The Doctrine of the Ash'ari Majority on the Quran
مذهب جمهور الأشاعرة في القرآن
اصناف
مذهبُ جمهور الأشاعرة في القرآن
باطنُه الاعتزال، وظاهره التستُّر بمذهب السلف
1 / 1
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فإن مذهب السلف وأهل السنة والحديث أنّ القرآن المنزل على نبينا محمد ﷺ كلامُ الله غير مخلوق كيفما تصرف، وأن الله تعالى تكلّم به حقيقة، وأن جبريل سمعه من الله تعالى، وسمعه النبي ﷺ من جبريل، وسمعه المسلمون من نبيهم محمد ﷺ، ثم بلّغه بعضهم إلى بعض.
وأقوال السلف والأئمة في ذلك كثيرة جدًا، وسنكتفي بإيراد شيء يسير منها، لأنّ غرضنا في هذا البحث هو بيان موافقة جمهور الأشعرية للمعتزلة في القول بخلق القرآن العربي المُثبَت في المصحف، وليس تقرير مذهب السلف، فهو معلوم مشهور، وقد كتبنا في ذلك رسالة، وهي منشورة بعنوانـ "القرآن العربي المُثبَت بين دفتي المصحف كلام الله تعالى، مُنزل، غير مخلوق كيفما تصرف".
1 / 2
- أقوال بعض السلف والأئمة في أنّ القرآن حيثما تصرَّف كلام الله تعالى غير مخلوق:
قال الإمام أحمد بن حنبل: "القرآن كلام الله ليس بمخلوق على كل وجه، وعلى كل جهة، وعلى أيّ حال" (^١).
وقال أيضًا: "القرآن على أي جهة ما كان لا يكون مخلوقا أبدًا" (^٢).
وقال أيضًا: "قال الله ﷿ في كتابه ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ﴾ [التوبة:٦]، فجبريل سمعه من الله، وسمعه النبي من جبريل، وسمعه أصحاب النبي من النبي، فالقرآن كلام الله غير مخلوق، ولا نشك ولا نرتاب فيه" (^٣).
وقال الإمام محمد بن أسلم الطوسي (المتوفى: ٢٤٢ هـ): "القرآن كلام الله غير مخلوق أينما تُلي وحيثما كُتب، لا يتغير ولا يتحول ولا يتبدل" (^٤).
وقال الإمام محمد بن إسماعيل البخاري (المتوفى: ٢٥٦ هـ): "فأما القرآن المتلو المبين المثبت في المصاحف المسطور المكتوب الموعى في القلوب، فهو كلام الله ليس بخلق" (^٥).
_________
(^١) محنة الإمام أحمد (ص: ٦٩).
(^٢) الإبانة الكبرى لابن بطة (٥/ ٣٣٣) المحقق: رضا معطي، وعثمان الأثيوبي، ويوسف الوابل، دار الراية للنشر والتوزيع- الرياض.
(^٣) المصدر السابق (٦/ ٣٢).
(^٤) العلو للعلي الغفار (ص: ١٩٢) تحقيق: أبو محمد أشرف بن عبد المقصود، مكتبة أضواء السلف - الرياض، ط/ الأولى، ١٩٩٥ م.
(^٥) خلق أفعال العباد (ص: ٤٧) تحقيق: د. عبدالرحمن عميرة، دار المعارف السعودية- الرياض، ١٣٩٨ - ١٩٧٨ م.
1 / 3
وقال أيضًا: "وهو [أي: القرآن] مكتوب في المصاحف، محفوظ في الصدور، مقروء على اللسان، والقراءة والحفظ والكتابة مخلوق، وما قُرئ وحُفظ وكُتب ليس بمخلوق" (^١).
وقال الإمام محمد بن يحيى الذهلي (المتوفى: ٢٥٨ هـ): "القرآن كلام الله غير مخلوق بجميع جهاته وحيث تصرف" (^٢).
وروى الحافظ أبو القاسم هبة الله اللالكائي بسنده إلى الإمامين أبي زرعة الرازي (المتوفى: ٢٦٤ هـ) وأبي حاتم الرازي (المتوفى: ٢٧٧ هـ) أنهما قالا: "أدركنا العلماء في جميع الأمصار حجازًا وعراقًا وشامًا ويمنًا فكان من مذهبهم: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، والقرآن كلام الله غير مخلوق بجميع جهاته" (^٣).
