا وفقًا لرواية البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، وانظر منهاج السنة النبوية ٤/٥٤٤.
٢ ابن الأثير، الكامل ٣/٢٤٦ وفيليب حتي، تاريخ العرب ٣/٢٥٢
٣ يذكر الدكتور العدوي، الأمويون ص ١٤٣ تولي عبد الرحمن بن خالد بن الوليد قيادة الحملة، ولكن ذلك وهم، لأن عبد الرحمن كان قد توفي سنة ٤٦؟، انظر تاريخ دمشق ٣٤/٣٣٤، وتاريخ الإسلام (٤١-٦٠) ص ١٦
٤ Ostrogorski، History of The Byzantine State، P. ١١١.
1 / 428
ونتيجة لهذا ولعوامل أخرى مثل موقع المدينة الجغرافي الحصين، وطبيعة التيارات المائية في سواحلها المحيطة بها، والنار الإغريقية وغيرها ١ رأى معاوية ﵁ ضرورة عودة هذه الجيوش ٢ فعادت ولم يتحقق هدفها. وكان آخر ما وصى به معاوية قبل موته: “أن شدوا خناق الروم فإنكم تضبطون بذلك غيرهم من الأمم”٣.
_________
١ فتحي عثمان، الحدود الإسلامية البيزنطية ٢/٥٠.
٢ العدوي، الأمويون ص ١٤٤-١٤٥.
٣ تاريخ خليفة بن خياط ص ٢٢٠.
1 / 429
الحملة الأخيرة على القسطنطينية في العصر الأموي
وبعد التعرف على بعض الجهود السابقة نبدأ الآن في عرض ما يتعلق بهذه المحاولة الجادة المخطط لها بعناية وإحكام، والتي بذلت فيها جهود، وسخرت فيها قوى وإمكانات، تدل على رغبة صادقة في الفتح من قبل المسلمين.
الغزو المتواصل لمدن الروم وقلاعهم وإلهاب جبهة الحدود:
لئن مات معاوية بن أبي سفيان ﵁ فإن الهدف الذي سعى إلى تحقيقه وهو فتح القسطنطينية لم يمت في نفوس أخلافه، بل ظل أملًا حيًا يراودهم متحينين الفرصة لإنجازه؛ فما أن استقرت الأمور لعبد الملك بن مروان (٦٥-٨٦؟/٦٨٥-٧٠٥ م) إذا به يوجه جهوده نحو مملكة الروم التي راق لها انشغال المسلمين عن غزوها برهة من الزمن، بسبب الفتنة حول المُلك في أعقاب وفاة يزيد ابن معاوية (٦٠-٦٤؟/٦٨٠-٦٨٣م)، فقامت بشن غارات على منطقة الثغور الشامية، مستغلة هذه الفرصة، وكان عبد الملك قد اضطر إلى عقد هدنة معها في أول حكمه إبان تثبيته الملك، لقاء مبلغ من المال يدفعه لها ١، لكن فور فراغه من ذلك دعا الناس للجهاد في سبيل الله تعالى، فوردوا عليه من جميع الآفاق، فخطب فيهم وحثهم على الجهاد في سبيل الله تعالى، ثم وجههم بعد أن استكملوا استعداداتهم إلى بلاد الروم٢، وأمر عليهم ابنه مسلمة ٣.
_________
١ تاريخ الطبري ٦/١٥٠، وكامل ابن الأثير ٤/٢، وابن العبري، تاريخ مختصر الدول ص ١٩٤، والبداية والنهاية ٨/٣١٣.
٢ ابن أعثم، الفتوح ٧/١٦٧، وابن عساكر، تاريخ دمشق ٩/١٦٧-١٦٨.
٣ مسلمة بن عبد الملك بن مروان بن الحكم الأموي، أبو سعيد، كان من أشجع أبناء عبد الملك، له آثار كثيرة في حروب الروم والخزر، ونكاية في الروم خاصة؛ حيث لازم الغزو في بلادهم سنين طويلة حالفه التوفيق في معظم تلك الغزوات، توفي سنة ١٢١؟ بالشام. انظر ترجمته في تاريخ دمشق ٥٨/٢٧ وما بعدها، وللمزيد من المعلومات عن مواهبه وخصائصه انظر جواد الأعظمي، الأمير مسلمة بن عبد الملك ص ٥، و٥٧ وما بعدها.
