فقاطعته: كل هؤلاء الذين تشير إليهم ليسوا من عباد الله الصديقين. - من بقي من الناس غير هؤلاء؟ هل تعرفين أحدا غيرهم؟ - أعرف كثيرين من الكهنة والرهبان والراهبات والأتقياء.
فتبسم أرجنتوس وتلمظ لعابه ثم قال: تعنين بالأتقياء أمثالك؟ - نعم، وهم كثيرون. - وعندنا منهم كثيرون أيضا دعينا منهم، واسمحي لي بسؤال: أما كانت تلوح في بالك أفكار شريرة حين كنت تصلين؟
فترددت جوكندا في الجواب ثم قالت: لا أنكر هذا. - أوما كان يخطر ببالك أن تبحثي عن سبب تلك الأفكار؟ - طبعا، سببها الشيطان، وكنت أخزيه برسم إشارة الصليب على صدري. - أوليس لهذا يكثر الأتقياء رسم إشارة الصليب لكي يطردوا الأفكار الشريرة؟ - طبعا. - يا ترى لو رسموها ألف مرة كل دقيقة هل كانت تكفي لخزي الشياطين، إذا كانت كل إشارة واحدة كافية لطرد فكر شيطاني واحد. - إشارة واحدة تطرد مليون شيطان. - كيف يستطيع الشيطان أن يصل إلى قلب النقي حين يكون مصليا؟ - الشيطان ملعون لا يكل عن مصادرة قلوب الناس. - والله يا سيدتي الشيطان ليس زائرا متطفلا، فلا يأتي إلى قلب إنسان إذا لم يستدعه ذلك الإنسان إليه، ولو كان أولئك المتعبدون يبتغون دائما أن يخزوا الشيطان برسم إشارة الصليب لكانوا مضطرين أن يرسموها كل هنيهة مدى الحياة، ولو كانت إشارة الصليب تطرد الشياطين لفرغت جهنم منهم؛ لأن فيها الآن من ذوي الصلبان كثيرين، ولا تزال الصلبان معلقة على صدورهم.
فسخطت جوكوندا: هذا الكلام كله كذب، الصديق لا يدعو الشيطان إلى قلبه أبدا، بل هو يتوسل إلى الروح القدس أن يحتل نفسه، ولكن الشيطان اللعين يحاول أن ينجس نفسه ويفسدها. - أنا معك، أسلم بهذا، وإذن فالشيطان أنجح من الروح القدس في احتلال القلوب، وإلا لما كانت جهنم مكتظة بالخطاة.
فتململت جوكوندا وقالت محتدة: إن أولئك الذين رذلوا إلى جهنم طبيعتهم شريرة، فلم يطلبوا الروح القدس لكي يطهرها من الشر ...
فأتم أرجنتوس الكلام: ... فطلبوا الشياطين، فلبت طلبهم واحتلت قلوبهم.
واسترسلت قائلة: وأما الأبرار الصديقون فلا تستطيع الشياطين أن تحتل قلوبهم. - أين الروح القدس؟ لماذا لا يحتل جميع القلوب ويطهرها من الشرور؟ - الروح القدس لا يدنو إلى إنسان جعل قلبه منزلا للشياطين. - إذن أتعتبين على الشيطان إذا وجد قلبا خاليا فتمكن فيه. - تبا للشياطين الملاعين، لا أفهم ماذا يريدون من تدنيس قلوب الناس. - عجبا! كيف لا تفهمين يا حسناء! أما فهمت بعد أنهم يغزون ملكوت الإنسان لكي يفتحوه ويحتلوه! - لا يستطيعون أبدا؛ لأن الله ساهر على شعبه، يجدد قلوبهم كلما دنستها الآثام. - ونحن ساهرون في نضالنا، فنظل نفسد أهل الأرض، إلى أن يمل الله سهره عليهم، ويتخلى عنهم وعن ملكوتهم، وعنده كون عظيم أجدر منهم بعنايته. - لا يمل الله العناية بشعبه؛ لأنه وعد أن يجعل الأرض دار السلام وهناء ألف سنة، وسنة السلام ملايين الأحقاب، فلا يكف عن بث الفضيلة في الناس إلى أن يصلحوا لذلك الدور السعيد. - ونحن نظل نفسد الأرض لكي نبعد ذلك الدور السعيد، وندخل الأرض فاتحين، فإما أن ننعم بذلك الدور السعيد مع البشر، أو أن يتخلى الله عنهم، ويترك ملكوت البشر، فنحتله نحن ونستعبد البشر. - وكيف تنتظرون أن تبقى الأرض جنة لكم إذا تخلى الله عنها؟ - تبقى أهنأ لنا من جهنم!
فتململت جوكوندا وبقيت صامتة هنيهة مفكرة ثم قالت: سمعا يا سيد أرجنتوس! - وطاعة يا ذات البهاء. - خطر لي اقتراح بديع. - حبذا بداعته! فما هو؟ - أنتم تريدون فتح ملكوت الأرض واحتلاله! - نعم. - فلماذا لا تتوبون عن شركم، وتمجدون الله تعالى وتسبحونه، فيقبلكم الله في الملكوت الأرضي مع أبناء الإنسان، وحينئذ يزول من الأرض الشر الذي تبثونه فيها، ويدنو دهر الألف سنة سلام، وتعيشون مع الناس بسلام ووئام وصلاح، والله يفتح ملكوت السماء للجميع؟! - والله إنه لاقتراح بديع جدا يا ذات الطهر، ولكن الله طردنا من فردوسه طردا مؤبدا، فكيف يمكن أن يقبل توبتنا ويعدل عن حكمه الجازم؟ - إن الله رحوم شفوق غفور، يقبل توبة التائبين. - أجل، يقبل توبة التائبين الذين أمهلهم، وحدد أجلا لتوبتهم، وأما نحن فلم يمهلنا الله ولا حدد لنا أجلا للتوبة، بل أصدر حكمه علينا على الفور، وأنهى أمرنا ولا مرد لحكمه. أفلا ترين أن الله ظلمنا بعدم إمهاله لنا، ورحم أبناء آدم بإمهالهم؟ مع أننا كنا ملائكة أشرف طينة من طينة البشر، أفلا ترين أن الله لم يعدل بيننا وبين الإنسان؟ إنه لظالم.
