The Bliss and Success in Understanding the Objectives of Marriage
السعادة والفلاح في فهم مقاصد النكاح
ایڈیشن نمبر
الأولى
اشاعت کا سال
١٤٤٢ هـ - ٢٠٢١ م
اصناف
مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٠٢)﴾ [آل عمران، آية: ١٠٢]. ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (١)﴾ [النساء، آية: ١]. ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (٧٠) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (٧١)﴾ [سورة الأحزاب، آيتان: ٧١، ٧٠].
أما بعد:
فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
1 / 5
ثم أما بعد:
فإن بناء المجتمع المسلم لا يتم إلا ببناء الأسرة، والأصل في بناء الأسرة المسلمة الصالحة هما الزوجان؛ فهما اللبنتان اللتان تؤسس عليهما الأسر. وإن مما يحزن المسلم وخاصة في هذا الزمن ما يشاهد من تفكك في الأسر وهدم في كثير من البيوت، حتى أصبح ظاهرة كثرت لها الشكوى وعمت بها البلوى، ووجب على المصلحين معالجتها والتخفيف من مفاسدها، ولكن كيف ذلك؟
إننا نأمل أن نوفق في هذه الرسالة بالمساهمة في علاج هذه الظاهرة وذلك ببيان مقاصد النكاح التي يجب على الزوجين فهمها، وعلى الوالدين بل على المجتمع كله؛ فنقول وبالله نستعين:
«مقاصد النكاح»:
مقاصد النكاح التي يريدها غالب البشر ثلاثة، وهي: الذرية، والخدمة، والمتعة.
وقبل أن نبدأ في شرح هذه المقاصد نجيب على هذا السؤال الذي يورده البعض باختصار، يقول: إنكم تحثون على الزواج، وتذكرون له فضائل وثمرات طيبة، فلما تزوجنا وجدنا مشاق، وحقوق، وواجبات، ومسئوليات، تذوب فيها تلك المتع!
ونقول: إن هذا سؤال وجيه والجواب: أن هذا يرجع إلى اختلاف الهمم لدى الرجال والنساء، فكما يوجد التفاوت بين الرجال كذلك يوجد بين النساء، فمنهم من يرى سعادته في التخلي عن المسئوليات وترك
1 / 6
النهوض بالواجبات.
على حد قول الشاعر:
دَعِ الْمَكَارِمَ لَا تَرْحَلْ لِبُغْيَتِهَا... وَاقْعُدْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الطَّاعِمُ الْكَاسِي
ومنهم من يرى السعادة في القيام بهذه الحقوق وتحمل هذه المسئوليات والنهوض بتلك الأحمال ويجد في ذلك سعادته ومتعته لعلو همته وسمو نفسه، قال الشاعر:
لَوْلَا المَشَقّةُ سَادَ النَّاسُ كُلُّهُمُ... الجُودُ يُفْقِرُ وَالإِقْدَامُ قَتَّالُ
وإلى بيان هذه المقاصد وفقنا الله وإياكم لفهمها والعمل بها.
المقصد الأول (الذرية):
قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً﴾ [سورة الرعد، آية رقم: ٣٨]، روى أبو داود في سننه من حديث معقل بن يسار ﵁ أن النبي ﷺ قال: «تَزَوَّجُوا الْوَدُودَ الْوَلُودَ، فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمُ الْأُمَمَ» (^١). فالذرية مطلب صحيح وله منافع دنيوية وأُخروية، قال تعالى: ﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ [سورة الكهف، آية رقم: ٤٦]، وقال تعالى: ﴿وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (٣٠)﴾ [سورة ص، آية رقم: ٣٠]، وقال تعالى: ﴿فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (١٠١)﴾ [سورة الصافات، آية رقم: ١٠١]، روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة ﵁ أن النبي ﷺ قال: «إِذَا مَاتَ
_________
(^١) سنن أبي داود برقم (٢٠٥٠)، وقال الشيخ الألباني ﵀ في صحيح سنن أبي داود (٢/ ٣٨٦) برقم (١٨٠٤): حسن صحيح.
1 / 7
الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ» (^١).
وهذا المقصد مشترك بين الزوجين على حد سواء، ومنافعه عائدة للزوجين كليهما.
وعليه فيجب على الزوجين أن يعلما أن كل واحد منهما له فضل على الآخر في إيجاد الذرية، ولا يحل لأي واحد منهما أن يرى له فضلًا في ذلك ليس للآخر، وبفهم هذه الحقيقة يحصل التعاون بينهما لحمل هذه المسئولية، ومن ثم يخف القيام بهذا الحمل الثقيل لتعاون الزوجين. وذلك بعكس ما لو تخلى أحدهما فإن الآخر سيقوم بحمله وحمل غيره، فيثقل عليه ذلك وربما عجز عنه فيقع الضرر ويحدث الفساد الذي نشاهد آثاره تزداد يومًا بعد يوم. وهذه الحقيقة هي التي فهمتها الصحابية الجليلة خولة بنت ثعلبة ﵂ لما ظاهر منها زوجها وجاءت تشتكي إلى النبي ﷺ فقالت: يَا رَسُولَ اللهِ! إِنَّ لِي مِنْهُ أَوْلَادًا؛ إِنْ ضُمَمْتُهُم إِلَيَّ جَاعُوا وِإِنْ ضَمَّهُم إِلَيْهِ ضَاعُوا... (^٢).
