The Constitution of Ethics in the Quran
دستور الأخلاق في القرآن
ناشر
مؤسسة الرسالة
ایڈیشن نمبر
العاشرة ١٤١٨ هـ
اشاعت کا سال
١٩٩٨ م
اصناف
مقدمة
...
تقديم الكتاب:
للأستاذ الدكتور السيد محمد بدوي
عشت مع هذه الرسالة الجامعية مرتين: مرة أثناء تأليفها، ومرة أثناء ترجمتها.
أما عن تأليفها، فقد كان ذلك في أوائل الأربعينات، وكانت الحرب العالمية الثانية قد بدأت تشتد وطأتها في أوروبا بعد هزيمة فرنسا وصحوة الحلفاء لوقف طغيان النازي. وكنت مع الطلبة العرب في باريس نلتمس في رحاب الأستاذ الجليل ما نحتاج إليه من رعاية في وقت الشدة، وكان هو يجمعنا في منزله في المناسبات الدينية والقومية ليشعرنا بما افتقدناه من جو عائلي بسبب بعدنا عن الأوطان. وكنا نجد عنده كرم الضيافة العربية، ونستمتع بأحاديثه ومناقشاته في شئون الدين والعلم والسياسة. وكان ﵀ لا يضيق بما نثيره من آراء متطرفة أحيانًا، بل يفندها بروح العالم المستنير، وفي سماحة ورحابة صدر، ولا يزال بنا حتى يقنعنا بوجهة نظره المستندة إلى البرهان العلمي والمنطقي.
ثم حظيت بشرف مصاهرته، فازدادت صلتي به وثوقًا، ولمست عن
1 / 7
كثب الجهود والخطط التي رسمها منذ أمدٍ بعيد لنشر رسالة الإسلام في العالم الغربي. فعرفت أنه كان قد أتقن الفرنسية إبان طلبه للعلم في الأزهر الشريف استعدادًا لذلك اليوم الذي يقوم فيه بواجبه العلمي والديني. فما إن وطئت قدمه أرض فرنسا حتى بدأ في تحقيق خطته؛ ولم ينتهج الطريق السهلة التي انتهجها غيره بالشروع في تحضير رسالة الدكتوراه رأسًا، بل فضل أن يسير في الطريق الأكاديمي من بدايته، ويفعل ما يفعله طلاب العلم من الفرنسيين الذين يعدون أنفسهم إعدادًا أكاديميًّا رصينًا. فالتحق بالسوربون للتحضير لدرجة الليسانس، ودرس الفلسفة، والمنطق، والأخلاق، وعلم النفس، وعلم الاجتماع على أيدي أساتذة السوربون والكوليج دي فرانس من أمثال ماسينيون، وليفي بروفنسال، ولوسن، وفالون، وفوكونيه. ونجد أثر هذا التكوين العلمي الرصين في رسالته، حيث لم يكتفِ بتوضيح وجهة النظر الإسلامية، بل كان يجليها بمقارنتها بآراء المفكرين والفلاسفة، وكان لا يترك مناسبة إلا استعرض فيها رأي عالم من علماء الغرب، أو نظرية من النظريات السائدة، ثم يبين ما في هذه النظرية أو في ذلك الرأي من تصور أو خطأ، ويعقب ذلك ببيان كمال النظرية الأخلاقية في القرآن الكريم.
وقد استغرقت كتابة هذه الرسالة ما يقرب من ست سنوات. ويبدو أن العالم الجليل قد شرع فيها في عام ١٩٤١ بعد أن انتهت حملة فرنسا، وعاد إلى باريس بعد سنة أمضاها في بوردو "بجنوب غرب فرنسا" حين اقتربت الجيوش النازية من العاصمة الفرنسية وأصبح سقوطها وشيكًا، وإذا أضفنا إلى هذه السنوات الست خمس سنوات قبلها أمضاها الأستاذ في التعرف على مناهج العلوم في الغرب وتحضير درجة الليسانس، فإنه يكون قد أمضى ما بين إعداد العدة وتنفيذ مشروعه حوالي أحد عشر عامًا. ولم تكن هذه بالفترة الطويلة إذا قدرنا ما اكتنفها من سنوات الحرب العصيبة، وما أثارته هذه الحرب من مشكلات مادية ونفسية كان الأستاذ يتحمل عبئها، ويحاول
1 / 8
إبعادها عن أسرته الكبيرة التي صحبته في غربته. وأذكر أنه اضطر -أثناء هجوم الحلفاء لتحرير فرنسا- لقضاء أيام طويلة مع أسرته في مخبأ تحت الأرض، كان يجمع فيه أوراقه التي يحرص عليها ويشتغل وسط القنابل التي كانت تدوي من حوله، على ضوء شمعة أو مصباح خافت.
وتمت مناقشة الرسالة أمام لجنة مكونة من خمسة من أساتذة السوربون والكوليج دي فرانس في ١٥/ ١٢/ ١٩٤٧.
وظل جمهور المثقفين من العرب والمسلمين يسمعون عن هذا العمل القيم دون أن يستطيعوا قراءته والاستفادة منه، حتى قيض الله له أستاذًا شابًّا من خيرة شباب العرب والمسلمين هو الدكتور عبد الصبور شاهين، الذي ندب نفسه طيلة أعوام ثلاثة لترجمة النص الفرنسي إلى العربية. وقد جمع صفات وميزات قلما تتوافر لمن يتصدى لمثل هذا العمل الضخم، فهو إلى جانب تكوينه وثقافته الدينية العميقة أستاذ للغة العربية؛ كما أنه يتقن اللغة الفرنسية التي درسها دراسة جادَّة، وترجم منها إلى العربية عدة كتب لعدد من العلماء والفلاسفة.