1 / 430
إن الناظر فيما رواه ابن أعثم عن هذه الحملة التي أعدها عبد الملك بن مروان والمتتبع لسير حركتها ينتهي به النظر إلى أن هدفها كان القسطنطينية بالذات ١، لكن ذلك ليس ثابتًا ولا محررًا؛ فلم يرد في المصادر الأصلية التي اطلعت عليها والتي ينقل بعضها عن شهود عيان٢، ولا حتى في المراجع العربية الحديثة ٣ ما يدل على طَرْق الجيوش الإسلامية للقسطنطينية بعد وفاة معاوية ﵁ حتى عهد سليمان بن عبد الملك، وأما ما قد يفهم من رواية ابن عساكر ٤ عن عبد الله ابن سعيد الهمداني من توجيه عبد الملك ابنه مسلمة في تلك الغزاة نحو القسطنطينية فيعكر عليها ما ورد في الرواية نفسها من قوله: “أردت أن أغزيكم غزاة كريمة شريفة إلى صاحب الروم اليون..” فلم يكن من أباطرة الروم المعاصرين لعبد الملك من يحمل هذا الاسم، مما يدل على أن هناك خلطًا في الرواية وتداخلًا،
_________
١ حيث ذكر أن مسلمة استمر في غزواته تلك أربع عشرة سنة، ووصل خلالها إلى القسطنطينية، وحاصرها، وبنى بإزائها مدينة القهر، واستمر هناك قاهرًا للروم إلى أن كتب إليه سليمان ابن عبد الملك معزيًا في أبيه عبد الملك وأخيه الوليد، في روايات متداخلة مضطربة بعضها أقرب إلى الأساطير منها إلى الحقائق، انظر الفتوح ٧/١٩٤-١٩٧، و٧/٢٩٨-٣٠٦.
٢ كتاريخ خليفة بن خياط ص ٢٦٧-٢٩٣، وتاريخ الطبري ٦/١٩٤-٤١٨، وابن عساكر ٢٠/١٥٣، وابن الأثير ٤/٣٣-١٠٢،، وابن كثير ٩/٧-٦١.
٣ انظر مثلًا فتحي عثمان، الحدود الإسلامية البيزنطية ٢/ ٧٢-٧٨، وما بعدها، وعاشور، أوربا العصور الوسطى ١/١١٢-١١٣، والعدوي، الأمويون.. ص ١٥١ وما بعدها، والسيد عبد العزيز سالم وزميله العبادي، تاريخ البحرية الإسلامية في حوض البحر الأبيض المتوسط ١/٣١ وما بعدها.
٤ تاريخ دمشق ٩/١٦٨.
1 / 431
وقد ذكر ابن خياط أن مسلمة قاد في عهد أبيه حملة موفقة إلى بلاد الروم فتح فيها بعض الحصون ١ يرجح أن هذا الإعداد المذكور كان لها.
وهذا لا ينفي أن عبد الملك كان مدركًا لأهمية القسطنطينية بدليل توجيهه نظر أبنائه إليها، وتمهيده هو الطريق نحوها عندما زحف بنفسه إلى إقليم قيليقية بأرض الروم، وواجه الإمبراطور البيزنطي جستنيان الثاني في فترة حكمه الأولى Justinian II (٦٨٥-٦٩٥ م) مع قواته عند مدينة سيواس Sebastopolis، وأنزل به هزيمة قاسية، مستفيدًا من العناصر السلافية في جيش الإمبراطور الحاقدة عليه والتي استمالها عبد الملك فانضمت إلى صفه، واستفادت الجيوش الإسلامية من خبرتها بالمسالك والدروب، فتابع المسلمون إغاراتهم وانتصاراتهم على المدن والحصون ٢.
إن غزو معاقل الروم على جبهة الحدود والتوغل في أراضيهم ومدنهم داخل العمق البيزنطي منذ أواخر عهد عبد الملك وطوال عهد الوليد كان هدفًا مدروسًا يراد به تحقيق عدة أمور؛ منها: تدريب القوات الإسلامية على مواجهة الروم في حروبهم ومعرفة أساليبهم القتالية، وأدواتهم، ومعرفة المسالك والدروب والطرق في بلادهم، وإزالة القوى والعقبات الواقعة في طريق زحف الجيوش الإسلامية نحو هدفها الرئيس القسطنطينية، ولذلك يلاحظ أنه لم تخل سنة من سنوات حكم الوليد (٨٦-٩٦؟/٧٠٥-٧١٥ م) من خروج جيش للغزو والجهاد، ودخول إلى بلاد الروم، وفتحٍ للمعاقل والحصون ٣.
_________
١ تاريخ خليفة ص ٢٩٣.
