ثورة الإسلام وبطل الأنبياء: أبو القاسم محمد بن عبد الله
ثورة الإسلام وبطل الأنبياء: أبو القاسم محمد بن عبد الله
اصناف
أما في إيطاليا فكان اسم «الرومان» - وهو ذلك الاسم الشامخ - قد فقد خطورته القديمة، وكانت رومة - وهي الشظية الأخيرة أو رأس ذلك التمثال الكبير المهشم، يعني مملكة الرومان - في حالة تململها من استحالة أمرها إلى مركز ديني بسيط ترتج وتضطرب، كلما ألم بها طائف من ذكرى عظمتها القديمة أيام كانت مركزا دينيا أصيلا.
وكانت تهيئ نفسها لأن تكون مركزا للبابوية - وهي تلك السلطة الزمني - كما اقتضت سياسة «شارلمان» أن تجعلها كذلك بعد قرنين من الزمان، ولكنها مع ذلك لم يسعها إلا حمل نير «الهيروليين» و«الأستروغوتيين» وبراطرة المملكة الرومانية واللومبارديين الذين تداولوا السلطة عليها تداولا مستمرا.
أما مملكة اليونان التي كانت قد نسيت مجدها القديم، فكانت تابعة لمملكة الرومان الشرقية، مثلها منها كمثل الزينة ذات الضوضاء. وكان شرق أوروبا مقلقا جنوبها من أول مصاب نهر الراين من جهة الشرق لغاية مصاب نهر الدانوب من جهة الشرق؛ فكان الإسكندنافيون (والنورفيجيون والدانماركيون) يتزاحمون في الطريق الذي سلكه الجوتيون والهورنيون الذين احتلوا تراقيا ومقدونيا ولومبارديا وإيطاليا سواء بالقوة أو بالخديعة ... في ذلك الوقت بدأ ظهور الأتراك من أعماق آسيا الصغرى، وهي تلك الأمة التي قصرت فيما بعد مملكة اليونان على أسوار القسطنطينية.
التصوير البديع الذي جادت به قريحة المسيو «رينان» لبيان مركز الإمبراطورية الرومانية في القرن الأول من التاريخ المسيحي لا علاقة له البتة بالتصوير الممكن عمله لتجلية حال أوروبا في القرن السادس؛ تلك كانت مفاسد قيصرية مختمرة. أما هذه فوحشية حربية تلعب بالأرواح وتتمرغ في الأوحال (كتاب درابر نزاع العلم والدين).
أما آسيا فلم تكن أهدأ بالا من أوروبا في شيء؛ فمملكة «تبت» والهند التي اقتبست منها الأمم السائدة في أوروبا الآن قرائحها وأفكارها العامة ولغاتها، والصين التي تعد مسألتها أغرب المسائل السياسية والفلسفية، وبعبارة أخصر أغرب المسائل الاجتماعية ؛ كانت هذه الممالك كلها متمزقة الأحشاء بالحروب الداخلية والخارجية المتصلة بالمنازعات الدينية.
أما السفح الشمالي من الهضبة الآسيوية العالية التي في حوزة الروسيا الآن، فكانت غير معروفة على الإطلاق. وأما مملكة الفرس التي كانت أحوالها مرتبطة بأحوال العرب خصوصا من لدن تجريدة الإسكندر المقدوني، فكانت مشتبكة في حروب مع اليونان الرومانيين في القسطنطينية الذين كانوا أصحاب السلطة على آسيا العربية.
وأما في أفريقيا فكان هؤلاء اليونان الرومانيون أنفسهم - وهم أخلاط من عساكر وتجار وحكام مجموعون من آفاق مختلفة - دائبين على امتصاص دم مصر، وعاملين على جعلها - وهي المملكة العلمية ذات المجد القديم - كالجثة المصبرة عديمة الحس والحركة، وكان هذا شأنهم أيضا في الأقاليم الخصبة وقتئذ الواقعة في الجهات الشمالية من أفريقيا التي انتزعوها من أيدي الفنداليين الذين اشتهروا بالتخريب.
والخلاصة أن جو العالم الأرضي كان متلبدا بسحب الاضطرابات الوحشية في كل جهة، وكان اعتماد الناس على وسائل الشر أكثر من اعتمادهم على وسائل الخير، كأن الشيطان كان مستحوذا عليهم.
وكان أجمع الرؤساء للثقة والطاعة أشدهم صيحة في إصلاء نيران الحروب والمعارك، ولم يكن يأخذ بالقلوب ولا يؤثر عليها تأثيرا حادا - وإن كان وقتيا - إلا شيء واحد وهو الغنيمة وسلب الأمم والشعوب والمدائن والأعيان ورجال الحرب وفقراء الحراثين وبسطاء المتسولين. ولولا شعاع ضئيل من الحكمة كان يتألق في بعض صوامع الكهنة وبعض الجراثيم الفلسفية، التي كانت بمعزل عن أعاصير تلك المشاغب، وانتقلت من روح إلى روح أخرى بواسطة بعض أصحاب الجسارة من رسل الترقي في المستقبل، لكانت البربرية أسرعت في خطاها مقودة بغطرسة زعماء البهيمية، واستحالت إلى وحشية محضة.
مع هذا كله كان هناك ركن من أركان الأرض لم تصبه لفحة من هذه الحركة، ولكن لم يكن ذلك لحكمة أهله ورجاحة عقولهم، بل بسبب موقعهم الجغرافي البعيد عن مضطربات الأمم التي كان يقال إنها متمدينة؛ ذلك الركن هو شبه جزيرة العرب التي ما كانت تسمع انفجار أعاصير تلك الفتن الهائلة في أوروبا إلا عن بعد، وما كان يصلها ذلك اللغط إلا غاية في الضعف والضئولة، وكانت تجهل وجود الهند والصين؛ فإن علاقاتها مع آسيا لم تكن تتعدى حدود بلاد الفرس، ولم تعرف لديها الفرس إلا بواسطة أخبار الانتصارات أو الهزائم التي كان من ورائها رد بعض الوديان العربية القريبة من سوريا إلى تبعية إمبراطرة القسطنطينية تبعية اسمية أو رفع نير تلك التبعية الاسمية عنها.
نامعلوم صفحہ