وقال الإمام أبو محمد ابن قتيبة (المتوفى: ٢٧٦ هـ): "لأنهم [أي: أهل الحديث] مجمعون على أصل واحد، وهو القرآن كلام الله غير مخلوق في كل موضع، وبكل جهة، وعلى كل حال" (^٤).
_________
(^١) المصدر السابق (ص: ١١٥).
(^٢) العلو للعلي الغفار (ص: ١٨٦).
(^٣) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (١/ ١٩٨) تحقيق: أحمد بن سعد الغامدي، دار طيبة - السعودية، ط/ الثامنة، ١٤٢٣ هـ ٢٠٠٣ م.
(^٤) الاختلاف في اللفظ والرد على الجهمية (ص: ٥٧) المحقق: عمر بن محمود أبو عمر، دار الراية، ط/ الأولى ١٤١٢ هـ- ١٩٩١ م.
1 / 4
وقال الإمام عثمان بن سعيد الدارمي (المتوفى: ٢٨٠ هـ): "فهو [أي: القرآن] مع تصرفه في كل أحواله كلام الله غير مخلوق" (^١).
وقال الإمام ابن جرير الطبري (المتوفى: ٣١٠ هـ): "غير جائزٍ أن يتحول كلامُ الله ﷿ مخلوقًا بقراءة قارئٍ، أو كتابة كاتبٍ، أو حفظ حافظٍ" (^٢).
وقال أيضًا: "فأول ما نبدأ بالقول فيه من ذلك عندنا القرآن كلام الله وتنزيله، إذ كان من معاني توحيده، فالصواب من القول في ذلك عندنا أنه كلام الله غير مخلوق كيف كُتب، وحيث تُلي، وفي أي موضع قرئ، في السماء وُجد، وفي الأرض حيث حفظ، في اللوح المحفوظ كان مكتوبًا، وفي ألواح صبيان الكتاتيب مرسومًا في حجر نقش أو في ورق خط، أو في القلب حفظ، وبلسان لفظ ... يقول الله ﷿: ﴿بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (٢١) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ﴾ [البروج:٢١ - ٢٢]، وقال وقوله الحق ﷿ ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ﴾ [التوبة:٦]، فأخبر جل ثناؤه أنه في اللوح المحفوظ مكتوب، وأنه من لسان محمد مسموع، وهو قرآن واحد، من محمد مسموع، في اللوح المحفوظ مكتوب، وكذلك هو في الصدور محفوظ، وبألسن الشيوخ والشباب متلو" (^٣).
_________
(^١) نقض الإمام الدارمي على المريسي (١/ ٥٦٩) مكتبة الرشد للنشر والتوزيع، المحقق: رشيد بن حسن الألمعي، ط/ الأولى، ١٤١٨ هـ - ١٩٩٨ م.
(^٢) التبصير في معالم الدين (ص: ١٥٠) المحقق: علي بن عبد العزيز الشبل، دار العاصمة، ط/ الأولى ١٤١٦ هـ - ١٩٩٦ م.
(^٣) صريح السنة (ص: ١٨ - ١٩) تحقيق: بدر يوسف المعتوق، دار الخلفاء للكتاب الإسلامي- الكويت، ط/ الأولى، ١٤٠٥ هـ.
1 / 5
وقال أبو الشيخ الأصبهاني (المتوفى: ٣٦٩ هـ): "إنّ القرآن كلام الله تكلّم به، من أوله إلى آخره كلام الله غير مخلوق، فالمنكر فيه كالشاك، والشك والإنكار فيه كفر، فالمنكر الجهمي والشاك الواقفي، وهو كلامه في الأحوال كلها حيث تلي وتصرف في الدفتين بين اللوحين، وفي صدور الرجال، وحيث ما قرئ في المحاريب وغيرها، وحيث ما سمع أو حفظ، أو كُتب، أو تُلي" (^١).
وقال الإمام الحافظ أبو بكر الإسماعيلي (المتوفى: ٣٧١ هـ): "ويقولون [أي: أهل السنة والحديث]: القرآن كلام الله غير مخلوق، وأنه كيفما يصرف بقراءة القارئ له وبلفظه، ومحفوظًا في الصدور، متلوًا بالألسن، مكتوبًا في المصاحف غير مخلوق" (^٢).
