The Creativity in Stating the Perfection of Law and the Danger of Innovation
الإبداع في بيان كمال الشرع وخطر الابتداع
ناشر
طبع على نفقة فاعل خير
پبلشر کا مقام
بموجب تصريح من وزارة الإعلام بجدة
اصناف
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أرسله الله تعالى بالهدى ودين الحق فبلغ الرسالة وأدى الأمانة، ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، وترك أمته على محجة بيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك؛ بيّن فيها ما تحتاجه الأمة في جميع شئونها حتى قال أبو ذر ﵁: «ما ترك النبي ﷺ طائرًا يقلب جناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه علمًا» (١) . وقال رجل من المشركين لسلمان الفارسي ﵁: علمكم نبيكم حتى الخراة - آداب قضاء الحاجة - قال: «نعم، لقد نهانا أن نستقبل القبلة بغائط أو بول أو أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار، أو أن نستنجي باليمين أو أن نستنجي برجيع أو عظم» (٢) .
_________
(١) رواه الإمام أحمد ٢١٦٨٩ و٢١٧٧٠ و٢١٧٧١.
(٢) رواه مسلم كتاب الطهارة باب الاستطابة ٢٦٢.
1 / 4
* وإنك لترى هذا القرآن العظيم قد بين الله تعالى فيه أصول الدين وفروع الدين فبين التوحيد بجيمع أنواعه، وبين حتى آداب المجالس والاستئذان، قال تعالى: ﴿يأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُواْ في الْمَجَالِسِ فَافْسَحُواْ يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ﴾ (المجادلة ١١) . وقال تعالى: ﴿يأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُواْ وَتُسَلِّمُواْ عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فِيهَآ أَحَدًا فَلاَ تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمُ وَإِن قِيلَ لَكُمْ ارْجِعُواْ فَارْجِعُواْ هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾ (النور ٢٧-٢٨) . حتى آداب اللباس قال الله تعالى: ﴿وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَآءِ الَّلَاتِى لاَ يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتِ بِزِينَةٍ﴾ (النور ٦٠) .
1 / 5
﴿يأَيُّهَا النَّبِىُّ قُل لاَِزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَآءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾ (الاحزاب ٥٩) . ﴿وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ﴾ (النور ٣١) .
﴿وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا﴾ (البقرة ١٨٩) إلى غير ذلك من الايات الكثيرة التي يتبين بها أن هذا الدين شامل كامل لا يحتاج إلى زيادة كما أنه لا يجوز فيه النقص، ولهذا قال الله تعالى في وصف القرآن: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَبَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شيء﴾ (النحل ٨٩)، فما من شيء يحتاج الناس إليه في معادهم ومعاشهم إلا بينه الله تعالى في كتابه إما نصًّا أو إيماء وإما منطوقًا وإما مفهومًا.
1 / 6
* أيها الأخوة: إن بعض الناس يفسر قول الله تعالى: ﴿وَمَا مِن دَآبَّةٍ في الاَْرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَّا فَرَّطْنَا في الكِتَبِ مِن شيء﴾ (الأنعام ٣٨) . يفسر قوله: ﴿مَّا فَرَّطْنَا في الكِتَابِ مِن شيء﴾ على أن الكتاب القرآن، والصواب أن المراد بالكتاب هنا اللوح المحفوظ. وأما القرآن فإن الله تعالى وصفه بأبلغ من النفي وهو قوله: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَبَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شيء﴾ فهذا أبلغ وأبين من قوله: ﴿مَّا فَرَّطْنَا في الكِتَابِ مِن شيء ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ﴾ . ولعل قائلًا يقول أين نجد أعداد الصلوات الخمس في القرآن؟ وعدد كل صلاة في القرآن؟ وكيف يستقيم أننا لا نجد في القرآن بيان أعداد ركعات كل صلاة والله يقول: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَبَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شيء﴾؟
والجواب على ذلك أن الله تعالى بين لنا في كتابه أنه من الواجب علينا أن نأخذ بما قاله الرسول ﷺ وبما
1 / 7
دلنا عليه ﴿مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَآ أَرْسَلْنَكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا﴾ (النساء ٨٠)، ﴿وَمَآءَاتَكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ (الحشر ٧)، فما بينته السنة فإن القرآن قد دل عليه لأن السنة أحد قسمي الوحي الذي أنزله الله على رسوله وعلّمه إياه كما قال الله تعالى: ﴿وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا﴾ (النساء ١١٣)، وعلى هذا فما جاء في السنة فقد جاء في كتاب الله ﷿.
