The Impact of the Heart's Work on the Worship of Fasting
اثر عمل القلب على عبادة الصوم
اصناف
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
إن الحمدَ لله، نحمدُهُ، ونستعينُهُ، ونستغفرُهُ، ونعوذُ بالله من شرورِ أنفسِنا، ومن سيئاتِ أعمالِنا، من يهدهِ اللهُ فلا مضلَّ له، ومن يضْلِل فلا هاديَ له، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ لهُ، وأشهدُ أن محمدًا عبدُهُ ورسولُه.
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: ١٠٢].
﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء: ١].
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (٧٠) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب: ٧٠، ٧١].
أما بعد:
فإن لعمل القلب أثره الكبير على العبادات، فإذا حقق العبد عمل القلب، وجاهد نفسه لإصلاح ما في قلبه من أمراض، واستعان بالله على ذلك، وصدق وأخلص، فإن الله وعد بإعانته، كما قال تعالى:
1 / 1
﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ العنكبوت: ٦٩.
وإذا وفق الله العبد لذلك ظهر أثره على عبادته: إقامة لها مع الاتقان، وإخلاصًا فيها، وحرصًا على الاهتداء بالهدي النبوي في أدائها، وظهر أثر ذلك أيضًا على إقبال القلب وحسن حضوره عند أداء العبادة مع الخشوع والخضوع لله.
وسأذكر -إن شاء الله تعالى- سلسلة بعنوان: (أثر عمل القلب على العبادات)، ونسأل الله العظيم أن يرزقنا الإخلاص والصدق والتوفيق والإعانة في هذا العمل، وأن يتفضل علينا بالقبول، والله من وراء القصد وهو الهادي إلى سواء السبيل.
وسأذكر إن شاء الله الآثار العامة على جميع العبادات، وأخصص بعض العبادات بذكر أثر عمل القلب عليها، وسيكون هذا الكتاب بعنوان: أثر عمل القلب على عبادة الصوم، والله الموفق والمعين.
وستكون بإذن الله محاور هذا الموضوع حول العناصر الآتية:
المبحث الأول: ملخص في إثبات أثر عمل القلب، وأهميته، وفيه مطالب.
المطلب الأول: من أدلة الكتاب والسنة في إثبات أثر عمل القلب.
المطلب الثاني: أهمية عمل القلب.
المطلب الثالث: الآثار العامة لعمل القلب على العبادات.
المبحث الثاني: نماذج لبعض أعمال القلوب لها علاقة بصيام رمضان، وفيه تمهيد ومطالب.
التمهيد: الارتباط الوثيق بين عمل القلب والصيام.
المطلب الأول: الإخلاص.
المطلب الثاني: اليقين.
المطلب الثالث: الصبر.
المطلب الرابع: المحبة.
المطلب الخامس: الخوف والخشية.
المطلب السادس: الرجاء.
1 / 2
المبحث الثالث: أثر عمل القلب على الإقبال على الخير في عبادة الصوم في رمضان، وفيه مطالب.
المطلب الأول: أسباب الإقبال على عمل الخير في رمضان، وفيه مسائل.
المسألة الأولى: رغبة المؤمن في الأجر والثواب العظيم الذي أعده الله للصائمين.
المسألة الثانية: ومن أسباب الإقبال على الخير ما يحدث في رمضان من فتح أبواب الجنة، وأغلاق أبواب النار، وتصفيد الشياطين.
المسألة الثالثة: أثر التعاون على البر والتقوى الذي يتجلى في رمضان بشكل واضح في تعاون المسلمين مع بعضهم على الصيام والقيام، وبقية العبادات.
المطلب الثاني: الصيام والتقوى.
المطلب الثالث: الصيام وغرس مراقبة الله وخشيته في الغيب والشهادة.
المطلب الرابع: الصيام والخشوع، وفيه مسائل.