ففهمت ﵂ أن تربية الأولاد والقيام عليهم لا يتم إلا بتعاون الزوجين، وأنها بدون ذلك - لفراق أو شقاق - يقع الضرر على الأولاد بالجوع والضياع. فإذا كان هذا في الزمن الأول الصالح، فكيف بنا
_________
(^١) صحيح مسلم برقم (١٦٣١).
(^٢) هذه الرواية ذكرها البغوي في تفسيره الوسيط (٨/ ٤٧)، وأصل الحديث ثابت، أخرجه أحمد في مسنده (٤٠/ ٢٢٨) برقم (٢٤١٩٥)، وقال محققوه: إسناده صحيح على شرط مسلم.
1 / 8
اليوم؟! وقد أنزل الله تعالى في خولة وشكواها قرآنًا يُتلى، قال تعالى: ﴿قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (١)﴾ [سورة المجادلة، آية رقم: ١].
المقصد الثاني: (الخدمة):
من مقاصد الرجل بالنكاح أن يتزوج امرأة تخدمه - والكلام على الغالب والحالات الخاصة لها أحكامها - سواء داخل المنزل أو خارجه؛ مثل صنع الطعام، وترتيب المنزل، وغسل الثياب، والاحتطاب، وسقي الماء، والعناية بالبهائم، وغير ذلك مما يختلف فيه مجتمع عن آخر.
وفي الصحيحين من حديث عائشة ﵂ عندما سأل رسول اللَّه ﷺ بريرة مولاة لعائشة فقال: «أَيْ بَرِيرَةُ، هَلْ رَأَيْتِ مِنْ شَيْءٍ يَرِيبُكِ؟» قَالَتْ بَرِيرَةُ: لَا وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ، إِنْ رَأَيْتُ عَلَيْهَا أَمْرًا أَغْمِصُهُ (^١) عَلَيْهَا، أَكْثَرَ مِنْ أَنَّهَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ، تَنَامُ عَنْ عَجِينِ أَهْلِهَا، فَتَأْتِي الدَّاجِنُ (^٢) فَتَأْكُلُهُ (^٣).
وروى مسلم في صحيحه من حديث أنس ﵁ قال: لَمَّا انْقَضَتْ عِدَّةُ زَيْنَبَ، قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ لِزَيْدٍ: «فَاذْكُرْهَا عَلَيَّ»، قَالَ: فَانْطَلَقَ زَيْدٌ حَتَّى أَتَاهَا وَهِيَ تُخَمِّرُ عَجِينَهَا، قَالَ: فَلَمَّا رَأَيْتُهَا عَظُمَتْ فِي صَدْرِي (^٤).
_________
(^١) أي أعيبه، النهاية (٣/ ٣٤٧).
(^٢) الداجن: هي الشاة التي تألف ولا تخرج إلى المرعى، وقيل: هي كل ما يألف البيوت مطلقًا شاة أو طيرًا.
(^٣) صحيح البخاري برقم (٤٧٥٠)، وصحيح مسلم برقم (٢٧٧٠).
(^٤) برقم (١٤٢٨).
1 / 9
وروى مسلم في صحيحه من حديث أسماء بنت أبي بكر ﵂ قالت: تَزَوَّجَنِي الزُّبَيْرُ وَمَا لَهُ فِي الْأَرْضِ مِنْ مَالٍ وَلَا مَمْلُوكٍ وَلَا شَيْءٍ، غَيْرَ فَرَسِهِ، قَالَتْ: فَكُنْتُ أَعْلِفُ فَرَسَهُ، وَأَكْفِيهِ مَئُونَتَهُ وَأَسُوسُهُ وَأَدُقُّ النَّوَى لِنَاضِحِهِ، وَأَعْلِفُهُ، وَأَسْتَقِي الْمَاءَ وَأَخْرِزُ غَرْبَهُ وَأَعْجِنُ، وَلَمْ أَكُنْ أُحْسِنُ أَخْبِزُ، وَكَانَ يَخْبِزُ لِي جَارَاتٌ مِنَ الْأَنْصَارِ وَكُنَّ نِسْوَةَ صِدْقٍ، قَالَتْ: وَكُنْتُ أَنْقُلُ النَّوَى مِنْ أَرْضِ الزُّبَيْرِ الَّتِي أَقْطَعَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ عَلَى رَأْسِي، وَهِيَ عَلَى ثُلُثَيْ فَرْسَخٍ. قَالَتْ: فَجِئْتُ يَوْمًا وَالنَّوَى عَلَى رَأْسِي، فَلَقِيتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ وَمَعَهُ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَدَعَانِي، ثُمَّ قَالَ: «إِخْ إِخْ» لِيَحْمِلَنِي خَلْفَهُ، قَالَتْ: فَاسْتَحْيَيْتُ وَعَرَفْتُ غَيْرَتَكَ، فَقَالَ: واللهِ لَحَمْلُكِ النَّوَى عَلَى رَأْسِكِ أَشَدُّ مِنْ رُكُوبِكِ مَعَهُ، قَالَتْ: حَتَّى أَرْسَلَ إِلَيَّ أَبُو بَكْرٍ بَعْدَ ذَلِكَ بِخَادِمٍ فَكَفَتْنِي سِيَاسَةَ الْفَرَسِ، فَكَأَنَّمَا أَعْتَقَتْنِي (^١).
