The Hereafter - Muhammad Hassan
الدار الآخرة - محمد حسان
اصناف
الشفاعة العظمى في فصل القضاء
هكذا كرم الله نبينا ﷺ تكريمًا ما كرم الله به مخلوقًا على ظهر هذه الأرض من يوم أن خلقها الله جل وعلا إلى يوم أن يرثها ومن عليها، بل لقد قرن الله جل وعلا اسم النبي مع اسم العلي، فلا يذكر اسم الله إلا ويذكر الرسول ﷺ، ورضي الله عن حسان بن ثابت حيث قال: أغر عليه بالنبوة خاتم من الله من نور يلوح ويشهد وضم الإله اسم النبي إلى اسمه إذا قال في الخمس المؤذن أشهد وشق له من اسمه ليجله فذو العرش محمود وهذا محمد أيها الأحباب! هذا هو المقام المحمود الذي أعطاه الله نبينا ﷺ في قوله: ﴿وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا﴾ [الإسراء:٧٩] وهذا هو المقام المحمود عند جمهور العلم، والمقام المحمود: هو الشفاعة العظمى لنبينا ﷺ، واعلموا أن لرسولنا ﷺ أكثر من شفاعة، وسوف أذكركم اليوم بهذه الشفاعات، ولن أخرج عن صحيحي البخاري ومسلم.
الشفاعة الأولى: وهي الشفاعة العامة العظمى لنبينا ﷺ، جاء في صحيح البخاري ومسلم ومسند الإمام أحمد، وسنن الإمام الترمذي وسنن الإمام النسائي، وسنن الإمام ابن ماجة، وصحيح ابن حبان، ومستدرك الحاكم وغيرهم، والحديث رواه جمع كبير من صحابة البشير النذير ﷺ، إلى أن وصل الحديث إلى حد التواتر كما قال العلماء، والحديث من حديث أبي هريرة ﵁ قال: (وضع بين يدي رسول الله ﷺ قصعة من ثريد ولحم، فرفعت إلى رسول الله ذراع الشاة وكانت تعجبه، فنهس النبي منها نهسة -والنهس بالسين أي: الأخذ بالأسنان، وهو غير النهش بالشين، وهو: الأخذ بالأضراس- ثم نظر إلى الصحابة وقال لهم: أنا سيد الأولين والآخرين يوم القيامة، ثم التفت إليهم وقال لهم: أتدرون لم ذاك؟ -أي: أتعلمون لماذا أنا سيد الأولين والآخرين يوم القيامة؟ - فسكت الصحابة فقال لهم ﷺ: يجمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة في صعيد واحد، فينفذهم البصر، ويسمعهم الداع) أي: أن الأرض التي يحشر الناس عليها أرض ملساء لا شجر فيها ولا حجر فيها، حتى لا يظن مخلوق أنه سيختبئ على الله ﷿، ولماذا ينفذهم البصر؟ لأن البصر يومئذ حديد قال تعالى: ﴿فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ﴾ [ق:٢٢] غير وبدل كل شيء، وهنا يقول الحبيب ﷺ: (فيبلغ الناس من الهم والغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون) إي والله! يوم أن ينادى عليك؛ لتعرض على وكيل نيابة أو على قاض من قضاة الدنيا، يوم أن يحضر إليك المحضر، ويقدم لك الخطاب لا تنام الليل، ولا تذوق الطعام، ولا تذوق الشراب، فما بالكم بالعرض على محكمة ربنا جل وعلا؟! (يبلغ الناس من الهم والغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون، فيقول الناس بعضهم لبعض: ألا ترون ما قد بلغنا؟! ألا ترون ما نزل بنا؟! ألا ترون من يشفع لنا إلى ربنا؟! فيقول بعض الناس: أبوكم آدم، فتذهب الخلائق إلى آدم ويقولون له: يا آدم! أنت أبو البشر، خلقك الله بيده، وأمر الملائكة فسجدت لك، وأسكنك الجنة، ألا ترى ما قد بلغنا؟! ألا ترى ما وقع بنا؟! ألا تشفع لنا إلى ربك؟! فيقول آدم ﵇: إن ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، ولقد نهاني ربي عن الأكل من الشجرة فعصيته، نفسي نفسي! اذهبوا إلى غيري -آدم يقول: اذهبوا إلى غيري! - فيذهب الناس إلى نوح ﵇، ويقولون: يا نوح! إنك أول رسل الله إلى الأرض، وأنت الذي سماك الله عبدًا شكورًا، ألا ترى ما وقع بنا؟! ألا ترى ما قد بلغنا؟! ألا تشفع لنا إلى ربك؟! فيقول نوح: إن ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنه قد كانت لي دعوة فتعجلت فدعوت بها على قومي في الدنيا، نفسي نفسي! اذهبوا إلى غيري.