* أيها الأخوة: إذا تقرر ذلك عندكم فهل النبي ﷺ توفي وقد بقي شيء من الدين المقرب إلى الله تعالى لم يبيّنه؟
أبدًا فالنبي ﵊ بين كل الدِّين إما بقوله، وإما بفعله، وإما بإقراره إما ابتداءًا أو جوابًا عن سؤال، وأحيانًا يبعث الله أعرابيًا من أقصى البادية
1 / 8
ليأتي إلى رسول الله ﷺ يسأله عن شيء من أمور الدين لا يسأله عنه الصحابة الملازمون لرسول الله ﷺ ولهذا كانوا يفرحون أن يأتي أعرابي يسأل النبي ﷺ عن بعض المسائل. ويدلك على أن النبي ﷺ ما ترك شيئًا مما يحتاجه الناس في عبادتهم ومعاملتهم وعيشهم إلا بينه يدلك على ذلك قوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نعمتي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِينًا﴾ (المائدة ٣) .
* إذا تقرر ذلك عندك أيها المسلم فاعلم أن كل من ابتدع شريعة في دين الله ولو بقصد حسن فإن بدعته هذه مع كونها ضلالة تعتبر طعنًا في دين الله ﷿، تعتبر تكذيبًا لله تعالى في قوله: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾ لأن هذا المبتدع الذي ابتدع شريعة في دين الله تعالى وليست في دين الله تعالى كأنه يقول بلسان الحال إن الدين لم يكمل لأنه قد بقي عليه هذه
1 / 9
الشريعة التي ابتدعها يتقرب بها إلى الله ﷿. ومن عجب أن يبتدع الإنسان بدعة تتعلق بذات الله ﷿ وأسمائه وصفاته ثم يقول إنه في ذلك معظم لربه، إنه في ذلك منزه لربه، إنه في ذلك ممتثل لقوله تعالى: ﴿فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ (البقرة ٢٢)، إنك لتعجب من هذا أن يبتدع هذه البدعة في دين الله المتعلقة بذات الله التي ليس عليها سلف الأمة ولا أئمتها ثم يقول إنه هو المنزه لله وإنه هو المعظم لله وإنه هو الممتثل لقول الله تعالى: ﴿فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَادًا﴾ وأن من خالف ذلك فهو ممثل مشبه أو نحو ذلك من ألقاب السوء.
كما أنك لتعجب من قوم يبتدعون في دين الله ما ليس منه فيما يتعلق برسول الله ﷺ ويدعون بذلك أنهم هم المحبون لرسول الله ﷺ وأنهم المعظمون لرسول الله ﷺ وأن من لم يوافقهم في بدعتهم هذه فإنه مبغض لرسول الله ﷺ إلى غير ذلك من ألقاب
1 / 10
السوء التي يلقبون بها من لم يوافقهم على بدعتهم فيما يتعلق برسول الله ﷺ.
ومن العجب أن مثل هؤلاء يقولون نحن المعظمون لله ولرسوله، وهم إذا ابتدعوا في دين الله وفي شريعته التي جاء بها رسوله ﷺ ما ليس منها فإنهم بلا شك متقدمون بين يدي الله ورسوله وقد قال الله تعالى: ﴿يأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ لاَ تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يدي اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ (الحجرات ١٠) .
