The Issue of Rapprochement between Sunnis and Shiites
مسألة التقريب بين أهل السنة والشيعة
ایڈیشن نمبر
الثالثة
اشاعت کا سال
١٤٢٨ هـ
اصناف
ـ[مسألةُ التّقريب بين أهْل السُّنة والشّيعَة]ـ
المؤلف: د. ناصر بن عبد الله بن علي القفاري
الناشر: دار طيبة للنشر والتوزيع
عدد الأجزاء: ٢
الطبعة: الثالثة، ١٤٢٨ هـ
_________
[الكتاب موافق للمطبوع، ومذيل بالحواشي]
-أعده للشاملة: أسامة بن الزهراء؛ فريق عمل الشاملة -
1 / 1
هذا الكتاب - في الأصل - رسالة علمية تقدَّم بها المؤلف لنيل درجة الماجستير، وأجيزت بتقدير ممتاز، وقد سجلت بتاريخ ٦/٧/١٣٩٨هـ فلا أثر للأحداث التي جرت على الساحة فيما بعد لاختياره. وقد آثر مؤلفه أن ينشره كما كتبه في حينه من غير تعديل، وهذا ليس تنصلًا من الآراء التي يُضمِنها أو تضمنها سطوره ولكنه تقرير لأمر واقع. كما أنه تأخر في نشره حتى لا تكون مادته وسيلة لتأييد الطغاة، ولا يفسر ما جاء فيه بأنه يجري في ركب السلاطين.
1 / 3
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فإن قضية التأليف بين فصائل الأمة، والسعي في إصلاح ذات بينها وجمع شملها على الحق والهدى، ورأب صدعها، والتقريب بين فئاتها المتنازعة من أعظم أصول الإسلام العظيمة، ومن أفضل أبواب الخير والجهاد في سبيل الله.
والأمة لم تؤت من ثغرة مثل ما أُتيت من جانب فرقتها وتنازعها، والصرع بينها. ولقد كان الأعداء هم الذين يؤججون هذا الصراع، ويحصدون نتائجه، والمسلمون لا يحصدون سوى الخيبة والفشل.. إذْ لم يستطع الأعداء أن يحققوا ما يريدون من تبديد الأمة، وتشتيت شملها؛ إلا بعد أن غرسوا فسائل الفتنة والخلاف بينها، وبعد أن أوجدوا أسباب الصراع والنزاع في صفوفها. ولقد كانت محاولاتهم قديمة بدأت في عهد الدولة الإسلامية الأولى بمحاولة التفريق بين الأوس والخزرج بإثارة النعرات القومية، وبعث الأحقاد التاريخية. ولكن محاولاتهم باءت بالفشل؛ فما كان للأمة أن تختلف وفيها رسول الله ﷺ.
ولقد رأى الأعداء أن كيد الإسلام - كما يقول الإمام ابن حزم -
1 / 5
على الحيلة أنجع؛ لأنهم راموا كيد الإسلام بالمحاربة في أوقات شتى، وفي كل ذلك يظهر الله ﷾ الحق، فرأوا أن كيده عن طريق التخطيط والاحتيال والتآمر أجدى؛ فأظهر قوم منهم الإسلام، واستمالوا أهل التشيع بإظهار محبة أهل بيت رسول الله ﷺ واستشناع ظلم علي ﵁ (في زعمهم) ثم سلكوا بهم مسالك شتى حتى أخرجوهم عن الإسلام (١) .
فخرجت كثير من الطوائف التي تتسمى بالإسلام وليس لها من الإسلام نصيب، ونادت بآراء وعقائد غريبة عن الإسلام وبعيدة عن كتاب الله وسنّة رسوله ﷺ. ولقد كان لظهور هذه الأفكار والعقائد والطوائف آثار بعيدة المدى في تفريق الأُمة، وإضعاف شأنها، لأنه (إذا ترك الناس بعض ما أنزل الله، وقعت بينهم العداوة والبغضاء؛ إذ لم يبق هنا حق جامع يشتركون فيه؛ بل (تَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) (٢» (٣) . وحقق الأعداء ما يريدون، وجنوا ثمرة تآمرهم ضد المسلمين.
وكان أنكى صراع وأطول نزاع.. وأخطر اختلاف: ما حصل بين أهل السنّة والشيعة.. فلقد شهد التاريخ أحداثًا دامية تمثلت في الصراع العنيف الذي دار بين الطائفتين، واستمر قائمًا ... يزداد أو يخف على اختلاف المراحل التاريخية.. وإلى يومنا هذا، يشتد الصراع ويزداد لهيبه، ويبدو أن الأعداء يريدون أن يستثمروا الخلاف بين أهل السنّة والشيعة، بتوسيع نطاقه، وتأجيج حدته ليحققوا مكاسب أكبر.