ولم يألُ المترجم جهدًا في أن يضع في خدمة النص كل ما يستطيع من أساليب التوثيق والإيضاح التي تخدم قارئ العربية وتعمق ثقافته الدينية. من ذلك أنه لم يكتف -كما فعل المؤلف- بالإشارة إلى الآيات القرآنية في الهامش بذكر رقم الآية والسورة، بل أخذ على عاتقه كتابة الآيات الكريمة كاملة وإدماجها في النص نفسه، وبذلك كفى القارئ مئونة البحث في المصحف الشريف عن تلك التي لا غنًى عنها لتدعيم الفكرة التي يشرحها المؤلف. ومن ذلك أيضا ما قام به من الرجوع إلى كتب الفقه والحديث والتفسير وعلم الكلام لتوثيق بعض النصوص التي لخصها المؤلف بالفرنسية، وحرص المترجم على وضعها في نصها الأصلي الذي ورد في كتب التراث
1 / 9
الإسلامي. وفي بعض المواضع التي كان المؤلف يكتفي فيها بالإشارة إلى واقعة ما، كان المترجم يجهد نفسه للبحث عن ظروف هذه الواقعة، ويثبتها كاملة.
وأشهد أنه قد بذل في الترجمة نفسها جهدًا كبيرًا؛ وذلك لصعوبة النص في بعض المواضع، ودقة الأفكار الفلسفية التي تعرض لها. ولا بد أنه قد وقف -مثلما وقفت عند مراجعة الترجمة- ساعات طويلة أمام عبارة من العبارات، حتى يطمئن إلى دقة الترجمة وإلى التعبير عن المعنى الذي قصد إليه المؤلف.
وقد أسهمت في هذا الجهد بقدر ما أستطيع، معتمدًا على خبرتي بما عرفته من أسلوب المؤلف وطريقة تفكيره، ودقته في اختيار اللفظ الذي يعبر عن الفكرة. وأدى هذا التعاون الوثيق بيني وبين المترجم إلى خروج الترجمة على الصورة التي نرضاها لها، والتي نضعها اليوم بين يدي القارئ العربي آملين في حسن تقديره.
والآن هل يسمح لنا القارئ بأن نقدم له خلاصة سريعة للأفكار الرئيسية في الكتاب؟
إن الهدف الرئيسي من هذا البحث هو إبراز الطابع العام للأخلاق التي تستمد من كتاب الله الحكيم، وذلك من الناحيتين النظرية والعملية.
أما عن البحث في الأسس النظرية التي تقوم عليها المبادئ الأخلاقية في القرآن الكريم، فإن المؤلف يعبر لنا، دون مواربة، عن شعوره بأنه كان يضع قدميه لأول مرة على أرض لم تطأها قدم من قبل. لكن وعورة المسالك التي عزم -بمشيئة الله- على الخوض فيها لم تضعف من عزيمته، بل كانت حافزًا له على تحدي الصعاب في سبيل خدمة دين الله الحنيف.
1 / 10
إضافات لا تقوم بذاتها، وإنما بالاستناد إلى المبدأ الأول وهو العمل من أجل إرضاء الله.
وكانت آخر مسألة عالجها المؤلف في الفصل الخامس من الكتاب هي تحليل طبيعة "الجهد" الإنساني الذي يأمر به القرآن الكريم، ودرجة هذا الجهد، وقيمته في اكتساب الثواب.
وقد عالج المؤلف العلاقة بين الجهد والانبعاث التلقائي من ناحية، وبين الجهد وروح التيسير من ناحية أخرى. ووضح أن القرآن الكريم قد وازن بين كلٍّ من الطرفين المتعارضين، ودمج بينهما في تركيب يجمع بين الكمال والحكمة. وناقش فكرة المتشددين الذين يرفضون التلقائية في الفعل الأخلاقي، ولا يمنحون السلوك أية قيمة إلا إذا كان نتيجة لجهد أو معاناة كبيرين. فإذا صحَّ ما يدَّعي هؤلاء، فإن النفس المتحررة من شهواتها لا تكتسب ثوابًا على ما تقوم به من أفعال خيِّرة، ولا تستحق هذا الثواب إلا إذا كانت فريسة لانفعالات متسلطة عليها، وتكافح من أجل التغلب عليها. أو بمعنى آخر: كلما اقتربنا من المثال الأعلى في الانبعاث التلقائي لفعل الخير، فقد العمل جزءًا من قيمته. وواضح ما في هذا الرأي من منافاة لكل منطق، إذ بمقتضاه يكون الشرير الذي يحاول جاهدًا التخلص من نزعاته الشريرة أعلى درجة في السلم الأخلاقي من القديس الذي يمارس الفضيلة في يسر وبدون جهد يذكر. إن الوقوع في هذا التناقض قد نجم عن الاعتقاد الخاطئ بأن الحياة الأخلاقية يجب أن تكون حربًا لا هوادة فيها ضد نزعات كامنة في الإنسان، هذا الإنسان الذي يرى بعضهم أنه شرير بطبعه، وأنه لا يستطيع أن يتحرر من طبيعته الشريرة، وأن القداسة فكرة وهمية ليس لها مكان على الأرض.
إن موقف القرآن الكريم من هذه المسألة يختلف تمامًا عن هذا الموقف المتشدد المتشائم، وينزع إلى نظرة أكثر رحابة وأكثر تفاؤلًا. لقد كان هناك
1 / 11
ففي تقرير المنظمة الدولية العربية للدفاع الاجتماعي، التابعة للجامعة العربية: أن معدل الجرائم ضد الأموال في ارتفاع، مع عملية التنمية الاقتصادية، إذ تزداد فرص الاعتداء على الأموال عندما يصبح المجتمع أكثر إنتاجًا وتعقيدًا، وتحضرًا وتصنيعًا، ومن ثم نجد أن نسبة عالية من جرائم الأحداث والشباب، في غالبية البلاد ذات طابع اقتصادي، مثل السرقة، والاختلاس، واقتحام المنازل، والسرقة بالإكراه.