* أيها الأخوة: إني سائلكم ومناشدكم بالله ﷿ وأريد منكم أن يكون الجواب من ضمائركم لا من عواطفكم، من مقتضى دينكم لا من مقتضى تقليدكم. ما تقولون فيمن يبتدعون في دين الله ما ليس منه سواء فيما يتعلق بذات الله وصفات الله وأسماء الله، أو فيما يتعلق برسول الله ﷺ ثم يقولون نحن المعظمون لله ولرسول الله أهؤلاء أحق بأن يكونوا معظمين لله ولرسول الله؟ أم أولئك القوم الذين لا
1 / 11
يحيدون قيد أنملة عن شريعة الله، يقولون فيما جاء من الشريعة آمنا وصدقنا فيما أخبرنا به وسمعنا وأطعنا فيما أمرنا به أو نهينا عنه، ويقولون فيما لم تأت به الشريعة أحجمنا وانتهينا وليس لنا أن نتقدم بين يدي الله ورسوله، وليس لنا أن نقول في دين الله ما ليس منه. أيهما أحق أن يكون محبًّا لله ورسوله ومعظمًا لله ورسوله؟ لا شك أن الذين قالوا آمنا وصدقنا فيما أخبرنا به وسمعنا وأطعنا فيما أمرنا به، وقالوا كففنا وانتهينا عما لم نؤمر به، وقالوا نحن أقل قدرًا في نفوسنا من أن نجعل في شريعة الله ما ليس منها، أو أن نبتدع في دين الله ما ليس منه؛ لا شك أن هؤلاء هم الذين عرفوا قدر أنفسهم وعرفوا قدر خالقهم، هؤلاء هم الذين عظموا الله تعالى ورسوله ﷺ وهم الذين أظهروا صدق محبتهم لله تعالى ورسوله ﷺ.
لا أولئك الذين يبتدعون في دين الله ما ليس منه في العقيدة أو القول أو العمل، وإنك لتعجب من قوم يعرفون قول رسول الله ﷺ: «إياكم ومحدثات الأمور
1 / 12
فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار» (١) . ويعلمون أن قوله «كل بدعة» كلية عامة شاملة مسورة بأقوى أدوات الشمول والعموم «كل» والذي نطق بهذه الكلية صلوات الله وسلامه عليه يعلم مدلول هذا اللفظ وهو أفصح الخلق، وأنصح الخلق للخلق لا يتلفظ إلا بشيء يقصد معناه. إذن فالنبي ﷺ حينما قال: «كل بدعة ضلالة» كان يدري ما يقول، وكان يدري معنى ما يقول، وقد صدر هذا القول منه عن كمال نصح للأمة.
وإذا تم في الكلام هذه الأمور الثلاثة - كمال النصح، والإرادة، وكمال البيان والفصاحة وكمال العلم والمعرفة، دل ذلك على أن الكلام يراد به ما يدل عليه من المعنى أفبعد هذه الكلية يصح أن نقسم البدعة إلى أقسام ثلاثة، أو إلى أقسام خمسة؟ أبدًا هذا لا يصح، وما ادعاه بعض العلماء من أن هناك بدعة حسنة. فلا تخلوا من حالين:
١ - أن لا تكون بدعة لكن يظنها بدعة.
٢ - أن تكون بدعة فهي سيئة لكن
_________
(١) أخرجه الإمام محمد ١٧٢٧٤ و١٧٢٧٥ وأبو داوود كتاب السنة باب في لزوم السنة ٤٦٠٧ والترمذي أبواب العلم باب ما جاء بالأخذ بالسنة واجتناب البدعة ٢٦٧٦ كتاب السنة باب إتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين وابن ماجه ٤٢ وقال الترمذي حديث حسن صحيح وصححه الحاكم ١/٩٥ ووافقه الذهبي وليس عندهم: (وكل ضلالة في النار) .
1 / 13
لا يعلم عن سوئها.