_________
(١) انظر «الفصل»: (٢/١٠٨ - ١٠٩) .
(٢) المؤمنون: آية ٥٣.
(٣) «مجموع الفتاوى» لشيخ الإسلام ابن تيمية: (١٣/ ٢٢٧) .
1 / 6
وقد عرف الأعداء أن فرصتهم لتحقيق مطامعهم وآمالهم الدموية لا تواتيهم إلاّ في جوٍّ تخيم عليه كآبة الفرقة، وتتطاول فيه ألسنة لهيب التصارع، لذلك دأبوا على مواصلة إمداد نيران النزاع بوقود الفتن. وإذا كانت محاولات التأليف بين الفرقاء قد نشطت من قديم فهي الأخرى لم تسلم من كيد الأعداء؛ إذ نجد أن مسألة التقريب والتأليف والوحدة استُغلت لإعطاء الباطل صفة الشرعية.. ومنح الدخيل من الأفكار صفة الأصيل، لتبقى بذور الفتنة وأُسس الخلاف بين الأُمة لتشتعل في أي لحظة يراد لها.
ولا شك أن الإسلام قد رسم للأُمة طريق وحدتها، قال تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ...) (١)، فهو اعتصام بحبل الله واجتماع على هدى الله ... وما حصلت الفرقة إلا بالبعد عن هذا "المنهج".
وقد بيّن القرآن الكريم المنهج الذي يلجأ إليه المسلمون عند التنازع والاختلاف، قال تعالى: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ) (٢)، (قال العلماء: إلى كتاب الله وإلى نبيّه ﷺ، فإن قبض فإلى سنّته) (٣) .
وإن نشب صراع وقامت معارك فالله يقول: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ) (٤) .
لكن هذا "المنهج" خاص بالمسلمين الذين يهتدون بهدى الله، أما من يتسمى بالإسلام وهو ضد الإسلام فإنه يجب كشفه لتعرف الأمة
_________
(١) آل عمران: آية ١٠٣.
(٢) النساء: آية ٥٩.
(٣) «التمهيد» لابن عبد البر: (٤/٢٦٤) .
(٤) الحجرات: آية ٩.
1 / 7
عداوته، ولا يجدي معه سلوك هذا السبيل.
وفي هذا العصر قامت محاولات كثيرة للتقريب بين أهل السّنة والشيعة، كمحاولة جماعة التقريب بين المذاهب الإسلامية في القاهرة وغيرها. وهذه المحاولات مبنيّة على: (أنه لا خلاف بين أهل السنّة والشيعة في شيء من أصول الإيمان، أو أركان الإسلام أو ما عُلم من الدين بالضرورة) (١)؛ وإنما هو خلاف في بعض المسائل الفلسفية والآراء الكلاميّة التي لا صلة لها بأصول العقيدة (٢)، أو لا خلاف بينهم أصلًا إلا في بعض مسائل الفروع (٣)، والصراع والخلاف بينهما إنما صنعته الأوهام نتيجة العزلة الطويلة بين الطائفتين (٤)، وأخذ العدو يؤيد هذا الخلاف ويؤججه، والواقع أنه لا اختلاف بين الطائفتين عند الدراسة والتحقيق: (فمن الممكن أن يتقارب المسلمون فيعلموا أن هناك فرقًا بين العقيدة التي يجب الإيمان بها، وبين المعارف الفكرية التي تختلف فيها الآراء دون أن تمس العقيدة، ويومئذ يهون الأمر فنجتمع على ما نجمع عليه، وإذا اختلفنا لم يكن خلافنا إلا كما يختلف أهل المذاهب الفقهية دون خصام ولا اتهام ودون توجس واسترابة وسوء ظن مما يجعلنا متقاطعين في معاملاتنا ومصاهراتنا وثقافاتنا) (٥)، (والقطيعة بين المسلمين أوجدت
_________
(١) دعوة التقريب من خلال رسالة الإسلام: ص ٧.
(٢) انظر فتوى شلتوت في ملحق الوثائق.
(٣) محمد حسين آل كاشف الغطاء، «رسالة الإسلام»، السنة الأولى، العدد الأول: (ص ٢٢ - ٢٣) .
(٤) مقدمة كتاب «الدعوة الإسلامية إلى وحدة أهل السنّة والإمامية» لمحمد جواد مغنية (والكتاب للخنيزي) .