المسألة الأولى: الخشوع في الصلاة
المسألة الثانية: الخشوع عند تلاوة القرآن
المسألة الثالثة: الخشوع عند الدعاء
المسألة الرابعة: الخشوع عند الذكر
المطلب الخامس: الصيام وتعويد المسلم على الإحسان إلى الناس بالجود بالمال وحسن الخلق.
المبحث الرابع: أثر عمل القلب على القصور عن الشر في رمضان، وفيه مطالب.
المطلب الأول: قلة نوازع الشر في النفس في رمضان.
المطلب الثاني: الصيام وضبط الجوارح عن الحرام، وفيه مسائل.
المسألة الأولى: صيام اللسان واليد.
المسألة الثانية: صيام العين والسمع وبقية الجوارح.
المطلب الثالث: الحذر مما يخرق الصوم وينقص الحسنات، وفيه مسائل.
المسألة الأولى: البعد عن قول الزور والجهل.
المسألة الثانية: الحذر من الغيبة والبعد عن مجالسها.
المسألة الثالثة: البعد عن السب والشتم والصخب والرفث.
1 / 3
المطلب الرابع: من أمراض القلوب التي لها خطر على عبادة الصوم، وفيه مسائل.
المسألة الأولى: سوء الخلق، مما له ارتباط بعمل القلب ويؤثر على صوم العبد:
١ - الشح والبخل.
٢ - الغضب للنفس.
المسألة الثانية: الحسد والبغضاء والشحناء وقطيعة الأرحام.
المسألة الثالثة: الكبر.
المسألة الرابعة: العجب والرياء والسمعة.
1 / 4
المبحث الأول: ملخص في إثبات أثر عمل القلب، وأهميته، وفيه مطالب.
المطلب الأول: من أدلة الكتاب والسنة في إثبات أثر عمل القلب.
المطلب الثاني: أهمية عمل القلب.
المطلب الثالث: الآثار العامة لعمل القلب على العبادات.
1 / 5
المبحث الأول: ملخص في إثبات أثر عمل القلب، وأهميته، وفيه مطالب.
المطلب الأول: من أدلة الكتاب والسنة في إثبات أثر عمل القلب
لقد اعتنى القرآن العظيم والسنة الشريفة بمسألة عمل القلب وأثره اعتناء كبيرًا، فقد جاءت آيات كثيرة في إثبات أثر عمل القلب وتأثره بما يعمل صاحبه، فقد ذكر الله ﷾ أن قلوب المؤمنين يصيبها الوجل، وتطمئن بذكره، وأنها تخشع وتخضع لأمره، وغير ذلك كثير، وإذا تقرر هذا في حق المؤمنين، فإن القرآن الكريم قد ذكر في مقابل ذلك حال الكفار والمنافقين وتأثر قلوبهم بما يعملون، وذكر ﷾ كذلك أثر أمراض قلوبهم عليهم؛ من الختم والطبع، وما أصابها من مرض النفاق، والزيغ عن الحق، والقسوة … وقد جاءت آيات كثيرة في بيان ذلك. وكذلك جاءت أحاديث كثيرة تثبت أثر عمل القلب، ودونك ملخص لإثبات ذلك:
أولًا: أمثلة على إثبات أثر عمل القلب على المؤمن مع ذكر شواهدها من القرآن العظيم
١ - وجل القلب وخوفه من الله، قال تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ الآية [الأنفال: ٢]. وفيها إثبات أثر ذكر الله على القلب بحصول الوَجَل، ومعناه: الخوف من الله (^١)، ولا شك أن الذكر لا يحدث أثره في حصول وجل القلب من الله تعالى إلا إذا تواطأ القلب مع الحواس.
٢ - طمأنينة القلب، قال تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ [الرعد: ٢٨]، دلت الآية على أثر ذكر الله على قلب المؤمن، فهو يأنس ويطيب ويسكن بذكر الله تعالى (^٢).
_________
(^١) ينظر: تفسير ابن كثير (٥/ ٤٢٥).
(^٢) ينظر: تفسير الطبري (١٦/ ٤٣٢).