وقد صاحب مرحلة التنمية الاقتصادية السريعة خلال السنوات العشر السابقة، في مصر، زيادة في عدد الجرائم صد الأموال، وبخاصة الأموال العامة، وأصبح لهذا الاعتداء صور متعددة ومستحدثة، كجرائم الرشوة والاختلاس، وتزييف الأوراق الرسمية، وتزييف العملة، أو المسكوكات، وتهريب النقد، وسرقة الكابلات، وتهريب المخدرات، والخطف لطلب الفدية "وهو اعتداء على الأشخاص والأموال في آنٍ".
وثمة صور مستحدثة من الجرائم الاقتصادية، بزغت مع تطبيق النظام التعاوني الزراعي، حيث لُوحِظَ تفشي السرقات من المحاصيل الزراعية، التي تودع في الجمعيات التعاونية الزراعية، قبل شحنها إلى مناطق التخزين العامة، وجرائم الغش والاختلاس باغتصاب خامات ومحاصيل زراعية جيدة النوع بأخرى رديئة، أو التلاعب في الأوراق الرسمية بالحصول على توقيعات من المنتفعين، باستغلال جهلهم بالقراءة والكتابة، وجرائم الرشوة "النقدية أو العينية" لتوريد سلف غير مستحقة للمنتفعين، أو للتغاضي عن مخالفات ارتكبها الزراع أثناء ري الأراضي، أو مقاومة الآفات، أو لعدم الالتزام بتطبيق المخطط الزراعي للدورات الزراعية، وجرائم السوق السوداء في مجال بيع الأسمدة الكيماوية والمبيدات، واختلاس جزء منها، وبيعها مغشوشة١.
_________
١ أعد هذا التقرير الدكتور محمود عبد القادر، رئيس وحدة بحوث الأسر بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية بالقاهرة - ص٤٣ وما بعدها.
1 / 12
لم يكن عمر وحده في هذا الموقف، بل كانت الأمة كلها تواجهه بشجاعة، وصبر، ومعالجة، حتى انجلت الأزمة، واستغنى الناس عن ربط الحجارة على البطون، ولم يسجل التاريخ حالة تذمر واحدة، أو حتى نكتة واحدة تشنع بسياسة الدولة، أو شكوى واحدة من اختفاء الخبز أو الإدام، بل إن الناس لم يزدادوا مع الأزمة إلا استمساكًا بأخلاقهم، وحرصًا على أداء واجباتهم، وصبرًا في البأساء والضراء وحين البأس.
ولقد أوقف عمر ﵁، فيما يذكر التاريخ، تطبيق حد السرقة آنذاك، ترفقًا بالمضطرين إليها من أجل الإبقاء على حياتهم، ومع ذلك لم يذكر التاريخ أن الجائعين تحولوا إلى لصوص، أو أن القادرين أصبحوا مستغلين أو محتكرين، فقد كانت أخلاق الجماعة الإسلامية أقوى من قَرص الجوع، وأمنع من أن تزلزلها أزمة تموينية.
في هذا الضوء الرباني نستطيع أن نقرر حاجة مجتمعنا العربي إلى ثورة أخلاقية تدعم الثورة الاشتراكية، وتعالج ما أحدثت من مشكلات اجتماعية؛ نتيجة عدم التوازن في حركة الإصلاح الذي تم حتى الآن.
إن أكبر خطأ وقع فيه دعاة الثورة الاشتراكية في الوطن العربي أنهم تصوروا الثورة وصفة طبية، تقتبس من أصحابها؛ ليتعاطاها المجتمع المريض في أي زمان ومكان؛ فإذا بكثير من الثوريين المتفلسفين يعكفون على استملاء التجارب والأدوية من الكتابات والمؤلفات الجاهزة، وتدور المطابع، وتكثر الكتابات الثورية، حافلة بالتنفخ والادعاء، ولو جاز تطبيق حد السرقة على اللصوص، لكان أول من يحق عليهم حدها أولئك السرقة الكاتبون، والمقتبسون، دون تمييز، الآكلون أفكار الناس بالخطف والتقليد!!
والحق أن الإصلاح الثوري نبات لا بد أن يتفجر من باطن الأرض
1 / 13
مقدمة
مدخل
...
مقدمة:
"لا يؤلف أحد كتابًا إلا في أحد أقسام سبعة، ولا يمكن التأليف في غيرها، وهي: إما أن يؤلف من شيء لم يسبق إليه يخترعه، أو شيء ناقص يتممه، أو شيء مستغلق يشرحه، أو طويل يختصره، دون أن يخل بشيء في معانيه، أو شيء مختلط يرتبه، أو شيء أخطأ فيه مصنفه يبينه، أو شيء مفرق يجمعه"١.
هذه القاعدة الرشيدة التي قالها عالم أزهري، من علماء القرن السابع عشر الميلادي، تحتفظ دائمًا بقيمتها، وهي تدعو دائمًا كل كاتب أن يسير على نهجها.
ولسوف يكون لدى قارئنا الواعي فرصة أن يقدر إلى أي مدى يوفي كتابنا -الذي نقدمه اليوم إليه- بهذه الشرائط؛ فلم يكن شروعنا في هذا المؤلف الجديد عن القرآن، عبثًا نضيع فيه وقتنا، ونثقل به على قرائنا، ونزحم به مكتباتنا، فإذا لم يأتِ عملنا هذا بشيء جديد في عالم الشرق أو الغرب، فلن يكون سوى مضيعة وزحمة وإثقال.
_________
١ شمس الدين البابلي المتوفى سنة ١٠٧٧ هجرية، ذكره مُلا المحبي، محمد أمين بن فضل الله، في خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر ٤/ ١ ٤ "ط القاهرة ١٢٨٤هـ".
1 / 1
١- الوضع السابق للمشكلة:
إن نظرة سريعة نلقيها على مؤلفات علم الأخلاق العام -التي كتبها علماء غربيون- كافية لنلحظ فيها فراغًا هائلًا وعميقًا، نشأ عن صمتهم المطلق عن علم الأخلاق القرآني.