(٥) رسالة الإسلام «مجلة دار التقريب» السنة الأولى، العدد الأول، ١٣٦٨ هـ، مجلد ١ ص ٩٣ (صوت التقريب) .
1 / 8
حجبًا كثيفة لا بد لرفعها من دعوة تنظم الجهود، ودعاة مخلصين يبذلون غاية الجهد لتعريف كل طائفة بما عند غيرها..) (١) .
وبناء على هذا "الحكم" - بأنه لا خلاف بين الفريقين - طالب الشيعة باعتبار مذهبهم مذهبًا خامسًا، وأصدر شلتوت "فتواه" بجواز التعبد بالمذهب الجعفري (٢)، ونَشَر الشيعة في ديار السنّة بعض كتبهم الفقهية، ودعا بعض المنتسبين للسنّة برجوع السنّة إلى كتب الشيعة في الحديث كما يرجعون إلى صحيح البخاري وغيره من كتب السنّة، كما قام بعضهم بتحقيق بعض كتب الشيعة في ديار السنّة ونشرها. وقيل وفُعل الكثير في هذا الباب مما يطول وصفه وتسجيله. ولم يحصل شيء من ذلك في ديار الشيعة، وكأن التقصير في مسألة التقريب هو من جانب السنّة.
وكان لا بد من دراسة "مسألة التقريب" دراسة علمية موضوعية توضح الرؤية وتبيّن الطريق.. ليكون التقريب - إن أمكن - على بيّنة ومنهج واضح.. وسبيل راشد.. فإن دعوى عدم وجود خلاف إنما هي أمل يرجوه كل مسلم، ويستبشر بحصوله كل مؤمن، وهؤلاء الدعاة للتقريب يزفون لنا البشرى بأنه لا وجود للخلاف الأساسي أصلًا.
وما قاله علماء الفرق، وأئمة العقيدة والدين.. هو مجرد وهم من الأوهام.
وكما أن الاجتماع والتآلف إنما هو كسب عظيم ونجاح كبير للأمة في حاضرها ومستقبلها، فإن دعوى عدم وجود خلاف أساسي على الرغم من وجوده أمر خطير، لأن هذه "فتوى" وحكم على الضلال
_________
(١) محمد تقي القمي في مقدمته لكتاب «بين السنّة والشيعة» للدكتور سليمان دنيا.
(٢) انظرها في ملحق الوثائق.
1 / 9
والباطل بالإسلام. وهذا باب من أبواب الصد عن دين الله وشرعه؛ لأن أصحاب ذلك الضلال إذا ظنوا أن ما هم عليه من باطل هو الإسلام، ثم رأوا ذلك فاسدًا في العقل، شكوا في الإسلام كله.. وذهبوا يبحثون عن «مذاهب وعقائد» أُخرى.. ومن هنا فلا بد أن يكون هذا الحكم قائمًا على بيّنة.. لأن التستر على الخلاف لا يؤدي إلى إزالته، بل يؤدي لاستمراره واستفحاله.. ومحاولة المريض إيهام نفسه بالسلامة تجرُّه إلى مدرجة الهلكة، ودس الرؤوس في الرمال تعاميًا عن الحقيقة خير من مواجهتها مهما كانت صعبة مرة.. والدين النصيحة، لذا كان خير الطرق معرفة "واقع الأمر" و"حقيقة المشكلة" والبحث عن الحل لذلك.
إنه من الضروري أن تتكاتف جهود الباحثين المخلصين لكشف أسباب الخلاف وأُصوله، وإماطة اللثام عن الباطل الذي حاول المغرضون التلبيس به على الناس، ورفع الستار عن الأعداء.. الذين يزرعون الخلاف ويبغون في الأمة الفرقة والفشل.
لهذا سأحاول في هذه "الدراسة":
التعرف على أُصول الخلاف وأُسسه، ورأي دعاة التقريب في ذلك. وبعد ذلك سأعرض لمحاولات التقريب، والجهود المبذولة لرفع الخلاف مع التقويم لها، ثم أُبيّن هل هناك طريق ناجح لحل الخلاف.
وقد بدأْت الدراسة لـ "مسألة التقريب" بالتعريف بأهل السنّة وبالشيعة، وبيان أُسس الخلاف بينهما ومظاهره، وهذا أمر أساسي في بحث "مسألة التقريب"، فالحكم على الشيء فرع عن تصوره، وكيف نحكم في مسألة التقريب ما لم نعرف السنّة والشيعة؟ وهل نستطيع أن نصل إلى معرفة حقيقية لإمكانية التقريب أو عدمه قبل دراسة أُصول الخلاف بين الاتجاهين؟
فدراسة ذلك ركن أساسي في بحث "مسألة التقريب"، لهذا جعلت ذلك في بابين:
الباب الأول: أهل السنّة ويشمل: التعريف بأهل السنّة ومصادرهم
1 / 10
في تلقي العقيدة، ومجمل عقائدهم التي خالفتها الشيعة؛ أدرس ذلك من خلال كتب أهل السنّة.