وفي صحيح البخاري من حديث علي ﵁: أن فاطمة اشتكت ما تلقى من الرحى مما تطحن فبلغها أن رسول الله ﷺ أُتي بسبي فأتته تسأله خادمًا فلم توافقه، فذكرت لعائشة فجاء النبي ﷺ فذكرت ذلك عائشة له، فأتانا وقد دخلنا مضاجعنا فذهبنا لنقوم فقال: «عَلَى مَكَانِكُمُا» حتى وجدت برد قدميه على صدري، فقال: «أَلَا أَدُلُّكُمَا عَلَى خَيْرٍ مِمَّا سَأَلْتُمَاهُ؟ إِذَا أَخَذْتُمَا مَضَاجِعَكُمَا فَكَبِّرَا اللَّهَ أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ، وَاحْمَدَا ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَسَبِّحَا ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، فَإِنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمَا مِمَّا سَأَلْتُمَاهُ» (^٢).
فإن قيل: فما يقابل ذلك من الزوج، فالجواب: أن الزوج عليه النفقة
_________
(^١) برقم (٢١٨٢).
(^٢) برقم (٣١١٣).
1 / 10
فهو يكد ويكدح من أجل تحصيلها، قال تعالى: ﴿لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا﴾ [سورة الطلاق، آية رقم: ٧]، وقال تعالى: ﴿أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ﴾ [سورة الطلاق، آية رقم: ٦]، وقال ﷺ: «كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَقُوتُ» (^١).
وروى أبو داود في سننه من حديث معاوية بن حيدة قال: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا حَقُّ زَوْجَةِ أَحَدِنَا عَلَيْهِ؟ قال ﷺ: «أَنْ تُطْعِمَهَا إِذَا طَعِمْتَ، وتَكْسُوهَا إِذَا اكْتَسَيْتَ..» الحديث (^٢).
وروى البخاري ومسلم من حديث سعد ﵁ أن النبي ﷺ قال له: «... ولَسْتَ تُنْفِقُ نَفَقَةً تَبْتَغِي بها وجْهَ اللَّهِ إلَّا أُجِرْتَ بِهَا، حتَّى اللُّقْمَةَ تَجْعَلُها فِي فِي امْرَأَتِكَ» (^٣).
ويلحق بذلك توفير الأمن للزوجة بجميع أنواعه؛ الأمن المنزلي، الأمن المعيشي، الأمن النفسي وغير ذلك. فهي مسئوليته وحده لكونه رجلًا، فكل واحد منهما خادم للآخر، غير أن موقع الزوجة أعز وأشرف من موقع الزوج في كثير من الحالات، فإن الزوج قد يخدم من لا يحبه ولا يكرمه بل يهينه ويذله بعكس المرأة، فإنها تجد من يشكرها ويثني عليها
_________
(^١) مسند الإمام أحمد (١١/ ٤٣٢) برقم (٦٤٩٥)، وقال محققوه: حديث صحيح من حديث عبد اللَّه بن عمرو ﵄.
(^٢) مسند الإمام أحمد (٣٣/ ٢٢٦) رقم (٢٠٠٢٢)، وقال محققوه: إسناده حسن، وسنن أبي داود برقم (٢١٤٢).
(^٣) صحيح البخاري برقم (٥٦)، وصحيح مسلم برقم (١٦٢٨) واللفظ له.
1 / 11
ويدعو لها، فتكون خدمتها محل فرح وسعادة وفخر واعتزاز، فعلى النساء أن يتفطن لذلك ويقدرنه قدره.
ومعرفة هذه الحقيقة والعمل بها عن قناعة ورضا تدفع كل واحد منهما أن يقوم بما يجب عليه دون تذمر أو شعور بالجور أو الظلم، لعلم كل منهما أنه كما عليه واجب يلزمه القيام به فإن الآخر كذلك عليه واجب مثل الذي عليه وإن اختلفت الأنواع. فما يجب على أحدهما هو حق للآخر، وبالتالي ينقطع الإدلال والتمنن الذي يكون سببًا لتشتت الأسر وتفرقها، قال تعالى: ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ [سورة البقرة، آية رقم: ٢٢٨].
المقصد الثالث: (المتعة)
وهو أوسع هذه المقاصد وأكثرها نفعًا إذا أُحسن القيام به وأشدها ضررًا إذا أُهمل، وليس المقصود بالمتعة الفراش فقط بل هو أعم من ذلك، إذ يشمل جميع مناحي الحياة. وهو مطلوب من الزوجين كليهما مع شيء من الاختلاف في بعض ما يجب على كل واحد منهما، حسب ما تقتضيه طبيعة كل واحد منهما.