فكل ما ادُعي أنه بدعة حسنة فالجواب عنه بهذا. وعلى هذا فلا مدخل لأهل البدع في أن يجعلوا من بدعهم بدعة حسنة وفي يدنا هذا السيف الصارم من رسول الله ﷺ «كل بدعة ضلالة» . إن هذا السيف الصارم إنما صنع في مصانع النبوة والرسالة، إنه لم يصنع في مصانع مضطربة، لكنه صنع في مصانع النبوة وصاغه النبي ﷺ هذه الصياغة البليغة فلا يمكن لمن بيده مثل هذا السيف الصارم أن يقابله أحد ببدعة يقول إنها حسنة ورسول الله ﷺ يقول: «كل بدعة ضلالة» .
وكأني أحس أن في نفوسكم دبيبًا يقول ما تقول في أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ﵁ الموفق للصواب حينما أمر أبي ابن كعب وتميمًا الداري أن يقوما بالناس في رمضان فخرج والناس على إمامهم مجتمعون فقال: «نعمت البدعة هذه والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون» (١) .
_________
(١) رواه البخاري كتاب صلاة التراويح باب فضل من قام رمضان ٢٠١٠.
1 / 14
فالجواب عن ذلك من وجهين:
الوجه الأول: أنه لا يجوز لأحد من الناس أن يعارض كلام الرسول ﷺ بأي كلام لا بكلام أبي بكر الذي هو أفضل الأمة بعد نبيها، ولا بكلام عمر الذي هو ثاني هذه الأمة بعد نبيها، ولا بكلام عثمان الذي هو ثالث هذه الأمة بعد نبيها، ولا بكلام علي الذي هو رابع هذه الأمة بعد نبيها، ولا بكلام أحد غيرهم لأن الله تعالى يقول: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَلِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ (النور ٦٣)، قال الإمام أحمد ﵀ «أتدري ما الفتنة؟ الفتنة الشرك لعله إذا رد بعض قول النبي ﷺ أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك» . اهـ.
وقال ابن عباس ﵄: «يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء أقول قال رسول الله ﷺ وتقولون قال أبو بكر وعمر» .
الوجه الثاني: إننا نعلم علم اليقين أن أمير المؤمنين
1 / 15
عمر بن الخطاب ﵁ من أشد الناس تعظيمًا لكلام الله تعالى ورسوله ﷺ وكان مشهورًا بالوقوف على حدود الله تعالى حتى كان يوصف بأنه كان وقافًا عند كلام الله تعالى. وما قصة المرأة التي عارضته - إن صحت القصة - في تحديد المهور بمجهولة عند الكثير حيث عارضته بقوله تعالى: ﴿وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَقًا غَلِيظًا﴾ (النساء ٢١) فانتهى عمر عما أراد من تحديد المهور. لكن هذه القصة في صحتها نظر. لكن المراد بيان أن عمر كان وقافًا عند حدود الله تعالى لا يتعداها، فلا يليق بعمر- ﵁ وهو من هو أن يخالف كلام سيد البشر محمد ﷺ وأن يقول عن بدعة «نعمة البدعة» .
وتكون هذه البدعة هي التي أرادها رسول الله ﷺ بقوله: «كل بدعة ضلالة» بل لابد أن تنزل البدعة التي قال عنها عمر إنها «نعمت البدعة» على بدعة لا تكون داخلة تحت مراد النبي ﷺ في قوله: «كل بدعة ضلالة» فعمر ﵁ يشير بقوله «نعمت
1 / 16
البدعة هذه» إلى جمع الناس على إمام واحد بعد أن كانوا متفرقين، وكان أصل قيام رمضان من رسول الله ﷺ فقد ثبت في الصحيحين من حديث عائشة ﵂ أن النبي ﷺ قام في الناس ثلاث ليال وتأخر عنهم في الليلة الرابعة وقال: «إني خشيت أن تفرض عليكم فتعجزوا عنها» (١) . فقيام الليل في رمضان جماعة من سنة الرسول ﵊، وسماها عمر ﵁ بدعة باعتبار أن النبي ﷺ لما ترك القيام صار الناس متفرقين يقوم الرجل لنفسه ويقوم الرجل ومعه الرجل والرجل ومعه الرجلان والرهط والنفر في المسجد فرأى أمير المؤمنين عمر ﵁ برأيه السديد الصائب أن يجمع الناس على إمام واحد فكان هذا الفعل بالنسبة لتفرق الناس من قبل بدعة فهي بدعة اعتبارية إضافية وليست بدعة مطلقة إنشائية أنشأها عمر ﵁؛ لأن هذه السنة كانت موجودة في عهد الرسول ﷺ فهي سنة لكنها تركت منذ عهد الرسول ﵊ حتى أعادها عمر
_________
(١) رواه البخاري كتاب صلاة التراويح باب فضل من قام رمضان ٢٠١٢ ومسلم كتاب صلاة المسافرين باب الترغيب في قيام رمضان وهو التراويح ٧٦١.