وقد يقول قائل: إذا كانت الشيعة تحتاج إلى تعريف.. فهل يحتاج أهل السنّة إلى ذلك؟ وهل من المناسب جعل المتمسك بالحق مساويًا للمخالف المنشق، وجعل "السنّة" معادلة للنزعات التي انشقت عنها؟
وأقول: إن مثل هذا القول قد يقوله "شيعي" أيضًا، فالشيعة يزعمون لأنفسهم أن مذهبهم هو الحق.. وقضية التعريف بالطائفتين، وبيان أُصول الخلاف بينهما لا تعني المعادلة والمساواة بحال، فلكلٍّ وجهة ولكلٍّ عقيدة.. والسنّة بحاجة إلى من يعرف بعقيدتها وبنشرها.. ولا سيما في هذا الزمن الذي استحكمت فيه غربة السنّة واستفحل الكيد لها.
وقد يكون هذا التعريف ليس لأهل السنّة، بل للشيعة الذين يقرؤون عن صورة لأهل السنّة مغايرة للحقيقة.
وقد يكون الحكم بأنه لا خلاف بين السنّة والشيعة بناء على "تصوير خاطئ" لأهل السنّة في كتب الشيعة، فكان لا بد من بيان الحقيقة ولو على سبيل الإيجاز.
وفي الباب الثاني: درست الشيعة؛ بالتعريف بهم، وبيان نشأتهم وأصول فرقهم. ثم خصصت أُصول فرقهم المعاصرة "الإسماعيلية، والزيدية، والاثني عشرية" بالدراسة والتقويم، لأن كل طائفة من هذه الطوائف نادى بعض أتباعها بالتقريب.
وانتهيت إلى اعتماد "الاثني عشرية الرافضة" بالدراسة التفصيلية لأنها استوعبت بمصادرها الثمانية في الحديث معظم آراء فرق الشيعة. كما سيأتي تفصيل ذلك. فضلًا عن أنها تمثل غالبية الشيعة حتى قيل أن
1 / 11
مصطلح "الشيعة"، إذا أُطلق فلا ينصرف إلا إليهم.. وأنها هي الفئة التي نشطت في الدعوة للتقريب، وبثت دعاتها ونشرت كتبها، وأقامت بعض المراكز لهذا الغرض.
فدرست عقيدة "الرافضة" في أصول الإسلام المتفق عليها بين المسلمين: الكتاب، والسنّة، والإجماع. ثم عقائدها الأخرى التي خالفت فيها أهل السنّة، وهي: الإمامة، والعصمة، والتقية، والرجعة، والغيبة، والبداء، واعتقادهم في الصحابة.
ثم في نهاية هذين البابين بينت "النتيجة" لدراستنا لأهل السنّة والشيعة وذلك بالحكم على "مسألة التقريب"، ولم أتوقف عند هذه "النتيجة" بل عقدت بابًا كاملًا لآراء دعاة التقريب في أصول الخلاف التي عرضت لها فيما يتصل بمذهب الشيعة، وفيما يتصل بمذهب أهل السنّة. وناقشت ذلك كله، وذلك لنرى هل تغير شيء من أصول الخلاف وأُسسه من خلال دعوة التقريب، بحيث أصبح لا يوجد خلاف بين الفريقين إلا في بعض مسائل الفروع؟ أم أن الأمر غير ذلك؟
لهذا اعتمدت في هذا الباب على آراء المعاصرين كما اعتمدت فيما قبل ذلك - في الغالب - على أحاديثهم عن "معصوميهم" وأقوال علمائهم السابقين.
وفي الباب الرابع: تحدثت في الفصل الأول عن أهم المحاولات القديمة والمعاصرة للتقريب، وقدمت تقويمًا موجزًا عن تلك المحاولات، على ضوء الدراسة السابقة.
ثم في الفصل الثاني عقدت مبحثًا بعنوان: "هل من طريق للتقريب؟ " عرضنا وناقشت فيه أهم الأقوال، والطرق المتصورة لتحقيق التقريب وإزالة الخلاف، ثم بينت "الرأي المختار" في ذلك.