1 / 6
ثانيًا: أمثلة على إثبات أثر مرض القلب على صاحبه وردت في آيات الكتاب العزيز
١ - عقوبة الله لأصحاب القلوب التي كفرت بالله بالختم عليها، وزيغ القلوب عن الحق، فقال تعالى عنهم: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (٦) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [البقرة: ٦، ٧].
قال البغوي ﵀ في تفسيره لمعنى الختم على القلوب: "فقال: ﴿خَتَمَ اللَّهُ﴾: طبع الله ﴿عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ فلا تعي خيرًا ولا تفهمه" (^١).
وهذا الختم على القلوب عقوبة لهم بسبب منهم، قال تعالى: ﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ [الصف: ٥].
ومن آثار مرض النفاق على القلوب تقييدها عن الخير بما يحدث لها من التردد والتذبذب والشك والحيرة والكسل عن الطاعات وكرهها، قال تعالى: ﴿إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ﴾ [التوبة: ٤٥]. والريب هو الشك، وهو من أثر أمراض النفاق على القلوب، فيتولد منه أثره على القلب بالتردد والتذبذب والكسل عن الطاعة وكرهها، فقال تعالى في بيان أثر النفاق على القلب: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ
_________
(^١) تفسير البغوي (١/ ٦٤ - ٦٥).
1 / 7
٣ - إِلَّا قَلِيلًا (١٤٢) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا﴾ [النساء: ١٤٢، ١٤٣].
وقال تعالى عن المنافقين: ﴿وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ﴾ [التوبة: ٥٤].
٤ - وقال تعالى في بيان أثر مرض النفاق على القلب وأن الله ﷾ لا يمكِّن صاحبه من العمل، بل يقعده عنه عقوبةً له على ما في قلبه من مرض: ﴿وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ﴾ [التوبة: ٤٦].
وإذا وجد العبد أنه يثبَّط عن الطاعات، ويحال بينه وبينها، فليفتِّش عن مرض في قلبه.
٥ - أثر الذنوب على القلب في تغطيته وحجبه عن رؤية الحق، كما في قول الله تعالى: ﴿كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [المطفِّفين: ١٤].
أثبت الله تعالى أن الذنوب تغطي على القلوب، فتحجبها عن رؤية الحق فلا تقبله.
1 / 8
كما في حديث أَبِي هُرَيْرَةَ ﵁، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «إِنَّ العَبْدَ إِذَا أَخْطَأَ خَطِيئَةً نُكِتَتْ (^١) فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، فَإِذَا هُوَ نَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ وَتَابَ سُقِلَ (^٢) قَلْبُهُ، وَإِنْ عَادَ زِيدَ فِيهَا حَتَّى تَعْلُوَ قَلْبَهُ، وَهُوَ الرَّانُ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ: ﴿كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [المطفِّفين: ١٤]» (^٣).
فإذا غطت الذنوب القلب عمي عن رؤية الحق وانطمست بصيرته، كما قال تعالى: ﴿فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ [الحج: ٤٦].
ثالثًا: وقد ورد في السنة ما يبين مكانة عمل القلب وأثره على صاحبه، ودونك إشارة لذلك:
١ - أثر عمل القلب على صلاح الجسد أو فساده، ويدل عليه ما رواه النعمان بن بشير ﵁ قال: قال ﷺ: «أَلَا وَإِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً: إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ القَلْبُ».
وفي الحديث إشارة -كما يقول ابن رجب ﵀: "إلى أن صلاح حركات العبد بجوارحه، واجتنابه المحرمات واتقاءه للشبهات بحسب صلاح حركة قلبه، فإذا كان قلبه سليمًا، ليس فيه إلا محبة الله ومحبة ما يحبه الله، وخشية الله وخشية الوقوع فيما يكرهه، صلحت حركات الجوارح كلها، ونشأ عن ذلك اجتناب المحرمات كلها، وتوقٍ للشبهات حذرًا من الوقوع في المحرمات.
_________
(^١) أي نُقِطَ نقطة في قلبه.
ينظر: الصحاح (١/ ٢٦٩)، النهاية في غريب الحديث والأثر (٥/ ١١٤) لابن الأثير، مادة (نكت).