وقال الإمام ابن بطة عبيد الله بن محمد بن حمدان العكبري (المتوفى: ٣٨٧ هـ): "القرآن كلام الله، ووحيه، وتنزيله، وعلم من علمه، فيه أسماؤه الحسنى، وصفاته العليا، غير مخلوق كيف تصرف، وعلى كل حال، لا نقف، ولا نشك، ولا نرتاب" (^٣).
_________
(^١) الحجة في بيان المحجة (١/ ٢٣٨ - ٢٣٩) المحقق: محمد بن ربيع المدخلي، دار الراية - السعودية، ط/ الثانية، ١٤١٩ ه.
(^٢) اعتقاد أئمة الحديث (ص: ٥٩ - ٦٠) تحقيق: محمد بن عبد الرحمن الخميس، دار العاصمة - الرياض، ط/الأولى، ١٤١٢ هـ.
(^٣) الإبانة الكبرى (٥/ ٣٤٥ - ٣٤٦).
1 / 6
وقال الإمام أبو حامد الإسفراييني (المتوفى: ٤٠٦): "مذهبي ومذهب الشافعي وفقهاء الأمصار أنّ القرآن كلام الله غير مخلوق، ومن قال مخلوق فهو كافر، والقرآن حمله جبريل مسموعًا من الله تعالى، والنبي ﷺ سمعه من جبريل، والصحابة سمعوه من النبي ﷺ، وهو الذي نتلوه نحن بألسنتنا، فما بين الدفتين، وما في صدورنا مسموعًا ومكتوبًا ومحفوظًا ومنقوشًا كل حرف منه كالباء والتاء كله كلام الله غير مخلوق" (^١).
وقال الحافظ أبو القاسم اللالكائي الشافعي (المتوفى: ٤١٨ هـ) بعد أن ساق أقوال جماعة من السلف في المنع من إطلاق "لفظي بالقرآن مخلوق": "فرجع كلام هؤلاء الأئمة ﵏ في أنّ القرآن مسموع من الله على الحقيقة، وحين يقرؤه القارئ فلا يكون من لفظ القارئ القرآنُ ككلام الآدميين حين يلفظ به فيكون مخلوقا، وكلام الله لا يشبه كلامهم، لأنه غير مخلوق" (^٢).
وقال الحافظ أبو نعيم الأصبهاني (المتوفى: ٤٣٠ هـ): "طريقتنا طريقة السلف المتبعين للكتاب والسنة وإجماع الأمة، ومما اعتقدوه ... وأن القرآن كلام الله، وكذلك سائر كتبه المنزلة كلامه غير مخلوق، وأن القرآن في جميع الجهات مقروءا ومتلوًا ومحفوظًا ومسموعًا ومكتوبًا وملفوظًا كلام الله حقيقة" (^٣).
_________
(^١) نَقَلَ قول أبي حامد هذا أبو الحسن الكرجي في كتابه الفصول في الأصول عن الأئمة الفحول، نقلًا من كتاب شرح العقيدة الأصفهانية لابن تيمية (ص: ٥٧ - ٥٨) تحقيق: إبراهيم سعيداي، مكتبة الرشد - الرياض، ط/ الأولى، ١٤١٥ هـ.
(^٢) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (٢/ ٣٩٠).
(^٣) العلو للعلي الغفار (ص: ٢٤٣).
1 / 7
وقال شيخ الإسلام أبو عثمان الصابوني (المتوفى: ٤٤٩ هـ): "ويشهد أصحاب الحديث ويعتقدون أن القرآن كلام الله وكتابه، ووحيه وتنزيله غير مخلوق، ... هو الذي تحفظه الصدور، وتتلوه الألسنة، ويكتب في المصاحف، كيف ما تصرف بقراءة قارئ، ولفظ لافظ، وحفظ حافظ، وحيث تلي، وفي أي موضع قرئ وكتب في مصاحف أهل الإسلام، وألواح صبيانهم وغيرها كله كلام الله ﷿ غير مخلوق" (^١).
وقال الحافظ أبو القاسم التيمي الأصبهاني الشافعي الملقب بقوام السنة (المتوفى: ٥٣٥ هـ): "قال أصحاب الحديث وأهل السنة: إن القرآن المكتوب الموجود في المصاحف، والمحفوظ الموجود في القلوب، هو حقيقة كلام الله ﷿ ... ومذهب علماء السنة وفقهائهم أنّه الذي تكلم الله به، وسمعه جبريل من الله، وأدى جبريل إلى النبي ﷺ، وتحدى به النبي ﷺ، وجعله الله ﷿ دلالة على صدق نبوته ومعجزة، وأدى النبي ﷺ إلى الصحابة رضوان الله عليهم حسب ما سمعه من جبريل ﵇، ونقله السلف إلى الخلف قرنا بعد قرن" (^٢).