1 / 12
وفي بداية دراستي تلمست ما أمكنني من وسائل للوصول إلى المصادر الأصيلة للموضوع، والتعرف على حقائقه من أصولها. ولقد لاقيت صعوبات فيما يتصل بالوصول إلى مراجع الشيعة وكتبها المعتبرة، فكان عليَّ أن أسافر لهذا الغرض وغيره. فسافرت إلى مصر حيث "دار التقريب" وتمكنت - بواسطة فضيلة الشيخ عبد العزيز عيسى وزير الأزهر سابقًا، ومدير مجلة دار التقريب "دراسة الإسلام" - من دخول دار التقريب التي كانت موصدة الأبواب، ولا أثر لأي نشاط فيها - إبّان زيارتي لها - وقد أفدت من مكتبتها. ولبثت أتردد عليها أيامًا. كما أهدى إليَّ فضيلة الشيخ بعض منشورات الدار مثل "قصة التقريب" و"معالم التقريب" و"دعوة التقريب" كما أعارني كافة مجلدات رسالة الإسلام "مجلة دار التقريب" البالغة ستة عشر مجلدًا، وقد أفدت من ذلك في الحديث عن محاولة دار التقريب وتقويمها - فجزى الله عني الشيخ خيرًا -.
كما حاولت أن ألتقي ببعض شيوخ مصر الذين عايشوا حركة التقريب سواء كانوا مؤيدين أو معارضين، فكما التقيت بالشيخ عبد العزيز عيسى مدير مجلة دار التقريب زرت الشيخ محمد حسنين مخلوف - مفتي مصر سابقًا - وهو من المعارضين. وقد أملى عليّ رأيه في ذلك. كما زرت مكتبة الشيخ محب الدين الخطيب الذي كان ﵀ الوجه المعارض بشدة لهذه القضية واطلعت على ما في مكتبته من كتب الشيعة.
كما زرت "الأزهر" و"مجمع البحوث الإسلامية" للإفادة منهما فيما يتصل بموضوعي.
وسافرت إلى الكويت، وزرت بعض الجمعيات الشيعية هناك، وكان
1 / 13
لي جلسة طويلة مع مجموعة كبيرة من أعضائها وأهدوا إليّ بعض نشراتهم في هذا المجال، كما زرت بعض مكتبات المساجد الخاصة بالشيعة في الكويت، وكما حصلت على ما يوزعونه من كتب للدعاية لمذهبهم.
ومن الكويت اتجهت إلى العراق، وهناك أفدت كثيرًا حيث حصلت واطلعت على طائفة من كتب الشيعة المعتمدة، أمثال كتب: الكليني، والقمي، والحر العاملي، والمجلسي وغيرهم. كما حصلت على صورة من النسخة الخطيّة لكتاب «فصل الخطاب في تحريف كتاب رب الأرباب»، وتوفر لدي هناك طائفة من كتابات شيوخ الشيعة ومراجعها المعاصرين، أمدتني بمعلومات مهمة فيما يتصل بالباب الثالث وهو "آراء دعاة التقريب في أسس الخلاف"، كما حصلت على مجموعة من النسخ الخطيّة المصورة لعلماء أهل السنّة مثل: «التحفة الاثني عشرية» - الأصل، وهو في أكثر من ألف صفحة - و«السيوف المشرقة» و«نقض عقائد الشيعة» و«كشف غياهب الظلمات» وغيرها.
كما زرت أماكن تعبُّد الشيعة في "الكاظمية" و"النجف" وغيرهما.
وزرت مكتبة شيخ الشيعة الخالصي الذي يتزعم الدعوة للوحدة الإسلامية والتقيت ببعض أولاده، وأهدوا إليّ نشرات أبيهم في هذا الموضوع.
ومن العراق سافرت إلى باكستان والتقيت ببعض علماء السنّة المعنيّين بقضية الشيعة في كراتشي، ولاهور، وفيصل آباد. وأخص منهم بالذكر والشكر العلامة محمد عبد الستار (١) الذي فتح لي مكتبته
_________
(١) المشهور بصاحب تونسوي، وقد ألف مجموعة من الرسائل في الرد على الشيعة من خلال كتبها باللغة الأردية مثل: «رسالة شان صديق أكبر»، و«شان فاروق أعظم» وغيرهما.
1 / 14
الخاصة بالشيعة، وأطلعني على الفهرس الخاص الذي وضعه لها والمتضمن لركائز الغلو عند الشيعة - والرد عليها من خلال كتبهم، كما أهدى إليّ رسائله في الرد على الشيعة فجزاه الله خيرًا -.
هذه لمحة عما قمت به في محاولة استكمال المادة العلمية لهذا الموضوع الخطير.