(^٢) وفي أكثر روايات الحديث: "صُقِلَ" بالصاد، والسقل والصقل بمعنى واحد، أي: جلاه ونظفه وصفاه وذهب عنه أثر الذنب.
ينظر: الصحاح (٥/ ١٧٤٤) مادة (صقل)، مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (٤/ ١٦٢٢)، تحفة الأحوذي (٩/ ١٧٨) للمباركفوري، دار الكتب العلمية بيروت.
(^٣) أخرجه أحمد (١٣/ ٣٣٣) ح (٧٩٥٢)، والترمذي واللفظ له (٥/ ٤٣٤) ح (٣٣٣٤) وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وابن ماجه (٢/ ١٤١٨) ح (٤٢٤٤)، وابن حبان في صحيحه (٣/ ٢١٠) ح (٩٣٠)، الحاكم في مستدركه (٢/ ٥٦٢) ح (٣٩٠٨) وصححه ووافقه الذهبي، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (٢/ ٢٧١) ح (١٦٢٠)، وقال شعيب الأرناؤوط في تحقيق المسند (١٣/ ٣٣٤) ح (٧٩٥٢): "إسناده قوي".
1 / 9
وإن كان القلب فاسدًا، قد استولى عليه اتباع هواه، وطلب ما يحبه، ولو كرهه الله، فسدت حركات الجوارح كلها، وانبعثت إلى كل المعاصي والمشتبهات بحسب اتباع هوى القلب" (^١).
٢ - ارتباط التقوى بعمل القلب، يقول ﷺ: «التَّقْوَى هَاهُنَا» وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ .. الحديث (^٢)
وذكر النووي في شرحه للحديث أن التقوى إنما تحصل بما في القلب من الأعمال، فيقول ﵀: "إن الأعمال الظاهرة لا يحصل بها التقوى، وإنما تحصل بما يقع في القلب من عظمة الله تعالى وخشيته ومراقبته" (^٣).
٣ - في بيان أثر مرض الكبر على القلب، فعن عبد الله بن مسعود ﵁: قَالَ النَّبِيِّ ﷺ: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ»، قَالَ رَجُلٌ: إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنَةً! قَالَ: «إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ، الْكِبْرُ: بَطَرُ الْحَقِّ، وَغَمْطُ النَّاسِ» (^٤).
وفي الحديث دليل على أثر آفة الكبر على من تلبس بها، وهو من أخطر أمراض القلوب، ومن أعظم ما يصد القلوب عن الهدى.
_________
(^١) جامع العلوم والحكم لابن رجب (١/ ٢١٠).
(^٢) أخرجه مسلم (٤/ ١٩٨٦) ح (٢٥٦٤).
(^٣) شرح النووي على مسلم (١٦/ ١٢١).
(^٤) أخرجه مسلم (١/ ٩٣) ح (٩١).
1 / 10
المطلب الثاني: أهمية عمل القلب
وتتضح الدلالة على أهمية عمل القلب من خلال الأمور الآتية:
أولًا: كثرة ذكرها في القرآن العظيم، وقد تقدمت إشارة إلى ذلك.
ثانيًا: ويكفي في الدلالة على عظيم مكانة عمل القلب في السنة ماورد في الحديثين الآتيين:
١ - عَن أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «إِنَّ اللهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ» (^١)، فالقلوب وأعمالها هي محل نظر الرب ﷾،.
٢ - وقال ﷺ: «أَلَا وَإِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ القَلْبُ» (^٢)، فصلاح الجوارح مرتبط بصلاح القلب، وهذا له أثره الكبير على خشوع المؤمن في صلاته.