والواقع أن هذه المؤلفات تذكر لنا باختصار، أو بإفاضة، المبادئ الأخلاقية، كما ارتأتها الوثنية الإغريقية، ثم أديان اليهودية والمسيحية. ولكنها حين تنتهي من عرض هذه المراحل الثلاثة، نجدها تنقلنا بغتة إلى العصور الحديثة، في أوروبا، مغفلة كل ما يمس الدستور الأخلاقي في الإسلام.
وبرغم هذا، فإن الإضافة القرآنية في هذا الباب ذات قيمة لا تقدر، ولسوف يفيد منها تاريخ النظريات الأخلاقية سعةً، وعمقًا، وتوافقًا، كما تفيد المشكلة الأخلاقية ذاتها منها، في حل مصاعبها، سواء في ذلك المصاعب المتجددة والدائمة.
أليست إذن خسارة ضخمة أن يغفل أمر نظرية كهذه، وأن يلفها الصمت؟
والحق أنه لو أننا -بدلًا من أن نبحث في هذه المؤلفات عن علم الأخلاق العام- لجأنا إلى الكتب الأوروبية، التي تعالج مسائل الإسلام بخاصة، فسوف نجد أن محاولات قد تمت خلال القرن التاسع عشر، من أجل استخراج المبادئ الأخلاقية من القرآن، بيد أن إطار هذه المحاولات، كان في الغالب محدودًا، كما كان مضمونها بعيدًا عن المطابقة الدقيقة للنظرية القرآنية الحقة.
1 / 2
فمن حيث الإطار نجدهم أغفلوا الجانب النظري من المسألة: فليس هنالك عالم أوروبي واحد حاول أن يستخلص من القرآن مبادئه الأخلاقية العامة، وفضلًا عن ذلك، فلم يكن لدى أيٍّ من بينهم اهتمام بأن يصوغ قواعده العملية، ويقدمها في صورة دستور كامل. وإنما انحصرت كل جهودهم في أن جمعوا عددًا، قليلًا أو كثيرًا، من الآيات القرآنية المتعلقة بالعبادة، أو بالسلوك، وترجموها ترجمة حرفية.
ويبدو لنا، أن الذي استهل هذه المجموعة من النصوص المختارة من القرآن كان المستشرق جارسان دي تاسي Garcin de tassy، فقد قدم لنا مؤلفًا صغيرًا بعنوان: "القرآن: مبادئه وواجباته" "باريس ١٨٤٠م". وتبعه المستشرق لوفيفر lefevre، الذي نشر عام ١٨٥٠م قطعًا مختارة من ترجمة سفري savary، بعنوان: "محمد: قوانين أخلاقية، ومدنية، ودينية". ثم جاء من بعدهما بارثلمي سانت هيلير Barthelemy، s. hilaire في كتابه: "محمد والقرآن" "باريس، نشر ديدييه didier ١٨٦٥م". هذا من حيث الإطار الذي سيقت في داخله بحوث ذلك العهد.
وأما من حيث عيوب المضمون فمرجعها إما إلى ترجمات غير صحيحة، وإما إلى تلخيص سيئ، وإما إلى الأمرين معًا، وهو ما نجده واضحًا لدى المستشرق جول لا بوم jules la beaume في كتابه: "تحليل آيات القرآن"koran analyse "باريس maisonneuve ١٨٧٨م". وهو مع ذلك أقل الأعمال التحليلية في هذا المجال بعدًا عن التمام١.
_________
١ بيد أنه إلى جانب تكرار الآيات تحت عناوين مترادفة، وبرغم الأخطاء المختلفة عن ترجمة كازيمرسكي kasimirski -التي اضطر جول لا بوم أن يستخدمها لجهله بالعربية- فإن العناوين التي أراد بها تلخيص الآيات لا تتفق مع النصوص التي يقلب معناها أحيانًا، ويحس المرء في بعض المواضع أن القرآن يدفع الناس إلى الأنانية، وإلى الثأر، وأنه قد أباح لهم الغدر، والخيانة، والحنث في اليمين، إلى غير ذلك مما يعنينا حصره.
1 / 3
ولذلك بدا لنا من الضروري أن نتناول الموضوع من جديد، وأن نعالجه تبعًا لمنهج أكثر سلامة، من أجل تصحيح هذه الأخطاء، وملء هذه الفجوة في المكتبة الأوروبية١، وحتى نُرِيَ علماء الغرب الوجه الحقيقي للأخلاق القرآنية، وذلكم في الواقع هو هدفنا الأساسي من عملنا هذا.
بيد أننا بالرجوع إلى مكتبتنا الإسلامية نفسها، لاحظنا أنها لم تعرف حتى الآن سوى نوعين من التعاليم الأخلاقية: فهي إما نصالح عملية، هدفها تقويم أخلاق الشباب، حين توحي إليهم الاقتناع بالقيمة العليا للفضيلة٢، وإما وصف لطبيعة النفس وملكاتها، ثم تعريف للفضيلة وتقسيم لها، مرتب في غالب الأمر بحسب النموذج الأفلاطوني، أو الأرسطي٣، وكثيرًا ما نرى المنهجين يتعاقبان في قلم كاتب واحد٤، وإذن فلم يكن هنالك سوى كتب إنسانية محضة، أجهد مؤلفوها أنفسهم، فاستودعوها ثمرات تأملاتهم، ودراساتهم الفلسفية، ولم يظهر فيها النص القرآني كلية، أو هو لا يكاد يظهر إلا بصفة ثانوية.
فلم تكن الأخلاق القرآنية إذن الموضوع الرئيسي للدراسة، والتقنين، لدى المسلمين أو المستشرقين، لا من الناحية النظرية، ولا من الناحية العملية.
_________
١ سوف يتبين بعد ذلك أن الكتاب قد ملأ هذه الفجوة في المكتبة العربية أيضًا، حين وفق الله إلى تعريبه، على نحو ما يلمس القارئ، "المعرب".
٢ نذكر من خير الكتب التي من هذا النوع رسالة ابن حزم "مداواة النفوس" طبعة أدهم بالقاهرة.