٢ العدوي، الأمويون ص ١٥٧، وفتحي عثمان، الحدود الإسلامية البيزنطية ٢/٧١-٧٢، وعبد اللطيف، العالم الإسلامي ص ٢٥٤.
٣ انظر مثلًا في أحداث سنة ٨٦ تاريخ الطبري ٦/٤٢٦، وفي أحداث سنة ٨٧ تاريخ خليفة ص ٣٠٤ وتاريخ الطبري ٦/٤٢٩، وفي أحداث سنة ٨٨ تاريخ خليفة ص ٣٠٥ وتاريخ الطبري ٦/٤٣٤، وفي أحداث سنة ٨٩ تاريخ خليفة ص ٣٠٥ وتاريخ الطبري ٦/٤٣٩، وفي أحداث سنة ٩٠ تاريخ خليفة ص ٣٠٦، وتاريخ الطبري ٦/٤٤٢، وفي أحداث سنة ٩١ تاريخ الطبري ٦/٤٥٤، وفي أحداث سنة ٩٢ تاريخ الطبري ٦/٤٦٨، وفي أحداث سنة ٩٣ تاريخ خليفة ص ٣٠٩، وتاريخ الطبري ٦/٤٦٩، وفي أحداث سنة ٩٤ تاريخ خليفة ص ٣١٠، وتاريخ الطبري ٦/٤٨٣، وفي أحداث سنة ٩٥ تاريخ الطبري ٦/٤٩٢، وفي أحداث سنة ٩٦ تاريخ الطبري ٦/٤٩٥. ويلاحظ أنه ما مرت سنة إلا وكان فيها غزوة أو أكثر صائفة أو شاتية، ويلاحظ أنه قام على جميع تلكم الغزوات رجال من بني أمية إما مسلمة أو أحد أبناء الوليد.
1 / 432
وكان من أهم المعاقل والحصون التي افتتحت زمن الوليد حصن الطوانة١ Tyana الذي هو بمثابة مفتاح الطريق بين الشام ومضيق البسفور ٢، على الرغم من استعصائه، واستماتة الروم في الدفاع عنه، ووصول إمدادات إمبراطورية منجدة، لكن المسلمين صدقوا الله في الجهاد فهزموهم وفتحوا الحصن والمدينة سنة ٨٨هـ ٣.
الاستعدادات البيزنطية والإسلامية والتجهيز:
تابع الوليد بن عبد الملك الضغط على الدولة البيزنطية - كما رأينا - بالغزو المتواصل للحصون والقلاع والمدن المتاخمة لبلاد المسلمين، وكان يهدف من وراء ذلك إلى صرف نظر البيزنطيين عن الهدف الرئيس الذي كان يخطط له وهو غزو عاصمتهم، وقد حالف التوفيق المسلمين في معظم غزواتهم، ودخلوا إلى الأعماق البيزنطية، مما أوقع الشك والريب في قلب الإمبراطور (أنسطاس
_________
١ حصن وبلد منيع من الحصون التي بناها الروم بثغور المصيصة، افتتحه المسلمون سنة ٨٨. معجم البلدان ٤/٤٥-٤٦.
٢ عبد اللطيف، العالم الإسلامي ص ٢٥٤.
٣ لمعرفة تفاصيل هذا الفتح انظر تاريخ دمشق ٢٦/٤٤٣-٤٤٦ فيما رواه عن ابن عائذ.
1 / 433
الثاني Anstasius II ٧١٣-٧١٦ م) ١ بأن وراء هذا النشاط العسكري ما وراءه، ولذلك أرسل سفارة في سنة ٩٥؟ (٧١٤م) تسعى إلى طلب الصلح وعقد هدنة بين الطرفين، وهدف آخر لها وهو تلمُّس ما وراء ذلك النشاط العسكري من مقاصد، والتحري في العاصمة الإسلامية عن ما يجري من إعداد لغزو العاصمة البيزنطية، ويذكر أن البعثة لم تظفر بما أعلن أنها جاءت من أجله، لكنها أدركت ما يخطط له المسلمون من غزو عاصمتهم، فعادت لتؤكد للحاكم البيزنطي صدق عزيمة المسلمين فيما ينوون من جهادهم وتنصح بضرورة اتخاذ كافة الإجراءات اللازمة للدفاع عن العاصمة وصد المسلمين عنها٢، فبادر عندئذ بالاستعداد للمواجهة؛ فكان من الإجراءات والاحتياطات التي اتخذها ما يلي ٣:
أعلن في العاصمة عن نبأ حملة مرتقبة للمسلمين يتطلب الإعداد لها التكيف معها.