ثالثًا: تحدث ابن القيم عن أهمية عمل القلب، فقال ﵀: "فعمل القلب هو روح العبودية ولبها، فإذا خلا عمل الجوارح منه كان كالجسد الموات بلا روح … ومن تأمل الشريعة في مصادرها ومواردها علم ارتباط أعمال الجوارح بأعمال القلوب، وأنها لا تنفع بدونها، وأن أعمال القلوب أفرض على العبد من أعمال الجوارح، وهل يميز المؤمن عن المنافق إلا بما في قلب كل واحد منهما من الأعمال التي ميزت بينهما؟! وهل يمكن أحد الدخول في الإسلام إلا بعمل قلبه قبل جوارحه؟! وعبودية القلب أعظم من عبودية الجوارح وأكثر وأدوم، فهي واجبة في كل وقت؛ ولهذا كان الإيمان واجب القلب على الدوام، والإسلام واجب الجوارح في بعض الأحيان" (^٣).
وأعمال القلوب هي الأصل، وهي فرض على الأعيان باتفاق أهل الإيمان، من تركها بالكلية فهو إما كافر أو منافق، وأعمال الجوارح تابعة ومتممة لأعمال القلوب، فلا تتم إلا بها (^٤).
_________
(^١) أخرجه مسلم (٤/ ١٩٨٧) ح (٢٥٦٤).
(^٢) أخرجه البخاري (١/ ٢٠) ح (٥٢)، ومسلم (٣/ ١٢١٩) ح (١٥٩٩).
(^٣) بدائع الفوائد (٣/ ١٩٢ - ١٩٣).
(^٤) ينظر: مجموع الفتاوى (١٨/ ١٨٤ - ١٨٥)، بدائع الفوائد (٣/ ١٨٧ - ١٨٨).
1 / 11
المطلب الثالث: الآثار العامة لعمل القلب على العبادات، ونجملها في الآتي:
١ - قبول الله للعمل، وذلك يكون بشرطين:
أ - مجاهدة النفس على الإخلاص لله تعالى، مما يثمر الحرص على سلامة المقاصد في العبادات من العجب والرياء والسمعة.
ب - مجاهدة النفس على اتباع الهدي النبوي في أداء العبادة والحرص على سلامتها من البدع.
٢ - طهارة القلب من التعلق بغير الله يثمر حضور القلب في العبادة وعدم تشتته في أودية الدنيا، ولايؤدي إلى ضيقه بالعبادة وثقلها عليه؛ لأنه اذا تعلق القلب بالله وحده لا شريك له صفا له قلبه وطهر وصار همه الآخرة، وسلم من التشتت والفتنة التي تضرب بها القلوب المتعلقة بغير الله، فتثبطها عن طاعة الله، كما قال تعالى عن المنافقين: ﴿وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ﴾ [التوبة: ٤٦]، وقال ﷺ: «مَنْ كَانَتِ الآخِرَةُ هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ، وَمَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا مَا قُدِّرَ لَهُ» (^١).
٣ - الحرص على إتقان العبادة وإتمامها، والاجتهاد في الوصول إلى مقام الإحسان في العبادات، كما قال ﷺ عن مقام الإحسان: «أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ» (^٢).
_________
(^١) أخرجه الترمذي (٤/ ٦٤٢) ح (٢٤٦٥)، وأخرجه الطبراني في المعجم الكبير (١١/ ٢٦٦) ح (١١٦٩٠)، وذكره الألباني في السلسة الصحيحة (٢/ ٦٣٣) ح (٩٤٩)، وصححه في صحيح الجامع (٢/ ١١٠٩) ح (٦٥٠٥).
وأخرجه ابن ماجه (٢/ ١٣٧٥) ح (٤١٠٥) بلفظ: «مَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ فَرَّقَ اللَّهُ عَلَيْهِ أَمْرَهُ، وَجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا مَا كُتِبَ لَهُ، وَمَنْ كَانَتِ الْآخِرَةُ نِيَّتَهُ جَمَعَ اللَّهُ لَهُ أَمْرَهُ، وَجَعَلَ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ» من حديث زيد بن ثابت ﵁، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (٢/ ٦٣٤) ح (٩٥٠)، وصححه شعيب الأرناؤوط في تحقيقه لسنن ابن ماجه (٥/ ٢٢٧) ح (٤١٠٥).