٣ خير كتاب تبع هذا النظام، وأشهره هو كتاب ابن مسكويه: "تهذيب الأخلاق" -المؤلف-، وقد نشرته الجامعة الأمريكية ببيروت عام ١٩٦٦، بتحقيق الأستاذ قسطنطين زريق. "المعرب".
٤ يظهر هذا لدى الأصفهاني في "الذريعة"، وبصورة أكثر كمالًا وامتدادًا لدى الغزالي في كثير من كتبه، وبخاصة موسوعته الإسلامية: "إحياء علوم الدين".
1 / 4
ونحسب أن من الواجب أن نضيف بعض التحديد إلى هذا التأكيد المزدوج؛ ليصبح أكثر دقة، ويخلص من كل لبس أو غموض.
ولسنا ندعي ابتداء، أن بحوثنا في المجال النظري تخوض في أرض لم يرتدها أحد قبلنا، فإن العلماء المسلمين قد أعملوا قرائحهم منذ عهد مبكر في هذا الموضوع: علماء الكلام، وعلماء الأصول، فكروا جميعًا في مقياس الخير والشر، "أو بحسب تعبيرهم: مسألة الحسن والقبح"، وفكر الفقهاء في شروط المسئولية، وفكر الأخلاقيون والصوفية في فاعلية الجهد، وإخلاص النية والقصد. ولكنّا إذا صرفنا النظر عن أن هذه الأفكار قد بقيت متناثرة في مختلف المذاهب التي تمس الأخلاقية من قريب أو من بعيد، والتي لم تعنَ دائمًا بوجهة النظر الأخلاقية بمفهومها الخاص -فإن النظرية الأخلاقية التي يقدمها هؤلاء تصدر في جانب كبير منها -على الأقل- عن روح المذهب الذي ينتمي إليه مؤلفوها، إن لم تكن من محض نظراتهم الشخصية؛ لأن القرآن لا يرد ذكره فيها إلا بصفة مكملة، شاهدًا أو برهانًا على فكرة أو أخرى سبق الأخذ بها.
وأما في المجال العملي فمن الحق أن الغزالي -كما نعلم- قد حاول في كتابه "جواهر القرآن" أن يحلل جوهر القرآن، وأن يرده إلى عنصرين أساسين، يتصل أحدهما بالمعرفة، ويتصل الآخر بالسلوك. وانتهى إلى أن حصر في القرآن من النوع الأول سبعمائة وثلاثًا وستين آية؛ كما حصر من النوع الثاني سبعمائة وإحدى وأربعين آية١.
_________
١ فمجموع هذه الآيات يربي على ألف وخمسمائة آية، تمثل أقل من ربع القرآن بقليل، وما عدا ذلك لا يعالج في رأيه سوى مسائل تكميلية، وشأنها -على ما قال- شأن الصدفة التي تغطي المادة الثمينة في الكتاب، وقد دخل هذا العمل القديم مع بعض تعديلات يسيرة إلى اللغة الفرنسية، على يد كاتب تركي، هو الجنرال محمود مختار كتير جوغلو، في كتاب بعنوان: "الحكمة القرآنية -آيات مختارة- la sagesse koranique. versets choisies" "باريس geuthmer ١٩٣٥". وقد نشر المؤلف على هذه الصورة كتاب الغزالي مختصرًا "ألفًا ومائتي آية، بدلًا من ألف وخمسمائة آية"، بعد أن خلط خلطًا تامًّا كلا عنصريه بالآخر، حتى إنه ألغى عناوين السور، وقد كانت من قبل متميزة.
1 / 5
ومن المؤسف أن هذا النوع من الحصر والتصنيف، الذي يعد خطوة أولى في سبيل إعداد المواد للتشييد -لم يعقبه ما يقتضيه من عمل ضروري يهدف إلى إعلاء البناء.
ومع ذلك، يجب أن نعترف بأن اختيار المواد في العمل قد تمَّ بوجه عام تبعًا لقاعدة، وأن الآيات المختارة في القسم العملي تتوافق غالبًا مع موضوع دراستنا.
وليس الأمر على هذا النحو بالنسبة إلى ما استخرجه القاضي أبو بكر الجصاص الحنفي "المتوفى عام ٣٧٠هـ"١، في كتابه: "أحكام القرآن"، "طبعة أسطنبول ١٣٣٨هـ"، وإلى ما استخرجه القاضي أبو بكر بن العربي، المالكي، "المتوفى عام ٥٤٢هـ"٢ في كتابه المعنون أيضًا باسم: "أحكام القرآن" "نشر مطبعة السعادة بالقاهرة: ١٣٣١هـ". وكذلك بالنسبة إلى ما استخرجه ملا أحمد جيون الهندي الحنفي، "المتوفى عام ١١٣٠" في كتابه "التفسيرات الأحمدية في بيان الآيات الشرعية" "بومباي ١٣٢٧هـ".
ولم يقتصر الأمر في هذه الكتب على أن نجد النصوص القرآنية ذات المغزى الأخلاقي، وقد غرقت بطريقة غامضة وسط نصوص تتصل بموضوعات
_________
١ أحمد بن علي الرازي، أبو بكر الجصاص، فاضل، من أهل الري، سكن بغداد، ومات فيها، انتهت إليه رياسة الحنفية، وخوطب في أن يلي القضاء فامتنع، وألف كتاب "أحكام القرآن"، وكتابًا في "أصول الفقه". المعرب
٢ محمد بن عبد الله بن محمد المعافري، الأشبيلي المالكي، أبو بكر بن العربي، قاض من حفاظ الحديث، رحل إلى المشرق، وبرع في الأدب، وبلغ رتبة الاجتهاد في الدين، وصنف كتبًا في الحديث والفقه والأصول والتفسير والأدب والتاريخ، وولي قضاء أشبيلية، ومات بقرب فارس، ومن مشهور كتبه: "العواصم من القواصم"، و"عارضة الأحوذي في شرح الترمذي" و"أحكام القرآن". المعرب
1 / 6
فقهية، أو أصولية، أو كلامية، أو كونية، أو غيرها. بل لقد رأينا لدى القاضيين آيات مذكورة بمناسبة مسائل، لا يتصل النص بها إلا من بعيد، وقد اعتبرت هذه المسائل ببساطة مناسبة لذكرها.