على كل فرد يعيش داخل العاصمة أن يخزن لنفسه مؤونة تكفيه لمدة ثلاث سنوات.
على كل فرد غير قادر على تدبير مؤونته أن يغادر المدينة.
عُبئت الخزائن الإمبراطورية بالقمح وما يحتاجه المدافعون من طعام.
تجديد أسوار المدينة المتداعية ولاسيما المطلة منها على البحر.
تزويد الأسوار البرية بآلات الدفاع من منجنيقات وغيرها.
أمر الإمبراطور بإعداد حملة لمهاجمة سواحل الشام بقصد عرقلة استعدادات
_________
١ المسعودي، التنبيه والإشراف ص ١٦٥.
٢ عن هذه السفارة انظر العدوي، الأمويون ص ١٥٩، وفتحي عثمان، الحدود الإسلامية البيزنطية ٢/ ٨٤، ولم أجد في المصادر الإسلامية القديمة التي اطلعت عليها شيئًا عنها.
٣ عن هذه الاستعدادات ينظر الذهبي، تاريخ الإسلام (٨٠-١٠٠) ص ١٦٩، والعدوي، الأمويون ص ١٦٠، وماجد، التاريخ السياسي للدولة الأموية ص ٢٥٤ وفتحي عثمان، الحدود الإسلامية البيزنطية ٢/٨٤ وBury، Later Roman Empire، II، P. ٣٧١.
1 / 434
المسلمين أو القضاء عليها.
هذا في الوقت الذي كان يمضي فيه المسلمون قدمًا في الإعداد لغزو القسطنطينية، فبعد موت الوليد بن عبد الملك في منتصف شهر جمادى الآخرة من سنة ٩٦؟ ١تابع أخوه سليمان الإعداد والتجهيز مستغلًا الظروف السيئة التي مرت بها الإمبراطورية؛ من تعاقب الأباطرة، وضعف بعضهم، والصراع حول العرش، والثورات والفتن الكثيرة ٢، وطمع أعدائها ٣، وسوء أحوالها بعد أن سرى الفساد في جميع مرافقها وإداراتها٤، وانحطاط نظامها العسكري٥، والخلاصة أنها كانت تعيش حالة ضعف تام ٦، وكان من الإجراءات التي اتخذت في سبيل الاستعداد للحملة:
الاستمرار في غزو أراضي الروم في مناطق الحدود؛ حيث غزا داود بن سليمان الصائفة سنة ٩٧؟، فافتتح حصن المرأة ٧، وغزا مسلمة بن عبد الملك أرض الروم فافتتح بعض الحصون كبرجمة والحديد وحصن ابن عوف ٨، كما غزا عمر بن هبيرة أيضًا ٩، وذلك بهدف إلهاء السلطات البيزنطية،
_________
١ تاريخ الطبري ٦/٤٩٥.
٢ مؤلف مجهول، العيون والحدائق ص ٢٥-٢٦.
٣ ماجد، التاريخ السياسي ص ٢٤٥، ونبيه عاقل، تاريخ خلافة بني أمية ص ٢٤٦-٢٤٧.
٤ العدوي، الأمويون ص ١٦١.
٥ فتحي عثمان، الحدود الإسلامية البيزنطية ٢/٨٧، عن شاهد معاصر في سنة ٧١٥ م
٦ علي حسن، التاريخ الإسلامي العام ص ٣١٥، وانظر سعيد عاشور، أوربا العصور الوسطى ١/١١٢.
٧ تاريخ الطبري ٦/٥٢٣.
٨ تاريخ خليفة بن خياط ص ٣١٩-٣٢٠، وتاريخ الطبري ٦/٥٢٣، وكامل ابن الأثير ٤/١٤٦.
٩ المصادر السابقة نفسها.
1 / 435
والتمويه على الهدف الرئيس١.
صناعة سفن جديدة في دور الصناعة بمصر لتدعيم الأسطول البحري٢.
جُمعت أدوات الحرب من كل صنف للصيف والشتاء، وأدوات الحصار من مجانيق وغيرها، كما تزودوا بالنفط وغير ذلك ٣، بل لقد ساهمت معظم أقطار الخلافة الإسلامية فيما تحتاجه الحملة من عدة وعتاد ٤.
حُشد جيش بري كبير من أهل الشام والموصل والجزيرة ٥، وخرج مع الجيش المتطوعة المحتسبون أجرهم على الله تعالى ٦، وجماعة من الفقهاء من الشام والعراق ٧، قال أكثر المؤرخين: إن عدة الجيش. بلغت ١٢٠ ألفًا ٨.