أما الدراسة التحليلية للمصادر فإن ضيق المجال، وتضخم البحث واتساع شعبه، يحول دون استعراضه. وحسبي أن أقول: إنني درست الشيعة من خلال مصادرهم الخاصة بهم والمعتبرة عندهم، وذلك من أجل الوصول إلى تصور سليم عنهم، وفق منهج عادل غير متحامل عليهم ولا متعصب لغيرهم، وهذا هو مقتضى العدل والإنصاف.
والمسلم مأمور بالتزام العدل حتى مع طوائف الكفر وإن وجد في نفسه ما وجد (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) (١) كما أن هذا هو ما يفرضه "المنهج العلمي" وأداء الأمانة على وجهها..
وقد أخذ سلفنا الصالح بمبدأ العدل مع طوائف البدع وغيرها. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية ﵀: (أهل السنّة يستعملون معهم - يعني الروافض - العدل والإنصاف ولا يظلمونهم، فإن الظلم حرام مطلقًا، بل أهل السنّة لكل طائفة من هؤلاء - يعني طوائف البدع - خير من بعضهم لبعض، بل هم للرافضة خير وأعدل من بعض الرافضة لبعض. وهذا ما يعترفون هم به، ويقولون: أنتم تنصفوننا ما لا ينصف
_________
(١) المائدة: آية ٨.
1 / 15
بعضنا بعضًا) (١)، وهذا ما تعترف به بعض كتب الشيعة المعتمدة عندهم، جاء في «الكافي» أن أحد الشيعة - ويسمى عبد الله بن كيسان - قال لإمامهم: (إني.. نشأت في أرض فارس، وإنني أخالط الناس في التجارات وغير ذلك فأُخالط الرجل فأرى له حسن السمت، وحسن الخلق، وكثرة أمانة، ثم أفتشه فأتبينه عن عداوتكم - يعني أنه من أهل السنّة - وأخالط الرجل فأرى منه سوء الخلق، وقلة أمانة، وزعارة (٢)، ثم أفتشه فأتبينه عن ولايتكم..) (٣) - يعني من الشيعة -.
ولقد قمت بدراسة للشيعة من خلال كتبها الأساسية، ولم أستق من كتاب لهم إلا وقدمت بين يديه توثيقًا له من كتب الشيعة نفسها، كما أنني أذكر - إن وجدت - ما يراه شيوخهم في «الحديث» الذي يروونه عن معصوميهم؛ ما يرون فيه من الصحة أو الضعف بناءً على مقاييسهم الخاصة بهم في ذلك، وإن كان بعض شيوخهم يوثق كل ما ورد في كتبهم الأربعة عن معصوميهم وهم الذين يسمون بالإخباريين، ولكن كثرة الشيعة وهم الأصوليون لا يعتقدون في صحتها كلها.
والحقيقة أن مسلك التصحيح والتضعيف في كتب الشيعة غير يسير في الغالب، فأنت إذا أردت أن تصحح حديثًا لهم بناءً على دراسة سنده من خلال كتب الرجال عندهم كرجال الكشي، أو تنقيح المقال للممقاني؛ ترى أن فيها ما هو غير مكتمل السند!، وفيها ما لا سند له
_________
(١) «منهاج السنّة»: (٣/٣٩) .
(٢) الزعارة: سوء الخلق، وفي بعض النسخ: (الدعارة. وهو الفساد والفسوق والخبث) . عن هامش «الكافي»: (٢/٤) .
(٣)
1 / 16
مطلقًا! مثل كتاب «الاحتجاج»، ومع ذلك هو مقبول وموثق عندهم، وتجد أن منها ما ينقل من كتب لهم معظمها غير موجود ويكتفى بالقول بأن الكتب التي نقل عنها معتبرة عندهم، ومن كتبهم التي سلكت هذا المسلك «البحار» للمجلسي، و«الوسائل» للحر العاملي، وغيرهما.
لهذا اتبعت أُسلوب صحة الحديث في نظرهم إِن وجدت ذلك، أو توثيق الكتاب عندهم، أو بيان أن هذه الروايات متواترة عندهم ببيان عدد أحاديثها ورواياتها في كتبهم وما أُلف بصددها.
كل هذه الطرق استعملناها لتوثيق ما ننقل عنهم، ولعل في سلوكنا لهذا المنهج استجابة لما يطلبون وتحقيقًا لما يرغبون، يقول أحد أعلامهم المعاصرين - ويلقبونه بـ «حجة الإسلام» ـ: و«..نصيحتنا لهم - أي لأهل السنّة - ألاّ يكتبوا عن الشيعة بعد اليوم إلا ما يأخذونه عن الشيعة أنفسهم، وليس لهم أن يستقوا أخبارهم من منابع الأغيار الذين كذبوا على الشيعة جهدهم وألصقوا بها من الشنائع ما الله به عليم» (١) .