إن الزوجين حين يعيشان كنفس واحدة يفرح أحدهما لفرح الآخر ويحزن لحزنه ويهتم لهمه ويسعى كل واحد منهما لمتعة الآخر، حينها تُضمن لهما الحياة السعيدة الهانئة. ولكن ليعلم أنه لا يستقيم لهما ذلك إلا بعقد العزم على الحفاظ على هذا الرباط الوثيق بينهما حتى يلتقيا في جنات النعيم (^١).
_________
(^١) وفيما يأتي شيء من التفصيل لهذا الإجمال.
1 / 12
تقدم فيما سبق أن المقصد الثالث من مقاصد النكاح بمعناه الأعم هو أوسع هذه المقاصد وأكثرها نفعًا إذا أُحسن القيام به وأشدها ضررًا إذا أُهمل.
ومن آثاره أنه يخدم المقاصد الأخرى إيجابًا وسلبًا، وهو مطلوب من الزوجين جميعًا غير أن الزوجة به أولى وعليه أقدر لما جبلها الله عليه من التراكيب الأنثوية الجذابة، والإشعارات الحلوة الجميلة، فَلَيْسَ فِي الدُّنْيَا أَلَذُّ وَلَا أَطْيَبُ وَلَا أَمْتَعُ مِنَ الْمَرْأَةِ الصَّالِحَةِ، فَكُلُّ مُتَعِ الْحَيَاةِ تَنْعَكِسُ عِنْدَ التَّقَلُّبَاتِ، أَمَّا الْمَرْأَةَ الصَّالِحَةِ فَتَبْقَى كَذَلِكَ، بَلْ إِنَّ السَّعَادَةَ بِهَا تزداد مَعَ اِشْتِدَادِ الْأَحْوَالِ وَمَصَاعِبِ الْحَيَاةِ.
بهذا نفهم قوله ﷺ فيما رواه مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن عمرو ﵄ أن النبي ﷺ قال: «الدُّنْيَا مَتَاعٌ، وَخَيْرُ مَتَاعِ الدُّنْيَا الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ» (^١).
وسنورد فيما يأتي بعض الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة المشتملة على تطبيق هذا المقصد لتكون عونًا على فهمه.
وليعلم أننا في هذا الفصل لا نريد منه بيان الحقوق والواجبات وإنما نريد إيضاح مجالات إمتاع كل من الزوجين للآخر فيما يخص الأخلاق الجميلة والآداب الرفيعة وأنه شامل لجميع مناحي الحياة.
١ - قال الله تعالى: ﴿هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ﴾ [سورة البقرة، آية رقم: ١٨٧]، من وسائل إسعاد كل واحد من الزوجين للآخر أن يكون
_________
(^١) صحيح البخاري برقم (٣٢٣٧)، وصحيح مسلم برقم (١٤٣٦).
1 / 13
لباسًا له يستره ويقيه ويتجمل به ويأتي مزيد تفصيل لذلك.
٢ - قال الله تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا﴾ [سورة الروم، آية رقم: ٢١]، فمن أعظم المتع التي يحصل عليها الزوج أن تكون زوجته بمثابة السكن الذي يأوي إليه ويهنأ به وسيأتي مزيد تفصيل لذلك.
٣ - قال الله تعالى: ﴿فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ﴾ [سورة النساء، آية رقم: ٣٤]، روى الإمام أحمد في مسنده من حديث سعد ﵁ أن النبي ﷺ لما سئل عن المرأة الصالحة قال: «الَّتِي تَسُرُّهُ إِذَا نَظَرَ، وَتُطِيعُهُ إِذَا أَمَرَ، وَلَا تُخَالِفُهُ فِيمَا يكْرَهُ فِي نَفْسِهَا وَمَالِهُ» (^١)،
إِنَّ القَلَقَ وَالْهَمَّ الَّذِي يُصِيبُ الزَّوْجَ بِسَبَبِ الشُّكُوكِ وَالْوَسَاوِسِ حَالَ غِيَابِهِ عَنْ زَوْجَتِهِ وَمَالِهِ وَوَلَدِهِ تَزُولُ بِالْمَرْأَةِ الصَّالِحَةِ الْعَفِيفَةِ الشَّرِيفَةِ وَيَحُلُّ مَحَلَّهَا الطُّمَأْنِينَةُ وَالرَّاحَةُ.
٤ - قال الله تعالى حاكيًا عن نبي الله موسى وهو يخاطب أهله: ﴿فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (٢٩)﴾ [سورة القصص، آية: ٢٩].
من الأمور التي تظهر فيها مكانة الزوجة عند زوجها أن يجعلها تشاركه في بعض أموره العامة، فإنها بذلك تشعر بالتقدير والاحترام وأنها ليست من سقط المتاع، فهذا موسى ﵇ يقول لزوجته:
_________
(^١) مسند الإمام أحمد (١٢/ ٣٨٣ - ٣٨٤) برقم (٧٤٢١)، وقال محققوه: إسناده قوي.
1 / 14
سآتيكم منها بخبر، ولم يقل: هذه الأمور تخص الرجال لا شأن لها به، فلينتبه الأزواج إلى ذلك.
٥ - من أعظم المتع التي تنالها الزوجة أن تجد من زوجها الشكر والثناء والاعتراف بالجميل لقاء ما تقوم به من تبعل وحسن معشر، وهؤلاء أزواج رسول الله ﷺ ورضي الله عنهن لما خُيرن بين الدنيا والآخرة فاخترن الله ورسوله كانت مكافأتهن ما أخبر به ﷿ بقوله: ﴿لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ﴾ [سورة الأحزاب، آية رقم: ٥٢].