_________
(^١) عقيدة السلف وأصحاب الحديث (ص: ١٦٥ - ١٦٦) دراسة وتحقق: د. ناصر الجديع، دار العاصمة للنشر والتوزيع.
(^٢) الحجة في بيان المحجة (١/ ٤٠٠).
1 / 8
وقال الإمام يحيى ابن أبي الخير العِمراني شيخ الشافعيين باليمن (المتوفى: ٥٥٨ هـ):"القرآن عند أصحاب الحديث هو الكتاب الذي أنزله الله تعالى على نبيه محمد ﷺ، وهو القرآن العربي، السور والآيات، المتلو باللسان، والمسموع بالآذان، المعقول بالأذهان، المحفوظ في الصدور، المكتوب بالمصاحف بالسطور، له أول وآخر وبعض" (^١).
وقال الإمام العارف عبد القادر الجيلاني (المتوفى: ٥٦١ هـ): "ونعتقد أن القرآن كلام الله وكتابه وخطابه ووحيه الذي نزل به جبريل على رسول الله ﷺ ... وقال ﷿: ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ﴾ [التوبة:٦]، وكلام الله تعالى هو القرآن غير مخلوق كيفما قرئ وتلي وكتب، وكيفما تصرفت به قراءة قارئ، ولفظ لافظ، وحفظ حافظ، هو كلام الله وصفة من صفات ذاته ... وهو كلام الله في صدور الحافظين وألسن الناطقين وفي أكف الكاتبين وملاحظة الناظرين ومصاحف أهل الإسلام وألواح الصبيان حيثما رؤي ووُجد" (^٢).
وعلى كلٍ فمذهب السلف في القرآن - وأنه كلام الله تعالى منزل غير مخلوق حيثما تصرف، وأين كُتب وحيث تُلي- معلوم مشهور، وأقوالهم في ذلك أكثر من أن تُحصر، وما تقدم غيض من فيض.
_________
(^١) الانتصار في الرد على المعتزلة القدرية الأشرار (٢/ ٥٥٤) تحقيق: د. سعود الخلف، دار أضواء السلف - الرياض - السعودية.
(^٢) الغنية لطالبي طريق الحق (١/ ١٢٧ - ١٢٨) دار الكتب العلمية - بيروت - لبنان، ط/الأولى، ١٤١٧ هـ.
1 / 9
فالحاصل أنّ مذهب السلف وأهل السنة والحديث أنّ هذا القرآن العربي المكتوب في المصاحف، المحفوظ في الصدور، المقروء بالألسنة هو كلام الله تعالى بألفاظه ومعانيه، تكلّم الله تعالى به حقيقة، وسمعه جبريل من الله، وسمعه النبي ﷺ من جبريل، وسمعه المسلمون من نبيهم، ثم بلّغه بعضهم إلى بعض، وليس لأحد من الوسائط فيه إلا التبليغ بأفعاله وصوته، فالكلام كلام الباري والصوت صوت القارئ.
وإذا قرأه الناس بألسنتهم، أو كتبوه في المصاحف بأيديهم، أو حفظوه في صدورهم لم يخرج بذلك عن أن يكون كلام الله تعالى حقيقة، فإنّ الكلام إنما يضاف حقيقة إلى من قاله مبتدئًا لا إلى من قاله مبلغًا مؤديًا.
1 / 10
مذهبُ جمهور الأشاعرة في القرآن
باطنُه الاعتزال
وظاهره التستُّر بمذهب السلف
القرآنُ عند الأشاعرة يُطلق على أمرين اثنين:
الأول: الكلام النفسي القائم بذاته تعالى.
والثاني: القرآن المنزل على نبينا محمد ﷺ، المُثبت في المصاحف، المُتعبد بتلاوته.
فالأول وهو الكلام النفسي غير مخلوق، وأما الثاني وهو القرآن العربي الموجود بين دفتي المصحف فهو مخلوق عندهم، إلا أنهم يقولون: يمتنع أن يقال: القرآن مخلوق إلا في مقام التعليم؛ لأنه ربما أوهم أنّ القرآن النفسي مخلوق.
