شرح الدر النضيد في إخلاص كلمة التوحيد
شرح الدر النضيد في إخلاص كلمة التوحيد
اصناف
حكم التوسل بجاه النبي
ذهب أهل السنة والجماعة إلى أن التوسل بجاه النبي ﷺ توسل بدعي؛ وذلك لما يأتي: أولًا: من جهة الأثر، فنحن نتعبد الله بقال الله وقال الرسول، فأتونا بأثر عن الله ورسوله بأنه يجوز للإنسان أن يقول: اللهم بجاه النبي أعطني كذا، فإذا لم يجدوا فالأصل في العبادات التوقيف، يقول النبي ﷺ: (من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد) أي: باطل، وإذا كان التوسل عبادة فلا يمكن أن يتقرب بها العبد إلى الله جل في علاه إلا بأثر، ولا أثر عندكم، فإن قلتم: هذا زعم باطل، فهذا الأثر عن عثمان بن حنيف: (أن رجلًا ضريرًا الحديث) قلنا: هذا دليل محتمل، قالوا: إن هناك زيادة في الحديث قد نصح الراوي بها رجلًا أعمى في خلافة عثمان أن يدعو بمثل ذلك، قلنا: الحديث إن صح فسمعًا وطاعة، وأول من يتوسل بجاه النبي نحن؛ لأننا تعبدنا الله بالآثار، وندور مع شرعنا حيث دار، لكن لنا معكم وقفات في هذا الحديث: الأولى: أن هذه الزيادة في الحديث التي ذكرتموها ضعيفة، وإن كان أصل الحديث صحيحًا، ولكن قوله: (فإن كانت لك حاجة فأت بمثل ذلك) فقد أجمع المحدثون على أنه ضعيف، ولم يصححه أحد من أهل العلم، والأحكام والتعبدات فرع عن التصحيح، فلا حجة لكم فيه.
ثم نقول من باب التسليم جدلًا: إن صح الحديث فله توجيه آخر، وهو: أن النبي ﷺ قال: (إن كانت لك حاجة فأت بمثل ذلك)، المقصود منه: إن كانت لك حاجة فتعال إلي ادعو لك، وخذ هذا الدعاء وسيلة؛ ليقضي الله حاجتك، فإن قالوا: من أين أتيتم بهذا الفهم؟ قلنا: أتينا به من الأثر ومن فعل الأصحاب، أما من الأثر: فإن الراوي وهو يروي الحديث قال: إن الرجل قال: يا رسول الله! ادع الله لي، وهذا ليس توسلًا محضًا بذات النبي، بل هو صريح في طلب الدعاء منه ﷺ، فقوله في صدر الحديث: يا محمد ﷺ! يا نبي الرحمة! أتوسل بدعائك، وقوله: ادع الله لي، يبين لنا أنه توسل بدعاء النبي، ثم قال الرجل بعدما انتهى من الصلاة: (اللهم شفعه في وشفعني فيه) وهذه الزيادة ثابتة، ومعناها: تقبل دعائه في، واقبل توسلي بدعاء النبي ﷺ لي، وهذا توسل ظاهر بدعاء النبي ﷺ، فرد الله عليه بصره.
الثانية: من فعل الأصحاب، فإن عمر بن الخطاب ﵁ وأرضاه لما جاءه قومه وقالوا: هلك المال وجاع العيال، فتذكر عمر الأيام الخوالي وبكى، وكأنه يقول: أين أنا من رسول الله عندما دخل عليه رجل وهو على المنبر فقال: يا رسول الله! هلكت الأموال، وجاع العيال؟ وقال -وكأنه يتوسل بدعاء النبي ﷺ: ادع الله أن أن يغيثنا، فقال النبي ﷺ: (اللهم أغثنا، فما نزل النبي ﷺ من على المنبر، إلا والمطر يتحادر من على لحيته) فذهب عمر إلى العباس، وقال: اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبيك، واليوم نتوسل إليك بعم نبينا، أو بعم نبيك فاسقنا، -فتوسل بدعاء العباس، وهذا ظاهر وجلي بفضل الله ﷾ فقام عمر على مجمع ومحفل من الصحابة وقال: يا عباس! قم فادع الله أن يسقينا، والمعنى: نتوسل بدعائك لقرابتك من النبي ﷺ، فسقاهم الله جل في علاه، وكان عمر فقيهًا عالمًا محدثًا، وكان الصحابة أعلم بكل صغير وكبير، ودقيق وجليل عن النبي ﷺ، فعلمهم وتربوا على مائدته، فلو كان من الجواز بمكان أن يذهبوا إلى قبر النبي فيتوسلوا بجاهه لفعلوا، فلما امتنعوا من ذلك مع وجود الحاجة إليه دل على أنه لا يجوز التوسل به ﷺ، وهناك قاعدة قعدها العلماء، فقالوا: إذا وجد المقتضي وانتفى المانع، ولم تحدث العبادة فهي حرام باطلة، فالمقتضي هنا موجود وهو الجدب وهلاك المال وجوع العيال، والمانع منتفي، فليس هناك ما يمنعهم أن يذهبوا إلى الحجرة الكريمة، ويقولوا: اللهم إنا نتوسل إليك بجاه النبي أن تسقنا، ولم يفعل عمر ولا الصحابة ذلك، وأجمعوا إجماعًا سكوتيًا على فعل عمر وذهابه إلى العباس يستسق بدعائه، فدل ذلك على أن هذا إجماع من الصحابة، وأنه لا يجوز بحال من الأحوال التوسل بجاه النبي ﷺ.
وأما قول العز بن عبد السلام بجواز التوسل بجاه النبي ﷺ، فإنه قد علق الجواز على صحة الخبر، وإذا كان الخبر فيه هذه الزيادة التي لم تصح فلا حجة فيه.
إذًا: التوسل البدعي هو أن يتوسل بشيء أجنبي عن الدعاء، كجاه النبي ﷺ، وهذا التوسل لا يجوز، ولا ينفع صاحبه بشيء.
4 / 12