1 / 17
﵁، وبهذا التقعيد لا يمكن أبدًا أن يجد أهل البدع من قول عمر هذا منفذًا لما استحسنوه من بدعهم.
* وقد يقول قائل: هناك أشياء مبتدعة قبلها المسلمون وعملوا بها وهي لم تكن معروفة في عهد النبي ﷺ كالمدارس وتصنيف الكتب، وما أشبه ذلك وهذه البدعة استحسنها المسلمون وعملوا بها ورأوا أنها من خيار العمل فكيف تجمع بين هذا الذي يكاد أن يكون مجمعًا عليه بين المسلمين وبين قول قائد المسلمين ونبي المسلمين ورسول رب العالمين ﷺ: «كل بدعة ضلالة» .
فالجواب: أن نقول هذا في الواقع ليس ببدعة بل هذا وسيلة إلى مشروع، والوسائل تختلف باختلاف الأمكنة والأزمنة، ومن القواعد المقررة أن الوسائل لها أحكام المقاصد فوسائل المشروع مشروعة، ووسائل غير المشروع غير مشروعة، بل وسائل المحرم حرام. والخير إذا كان وسيلة للشر كان شرًّا ممنوعًا واستمع إلى الله عز
1 / 18
وجل يقول: ﴿وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّواْ اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ (الأنعام ١٠٨)، وسب آلهة المشركين ليس عدوًا بل حق وفي محله لكن سب رب العالمين عدو وفي غير محله وعدوان وظلم، ولهذا لما كان سب آلهة المشركين المحمود سببًا مفضيًا إلى سب الله كان محرمًا ممنوعًا، سقت هذا دليلًا على أن الوسائل لها أحكام المقاصد فالمدارس وتصنيف العلم وتأليف الكتب وإن كان بدعة لم يوجد في عهد النبي ﷺ على هذا الوجه إلا أنه ليس مقصدًا بل هو وسيلة والوسائل لها أحكام المقاصد. ولهذا لو بنى شخص مدرسة لتعليم علم محرم كان البناء حرامًا ولو بنى مدرسة لتعليم علم شرعي كان البناء مشروعًا.
* فإن قال قائل: كيف تجيب عن قول النبي ﷺ: «من سن في الإسلام سنةً حسنةً فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة» (١) . وسن بمعنى «شرع» .
* فالجواب: أن من قال «من سن في الإسلام سنةً
_________
(١) رواه مسلم كتاب الزكاة باب الحث على الصدقة ولو بشق تمرة أو كلمة طيبة وأنها مجاب من النار ١٠١٧.
1 / 19
حسنةً» هو القائل: «كل بدعة ضلالة» ولا يمكن أن يصدر عن الصادق المصدوق قول يكذب له قولًا آخر، ولا يمكن أن يتناقض كلام رسول الله ﷺ أبدًا، ولا يمكن أن يرد على معنى واحد مع التناقض أبدًا، ومن ظن أن كلام الله تعالى أو كلام رسوله ﷺ متناقض فليعد النظر، فإن هذا الظن صادر إما عن قصور منه، وإما عن تقصير. ولا يمكن أن يوجد في كلام الله تعالى أو كلام رسوله ﷺ تناقض أبدًا.
وإذا كان كذلك فبيان عدم مناقضة حديث «كل بدعة ضلالة» لحديث «من سن في الإسلام سنة حسنة» أن النبي ﷺ يقول: «من سن في الإسلام» والبدع ليست من الإسلام، ويقول «حسنة» والبدعة ليست بحسنة، وفرق بين السن والتبديع.