٦ - من أفضل وأحسن ما يهنأ به الزوج أن تكون زوجته حافظة لبصرها فإنها إذا كانت كذلك فهي لما سواه أحفظ، قال الله تعالى: ﴿وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ﴾ [سورة النور، آية رقم: ٣١]، فقد وصف الله نساء أهل الجنة، فقال تعالى: ﴿فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ﴾ [سورة الرحمن، آية رقم: ٥٦]، كذلك فإن الزوجة تجد السعادة والراحة حين ترى زوجها حافظًا لبصره امتثالًا لقوله تعالى: ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ﴾ [سورة النور، آية رقم: ٣٠]، لعلمها أنه إذا حفظ بصره فإنه لما سواه أحفظ.
٧ - من أعظم ما يتمتع به الزوجان أن يرى كل منهما في الآخر هذا الخلق الجميل الذي هو شعبة من الإيمان وهو خلق الحياء، فإن الحياء إذا وجد لا يرقى معه شيء من الأخلاق الذميمة والصفات السقيمة، ولذلك قال ﷺ: «الْحَيَاءُ كُلُّهُ خَيْرٌ» (^١). وفي التنزيل المبارك يقص علينا ربنا ﷿ قصة البنتين الصالحتين، فقد ذكر أعظم ما تحليا به وهو الحياء الذي
_________
(^١) صحيح مسلم برقم (٣٧)، وأخرجه البخاري برقم (٦١١٧) بمعناه.
1 / 15
منعهما من مخالطة الرجال مع شدة الحاجة إلى سقي غنمهما، قال الله تعالى: ﴿وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (٢٣) فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (٢٤)﴾ [سورة القصص، الآيتان: ٢٣ - ٢٤].
٨ - إن مما يجمل المرأة ويرفع منزلتها في عيون الناس - ولاسيما الزوج- أن يكون الحياء حاكمًا على جميع تصرفاتها وحركاتها وسكناتها حتى في مشيها، وقد ذكر الله ذلك عن المرأة الصالحة بنت الرجل الصالح على سبيل الثناء والمدح، فقال تعالى: ﴿فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ﴾ [سورة القصص، آية رقم: ٢٥].
٩ - من أعظم النعم على الرجل أن يرزقه الله زوجة عاقلة حصيفة شديدة الملاحظة لما فيه الخير، عارفة بالفضائل ومحاسن الصفات، قال الله تعالى عن المرأة الصالحة بنت الرجل الصالح: ﴿قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَاأَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (٢٦)﴾ [سورة القصص، آية رقم: ٢٦].
١٠ - قال تعالى: ﴿يَانِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (٣٢)﴾ [سورة الأحزاب، آية رقم: ٣٢].
من الأمور التي ترفع مكانة المرأة وتعلي منزلتها عند زوجها بل عند الناس جميعًا؛ أن تكون تصرفاتها قاطعة لأطماع أصحاب الهوى والفجور، فإذا اضطرت إلى الكلام مع الرجال كان كلامها غير رقيق ولا لين وأن
1 / 16
تتجنب فيه الألفاظ والعبارات التي لا تنبغي إلا مع الأزواج ﴿وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (٣٢)﴾ [سورة الأحزاب، آية رقم: ٣٢].
١١ - إن إدخال السرور على النفوس مما يسعى إليه كل أحد وهو من نعيم أهل الجنة، ولذلك ينبغي للزوجين إدخال السرور على بعضهما وهذه صفة المرأة الصالحة، فروى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي هريرة ﵁ أن النبي ﷺ سُئِلَ: أَيُّ النِّسَاءِ خَيْرٌ؟ قَالَ: «الَّتِي تَسُرُّهُ إِذَا نَظَرَ، وَتُطِيعُهُ إِذَا أَمَرَ، وَلَا تُخَالِفُهُ فِيمَا يَكْرَهُ فِي نَفْسِهَا وَمَالِهَ» (^١).
١٢ - روى الإمام أحمد في مسنده من حديث عائشة ﵂: أنها كانت مع النبي ﷺ في سفر وهي جارية، فقال لأصحابه: «تَقَدَّمُوا»، فَتَقَدَّمُوا، ثُمَّ قَالَ: «تَعَالَيْ أُسَابِقُكِ»، فَسَبَقْتُهُ، فَلَبِثْنَا حَتَّى إِذَا رَهِقَنِي اللَّحْمُ سَابَقَنِي فَسَبَقَنِي، فَقَالَ: «هَذِهِ بِتِيكِ» (^٢).
١٣ - روى الإمام أحمد في مسنده من حديث عائشة ﵂ قالت: كُنْتُ أَتَعَرَّقُ الْعَرْقَ وَأَنَا حَائِضٌ، فَيَأْخُذُهُ رَسُولُ الله ﷺ فَيَضَعُ فَمَهُ حَيْثُ كَانَ فَمِي، وَأَشْرَبُ مِنَ الْإِنَاءِ، فَيَأْخَذُهُ رَسُولُ الله ﷺ فَيَضَعُ فَمَهُ حَيْثُ كَانَ فَمِي، وَأَنَا حَائِضٌ (^٣).