واختلفوا هل يُطلَق على القرآن المنزل على نبينا محمد ﷺ أنه كلام الله حقيقة أو مجازًا؟
فذهب جمهور المتقدمين منهم إلى أنه يُطلق عليه "كلام الله" مجازًا، وأنّ الكلام الحقيقي هو الكلام النفسي القائم بالذات.
1 / 11
وذهب بعضهم كإمام الحرمين الجويني - وتبعه كثير أو أكثر المتأخرين- إلى أن "كلام الله" لفظٌ مشترك، فيُطلق حقيقةً على كلٍ من الكلام النفسي، والقرآن المنزل المثبت في المصاحف المُتعبد بتلاوته.
وليس معنى كون القرآن المنزل هو كلام الله: أنّ الله تعالى تكلّم به، وإنما معناه عندهم أن الله تولّى خلقه في اللوح المحفوظ أو في غيره، وأنه ليس من تأليف البشر، فهذا هو وجه تسميته بـ"كلام الله" كما سيأتي مصرّحًا بذلك في أقوال أئمتهم وعلمائهم.
والحاصل أنّ مذهب جمهور الأشاعرة هو موافقة المعتزلة في القول بخلق القرآن العربي المنزل على نبينا محمد ﷺ، ولكنهم يتستّرون بمذهب السلف وأهل الحديث، فيقولون: القرآن كلام الله غير مخلوق، ويعنون بذلك الكلام النفسي القائم بالذات الذي لم يُنزل ولم يُسمع.
أما القرآن المنزل على نبينا محمد ﷺ، المكتوب في المصاحف، المقروء بالألسنة، المحفوظ في الصدور، فهو عندهم مخلوق، وهو عبارة ودلالة على الكلام النفسي.
فمذهبهم في القرآن مذهب مسقَّف، باطنه الاعتزال، وظاهره التستر بمذهب السلف، وما أحسن ما قيل فيهم أنهم قدّموا رِجْلًا نحو الاعتزال، وأخّروا أخرى نحو مذهب السلف وأصحاب الحديث، وكلام الأئمة في تستُّر الأشاعرة بمذهب السلف كثير مشهور، من ذلك ما يلي:
1 / 12
- قال الإمام ابن بطة عبيد الله بن محمد بن حمدان العكبري (المتوفى: ٣٨٧ هـ): "واعلموا رحمكم الله أن صنفًا من الجهمية اعتقدوا بمكر قلوبهم، وخبث آرائهم، وقبيح أهوائهم، أن القرآن مخلوق، فكنوا عن ذلك ببدعة اخترعوها، تمويها وبهرجة على العامة، ليخفى كفرهم، ويستغمض إلحادهم على من قل علمه، وضعفت نحيزته، فقالوا: إن القرآن الذي تكلم الله به وقاله فهو كلام الله غير مخلوق، وهذا الذي نتلوه ونقرؤه بألسنتنا، ونكتبه في مصاحفنا ليس هو القرآن الذي هو كلام الله، هذا حكاية لذلك، فما نقرؤه نحن حكاية لذلك القرآن بألفاظنا نحن، وألفاظنا به مخلوقة، فدققوا في كفرهم، واحتالوا لإدخال الكفر على العامة بأغمض مسلك، وأدق مذهب، وأخفى وجه، فلم يخف ذلك بحمد الله ومنّه وحسن توفيقه على جهابذة العلماء والنقاد العقلاء، حتى بهرجوا ما دلسوا، وكشفوا القناع عن قبيح ما ستروه، فظهر للخاصة والعامة كفرهم وإلحادهم، ... " (^١).
- وقال الحافظ أبو نصر السجزي (المتوفى: ٤٤٤ هـ): "عند المعتزلة أن الذي تحويه دفتا المصحف قرآن، وكذلك ما وعته الصدور، وكذلك ما يتحرك به لسان القارئ، وكل ذلك مخلوق.
وعند أهل السنة أن ذلك قرآن غير مخلوق.
_________
(^١) الإبانة الكبرى (٥/ ٣١٧ - ٣١٨).