(^٢) أخرجه البخاري (١/ ١٩) ح (٥٠)، ومسلم (١/ ٣٦) ح (٨).
1 / 12
وهذه المرتبة العظيمة لا تحصل إلا إذا سلم القلب لله تعالى، واستحضر عظمة الله ومراقبته له وعلمه واطلاعه عليه، وجاهد العبد نفسه على إصلاح قلبه، وتنقيته من شوائب العجب والرياء والكبر والحسد، ومن بقية الآفات.
1 / 13
المبحث الثاني: نماذج لبعض أعمال القلوب لها علاقة بصيام رمضان، وفيه تمهيد ومطالب.
التمهيد: الارتباط الوثيق بين عمل القلب والصيام.
المطلب الأول: الإخلاص.
المطلب الثاني: اليقين.
المطلب الثالث: الصبر.
المطلب الرابع: المحبة.
المطلب الخامس: الخوف والخشية.
المطلب السادس: الرجاء.
1 / 14
المبحث الثاني: نماذج لبعض أعمال القلوب لها علاقة بصيام رمضان، وفيه تمهيد ومطالب
التمهيد: الارتباط الوثيق بين عمل القلب والصيام.
وقد وردت إشارات في النصوص إلى ارتباط عمل القلب بالصيام، بل هو أقرب إلى أعمال القلوب منه إلى أعمال الجوارح، ومن النصوص في ذلك قوله ﷺ: «كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصَّوْمَ، فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ» (^١).
قال في التوضيح لشرح الجامع الصحيح: "يريد أنه أمر مخفي عن المخلوقين ولا يطلع عليه إلا الرب جلا جلاله فيعلمه حقيقة ويجازي عليه؛ لأن الحفظة ترى مسكًا عن الطعام، فالنية فيه إلى الله تعالى وبها يصير صائمًا" (^٢).
وذكر ابن حجر ﵀ في الفتح أقوالًا عدة في معنى الحديث السابق وقوى بعضها ورد بعضها ومما قواه أن الصوم لا يدخله الرياء، لأنه لا يظهر من العبد بفعله، بل هو من عمل القلب الذي لا يعلمه إلا الله (^٣)، وهناك أعمال قلبية لها ارتباط وثيق بعبادة الصيام فمن ذلك الإخلاص لله تعالى، واليقين،، والصبر، والمحبة، والخوف والرجاء.
ودونك شيء من الخبر باختصار عن هذه الأعمال القلبية بصورة عامة، وفق المطالب الآتية:
المطلب الأول: الإخلاص.
المطلب الثاني: اليقين.
المطلب الثالث: الصبر.
المطلب الرابع: المحبة.
المطلب الخامس: الخوف والخشية.
المطلب السادس: الرجاء.
_________
(^١) وسيأتي تخريجه.
(^٢) التوضيح (٢٨/ ١٦٦).
(^٣) ينظر: فتح الباري (٤/ ١٠٧ - ١٠٨).
1 / 15
المطلب الأول: الإخلاص (^١).
تعريفه:
لقد عرف الإخلاص بتعاريف كثيرة متقاربة، ومن أدقها تعريف الغزالي، فيقول ﵀ عن الإخلاص بأنه: "تجريد قصد التقرب إلى الله عن جميع الشوائب" (^٢).
وعرفه ابن القيم ﵀ بمجموعة من التعريفات من أدقها: "إفراد الحق بالقصد في الطاعة، وقيل: تصفية الفعل عن ملاحظة المخلوقين، وقيل: الإخلاص نسيان رؤية الخلق بدوام النظر إلى الخالق، ومن تزين للناس بما ليس فيه سقط من عين الله" (^٣).
من أدلة الكتاب والسنة على الإخلاص:
لقد جاءت الأدلة الكثيرة من كتاب الله وسنة رسوله ﷺ دالة على هذا العمل القلبي العظيم، ومنها على سبيل المثال:
• قوله تعالى: ﴿قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ﴾ [الأعراف: ٢٩].