_________
١ طقوش، تاريخ الدولة الأموية ص ١٣٠.
٢ العدوي، الأمويون ص ١٦٠.
٣ العيون والحدائق ص ٢٤.
٤ العدوي، الأمويون ص ١٦٠، وعاقل، تاريخ خلافة بني أمية ص ٢٤٦.
٥ الذهبي، تاريخ الإسلام (٨١-١٠٠) ص ٢٧٠، وابن كثير، البداية والنهاية ٩/١٧٨.
٦ البداية والنهاية ٩/١٧٥.
٧ العيون والحدائق ص ٢٥، وتاريخ دمشق ٦٤/٩٢، وانظر الأنباري، تاريخ الدولة العربية ص ٣٨٨.
٨ المسعودي، التنبيه والإشراف ص ١٦٥، والمقدسي، البدء والتاريخ ٦/٤٣، وابن العبري، تاريخ مختصر الدول ص ١٦٩، والذهبي، تاريخ الإسلام (٨١-١٠٠) ص ٢٧٠، وقال في دول الإسلام: “أزيد من مائة ألف” ص ٦٧، وفي سير أعلام النبلاء قال: “مائة ألف” ٥/١٢٥، ووردت رواية عند ابن كثير فيما رواه عن الواقدي فيها مبالغة كبيرة، قال: “جهزَّ في البر مائة وعشرين ألفًا وفي البحر مائة وعشرين ألفًا من المقاتلة”، البداية والنهاية ٩/١٧٥، لكنه عاد في ص ١٧٨ من الجزء نفسه فقال: “وهم في نحو من مائة وعشرين ألفًا”. وحتى هذا العدد الأخير يبدو لي أنه مبالغ فيه؛ إذ يصعب تحرك مثل هذا الجيش الضخم وتموينه، وقطعه مسافات شاسعة ومسالك وعرة في عمق بلاد عدو متجه إلى حربه. وأقل ما ذكر عن عدد هذا الجيش هو ٨٠ ألفًا، ابن أعثم، الفتوح ٧/٣٠٩، والعدوي، الأمويون ص ١٦٣، وعاشور، أوربا ١/١١٣.
1 / 436
أُعدّ أسطول حربي ضخم لحمل المجاهدين البحريين من مصر وأفريقية،. قدرت قطعه البحرية بألف مركب ١، أو ١٨٠٠ سفينة كبيرة عدا سفن صغيرة أخرى٢. والرواية الأولى أقرب إلى القبول لأنها عن شاهد عيان.
عَيَّنَ الخليفة سليمان أخاه مسلمة بن عبد الملك ليكون قائدًا عامًا للجيوش كلها البرية والبحرية٣، وهذا الاختيار جاء نتيجة لخبرته الحربية الطويلة في بلاد الروم منذ زمن أبيه عبد الملك، فقد عركته التجربة في بلادهم فصار من أعرف الناس بها، وكان شجاعًا مقدامًا، أما قائد الأسطول البحري فهو عمر بن هبيرة الفزاري ٤، وإن كانت بعض المراجع الحديثة ٥ تقول إن أمير البحر هو
_________
١ تاريخ دمشق ٥٠/٣٣٨، والذهبي، تاريخ الإسلام (٨١-١٠٠) ص ٢٧٠، وابن كثير، البداية والنهاية ٩/١٧٨.
٢ عاشور، أوربا ١/١١٣،والعدوي، الأمويون ص ١٦٣-١٦٤،وسالم، تاريخ البحرية ١/٣٥، وهذا أيضًا وفق المراجع الغربية انظر مثلًا Vasiliev، History of the Byzantine Empire، I، P.٢٣٦.
٣ تاريخ الطبري ٦/٥٣٠، والمسعودي، التنبيه ص ١٦٥، ومروج الذهب ٢/٤٤، وتاريخ القضاعي ص ٣٥٨،وتاريخ بغداد ٩/٣٣٨، وكامل ابن الأثير ٤/١٤٦، وتاريخ الإسلام (٨١-١٠٠) ص ٢٧٠، وسير أعلام النبلاء ٤/٥٠١، والبداية والنهاية ٩/١٧٨
٤ تاريخ خليفة بن خياط ص ٣٢١، وتاريخ اليعقوبي ٢/٣٠٠،والمسعودي، التنبيه ص ١٦٥،وابن عساكر: تاريخ دمشق ٤٥/٣٧٤، والذهبي، تاريخ الإسلام (٨١-١٠٠) ص ٢٧٠، سير أعلا م النبلاء ٤/٥٠١، والعبر في خبر من غبر ١/٨٧، والبداية والنهاية ٩/١٧٨.وهو أبو المثنى، كان أميرًا من الدهاة الشجعان، عزله عمر بن عبد العزيز عن إمارة البحر بعد القفول من القسطنطينية، ثم ولاه الجزيرة فغزا الروم، وتولى العراق ليزيد ابن عبد الملك، ثم عزله هشام. انظر عنه: تاريخ دمشق ٤٥/٣٧٣ وما بعدها.
