﴿ولا تَجْعَل يدك مغلولةً إلى عنُقك ولا تبسُطها كلَّ البسْط﴾ فأقول: إن هذا الاستدلال حاصل وقائم في وجوب أخذ الحيطة والعناية عند ترجمة القرآن بالمعنى، وليس بدليل صريح على منع الترجمة، فأي كلمة وردت في القرآن لها معنى، وحاشا لله أن يكون بعض كلامه بلا معنى، وهو دليل قابل للنقاش، وليس بمانع ولا هو بدليل صريح، ولو فرضنا بأنّه مانع لما ترجمت الكتب أصلا، وفي هذا يقول الجاحظ "إنَّ التَّرجُمان لا يؤدِّي أبدًا ما قال الحكيمُ، على خصائِص معانيه، وحقائق مذاهِبه ودقائق اختصاراته، وخفيَّاتِ حدوده، ولا يقدِر أَنْ يوفيها حقوقها" (١)، ولكننا نرى بأن العلوم قد انتقلت من لغات إلى أخواتها كما من العربية إلى غيرها، والعكس أيضًا، ولولا هذه الحقيقة لما كان لتتابع الحضارات من معنى.
وقد استدل بعضهم بالإشارة للغة القرآن في الكثير من الآيات، كقوله تعالى (بلسان عربي مبين) وهذا من تعظيم لغة القرآن ورفع لشأن لغته، وليس فيه صريح المنع على نقل ألفاظه لغير العربية، قال تعالى ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٤) إبراهيم﴾ ولم تكن كتب السابقين ممنوعة من الترجمة، وإن كانت من عند الله بالاتفاق، وإن قالوا إن تحريم الترجمة من باب تحريم احتمال الاختلاف في معنى الكلام في اللغات الأخرى، أقول: إن هذا الاختلاف حاصل من غير ترجمة، وهو من حكمة رب العالمين، لا مما منع الناس عنه بل "إن وجود الاقتران أو الاشتراك اللفظي هو سبب ضلال الفرق في معرفة الله ﷾، فالله ﷾ خاطبنا ووصف نفسه بكلامنا ولغتنا" (٢)، وكما قال الرسول ﷺ إخبارًا عن علي: "إن منكم من يقاتل على تأويله كما قاتلت على تنزيله" (٣). وبالرجوع لعلم مقارنة اللغات، عندما نقرأ في أصل اللغات والحروف وما قالوه من محاولات للمقارنة بين اللغات الحالية وأقدم لغة معروفة، وهي السومرية (الحرف المسماري)، نجد أن أصل الحروف مختلف وإن تشابهت بعض الكلمات وألفاظها مع بعض اللغات، مما استدعي أصحاب لغة ما بنسب لغتهم إلى أصل اللغات، حتى لو كان التشابه في كلمة أو كلمتين، فترجمة ونقل الكلمات ممكن وحاصل، كيف لا وقد تتشابه بعض الكلمات مع بعضها في اللفظ والمعنى. هذا وإن كان الاختلاف في المعنى المترجم قابل للنقاش والاتفاق، ولكن ترجمة الحروف أو اسم الحرف أمر مستحيل، فالأصل في فهم اللغات المندثرة هو فك رموز اللغة وهي الحروف، بمقارنة محتويات الكلمات منها مع لغة أخرى معاصرة لها، وحروف لغة ما رموز في غيرها، ولولا هذه الحقيقة لما تم فهم اللغات المندثرة مثل السومرية والهيروغليفية، فالاختلاف كائن في الحرف إذ هو أصل اللغة، والتشابه واجب في الكلمات والمعاني، إذ هي مقصد الكلام وغاية اللغة بل هو أساس الكلام. وفي تعريف الكلمة كجزء من أجزاء الكلام قال أهل العربية: "الكلمة قول مفرد مستقل وكذا منوي معه على الصحيح" (٤)، "وأما الحرف فهو الشبهة القائمة وحدها من الكلمة" (٥)، والفرق بينهما كما قال أبو عمرو الداني: "إن الكلمة هي الصورة القائمة بجميع ما يختلط بها من الشبهات، والحرف هو الشبهة وحدها" (٦) لأنه