يقول الحافظ ابن كثير ﵀ في معنى هذه الآية: "أي: أمركم بالاستقامة في عبادته في محالها، وهي متابعة المرسلين المؤيدين بالمعجزات فيما أخبروا به عن الله تعالى، وما جاءوا به عنه من الشرائع، وبالإخلاص له في عبادته، فإنه تعالى لا يتقبل العمل حتى يجمع هذين الركنين: أن يكون صوابًا موافقًا للشريعة، وأن يكون خالصًا من الشرك" (^٤).
_________
(^١) سيكون التعريف لهذه الأعمال القلبية التعريف الاصطلاحي حرصًا على الاختصار.
(^٢) إحياء علوم الدين (٤/ ٣٧٩).
(^٣) مدارج السالكين (٢/ ٩١ - ٩٢).
(^٤) تفسير ابن كثير (٣/ ٤٠٣).
1 / 16
ويقول السعدي ﵀: "أي: قاصدين بذلك وجهه وحده لا شريك له. والدعاء يشمل: دعاء المسألة، ودعاء العبادة، أي: لا تراءوا ولا تقصدوا من الأغراض في دعائكم سوى عبودية الله ورضاه" (^١).
• ومن الأدلة على الإخلاص قوله تعالى: ﴿فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾ [غافر: ١٤].
قال السعدي ﵀ في تفسيره لهذه الآية: "وهذا شامل لدعاء العبادة ودعاء المسألة، والإخلاص معناه: تخليص القصد لله تعالى في جميع العبادات الواجبة والمستحبة، حقوق الله وحقوق عباده. أي: أخلصوا لله تعالى في كل ما تدينونه به وتتقربون به إليه.
﴿وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾ لذلك، فلا تبالوا بهم، ولا يثنكم ذلك عن دينكم، ولا تأخذكم بالله لومة لائم، فإن الكافرين يكرهون الإخلاص لله وحده غاية الكراهة، كما قال تعالى: ﴿وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ﴾ [الزمر: ٤٥] " (^٢).
• ومن الأدلة على وجوب إخلاص النية لله تعالى في جميع العبادات الظاهرة والباطنة (^٣) قوله تعالى: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ [البينة: ٥].
• ومما ورد في السنة عن عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ ﵁ قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ، وَإِنَّمَا لِامْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ» (^٤).
_________
(^١) تفسير السعدي (٢٨٦).
(^٢) تفسير السعدي (٧٣٤).
(^٣) ينظر: فتح القدير للشوكاني (٥/ ٥٨٠)، تفسير السعدي (٩٣١).
(^٤) أخرجه البخاري (٨/ ١٤٠) ح (٦٦٨٩)، ومسلم (٣/ ١٥١٥) ح (١٩٠٧).
1 / 17
قال ابن رجب ﵀: "والنية في كلام العلماء تقع بمعنيين:
أحدهما: بمعنى تمييز العبادات بعضها عن بعض، كتمييز صلاة الظهر من صلاة العصر مثلًا، وتمييز صيام رمضان من صيام غيره، أو تمييز العبادات من العادات، كتمييز الغسل من الجنابة من غسل التبرد والتنظف، ونحو ذلك، وهذه النية هي التي توجد كثيرًا في كلام الفقهاء في كتبهم.
والمعنى الثاني: بمعنى تمييز المقصود بالعمل، وهل هو الله وحده لا شريك له، أم غيره، أم الله وغيره؟ وهذه النية هي التي يتكلم فيها العارفون في كتبهم في كلامهم على الإخلاص وتوابعه، وهي التي توجد كثيرًا في كلام السلف المتقدمين" (^١).
• ومما يدل على أن الإخلاص شرط لقبول العمل حديث أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيّ ﵁ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، فَقَالَ: أَرَأَيْتَ رَجُلًا غَزَا يَلْتَمِسُ الْأَجْرَ وَالذِّكْرَ، مَا لَهُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لَا شَيْءَ لَهُ»، فَأَعَادَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، يَقُولُ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لَا شَيْءَ لَهُ»، ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ مِنَ الْعَمَلِ إِلَّا مَا كَانَ لَهُ خَالِصًا، وَابْتُغِيَ بِهِ وَجْهُهُ» (^٢).
• وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ﵁ أَنَّهُ قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِكَ يَوْمَ القِيَامَةِ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لَقَدْ ظَنَنْتُ -يَا أَبَا هُرَيْرَةَ- أَنْ لَا يَسْأَلنِي عَنْ هَذَا الحَدِيثِ أَحَدٌ أَوَّل مِنْكَ؛ لِمَا رَأَيْتُ مِنْ حِرْصِكَ عَلَى الحَدِيثِ، أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي يَوْمَ القِيَامَةِ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ خَالِصًا مِنْ قَلْبِهِ» أَوْ: «نَفْسِهِ» (^٣).
ودل الحديث على أمور، منها:
- أن الإخلاص في كلمة التوحيد من أعظم أسباب سعادة المؤمن بشفاعة النبي ﷺ يوم القيامة (^٤).
_________
(^١) جامع العلوم والحكم (١/ ٦٥ - ٦٦).
(^٢) أخرجه النسائي (٦/ ٢٥) ح (٣١٤٠)، وجوَّد إسناده ابن حجر في الفتح (٦/ ٢٨)، وحسنه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (١/ ١١٨) ح (٥٢)، وقال في صحيح سنن النسائي (٢/ ٣٨٣ - ٣٨٤) ح (٣١٤٠): "حسن صحيح".
(^٣) أخرجه البخاري كتاب العلم، باب الحرص على الحديث (١/ ٣١) ح (٩٩).
(^٤) ينظر: فتح الباري لابن حجر (١/ ١٩٤).
1 / 18
- وفي عون المعبود: "وفي قوله في حديث أبي هريرة: «أسعد الناس بشفاعتي من قال: لا إله إلا الله» سر من أسرار التوحيد، وهو أن الشفاعة إنما تنال بتجريد التوحيد، فمن كان أكمل توحيدًا كان أحرى بالشفاعة" (^١).
• عن أبي هريرة ﵁: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: «إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ، قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لِأَنْ يُقَالَ: جَرِيءٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ، وَعَلَّمَهُ وَقَرَأَ الْقُرْآنَ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ، وَعَلَّمْتُهُ وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ، قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ: عَالِمٌ، وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ: هُوَ قَارِئٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللهُ عَلَيْهِ، وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ كُلِّهِ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهَا إِلَّا أَنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ، قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقَالَ: هُوَ جَوَادٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ، ثُمَّ أُلْقِيَ فِي النَّارِ» (^٢).
والحديث من أعظم الزواجر عن الرياء والسمعة التي هي من نواقض الإخلاص.
من أقوال العلماء في الإخلاص:
قال الفضيل بن عياض ﵀ في معنى قوله تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾ [الملك: ٢]: "هو أخلصه وأصوبه"، قالوا: يا أبا علي، ما أخلصه وأصوبه؟ فقال: "إن العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يقبل، وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يقبل، حتى يكون خالصًا صوابًا، والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة"، ثم قرأ قوله تعالى:
_________
(^١) عون المعبود (١٣/ ٥٦).
(^٢) أخرجه مسلم (٣/ ١٥١٣) ح (١٩٠٥).
1 / 19
﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ [الكهف: ١١٠] (^١).
وقال أبو سليمان الداراني ﵀: "إذا أخلص العبد انقطعت عنه كثرة الوساوس والرياء" (^٢).
وقال ابن القيم ﵀: "العمل بغير إخلاص ولا اقتداء كالمسافر يملأ جرابه رملًا يثقله ولا ينفعه" (^٣).
_________
(^١) ينظر: حلية الأولياء (٨/ ٩٥)، مدارج السالكين (٢/ ٨٨ - ٨٩) مع بعض التصرف.
(^٢) مدارج السالكين (٢/ ٩٢)، البداية والنهاية (١٤/ ١٥٠).
(^٣) الفوائد (٤٩).
1 / 20