٥ العدوي، الأمويون ص ١٦٤، وسالم، تاريخ البحرية الإسلامية ١/٣٥، وعبد اللطيف، العالم الإسلامي ص ٢٥٧، وطقوش، تاريخ الدولة الأموية ص ١٣٠.
1 / 437
سليمان [هكذا] دون تعيين، اعتمادًا على المصادر الغربية١، لكن روايات شهود العيان تؤيد القول الأول، كالليث بن تميم الفارسيّ ٢ الذي قال: “كنت ممن غزا على اسمه وعطائه بفيء عمر بن هبيرة إذ ولاه سليمان غازية البحر”٣، وقال: إن عمر بن هبيرة لم يزل على غازية البحر حتى عزله عمر بن عبد العزيز (٩٩-١٠١؟/٧١٧-٧٢٠ م) عند القفول من القسطنطينية٤، وصُرّح بإمارة ابن هبيرة على البحر في أحداث الحصار نفسها ٥.
همّ الخليفة سليمان بالإقامة في بيت المقدس لجمع الناس والأموال ٦، ولكنه عدل عنها إلى دابق ٧ شمالًا، حيث عسكر هناك ٨، ليرفع من الروح المعنوية للجند، وليكون أقرب إلى ميدان الحرب، وقد حلف أن لا يعود حتى تفتح القسطنطينية أو يموت دون ذلك ٩.
_________
١ على سبيل المثال Bury، Later Roman Empire، II، P. ٤٠١
٢ من مشيخة ساحل دمشق، ومن غزاة البحور، روى عنه الوليد بن مسلم روايات كثيرة عن مغازيه التي شارك فيها، في القسطنطينية وغيرها، انظر عنه: تاريخ دمشق ٥٠/٣٣٧ وما بعدها.
٣ ابن عساكر: تاريخ دمشق ٥٠/٣٣٧.
٤ المصدر السابق ٥٧/١٣١.
٥ المصدر السابق ٦٨/٢٣٠-٢٣١.
٦ الذهبي، تاريخ الإسلام (٨١-١٠٠) ص ٤٦٩، وسير أعلام النبلاء ٤/٥٠١.
٧ دابق: قرية قرب حلب بينهما أربعة فراسخ عندها مرج معشب نزه، معجم البلدان ٢/ ٤١٦.
٨ المصدر السابق ٢/٤١٦-٤١٧.
٩ تاريخ الطبري ٦/٥٣١، والذهبي، تاريخ الإسلام (٨١-١٠٠) ص ٤٦٩، وسير أعلام النبلاء ٤/٥٠١، ويذكر صاحب العيون والحدائق أن بعض العلماء أخبر سليمان أن الخليفة الذي يفتح القسطنطينية اسمه اسم نبي، ولم يكن في بني أمية من اسمه اسم نبي غيره، فطمع أن يكون هو، فاستعد وتحمس ص ٢٤. ولم أر فيما اطلعت عليه من كتب الحديث ما يؤيد هذا القول.
1 / 438
أخرج سليمان العطاء للجيش، وأنفق أموالًا كثيرة من الخزائن، وبين للناس غزوتهم وطولها، وأمرهم بتقوى الله، ومصابرة العدو، والتناصح والتناصف١.
أخذ مسلمة معه ما يحتاجه من مواد تساعده على إنجاح مهمته؛ من مؤن وأخشاب لإقامة بيوت تكنُّ المسلمين من شتاء القسطنطينية القارس٢.
هذا وقد جاء في رواية للواقدي ساقها كل من الذهبي٣ وابن كثير٤ أن سليمان قبل أن ينفذ الحملة استشار موسى بن نصير وأخاه مسلمة في أيِّهما يبدأ به أولًا القسطنطينية، أم ما دونها من البلاد حتى يصل إليها فيفتحها؟ فكان رأي موسى بن نصير أن يبدأ بما دونها حتى يصلها، سيرًا على سَنن الفاتحين الأولين، أما مسلمة فقد رأى أن يبدأ بالقسطنطينية أولاَ، وقد أعجب سليمان هذا الرأي فأخذ به. ويبدو أنهم كانوا على عجلة من أمرهم وإلا فإن رأي موسى كان أحكم وأصوب وأثبتت الأيام نجاحه وصوابه.