فيذهب الناس إلى خليل الرحمن فيقولون: يا إبراهيم! أنت خليل الله في الأرض، اشفع لنا إلى ربك ألا ترى ما قد بلغنا؟! فيقول إبراهيم: إن ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، وقد كذبت في الإسلام ثلاث كذبات).
وقد حدثتكم عن كذبات إبراهيم يوم أن نظر إلى النجوم: ﴿فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ﴾ [الصافات:٨٩] ويوم حطم الأصنام فقال: ﴿بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا﴾ [الأنبياء:٦٣] ويوم أن قال لزوجه سارة: قولي لهذا الطاغوت إذا ما دخلت عليه: أنا أخوك وأنت أختي (اذهبوا إلي غيري، نفسي نفسي! فيذهب الناس إلى موسى، ويقولون: يا موسى! لقد اصطفاك الله بكلامه ورسالاته، ألا ترى ما وقع بنا؟! ألا ترى ما قد بلغنا؟! اشفع لنا إلى ربك، فيقول موسى: إن ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني قد قتلت نفسًا لم أؤمر بقتلها، نفسي نفسي! اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى عيسى، فتذهب الخلائق إلى عيسى فيقولون: يا روح الله! إن الله قد اصطفاك، إنك كلمة الله وروحه، ألا ترى ما قد بلغنا؟! ألا ترى ما وقع بنا؟! اشفع لنا إلى ربك، فيقول عيسى: إن ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب مثله قبله ولن يغضب بعده مثله، ولم يذكر عيسى ﵊ ذنبًا من الذنوب، ويقول لهم: نفسي نفسي! اذهبوا إلى محمد بن عبد الله، إنه عبد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فتأتي الخلائق إلى حبيبنا المصطفى ﷺ، يقول الحبيب: فيقولون لي: يا رسول الله! إنك قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، وأنت خاتم الأنبياء والمرسلين، ألا ترى ما وقع بنا؟! ألا ترى ما قد بلغنا؟! ألا تشفع لنا إلى ربك؟! فيقوم الحبيب المصطفى ﷺ، فينطلق إلى عرش الرحمن، وإذا ما رأى الحبيب ربه جل وعلا سجد له، فيسجد ما شاء الله أن يسجد، ثم ينادي عليه العلي الأعلى ويقول له: يا محمد! ارفع رأسك وسل تعطه، وقل يسمع، واشفع تشفع، يقول ﷺ: فيلهمني الله جل وعلا بمحامد وثناء لم يلهم الله بها أحدًا من قبلي، فأحمد الله بمحامد علمنيها، ثم أشفع وأقول: يا رب! لقد وعدتني الشفاعة؛ فشفعني في الخلق لتقضي بينهم، فيرد عليه العلي الأعلى ويقول: نعم، آتيكم يا محمد؛ لأقضي بينكم).
هذه هي الشفاعة العامة، وهذه هي الرحمة المطلقة: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء:١٠٧] فيرجع الحبيب ﷺ؛ ليقف مع الناس في أرض المحشر حتى يجيء الحق جل وعلا مجيئًا يليق بجلاله، فينادي على عباده ويقول: يا عبادي! لقد أنصت إليكم كثيرًا في الدنيا، فأنصتوا اليوم إلي.
هذه هي الشفاعة الأولى لنبينا ﷺ.
3 / 6