١٤ - روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عائشة ﵂ قالت: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ ﷺ وَعِنْدِي جَارِيَتَانِ تُغَنِّيَانِ بِغِنَاءِ بُعَاثَ،
_________
(^١) (١٢/ ٣٨٣) برقم (٧٤٢١)، وقال محققوه: إسناده قوي.
(^٢) (٤٠/ ١٤٥) برقم (٢٤١١٩)، وقال محققوه: إسناده صحيح على شرط الشيخين.
(^٣) (٤١/ ٤٢٧) برقم (٢٤٩٥٤)، وقال محققوه: إسناده صحيح على شرط مسلم.
1 / 17
فَاضْطَجَعَ عَلَى الفِرَاشِ، وَحَوَّلَ وَجْهَهُ، وَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ، فَانْتَهَرَنِي وَقَالَ: مِزْمَارَةُ الشَّيْطَانِ عِنْدَ النَّبِيِّ ﷺ، فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ ﵇ فَقَالَ: «دَعْهُمَا»، فَلَمَّا غَفَلَ غَمَزْتُهُمَا فَخَرَجَتَا، وَكَانَ يَوْمَ عِيدٍ، يَلْعَبُ السُّودَانُ بِالدَّرَقِ وَالحِرَابِ، فَإِمَّا سَأَلْتُ النَّبِيَّ ﷺ وَإِمَّا قَالَ: «تَشْتَهِينَ تَنْظُرِينَ؟» فَقُلْتُ: نَعَمْ، فَأَقَامَنِي وَرَاءَهُ، خَدِّي عَلَى خَدِّهِ، وَهُوَ يَقُولُ: «دُونَكُمْ يَا بَنِي أَرْفِدَةَ» حَتَّى إِذَا مَلِلْتُ، قَالَ: «حَسْبُكِ؟» قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: «فَاذْهَبِي» (^١).
١٥ - ضَرَبَتْ خَدِيجَةُ ﵂ أَرَوْعَ الْأَمْثَالِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَبَعْدَهُ، وَنَذكُرُ بَعْضَ مَوَاقِفِهَا وَمَوَاقِفِ رَسُولِ الله ﷺ مَعَهَا لِيَكُونَ ذَلِكَ مِثَالًا يُحْتَذَى لِكُلِّ زَوْجَيْنِ يُرِيدَانِ أَنْ تَكُونَ حَيَاتُهُمَا مَعَ بَعْضِهِمَا حَيَاةً سَعِيدَةً طِيبَةً.
روى البخاري في صحيحه من حديث عائشة ﵂ أنها قالت: أول ما بدئ به رسول الله ﷺ من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، وجاء في آخر الحديث، فرجع بها رسول الله ﷺ يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد، فقال: «زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي» فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ، ثُمَّ قَالَ لِخَدِيجَةَ: «أَيْ خَدِيجَةُ مَا لِي»، وَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ، قَالَ: «لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي»، فَقَالَتْ خَدِيجَةُ: كَلَّا وَاللَّهِ مَا يُخْزِيكَ اللهُ أَبَدًا، إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الكَلَّ، وَتَكْسِبُ المَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الحَقِّ، فَانْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ العُزَّى ابْنَ عَمِّ خَدِيجَةَ وَكَانَ
_________
(^١) صحيح البخاري برقم (٩٤٩)، وصحيح مسلم برقم (٨٩٢) واللفظ له.
1 / 18
امْرَأً تَنَصَّرَ فِي الجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ يَكْتُبُ الكِتَابَ العِبْرَانِيَّ، فَيَكْتُبُ مِنَ الإِنْجِيلِ بِالعِبْرَانِيَّةِ مَا شَاء اللهُ أَنْ يَكْتُبَ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِيَ، فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ: يَا ابْنَ عَمِّ، اسْمَعْ مِنِ ابْنِ أَخِيكَ، فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: يَا ابْنَ أَخِي مَاذَا تَرَى؟ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ خَبَرَ مَا رَأَى، فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي نَزَّلَ اللهُ عَلَى مُوسَى، يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا، يَا لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا حِينَ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ، قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ؟»، قَالَ وَرَقَةُ: نَعَمْ، لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ، وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا، ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ وَرَقَةُ أَنْ تُوُفِّيَ، وَفَتَرَ الوَحْيُ (^١).
فوقوفها مع النبي ﷺ وتثبيتها له وتبشيرها من أعظم مواقف امرأة مع زوجها، مع الإحاطة والعلم بأن هذا كله وقع قبل إسلامها، وقد كافأها رسول الله ﷺ بإظهار هذه المواقف النبيلة، فكان ﷺ يردد: «إِنَّهَا كَانَتْ، وَكَانَتْ، وَكَانَ لِي مِنْهَا وَلَدٌ» (^٢)، و«إِنِّي رُزِقْتُ حُبَّهَا» (^٣)، و«مَا أَبْدَلَنِي اللَّهُ ﷿ خَيْرًا مِنْهَا، قَدْ آمَنَتْ بِي إِذْ كَفَرَ بِي النَّاسُ، وَصَدَّقَتْنِي إِذْ كَذَّبَنِي النَّاسُ، وَوَاسَتْنِي بِمَالِهَا إِذْ حَرَمَنِي النَّاسُ» (^٤).