وعلى كل حال، فإن جميع المؤلفين، بما فيهم الغزالي، وقد جمعوا بطريقتهم الآيات القرآنية بترتيب السور -جعلوا من مختاراتهم مجرد جمع لمواد متفرقة، لا تربط بينها روح قرابة، ولا يظهر فيها أي تسلسل للأفكار. ولذلك، فعندما فقدت الوحدة الأولى لكل سورة لم يستطيعوا أن يكملوا عملهم بإيجاد وحدة منطقية، تربط بين الأجزاء المختارة، أو تصنيف منهجي تقتضيه قاعدة التعليم.
وقد وجدنا هذا النظام المنطقي لدى بعض العلماء الشيعة، من مثل: الشيخ أحمد بن محمد الأردبيلي "المتوفى عام ٩٩٣هـ"، في كتابه: "درة البيان في آيات الأحكام"١، ومن مثل الشيخ أحمد بن إسماعيل الجزائري النجفي "المتوفى عام ١١٥٠هـ" في كتابه: "قلائد الدرر في بيان أحكام الآيات بالأثر"٢، غير أن هذين الكتابين٣ اللذين يمكن أن يعدا فهرسًا
_________
١ أحمد بن محمد الأردبيلي، فاضل من فقهاء الإمامية وزهادهم، نسبته إلى أردبيل بآذربيجان، ووفاته بكربلاء، ومن كتبه: "مجمع الفوائد والبرهان في إرشاد الأذهان" و"زبدة البيان في شرح آيات أحكام القرآن". وهو ما نقل المؤلف عنوانه مختلفًا ومختصرًا. "المعرب".
٢ أحمد بن إسماعيل الجزائري النجفي، فاضل إمامي، أصله من جزائر خوزستان، واشتهر في النجف، وتوفي فيه، ومن كتبه: "قلائد الدرر في بيان أحكام الآيات بالأثر". "المعرب".
٣ الكتابان مطبوعان في فارس، وقد رتبت موضوعاتهما تبعًا للنظام المعتاد لكتب الفقه، وتوجد منهما نسخة لدى صديقنا وزميلنا القاضي الشيخ أحمد محمد شاكر، بالقاهرة.
1 / 7
لنصوص القرآن المتعلقة بالفقه الإسلامي -لا يعالجان الأوامر الأخلاقية إلا نادرًا.
وهكذا لم ينهض أحد -فما نعلم- حتى الآن باستخلاص الشريعة الأخلاقية من القرآن في مجموعه، ولم يحاول أحد أن يقدم لنا مبادئها، وقواعدها في صورة بناء متماسك مستقل عن كل ما يربطه بالمجالات القريبة منه، وتلكم هي المهمة التي انتدبنا للوفاء بها هنا، بقدر ما تطيقه وسائلنا.
تقسيم ومنهج مدخل ... ٢- تقسيم ومنهج: نحن نميز تحت لفظة "القانون الأخلاقي" -كما يميز جميع الباحثين تحت اسم الجنس- فرعين مختلفين هما: النظرية والتطبيق. والواقع أن دراستنا للنص القرآني قد أوحت إلينا، لا بوجود هذين الفرعين لعلم الأخلاق في القرآن -فحسب، بل لقد كشفت لنا عن أن الصورة التي جاءت بها بلغت درجة من الكمال لا يُبتغى وراءها شيء.
الجانب العملي: وقد بحثنا في رسالة حديثة النشر، الأخلاقية العملية في القرآن، في علاقتها بالحكمة القديمة، واستطعنا أن نكشف فيها عن ثلاث خصائص نوجزها فيما يلي: فالقرآن -من حيث كون حافظًا لما سبقه، واستمرارًا له- قد تميز عنه بذلك الامتداد الرحب الذي ضم فيه جوهر القانون الأخلاقي كله، وهو الذي ظل متفرقًا في تعاليم القديسين والحكماء، من المؤسسين والمصلحين، الذين تباعد بعضهم عن بعض، زمانًا ومكانًا، وربما لم يترك بعضهم أثرًا من بعده يحفظ تعاليمه. ولعل هذا الجانب هو السمة البارزة من سمات القرآن، وإن لم تكن أثمن سماته، ولا أصلها.
تقسيم ومنهج مدخل ... ٢- تقسيم ومنهج: نحن نميز تحت لفظة "القانون الأخلاقي" -كما يميز جميع الباحثين تحت اسم الجنس- فرعين مختلفين هما: النظرية والتطبيق. والواقع أن دراستنا للنص القرآني قد أوحت إلينا، لا بوجود هذين الفرعين لعلم الأخلاق في القرآن -فحسب، بل لقد كشفت لنا عن أن الصورة التي جاءت بها بلغت درجة من الكمال لا يُبتغى وراءها شيء.
الجانب العملي: وقد بحثنا في رسالة حديثة النشر، الأخلاقية العملية في القرآن، في علاقتها بالحكمة القديمة، واستطعنا أن نكشف فيها عن ثلاث خصائص نوجزها فيما يلي: فالقرآن -من حيث كون حافظًا لما سبقه، واستمرارًا له- قد تميز عنه بذلك الامتداد الرحب الذي ضم فيه جوهر القانون الأخلاقي كله، وهو الذي ظل متفرقًا في تعاليم القديسين والحكماء، من المؤسسين والمصلحين، الذين تباعد بعضهم عن بعض، زمانًا ومكانًا، وربما لم يترك بعضهم أثرًا من بعده يحفظ تعاليمه. ولعل هذا الجانب هو السمة البارزة من سمات القرآن، وإن لم تكن أثمن سماته، ولا أصلها.