وإن كان بعض المفكرين قد أخذ بهذه النصيحة وكتب عن الشيعة من خلال كتبهم المعتبرة، ونقد بعض آرائهم نقدًا عقليًّا نزيهًا مستندًا إلى نصوصهم المعتمدة، ومع ذلك لم يسلم من غضبهم ونقدهم، وكاد يدفع حياته ثمنًا لذلك (٢)، هذا وإنني بسلوكي للمنهج السالف الذكر قد لا أُغفل في عرضي مادة الشيعة "وجهة النظر الأخرى" عنهم، ولكن بعد أن أذكر أولًا ما في كتب الشيعة المعتمدة كما قد أفعل ذلك بالنسبة
_________
(١) من مقدمة كتاب «تحت راية الحق» في الرد على الجزء الأول من «فجر الإسلام»: ص ١٣، والمقدمة لمرتضي آل يس الكاظمي والكتاب لعبد الله السبيتي، وانظر أيضًا: محمد جواد مغنية «الشيعة في الميزان»: ص ١٤.
(٢) وهو أحمد أمين، وقد ذكر ذلك في كتابه «حياتي»: (ص ٢٢٩ - ٢٣٠) .
1 / 17
لمادة السنّة، وأظنني بهذا لا أخرج عن المنهج المطلوب.
وقضية التقريب لم أر من كتب عنها بمثل هذا المنهج، ولم أجد من درسها دراسة تحليلية تلتمس وجه الصواب فيها من خلال عرض أصول الفريقين وبطريقة موضوعية بعيدة عن التحيز والانفعال.. والكتابات في هذا الموضوع إما كتب تدعو للتقريب بطريقة عاطفية وأُسلوب معتمد على الجهل أو التجاهل للحقائق القائمة، مثل كتاب «بين السنّة والشيعة» للدكتور سليمان دنيا و«الإسلام بين السنّة والشيعة» لهاشم الدفترادار، ومحمد علي الزعبي.
وإما كتب تتحدث عما في كتب الشيعة من كفر وضلال مثل «الخطوط العريضة» لمحب الدين الخطيب، و«الوشيعة» للشيخ موسى جار الله، و«السنّة والشيعة» لإحسان إلهي ظهير، و«تبديد الظلام» للأستاذ إبراهيم الجبهان.
أما الدراسة العلمية والموضوعية المتكاملة لهذه المسألة فلم أجد في المكتبة الإسلامية شيئًا منها.
لذا جاءت كتابتي في هذا الموضوع بداية، وكل بداية لا بد فيها من قصور.. ولا سيما في هذا الموضوع الخطير، الذي يتطلب جهودًا جماعية ومدة زمنية طويلة.
ولقد حاولت قدر الإمكان.. أن أسلك المنهج الذي آمل أن يكون منهجًا عادلًا وسليمًا.. في نقاش هذه القضية.. ذلك المنهج الذي وضع أيدينا على نقاط مهمة، وكشف لنا عن حقائق خطيرة في مسألة التقريب، لا سيما أن في هذا البحث قضايا جديدة لم تدرس من قبل، مثل: عرض
1 / 18
"آراء دعاة التقريب في مسائل الخلاف ومناقشتها" ذلك الذي أخذ من هذه الرسالة الباب الثالث، وكذلك محاولات التقريب وتقويمها في القديم والحديث، وكذلك دراسة الآراء والطرق المتصورة لحل الخلاف، تلك التي لم تنل العناية قبل ذلك. وكانت الدراسة منصبة في هذه المسألة (الأخيرة) على رد شبه الشيعة واستدلالها من كتب السنّة، وكذلك في مبحث عقائد الشيعة عرضنا لمسائل جديدة مثل تصحيح أحاديثهم حسب مقاييسهم الخاصة بهم، ومحاولة حصر الأحاديث الواردة في كل قضية وعقيدة من عقائدهم وما ألف فيها - ما وجدت إلى ذلك سبيلًا - ثم دراسة مسألة السند عند الشيعة، ومتى وضع، والسبب في وضعه، وكشف ما زيد على بعض كتب الشيعة من أحاديث وأبواب، ودراسة أول كتاب ألفه الشيعة، واحتوى على جملة كبيرة من عقائدهم وهو كتاب «سليم بن قيس الهلالي» إلى غير ذلك من المسائل. ولقد تطلب كل ذلك قراءة طويلة في كتب الشيعة.