سير الحملة إلى القسطنطينية وضرب الحصار:
استدعى مسلمة بن عبد الملك بشرًا الغنوي الذي روى عن أبيه حديث رسول الله ﷺ وهو: “لتفتحن القسطنطينية ولنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش ذلك الجيش”، قال: فدعاني مسلمة بن عبد الملك، فحدثته، فغزاها٥. وكان هذا بعد أن تكامل إعداد الحملة وتجهيزها في سنة
_________
١ الذهبي، تاريخ الإسلام (٨١-١٠٠) ص ٢٧٠، وابن كثير، البداية والنهاية ٩/١٧٥، وابن دقماق، الجوهر الثمين ص ٧٠.
٢ انظر طقوش، تاريخ الدولة الأموية ص ١٣١.
٣ تاريخ الإسلام (٨١-١٠٠) ص ٢٧٠، وسير أعلام النبلاء ٤/٥٠١.
٤ البداية والنهاية ٩/١٧٤-١٧٥.
٥ البخاري، التاريخ الكبير ٢/٨١، ابن عبد البر، الاستيعاب ٨/١٧٠، وقال إسناده حسن، وانظر تاريخ دمشق ٥٨/٣٤-٣٥.
1 / 439
٩٧؟١، واتُخذت كافة الوسائل والتدابير التي تساعد على تحقيق الهدف، فتحركت الجيوش البرية من مرج دابق نحو القسطنطينية سالكة طريق مرعش ٢ من ناحية الشام ٣، ثم قطعت الدرب مجتازة مناطق الثغور الحدودية، وأفضت إلى ضواحي الروم٤، ثم واصلت زحفها حتى وصلت إلى إقليم الأناضول Anatolikon، فتوغلت فيه حتى وصلت إلى عاصمته مدينة عمورية rumiAmo، فضربت عليها حصارًا لم يلبث أن فُكَّ، بسبب اتفاق مع حاكم الإقليم ستأتي الإشارة إليه بإذن الله.
واجتازت الجيوش الإسلامية إقليم الأناضول دون مقاومة، باثة الرعب والذعر في نفوس السكان، وصار الطريق مفتوحًا أمامها، ويستشف من الروايات أن مسلمة استغرق وقتًا قبل الوصول إلى القسطنطينية، وذلك بسبب هجوم الشتاء القارس على الجيش، فشتى بضواحي الروم٥، وكانت الدوريات بقيادة أبي يحيى البطال تقوم بتأمين الجيش وحمايته من مباغتة العدو ٦.
اقترب الجيش الإسلامي من بحر القسطنطينية وفتح في طريقه مدينتي ساردس Sardis وبرغامة Pergamum الواقعتين قرب شواطئ بحر إيجه٧، وتقدم إلى أبيدس Apydos على الساحل فعسكر عندها، وبعد ستة
_________
١ تاريخ الطبري ٤/٤٤، والبداية والنهاية ٩/١٦٩.
٢ مرعش: مدينة في الثغور بين بلاد الشام وبلاد الروم إلى جانب ثغر الحدث. انظر عنها: ابن خرداذبة، المسالك والممالك ص ٢٥٣، والحموي، معجم البلدان ٥/١٠٧.
٣ العيون والحدائق ص ٢٥.
٤ تاريخ دمشق ٥٨/٢١.
٥ تاريخ خليفة بن خياط ص ٣٢١، وتاريخ اليعقوبي ٢/٣٠٠، والعيون والحدئق ص ٢٥.
٦ تاريخ دمشق ٣٣/٤٠٢، وهذه رواية مهمة انفرد بها ابن عساكر عن الوليد بن مسلم ذكر فيها أن مجموع هذه القوة عشرة آلاف.
٧ العريني، الدولة البيزنطية ص ١٨٧، وطقوش، تاريخ الدولة الأموية ص ١٣١. وأومان، الإمبراطورية البيزنطية، تعريب: مصطفى طه بدر، ص ١٤٥، وVasiliev، History of the Byzantine Empaire، I، P. ٢٣٦.
1 / 440
عشر يومًا١ وصلت مراكب المسلمين وأسطولهم البحري إلى أبيدس ومسلمة مقيم عليها عند عين ماء، عرفت فيما بعد بعين مسلمة ٢.