1 / 8
وإنما تبدو أصالة هذا التعليم الأخلاقي في أجلى صورها، في طريقته التي سلكها لتقديم تلك الدروس المختلفة عن الماضين، وتقريبها، بحيث يصوغ تنوعها في وحدة لا تقبل الانفصام، ويسوقها على اختلافها في إطار من الاتفاق التام؛ وذلك لأنه بدأ بأن نزع عن الشرائع السابقة كل ما كان في ظاهر الأمر إفراطًا أو تفريطًا، وبعد أن حقق وضع التعادل في ميزانها، الذي كان يميل تارة إلى جانب، وأخرى إلى جانب آخر -دفعها جميعها في اتجاه واحد، ثم نفخ فيها من روح واحدة، بحيث صار حقًّا أن ينسب إليه بخاصة مجموع هذه الأخلاق.
وأعجب من ذلك وأعظم أصالة جانبه الخلاق، فليس يكفي -في الواقع- لكي نصف أخلاق القرآن، أن نقول: إنها حفظت تراث الأسلاف ودعمته، وإنها وفقت بين الآراء المختلفة التي فرقت أخلافهم، بل ينبغي أن نضيف أن الأخلاق القرآنية قد رفعت ذلكم البناء المقدس، وجملته، حين ضمت إليه فصولًا كاملة الجدة، رائعة التقدم، ختمت إلى الأبد العمل الأخلاقي١.
ولسوف يكون علينا في هذه الدراسة أن نعالج الأحكام العملية التي جاء بها القرآن في ذاتها، وفي مرحلتها النهائية من تطورها، وحسب القارئ بعد ذلك أن يتصفح النصوص التي نوردها في نهاية هذا الكتاب؛ ليدرك رحابة هذا النظام وجماله.
ولسوف يختلف منهجنا كثيرًا في عرض هذا الجانب عن المنهج الذي اتبعه سابقونا. فلما كنا -أولًا- لا نرى من اللازم أن نستوعب النصوص والآيات ذات الاتصال بالموضوع، فقد اكتفينا بأن سقنا بعضًا منها؛ ذا دلالة كافية
_________
١ انظر كتابنا "المدخل إلى القرآن - "initiation du koran القسم الثاني- الفصل الثاني، وسوف تجد هنالك أمثلة عديدة مادية، تشهد بوجود هذه الجوانب الثلاثة فيما أضافه القرآن: إجمال لما سبق، وتوفيق بين وجهات مختلفة فيه، وإكمال لجوانب ناقصة.
1 / 9
على القواعد المختلفة للسلوك، ثم حاولنا من بعد ذلك أن نتجنب التكرار بقدر الإمكان.
واتبعنا أخيرًا نظامًا منطقيًّا بدلًا من التزام نظام السور "الذي تبعه الإمام الغزالي"؛ أو النظام الأبجدي للمفاهيم "كما فعل جول لا بوم". فالنصوص في عملنا هذا مجمعة في فصول، بحسب نوع العلاقة التي سيقت القاعدة لتنظيمها، وقد ميزت في داخل كل طائفة عدة مجموعات صغيرة من النصوص، وضعنا لها عنوانًا فرعيًّا يوجز التعليم الخاص الذي يستقي منها، بحيث يتاح للقارئ أن يجد الحكم الذي يبحث عنه بكل سهولة.
وتنظيم النصوص بمجموعها على هذا الوجه يبني لنا منهجًا كاملًا للحياة العملية كما رسمها القرآن: كيف ينبغي على الإنسان أن يسلك مع نفسه، وفي أسرته، ومع الناس أجمعين؟ وما المبادئ التي يجب أن تحكم العلاقات بين الحاكمين والمحكومين، وبين الدول أو المجتمعات؟ وكيف يؤدي الإنسان العبادة لله؟ وكل ذلك قد قيل بطريقة واضحة ومحددة.
هذا الطابع الإجمالي يجد ما يكمله في طابع آخر، يمنحه قيمته العليا، ذلك أن القرآن -بعد أن رسم لكل مجال من مجالات الحياة خط سلوكه- يقدم لنا أُطُرًا معدّة على هيئة دوائر مشتركة المركز، كل واحدة منها قابلة لأن تتسع، وتنكمش، في توافق مع المجموع. بل لقد تتداخل هذه الدوائر بالتبادل، دون أن تطغى إحداها على الأخرى.
كيف استطاع القرآن أن يحدث هذا الأثر المعجز؟
لقد كان منهجه غاية في البساطة، حين تخير لبيان قواعده أقوالًا ذات تأثير خاص، وهي أقوال تقف دائمًا في منتصف الطريق، بين المجرد: غامضه ومبهمه، وبين الحسي المفرط في الشكلية. وكذلك نجد أن الأطر التي يبنيها صارمة ومرنة في آن.
1 / 10
فمن حيث وضوح المضمون نجد أن وضوح كل قاعدة يوجد نوعًا من الحجاز، يقف في مواجهة الفوضى، وجموح الهوى؛ ولكنها من حيث عدم تحديد هذا المضمون تترك لكل فرد حرية اختيار الشكل الذي يكيف في نطاقه مثله الأعلى؛ طبقًا للشروط التي تمليها التجربة، كما يختار الشكل الذي يوائم به بين الواجب العاجل والمقتضيات الأخرى التي تمليها الأخلاقية. فهما أمران: تكييف ومواءمة، ينبغي أن يتما بوساطة جهد راشد، بعيد عن الإرخاء، وعن الغلواء، التي لا ضابط معها.
وبهذه الطريقة استطاعت الشريعة القرآنية أن تبلغ كمالًا مزدوجًا، لا يمكن لغيرها أن يحقق التوافق بين شقيه: لطف في حزم، وتقدم في ثبات، وتنوع في وحدة.
وبهذه الطريقة أيضًا، أتاحت الشريعة القرآنية للنفس الإنسانية أن تطمئن إلى سعادة مزدوجة، تجمع أيضًا بين النقيضين: خضوع في الحرية، ويسر في المجاهدة، ومبادأة في الاستمرار، وقليل من فهم تلك الحكمة الرفيعة.