نسأل الله سبحانه أن يسدد أعمالنا وأقوالنا وأن يهدينا سواء السبيل.
وختامًا أشكر الله سبحانه على ما هيأ لي من خير ويسر لي من أُمور.
"وإنني" لأشكر كل من مدّ لي يد المساعدة في هذا البحث وأدعو الله ﷿ أن يثيبهم ويجزيهم كل خير.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
1 / 19
الباب الأول: أهل السنة والجماعة
الفصل الأول: التعريف بأهل السنة والجماعة.
الفصل الثاني: مصادرهم في تلقي العقيدة (أصولهم في الاعتقاد) .
الفصل الثالث: مجمل لأهم عقائدهم التي شذت عنها (الشيعة) .
1 / 21
الفصل الأول: التعريف بأهل السنة والجماعة
(أ) التعريف بالسنّة:
السُّنَّة بالضم وفتح النون المشددة في اللغة: الطريقة، والسنة: السيرة حميدة كانت أم ذميمة، والجمع سُنن (١) . ومنه قوله (: «من سنَّ في الإسلام سنَّة حسنة فعمل بها بعده كتب له مثل أجر من عمل بها ولا ينقص من أجورهم شيء، ومن سنَّ في الإسلام سنَّة سيئة.. الحديث» (٢) .
وتطلق السنَّة ويراد بها: الطريقة المحمودة، فقد جاء في اللسان: (السنة: الطريقة المحمودة المستقيمة؛ ولذلك قيل فلان من أهل السنة معناه: من أهل الطريقة المستقيمة المحمودة) (٣) .
والسنة في الشرع تطلق على عدة معان:
تطلق على سيرة الرسول ﷺ، يقول ابن
_________
(١) انظر: «المصباح المنير» مادة سن: (١/٣١٢) .
(٢) رواه مسلم في كتاب العلم، باب (من سن سنّة حسنة أو سيئة): (٨/٦١) .
(٣) «لسان العرب» مادة سن: (١٧/٩٠) .
1 / 23
فارس (١): (وسنة رسول الله ﷺ وسيرته) (٢) .
وتطلق في اصطلاح المحدثين على (ما جاء عن النبي ﷺ من أقواله وأفعاله وتقريره وما همَّ بفعله) (٣) .
وللسنّة عند الأصوليين اصطلاح (٤)، وعند الفقهاء اصطلاح ... (٥) .
ومرد هذا الاختلاف في الاصطلاح إلى اختلاف الأغراض والتخصصات التي تعني بها كل فئة من أهل العلم.
ولا يعنينا تتبع جميع تلك الاصطلاحات، إنما يعنينا أن نعرف بمصطلح «السنة» أو «أهل السنة» كدلالة على اتجاه معين في الاعتقاد.
يقول ابن رجب (٦) ﵀: (السنة: طريقة النبي ﷺ التي كان عليها هو وأصحابه السالمة من الشبهات والشهوات،
_________
(١) أحمد بن فارس بن زكريا القزويني الرازي أبو الحسين، من أئمة اللغة والأدب، له تصانيف، منها: «مقاييس اللغة»، و«جامع التأويل في تفسير القرآن»، كان مولده سنة ٣٢٩هـ، وتوفي سنة ٣٩٥هـ. انظر «وفيات الأعيان» لابن خلكان: (١/١١٨، ١١٩) .
(٢) «معجم مقاييس اللغة» مادة سن: (٣/٦١)، «مختار الصحاح»: ص ٣١٧.
(٣) ابن حجر: «فتح الباري»: (١٣/٢٤٥)، الجزائري: «توجيه النظر»: ص ٣.
(٤) انظر: الفتوحي «مختصر التحرير»: ص ٣٠، الشوكاني: «إرشاد الفحول»: ص ٣٣.
(٥) انظر: «تهذيب الأسماء واللغات» للنووي: قسم ٢ جـ١ ص ١٥٦، «شرح الكوكب المنير»: (ص ١٢٥، ١٢٦) .
(٦) هو عبد الرحمن بن أحمد بن رجب السلامي البغدادي ثم الدمشقي أبو الفرج زين الدين، حافظ للحديث من كبار العلماء، ولد في بغداد سنة ٧٠٦هـ، وتوفي في دمشق سنة ٧٩٥هـ، ومن آثاره «القواعد الفقهية» و«ذيل طبقات الحنابلة»: انظر: ابن حجر «الدرر الكامنة»: (٢/٤٢٨، ٤٢٩)، «الإعلام»: (٣/٦٧) .
1 / 24