1 / 13
وعند الأشعري أنه مخلوق وليس بقرآن، وإنما هو عبارة عنه. وكذلك كثير من مذهبه يقول في الظاهر بقول أهل السنة مجملًا، ثم عند التفسير والتفصيل يرجع إلى قول المعتزلة، فالجاهل يقبله بما يظهره، والعالم يجهره لما منه يخبره، والضرر بهم أكثر منه بالمعتزلة لإِظهار أولئك ومجاوبتهم أهل السنة، وإخفاء هؤلاء ومخالطتهم أهل الحق. نسأل الله السلامة من كلٍ برحمته" (^١).
وقال أيضًا: "قد أطلق الأشعري أن هذه التسميات [أي: التوراة والإنجيل والزبور والقرآن] لم يستحقها كلام الله في الأزل، وإنما هي تسميات للعبارات المختلفة التي نزلت في الأزمان المتغايرة، وكلّ ذلك محدث. فبين أن التوراة اسم الكتاب بالسريانية، وأنه محدث، وأن القرآن اسم الكتاب بالعربية وأنه محدث. فقوله: القرآن غير مخلوق مع هذا القول تلاعب" (^٢).
- وقال شيخ الإسلام أبو إسماعيل الهروي (المتوفى: ٤٨١ هـ): "قالوا [أي: الأشعرية]: ليس هو صوت ولا حروف، وقالوا هذا زاج وورق، وهذا صوف وخشب، ... وهذا صوت القارئ ما ترى منه حسن ومنه قبيح، وهذا لفظه أو ما تراه يجازى به حتى قال رأس من رؤوسهم: أو يكون قرآن من لبد؟! وقال آخر من خشب؟
_________
(^١) رسالة الحافظ أبي نصر السجزي إلى أهل زبيد في الرد على من أنكر الحرف والصوت (ص: ٢٧٨).
(^٢) المصدر السابق (ص: ١٥٨ - ١٥٩).
1 / 14
فراوغوا فقالوا: هذا حكاية عبر بها عن القرآن، والله تكلّم مرة ولا يتكلم بعد ذلك.
ثم قالوا: غير مخلوق، ومن قال مخلوق فهو كافر، وهذا من فخوخهم يصطادون به قلوب عوام أهل السنة، وإنما اعتقادهم أن القرآن غير موجود" (^١).
- وقال الإمام أبو الوفاء ابن عقيل (المتوفى:٥١٣) في خطبة كتابه في القرآن: "أما بعد، فإن سبيل الحق قد عفت آثارها، وقواعد الدين قد انحط شعارها، والبدعة قد تضرّمت نارها، وظهر في الآفاق شرارها، وكتاب الله ﷿ بين العوام غرض ينتضل، وعلى ألسنة الطغام بعد الاحترام يبتذل، وتضرب آياته بآياته جدالًا وخصامًا، تنتهك حرمته لغوًا وآثامًا، قد هون في نفوس الجهال بأنواع المحال، حين قيل: ليس في المصحف إلا الورق والخط المستحدث المخلوق، وإن سلطت عليه النار احترق، وأشكال في قرطاس قد لفقت، إزدراء بحرمته واستهانة بقيمته، وتطفيفًا في حقوقه، وجحودًا لفضيلته حتى لو كان القرآن حيًا ناطقًا لكان ذلك متظلمًا، ومن هذه البدعة متوجعًا متألمًا، أترى ليس هذا الكتاب الذي قال الله فيه ﴿لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾ [فصلت:٤٢]، وقال: ﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (٧٧) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ﴾ [الواقعة:٧٧ - ٨٠]،
_________
(^١) ذم الكلام وأهله (٥/ ١٣٦٠١٣٧) تحقيق: عبد الله الأنصاري، مكتبة الغرباء الأثرية - المدينة، ط/ الأولى، ١٤١٩ هـ.