* وهناك جواب لا بأس به: أن معنى «من سن» من أحيا سنة كانت موجودة فعدمت فأحياها، وعلى هذا فيكون «السن» إضافيًا نسبيًّا كما تكون البدعة إضافية نسبية لمن أحيا سنة بعد أن تركت.
1 / 20
* وهناك جواب ثالث يدل له سبب الحديث وهو قصة النفر الذين وفدوا إلى النبي ﷺ وكانوا في حالة شديدة من الضيق، فدعا النبي ﷺ إلى التبرع لهم فجاء رجل من الأنصار بيده صرة من فضة كادت تثقل يده فوضعها بين يدي الرسول ﷺ فجعل وجه النبي ﵊ يتهلل من الفرح والسرور وقال: «من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة» فهنا يكون معنى «السن» سن العمل تنفيذًا وليس سن العمل تشريعًا، فصار معنى «من سن في الإسلام سنة حسنة» من عمل بها تنفيذًا لا تشريعًا لأن التشريع ممنوع «كل بدعة ضلالة» .
* وليعلم أيها الأخوة أن المتابعة لا تتحقق إلا إذا كان العمل موافقًا للشريعة في أمور ستة:
* الأول: السبب فإذا تعبد الإنسان لله عبادة مقرونة بسبب ليس شرعيًّا فهي بدعة مردودة على صاحبها، مثال ذلك أن بعض الناس يحيي ليلة السابع
1 / 21
والعشرين من رجب بحجة أنها الليلة التي عرج فيها برسول الله ﷺ فالتهجد عبادة ولكن لما قرن بهذا السبب كان بدعة؛ لأنه بنى هذه العبادة على سبب لم يثبت شرعًا. وهذا الوصف - موافقة العبادة للشريعة في السبب - أمر مهم يتبين به ابتداع كثير مما يظن أنه من السنة وليس من السنة.
* الثاني: الجنس فلابد أن تكون العبادة موافقة للشرع في جنسها فلو تعبد إنسان لله بعبادة لم يشرع جنسها فهي غير مقبولة، مثال ذلك أن يضحي رجل بفرس، فلا يصح أضحية؛ لأنه خالف الشريعة في الجنس، فالأضاحي لا تكون إلا من بهيمة الأنعام، الإبل، البقر، الغنم.
* الثالث: القدر فلو أراد إنسان أن يزيد صلاة على أنها فريضة فنقول: هذه بدعة غير مقبولة لأنها مخالفة للشرع في القدر، ومن باب أولى لو أن الإنسان صلى الظهر مثلًا خمسًا فإن صلاته لا تصح بالاتفاق.
1 / 22
* الرابع: الكيفية فلو أن رجلًا توضأ فبدأ بغسل رجليه، ثم مسح رأسه، ثم غسل يديه، ثم وجهه فنقول: وضوءه باطل؛ لأنه مخالف للشرع في الكيفية.
* الخامس: الزمان فلو أن رجلًا ضحى في أول أيام ذي الحجة فلا تقبل الأضحية لمخالفة الشرع في الزمان. وسمعت أن بعض الناس في شهر رمضان يذبحون الغنم تقربًا لله تعالى بالذبح وهذا العمل بدعة على هذا الوجه لأنه ليس هناك شيء يتقرب به إلى الله بالذبح إلا الأضحية والهدي والعقيقة، أما الذبح في رمضان مع اعتقاد الأجر على الذبح كالذبح في عيد الأضحى فبدعة. وأما الذبح لأجل اللحم فهذا جائز.
* السادس: المكان فلو أن رجلًا اعتكف في غير مسجد فإن اعتكافه لا يصح؛ وذلك لأن الاعتكاف لا يكون إلا في المساجد ولو قالت امرأة أريد أن أعتكف في مصلى البيت. فلا يصح اعتكافها لمخالفة الشرع في المكان. ومن الأمثلة لو أن رجلًا أراد أن يطوف
1 / 23