أما طريق سير الأسطول البحري فيروي شاهد عيان كان ضمن أفراده هو الليث الفارسي أنهم انطلقوا حتى مروا بمصر فتبعوهم فمضوا جميعًا حتى طرابلس أفريقية وعلو أرض الروم حتى إذا حاذوا القسطنطينية ساروا في بحر الشام حتى دفعوا إلى خليج القسطنطينية ٣، ومعنى هذا أن أسطول الشام توجه جنوبًا لينضم إليه أسطول مصر، ثم اجتمع الأسطول كله ليأخذ طريقًا موحدًا نحو القسطنطينية.
وعبر المسلون من أبيدس بواسطة الأسطول إلى الشاطئ الأوربي٤، وكان عرض الخليج من ذلك الموضع كما يقول صاحب العيون والحدائق غلوة سهم٥، وأثناء العبور تعرض البيزنطيون لبعض مراكب المسلمين فاختطفوها لكن تصدى لهم أحد القادة البحريين فأوقع بهم - كما في رواية شاهد العيان الليث الفارسي٦ ـ. وبعد أن تم الانتقال إلى العدوة الأوربية توجهت الجيوش نحو القسطنطينية، وعند الوصول بدأ مسلمة بتنظيم الصفوف لإحكام الحصار على المدينة من ناحية البر، وعسكر عند أحد الأبواب المهمة، ونصب المجانيق عليها٧، وأرست
_________
١ العدوي، الأمويون ص ١٦٣.
٢ المسعودي، مروج الذهب ٢/٤٤.
٣ تاريخ دمشق ٥٠/٣٣٧-٣٣٨.
٤ العيون والحدائق ص ٢٦، وتاريخ دمشق ٥٠/٣٣٩.
٥ ص ٢٦، وانظر المسعودي، مروج الذهب ٢/٤٤
٦ تاريخ دمشق ٥٠/٣٣٨-٣٣٩، وهذه الرواية مهمة لم تذكرها المصادر والمراجع الأخرى.
٧ العيون والحدائق ص ٢٧.
1 / 441
السفن على الساحل مما يلي العسكر، فصار الاتصال بين مسلمة - القائد العام - وبين ابن هبيرة - قائد الأسطول - ميسورًا ١، ثم تحرك جزء من الأسطول وفرض الحصار على المدينة من ناحية بحر مرمرة، وحاولت قطع أخرى من الأسطول عبور مضيق البسفور لمحاصرة المدينة من جهة الشمال - بعد أن أحكمت السيطرة على مدخله الجنوبي - مستغلة هبوب رياح جنوبية ساعدت على تحركها على الرغم من مواجهتها للتيارات المائية القادمة من الشمال التي تعيق السير، وكادت أن تعبر لولا تغير الرياح المفاجئ الذي أربك حركتها وعرضها للتقهقر، فاستغل الروم هذا التراجع وأمطروا السفن بنيرانهم الحربية المعروفة بالنار الإغريقية ٢، فعطبت كثير من تلك السفن، وأصيب عدد من المسلمين، وأغلق الروم مدخل القرن الذهبي بسلسلة ضخمة من الحديد ٣.
وبهذا ظلت الجهة الشمالية للمدينة مفتوحة لم يستطع المسلمون الوصول إليها أو تطويقها، مما أحدث ثغرة في الحصار مكنت البيزنطيين من الاتصال بالمناطق التي يستمدون منها بعض حاجاتهم ومؤنهم. ومع هذا فإن المسلمين حاصروا عاصمة الروم من الجهات الأخرى، وضغطوا عليها، ومنعوا أهلها من كل مرفق برًا وبحرًا ٤، وقهروهم ٥، وأحدثوا الرعب في نفوسهم؛ بما رأوا من بأس المسلمين وشدتهم، وتحملهم للصعاب.
هذا وكان من العوامل التي ساعدت المسلمين على الثبات والصبر على
_________
١ تاريخ دمشق ٥٠/٣٣٩، وهذه الرواية أيضا عن شاهد عيان.
٢ العدوي، الأمويون ص ١٦٤. والنار الإغريقية هي مادة شديدة الاشتعال تحترق حتى على سطح الماء، اكتشفها مهندس من أصل سوري من دمشق، يدعى كالينيكوس Callinicus، حتي، تاريخ العرب ص ٢٥٣.
٣ حتي، تاريخ العرب ٣/٢٥٤، وطقوش، تاريخ الدولة الأموية ص ١٣٢.
٤ العيون والحدائق ص ٢٧.
٥ تاريخ الطبري ٦/٥٣٠، والعيون والحدائق ص ٣٢.
1 / 442