1 / 15
وقال: ﴿وَالطُّورِ (١) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (٢) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ﴾ [الطور:١ - ٣]، أو ليس الحبر والورق قبل ظهور الحروف المكتوبة لا يمنع من مسّه المحدثون، وإذا ظهرت الحروف المكتوبة صار ﴿لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ﴾ [الواقعة:٧٩]، أليس هذا الكتاب الذي قال فيه صاحب الشريعة تنزيلا وتجليلا: «لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن تناله أيديهم»، أليس الله تعالى يقول في كتابه ﴿يَايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ﴾ [مريم:١٢]، وقال في حق موسى ﴿وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ﴾ [الأعراف:١٤٥] أفترى من القوة تهوينها عند المكلفين، والازدراء بها عند المتخلفين، يزخرفون للعوام عبارة يتوقون بها إنكارهم، ويدفنون فيها معنى لو فهمه الناس لعجلوا بوارهم، ويقولون: تلاوة ومتلو وقراءة ومقروء، وكتابة ومكتوب، هذه الكتابة معلومة فأين المكتوب؟ وهذه التلاوة مسموعة فأين المتلو؟
يقولون: القرآن عندنا قديم قائم بذاته سبحانه، وإنما هي زخارف لبسوا بها ضلالتهم، وإلا فالقرآن مخلوق عندهم لا محالة، فقد انكشف للعلماء منهم هذه المقالة يقدِّمون رِجْلًا نحو الاعتزال فلا يتجاسرون، ويؤخِّرون أخرى نحو أصحاب الحديث ليستتروا فلا يتظاهرون.
1 / 16
إن قلنا لهم: ما مذهبكم في القرآن؟ قالوا: قديم غير مخلوق، وإن قلنا: فما القرآن؟ أليس هو السور المسورة، والآيات المسطرة في الصحف المطهرة؟ أليس هو المحفوظ في صدور الحافظين؟ أليس هو المسموع من ألسنة التالين؟ قالوا: إنما هو حكايته، وما أشرتم إليه عبارته، وأما القرآن فهو قائم في نفس الحق غير ظاهر في إحساس الخلق، فانظروا معاشر المسلمين إلى مقالة المعتزلة كيف جاؤوا بها في صورة أخرى" (^١).
- وقال الحافظ أبو القاسم التيمي الأصبهاني (المتوفى: ٥٣٥ هـ): "ظَهَرَت المعتزلةُ فقدحت في كتاب الله، وقالت: بخلق القرآن، وقدحت في أحاديث رسول الله ﷺ، ... أرادوا نقض أصول الدين، فلما لم يتم لهم ما قصدوه تبعهم الكلّابي فوضع كلامًا ظاهره موافق، وباطنه موبق، وقال: لا أقول القرآن مخلوق، ولكن أقول: إنّ الذي في مصاحفنا ليس كلام الله، ولكنه عبارة عن كلامه، وكلامه قديم قائم بذاته" (^٢).
- وقال الإمام يحيى ابن أبي الخير العمراني شيخ الشافعيين باليمن (المتوفى: ٥٥٨ هـ): "وادعت الأشعرية قرآنًا وكلامًا لله لا يعقل [أي: المعنى النفسي]، ولم يسبقهم إلى هذا القول أحد من أهل الملل والنحل، فردُّهم على المعتزلة بخلق القرآن تمويه وتستُّر بقول أصحاب الحديث، وهو مذهب مسقّف باطنه الاعتزال وظاهره التستر" (^٣).
_________
(^١) مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة (ص: ٥٢٤ - ٥٢٥) المحقق: سيد إبراهيم، دار الحديث، القاهرة - مصر، ط/ الأولى، ١٤٢٢ هـ- ٢٠٠١ م.
(^٢) الحجة في بيان المحجة (٢/ ٥٠٥).
(^٣) الانتصار في الرد على المعتزلة القدرية الأشرار (٢/ ٥٨٣).
1 / 17
وقال أيضًا: "وأما قوله [أي: الغزالي]: إنّ القرآن مكتوب في المصاحف محفوظ بالقلوب مقروء بالألسنة، فإن أراد بذلك القرآن الذي هو كلام الله حقيقة قلنا هذا صحيح وبطل أن يكون لله كلامًا قائما بذاته لا يفارقه، وكان هذا قول أصحاب الحديث.
وإن أراد بذلك العبارة عن القرآن الذي هو قائم بذات الباري كان قوله هذا قولًا فارغا لا معنى تحته غير التستّر بقول أصحاب الحديث، وعليه يدل قوله: إنّ القرآن مكتوب في المصاحف، لأنه لو صرح وقال ليس القرآن مكتوبًا في المصاحف، وإنما المكتوب به أدلة القرآن لكان مخالفا لما عليه أدلة [أئمة] المسلمين، ولكنه سقّف قوله.
والأشعرية قدَّموا رِجْلًا إلى الاعتزال وَوَضَعوها حيث وضعت المعتزلة أَرْجُلَهم، وأموا بالرِّجْل الأخرى إلى حيث وضع أهل الحديث أرجلهم، وهذا مثال عقلي يفقهه مَن فهم قولهم" (^١).