وكان ﷺ بعد وفاتها ﵂ يذكر لها هذه الفضائل العظيمة حتى قالت
_________
(^١) صحيح البخاري برقم (٣)، وصحيح مسلم برقم (١٦٠).
(^٢) صحيح البخاري برقم (٣٨١٨)، وصحيح مسلم برقم (٢٤٣٤) من حديث عائشة ﵂.
(^٣) صحيح مسلم برقم (٢٤٣٥) من حديث عائشة ﵂.
(^٤) مسند الإمام أحمد (٤١/ ٣٥٦) برقم (٢٤٨٦٤)، وقال محققوه: حديث صحيح من حديث عائشة ﵂.
1 / 19
عائشة ﵂: كأنه لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة (^١).
وقد نالت ﵂ بحسن عشرتها ما لم ينله أحد، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة ﵁ قال: «أَتَى جِبْرِيلُ النَّبِيَّ ﷺ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! هَذِهِ خَدِيجَةُ قَدْ أَتَتْ مَعَهَا إِنَاءٌ فِيهِ إِدَامٌ، أَوْ طَعَامٌ أَوْ شَرَابٌ، فَإِذَا هِيَ أَتَتْكَ فَاقْرَأْ ﵍ مِنْ رَبِّهَا وَمِنِّي، وَبَشِّرْهَا بِبَيْتٍ فِي الجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ لَا صَخَبَ فِيهِ، وَلَا نَصَبَ (^٢).
والقصب لؤلؤ مجوف واسع كالقصر المنيف، والصخب اختلاط الأصوات، والنصب: التعب، قال السهيلي: وإنما بشرها ببيت في الجنة من قصب - يعني قصب اللؤلؤ - لأنها حازت قصب السبق إلى الإيمان، لا صخب فيه ولا نصب، لأنها لم ترفع صوتها على النبي ﷺ ولم تتعبه يومًا من الدهر، فلم تصخب عليه يومًا ولا آذته أبدًا (^٣).
هذه بعض مواقفها ﵂ وأرضاها ختمنا بها هذا الفصل والمسك خير ختام.
* * *
_________
(^١) صحيح البخاري برقم (٣٨١٨) من حديث عائشة ﵂.
(^٢) صحيح البخاري برقم (٣٨٢٠)، وصحيح مسلم برقم (٢٤٣٢).
(^٣) البداية والنهاية لابن كثير ﵀ (٤/ ٣١٧).
1 / 20
فصل منه:
١٦ - روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة ﵁: أن رجلًا أتى النبي ﷺ فقال: يا رسول الله؟ أصابني الجهد، فبعث إلى نسائه، فقلن: ما معنا إلا الماء، فقال رسول الله ﷺ: «مَنْ يَضُمُّ أَوْ يُضِيفُ هَذَا» [هَذِهِ اللَّيْلَةَ ﵀]؟ فقال رجل من الأنصار: أنا [يَا رَسُولَ اللهِ!] فانطلق به إلى امرأته فقال: أكرمي ضيف رسول الله ﷺ [لَا تَدَّخِرِيهِ شَيئًا] فقالت [وَاللهِ] ما عندنا إلا قوت صبياني، فقال: هيئي طعامك وأصبحي سراجك، ونومي صبيانك، إذا أرادوا عشاء [وَتَعَالَي فَأَطْفِئِي السِّرَاجَ وَنَطْوِي بُطُونَنَا اللَّيْلَةَ]. فهيأت طعامها، وأصبحت سراجها، ونومت صبيانها، ثم قامت كأنها تصلح سراجها فأطفأته، فجعلا يريانه أنهما يأكلان فباتا طاويين، فلما أصبح غدا إلى رسول الله ﷺ فقال: «ضَحِكَ اللَّهُ اللَّيْلَةَ - أَوْ عَجِبَ - مِنْ فَعَالِكُمَا»، فأنزل الله: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٩)﴾ [سورة الحشر، آية رقم: ٩] (^١).
لقد عظم الإسلام مكانة المرأة وأشاد بمواقفها النبيلة وأنزل فيها قرآنًا يُتلى إلى يوم القيامة، فتبًّا ثم تبًّا لمن يسعون إلى إظهار الإسلام بغير ذلك.
_________
(^١) مختصر صحيح البخاري للشيخ الألباني ﵀ برقم ١٦١٤، وأخرجه مسلم برقم ٢٠٥٤ بلفظ مختلف.
1 / 21
ولبيان وجه إيراد هذه القصة تأمل الفقرات التالية:
(أ) هذا الضيف ليس ضيفًا كغيره بل ضيفًا مميزًا فهو ضيف رسول الله ﷺ.
(ب) هذا الصحابي الجليل ﵁ أخذ معه هذا الضيف إلى بيته ليقوم بضيافته لينال بذلك رضى الله تعالى ورضى رسول الله ﷺ، ورجاء أن تصيبه دعوة الرسول ﷺ، وليدخل السرور على نفسه فإنه من قوم يحبون إكرام الضيف.
