انقلاب شاعری جدید
ثورة الشعر الحديث من بودلير إلى العصر الحاضر (الجزء الأول) : الدراسة
اصناف
وزهور الشر ليست من شعر الاعتراف الذاتي في شيء، وليست كذلك من قبيل المذكرات الشخصية الخاصة التي يسجل فيها الأديب قصة حياته وآلامه، على الرغم مما نجده فيها من عذاب شاعر وحيد شقي مريض. ولم يحدث أن دون بودلير تاريخ كتابة قصائده، كما فعل فيكتور هيجو على سبيل المثال. ولو حاولنا الربط بين إحدى هذه القصائد وبين ظروف حياته لما خرجنا من ذلك بشيء يلقي بعض الضوء على موضوعها. ولذلك فلا بد من القول بأن بودلير أول شاعر حديث تنفصل حياته عن أدبه، وإذا أردنا المزيد من الدقة أمكننا أن نقول إن الاتجاه إلى التخلي عن النزعة الشخصية والعواطف الذاتية في الشعر الحديث قد بدأ مع بودلير. وإذا أردنا أن نكون أكثر دقة قلنا إن الكلمة الشعرية لديه لم تعد تصدر عن وحدة تجمع بين الشعر والشاعر الحي كما حاول الرومانتيكيون ذلك وحققوه إلى حد كبير، على خلاف قرون كثيرة سابقة من الإنتاج الأدبي. وكلام بودلير في هذا الموضوع يستحق أن يؤخذ مأخذ الجد. ولا يقلل من شأنه أنه يعتمد فيه على كلام مشابه قال به الكاتب الشاعر الأمريكي إدجار آلان بو الذي ترجم بودلير العديد من مقالاته وأقاصيصه.
كان «بو» أول من فصل فصلا حاسما بين الشعر والشاعر أو بين الكلمة والقلب. كان يريد أن يكون موضوع الشعر هو العاطفة المتأججة، على أن تكون عاطفة لا صلة لها بالعاطفة الذاتية أو الشخصية ولا بما سماه «نشوة القلب».
2
إنه يريد بها نوعا من الحساسية الشاملة، يسميها في بعض الأحيان «الروح» ليسرع بعد ذلك بقوله: «لا القلب!»
وبودلير يكرر في هذا الموضع - وفي مواضع أخرى عديدة من آرائه النقدية - ما يقوله «بو»، وإن عدل بعض الشيء في صياغته. فهو يقول مثلا (ص1031 وما بعدها): «إن مقدرة القلب على الإحساس ليست في صالح العمل الأدبي.»
ماذا يكون إذن في صالحه؟ مقدرة المخيلة على الإحساس. ولكن ماذا يفهم بودلير من كلمة المخيلة أو ملكة الخيال؟ هي عنده قوة تعمل بتوجيه من العقل (وسنعود لذلك بالتفصيل فيما بعد).
ولذلك ينصح الشاعر بالبعد عن كل نزعة عاطفية ذاتية، والانصراف إلى «المخيلة الناصعة» التي تستطيع في رأيه أن تنهض بواجبات لا تقوى عليها العاطفة. ويقول أيضا على لسان الشاعر «إن مهمتي تخرج عن الحدود البشرية» (ص1044). كما يقول في إحدى رسائله إنه يتعمد أن تكون أعماله الأدبية غير شخصية، أي تكون قادرة على التعبير عن كل الأحوال الوجدانية التي يمكن أن يحس بها الإنسان، والأحوال المتطرفة، منها بوجه خاص. أليس ثمة مكان للدموع؟ أجل، ولكنها الدموع التي لا تنحدر من القلب. والشعر لا يكون شعرا بحق حتى يثبت مقدرته على أن يضع القلب في حالة حياد.
يريد بودلير للذات (أي جماع العواطف والانفعالات الشخصية التي أسميناها بالقلب) أن تكون في حالة حياد. وهو بذلك يضع يده على ملمح هام من ملامح الشعر الحديث، وأعني به نزعة التجرد من الذاتية، أو اطراح النزعة البشرية كما يسميها بعض النقاد، ونحن نجد في إنتاج بودلير وفي آرائه النقدية ذلك التخلي عن الذاتية الذي سيؤكد «أورتيجا أي جاسيه» و«إليوت» وغيرهما أنه شرط ضروري لصدق الشعر ودقته.
ومع ذلك فلا يجب أن نفهم من هذا أن بودلير يلغي «الأنا» أو «الذات»، لأن قصائد «زهور الشر» تكاد كلها تتحدث عن «الأنا» أو تعبر عنها. فبودلير شاعر عاكف على نفسه بكل ما في كلمة العكوف من معنى (ولا أقول الانطواء حتى لا تفسر الكلمة بمعنى المرض النفسي أو غيره من التفسيرات النفسية السخيفة)! ومع ذلك فيندر أن يلتفت هذا العاكف على نفسه عندما يكتب شعره إلى ذاته التجريبية أو الشخصية. إنه يعبر عن نفسه من حيث هو إنسان يتعذب بروح العصر الحديث ويعاني آلامه، ومن حيث هو شاعر يدرك هذه الحقيقة ويعيها تمام الوعي. إنه واقع في أسرها، وما أكثر ما قال إن العذاب الذي تقاسيه ليس عذابه هو وحده! بل إن بعض قصائده التي لا تزال تعلق بها بقية من عذابه الشخصي لا تعبر عن هذا العذاب إلا بطريقة غامضة وغير دقيقة. ولذلك فلا نستطيع أن نتصور مثلا أنه كان في إمكانه أن يكتب قصيدة من نوع القصيدة المشهورة التي كتبها فيكتور هيجو عن موت طفل. إنه يتعمق ذاته الشخصية تعمقا منهجيا دقيقا ليفتش عن كل القيم والآلام «غير الشخصية» أو «فوق الشخصية» التي يعانيها عصره كله: القلق، والضياع والسقوط، وانهيار النفس التي تشتاق إلى عالم مثالي تراه يتدهور في هوة الفراغ، وهو يتحدث عن هذا القلق النفسي الذي يعانيه تحت وطأة هذا القدر.
والواقع أن «القلق» والقدر، من الكلمات الدالة على فكر بودلير، كما أن «التركيز» و«التمركز» من مفاتيح شخصيته، وكأني به قد اتخذ لنفسه شعارا كلمة أمرسون: «البطل هو الذي لا يشغله عن التركيز شيء.» أما الكلمات المضادة فهي «التفكك» و«الدعارة»؛ والأخيرة تعني الاستسلام، والتخلي عن القدر الروحي، والهروب إلى الآخرين، والخيانة عن طريق التشتت. وكلها كما يؤكد بودلير من ظواهر المدنية الحديثة كما هي من الأخطار التي عاهد نفسه أن يحميها من شرها، وإنه لقادر على ذلك بفضل القدر الذي هيأته له طبيعته، وبفضل التركيز على «الأنا» التي تخلصت من الأعراض الشخصية وارتفعت حتى صارت وعاء يحتوي العصر كله. (2) التركيز والوعي بالشكل؛ الشعر والرياضة
نامعلوم صفحہ