_________
(^١) المصدر السابق (٢/ ٥٩٥).
1 / 18
وقال أيضًا: "الأشعرية قالوا: كلام الله الحقيقي هو معنى قائم في نفسه لا يفارقه، لا يدخل كلامه النظم والتأليف والتعاقب، ولا يكون بحرف وصوت، ولا يتكلم الله بالعربية ولا بغيرها من اللغات، وليس له أول ولا آخر ولا بعض، بل هو شيء واحد لم ينزله الله على نبينا محمد ﷺ، ولا على أحد من الأنبياء، ولا يتلى ولا يكتب ولم يسمعه أحد إلا موسى ﵇، وهذه السور والآيات عبارة وحكاية عن كلام الله وتسمى قرآنًا، وكذلك التوراة عبارة عن كلام الله بلغه موسى قومه، والإنجيل عبارة عن كلام الله بلغه عيسى قومه، فادعوا أن كلام الله غير القرآن، وأن القرآن غير كلام الله. فقولهم: إنّ القرآن غير مخلوق، تلاعبٌ وخُلْفٌ من الكلام" (^١).
وقال موفق الدين ابن قدامة (المتوفى: ٦٢٠ هـ): "وعند الأشعري أنها [أي: الآيات والسور] مخلوقة، فقوله قول المعتزلة لا محالة، إلا أنه يريد التلبيس، فيقول في الظاهر قولًا يوافق أهل الحق، ثم يفسّره بقول المعتزلة" (^٢).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية (المتوفى: ٧٢٨ هـ): "الفضلاء إذا تدبروا حقيقة قولكم الذي أظهرتم فيه خلاف المعتزلة وجدوكم قريبين منهم أو موافقين لهم في المعنى كما في مسألة الرؤية فإنكم تتظاهرون بإثبات الرؤية والرد على المعتزلة، ثم تفسرونها بما لا ينازع المعتزلة في بيانه، ولهذا قال من قال من الفضلاء في الأشعري: إن قوله قول المعتزلة، ولكنه عدل عن التصريح إلى التمويه.
_________
(^١) المصدر السابق (٢/ ٥٥٤ - ٥٥٥).
(^٢) المناظرة في القرآن (ص: ٤٧).
1 / 19
وكذلك قولكم في مسألة القرآن فإنه لما اشتهر عند الخاص والعام أن مذهب السلف والأئمة أن القرآن كلام الله غير مخلوق، وأنهم أنكروا على الجهمية المعتزلة وغيرهم الذين قالوا إنه مخلوق حتى كفّروهم، وصبر الأئمة على امتحان الجهمية مدة استيلائهم حتى نصر الله أهل السنة وأطفأ الفتنة، فتظاهرتم بالرد على المعتزلة، وموافقة السنة والجماعة، وانتسبتم إلى أئمة السنة في ذلك، وعند التحقيق: فأنتم موافقون للمعتزلة من وجه، ومخالفوهم من وجه، وما اختلفتم فيه أنتم وهم، فأنتم أقرب إلى السنة من وجه، وهم أقرب إلى السنة من وجه، وقولهم أفسد في العقل والدين من وجه، وقولكم أفسد في العقل والدين من وجه.
ذلك أنّ المعتزلة قالوا: إن كلام الله مخلوق منفصل عنه، والمتكلم من فعل الكلام، وقالوا: إن الكلام هو الحروف والأصوات، والقرآن الذي نزل به جبريل هو كلام الله، وقالوا: الكلام ينقسم إلى أمر ونهي وخبر، وهذه أنواع الكلام لا صفاته، والقرآن غير التوراة، والتوراة غير الإنجيل وأن الله سبحانه يتكلم بما شاء.
وقلتم أنتم: إن الكلام معنى واحد قديم قائم بذات المتكلم هو الأمر والنهي والخبر، وهذه صفات الكلام لا أنواعه، فإن عبر عن ذلك المعنى بالعبرية كان توراة، وإن عبر عنه بالسريانية كان إنجيلا، وإن عبر عنه بالعربية كان قرآنًا، والحروف المؤلفة ليست من الكلام، ولا هي كلام، والكلام الذي نزل به جبريل من الله ليس كلام الله، بل حكاية عن كلام الله، كما قاله ابن كلاب، أو عبارة عن كلام الله كما قاله الأشعري.
1 / 20