(ج) أخبر امرأته أن هذا الضيف ضيفٌ مميزٌ لتشاركه في الأجر والفضل والحمد (^١)، ولم يقل لها: هذا لا يعنيك افعلي ما آمرك به.
(د) لم يجد الأنصاري ﵁ في بيته من الطعام سوى ما يكفي لصبيته، وفي هذه الحالة البالغ فيها الحرج غايته وجد نفسه مضطرًا إلى من يعينه ويقف معه لينال هذه الفضائل وقد وجده، فيا ترى من يكون؟
(هـ) إنها زوجته الصالحة الكريمة العاقلة الذكية الصابرة الوفية.
(و) لو قالت لزوجها: قد اجتمع عليك حقان: حق الضيف وحق الأهل، وعليك أن تقدم أولاهما وهو هنا حق الأهل، لضاق صدره، وعظم حرجه. ولكنها ﵂ لم تقل ذلك لكرم نفسها وطيب معشرها.
(ز) من كرم نفسها وحسن عشرتها بيتت النية وعقدت العزم على أن تؤثر على نفسها فتبيت خميصة البطن في سبيل أن ينال زوجها تلك الفضائل والشرف العظيم ولتجمله عند رسول الله ﷺ وضيفه،
_________
(^١) الحمد: هو المدح والثناء.
1 / 22
فهي لم تقل: ما عندي إلا ما يكفيني بل تجاهلت نفسها وقالت: ما عندي إلا عشاء الصبية.
(ح) من ذكائها وخوفها ألا يكون تصرفها صحيحًا في تقديم حق الضيف على حق الصبية قالت ذلك لزوجها ليشتركا في القرار ولتحمل معه نتائجه، وكان بإمكانها أن تتهرب وتقول لزوجها: هذا الموجود أطعمه من شئت وتخلي مسؤوليتها، ولكنها ﵂ لم تفعل ذلك لكرم نفسها وحسن عشرتها، فأنعم بها وأكرم من قدوة صالحة.
(ط) من أعظم ما يواجه الشخص فقه الأولويات وتقديم الواجبات والحقوق بعضها على بعض عند التزاحم، وفي هذه القصة مثال يحتذى، والموفق من وفقه الله، ومن يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين.
(ي) في هذه القصة كانت الفكرة النظرية مشتركة بين الزوجين إلا أن المنفذ لها والحامل لأعبائها ورافع رايتها هي الزوجة المباركة، فاستحقت بذلك تخليد ذكرها وأن يعجب ربها من صنيعها وصنيع زوجها.
(ك) لم يقتصرا ﵄ في إكرام ضيف رسول الله ﷺ على تهيئة عشائه فقط، بل زادا على ذلك إدخال السرور عليه. وذلك في إظهار أنه لم يلحقهما مشقة في إكرامه وأن ما قدماه له زائد عن حاجتهما، فأطفآ السراج وجعلا يوهمانه أنهما يأكلان.
هذا ما تيسر بيانه فيما يتعلق بموضوعنا، وفي القصة فوائد أخرى نذكر أظهرها على سبيل الاختصار:
1 / 23
١ - في هذه القصة بيان مكانته ﷺ وعظيم منزلته عند ربه، فإن هذين الصحابيين لما قاما بضيافة ضيفه ﷺ وأديا عنه الحق الذي عليه خلد الله ذكرهما الحسن في آيات تتلى إلى يوم القيامة، فيا ترى كم تكون منزلة من قام بدعوته ونشر سنته وذب عن دينه؟!
٢ - وفيها: ما كان عليه ﷺ من ضيق العيش وقلة ذات اليد اختيارًا منه لذلك، فإنه لو شاء لكان غير ذلك، ولكنه ﷺ آثر الباقية على الفانية والأخرى على الأولى، وفضل أن يكون عبدًا رسولًا.
٣ - وفيها: فضل أزواج الرسول ﷺ، وعظيم صبرهن واختيارهن الله ورسوله على الحياة الدنيا وزينتها.
٤ - وفيها: أن من الواجبات والفروض ما هو فرض كفاية، فإن حق هذا الضيف سقط عن النبي ﷺ بقيام هذين الصحابيين به.
٥ - وفيها: أن سؤال الرجل أن يقوم أحد إخوانه المسلمين بحق وجب عليه لا يستطيعه ليس من السؤال المذموم.
٦ - وفيها: أن إكرام الضيف لا يكون بإطعام الطعام فقط، بل يشمل أمورًا أخرى من الترحيب به ومؤانسته بالحديث وغيرهما مما يختلف فيه الناس من مجتمع لآخر، قال الشاعر:
النَّارُ إِذَا شِبَّتْ فَنَصُّ الكَرَامَةِ... وَالنَّصُّ الآخَرُ مَا تَيَسَّرَ مِنَ القُوتِ
٧ - وفيها: أنه ينبغي أن يظهر المضيف لضيفه ما يجعل الضيف يطمئن أنه لم يشُق عليه وإن كان الأمر بعكس ذلك.
٨ - وفيها: أن الإيثار من محاسن الأخلاق وفضائل الأعمال، وهو مع
1 / 24