ومن ثَمَّ أخذ بعضهم على الإسلام أنه لم يحدد مثلًا الطريقة التي يستشار بها الشعب في القضايا العامة، ولم يحدد شكل الدولة المسلمة، وطريقة اختيار رئيسها: أهي اقتراع شامل، أم مقتصر على الصفوة؟ وهل هي جمهورية، أم ملكية؟ ... إلخ.
هذا البحث المفرط في التحديد القانوني، يمكن أن يظهر لدى أولئك الذين يضعون القانون، أو أولئك الذين يخضعون له. ففي الحالة الأولى يفرض القانون ويحتمه نوع من الحذر لدى المشرعين، إزاء الأفراد الذين يناط بهم تطبيقه؛ ومع ذلك فهو يتجه إلى إلغاء كل مبادأة، وإلى أن يجعل الحياة المشتركة رتيبة لا تطاق، وإلى أن يجعل من أعضاء المجتمع ما يشبه النسخ المكررة من نموذج آلي واحد.
1 / 11
لكنا قد نصادف بين المحكومين أنفسهم أناسًا يودون أن يتولى المشرع بنفسه تحديد كل شيء وتقنينه، فإذا افترضنا أن هذا المشروع يمكن أن يتحقق، فكيف نفسر اقتضاءً من هذا القبيل بالغًا أقصى مداه، إلا بأنه تلمس لأدنى جهد عقلي وأخلاقي؟ إن لم نقل: إنه تنازل محض وبسيط عن الشخصية!!
إن القرآن لا ينقض ذلك الاتجاه إلى حصر كل القواعد، كما لا ينقض الاتجاه المضاد، فهل كان هذا التصرف الحكيم، وذاك الموقف الوسط الذي يقف فيه الفرد دائمًا بمعزل عن طرفي نقيض -مجرد اتفاق؟ أو تحكمًا واعتسافًا؟ أو أن له غاية معينة؟
إننا لكي نقتنع بأن القرآن في إيجازه، وفي تفصيله، يهدف إلى تلك الحكمة التشريعية المنزهة -حسبنا أن نتذكر الواقعة التالية:
"فعن أبي هريرة ﵁ قال: خطبنا رسول الله ﷺ فقال: "يا أيها الناس، إن الله قد فرض عليكم الحج، فحجوا" فقال رجل: أكلَّ عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثًا، فقال، رسول الله، ﷺ: " لو قلت: نعم، لَوَجَبَتْ، ولَمَا استطعتم؛ ثم قال: ذروني ما تركتكم ١، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه" ٢ وفي رواية أخرى أكثر تصريحًا، رواها ابن جرير موقوفة عن أبي ثعلبة الخشني، ورُويت مرفوعة إلى النبي ﷺ قال: "إن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدودًا فلا تعتدوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت
_________
١ يريد أن يقول: لا تستثيروا الوحي، ولا تفتشوا عن شرائع لتضعوها حين لا تجدوها.
٢ رواه مسلم، وورد بمعناه في ابن حبان - ذكره السيوطي في الدرِّ المنثور ٢/ ٣٣٥.
1 / 12
عن أشياء رحمة لكم، غير نسيان، فلا تبحثوا عنها" ١، ويذكر ابن حبان أن ظروفًا كهذه الظروف كانت مناسبة لنزول قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ، قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ﴾ ٢.
هذا الاستبعاد للمبالغة والإفراط في "كيف؟ وكم؟ " من القواعد القرآنية -إجراءٌ اتُّخذ صراحة، كيما يتسنى لكل فرد أن يمارس طاقته العقلية والجسمية والخلقية، بطريقة تختلف عن غيره. فهذا هو ما يتصل بالأخلاق العملية، والسمات العامة التي تحددها؛ فلنمض إلى الأخلاق النظرية:
_________
١ حديث حسن رواه الدارقطني وغيره، وللمؤلف هنا طريق أخرى "المعرب".
٢ المائدة: ١٠١- ١٠٢.
الجانب النظري: وهنا يفارق منهجنا أيضًا المنهج العام؛ ذلك أن ما يهم غالبية علمائنا في المقام الأول هو الجانب الاقتصادي، أو الشرعي، ونحن بادئ ذي بدء، نركز اهتمامنا على المجال الأخلاقي؛ واضعين كل مسألة في المصطلحات التي تُصاغ بها لدى الأخلاقيين المحدثين. ونحن من ناحية أخرى نتخذ من القرآن ذاته نقطة انطلاق، بحيث كان دأبنا الدائب أن نستخرج منه الإجابة عن كل مسألة، بالرجوع المباشر إلى النص. وهنا تكمن الصعوبة؛ فإن النصوص المتعلقة بالنظرية الأخلاقية ليست بالكثرة والوضوح اللذين تمتاز بهما الأحكام العملية، غير أن هنا سؤالًا مسبقًا ينبغي أن يطرح: هل القرآن كتاب نظري؟ أم هل يمكن أن يلتمس فيه ما يلتمس، من المؤلفات والأعمال الفلسفية؟
الجانب النظري: وهنا يفارق منهجنا أيضًا المنهج العام؛ ذلك أن ما يهم غالبية علمائنا في المقام الأول هو الجانب الاقتصادي، أو الشرعي، ونحن بادئ ذي بدء، نركز اهتمامنا على المجال الأخلاقي؛ واضعين كل مسألة في المصطلحات التي تُصاغ بها لدى الأخلاقيين المحدثين. ونحن من ناحية أخرى نتخذ من القرآن ذاته نقطة انطلاق، بحيث كان دأبنا الدائب أن نستخرج منه الإجابة عن كل مسألة، بالرجوع المباشر إلى النص. وهنا تكمن الصعوبة؛ فإن النصوص المتعلقة بالنظرية الأخلاقية ليست بالكثرة والوضوح اللذين تمتاز بهما الأحكام العملية، غير أن هنا سؤالًا مسبقًا ينبغي أن يطرح: هل القرآن كتاب نظري؟ أم هل يمكن أن يلتمس فيه ما يلتمس، من المؤلفات والأعمال الفلسفية؟
1 / 13