فصاحت جوكوندا مذعورة: استغفر الله، استغفر الله، الله عادل ورحيم أيضا، عدل معكم ورحم الإنسان، عدل معكم ولم يرحمكم كما رحم الإنسان؛ لأن إثمكم أعظم جدا من إثم الإنسان، أنتم تكبرتم على الله، وحدثتكم نفسكم أن تشاركوا الله في ملكه، وهذه «خيانة عظمى» تستحق القصاص بالهلاك الأبدي، فما رحمكم ولا ظلمكم، بل عدل بكم. وأما الإنسان فماذا أثم؟ أثم بسيط جدا، قال الله له: لا تأكل من هذه الشجرة. فعصى نهيه وأكل، فطرده من الفردوس إلى الأرض عسى أن يتوب فيقبل توبته، ومنذ ذلك الحين شرعتم تفسدون الإنسان لكي تردوه عن التوبة، وتحولوا دون مغفرة الله له، وبذلك تضيفون إلى إثمكم إثما آخر، فكيف تنتظرون أن الله يرحمكم؟ - والله يا سيدتي لا نحن أثمنا ولا الإنسان أثم، وإنما الله أناني يريد أن يحتكر المعرفة لنفسه، وغيور فلا يطيق أن يكون أحد غيره ذا معرفة، وإلا لما كان يعاقب الإنسان ولا ذنب له إلا أنه أكل من شجرة المعرفة كأن ابتغاء المعرفة جريمة، وإذا كان الطمع بالمعرفة رذيلة فما هي الفضيلة إذن، وهو حكم علينا ذلك الحكم الجائر؛ لأنه اعتبر معرفتنا جريمة. إنه حاكم مستبد وإلا لكان يمهلنا حتى نتوب كما أمهل الإنسان، لقد ندم على أنه خلقنا عالمين مثله الخير والشر؛ ولذلك خلق الإنسان جاهلا لكيلا يغلط بالخليقة غلطة أخرى، وكذلك ندم على أنه تسرع بحكمه علينا، فأمهل الإنسان لكيلا يغلط غلطة التسرع مرة أخرى، لذلك أقول: إنه ظلمنا ورحم الإنسان، فما هو عادل، بل هو ظالم متحيز.
فصاحت جوكوندا به: صه، كفى تجديفا على الله خالق السموات والأرض وما فيها، إنه كريم؛ لأنه خلقكم ذوي علم، ولكنكم اغتررتم بعلمكم، فطمعتم في أن تساووا الله في مجده فرذلكم بعدل، وخلق الإنسان جاهلا لكي يمنحه العلم رويدا ولا يرتكب إثما كإثمكم، ولذلك أوصاه أن لا يأكل من شجرة المعرفة بنفسه، بل هو يطعمه إياها ثمرة ثمرة، فعصى الإنسان أمره وأكلها، فما عاقبه لأنه أكلها، بل لأنه عصى أمره؛ لذلك أمهله لكي يتوب فيغفر له. ومع أن الإنسان عصى أمره تعالى ما زال يعظمه ويقدسه ويمجده ويستغفره؛ ولذلك يرحمه الله بأن يقبل توبته، وأنتم لو كنتم تتوبون عن وقاحتكم في مقاومة خيره وإفساد شعبه، لكان يغفر لكم ويرحمكم. - والله يا سيدتي هذا حد علمي أن الله يقبل توبتنا، فإن كنت مستوثقة منه أن يقبلها نتب. - إني واثقة أنه يقبلها، فتوبوا. - كيف تستوثقين وحكمه علينا قد نفذ فينا؟! - أتشفع بكم عنده. - تتشفعين بنا عنده! - نعم، وهو يقبل شفاعتي. - من تكونين حتى يقبل شفاعتك بمنبوذين منه إلى الأبد؟ - إني قديسة وكثيرا ما عملت عجائب. - قديسة! تعملين عجائب! - نعم، بقوة الله أعمل العجائب، ولي أمل وطيد أنه يقبل شفاعتي بكم ويرحمكم ويقبل توبتكم. - إذا كان الأمر كذلك، فإني أؤكد لك أننا نجعل جهنم أقل شرا من الأرض وأطهر عبادة لله، وأحر صلاة له تعالى، فهل تتنازلين وتأتين لمقابلة سيدتنا ذات الذكاء فينوموس وتفاوضيها بهذا الموضوع؟ وهي بلا شك ترحب بك، وتسعى لتنفيذ اقتراحك الذي تضمنين نجاحه، ولا ريب أن الله تعالى جعلك رسولا لدعوة أهل الجحيم إلى التوبة، هل تتفضلين وتنزلين؟ هاتي يدك انزلي على عاتقي.
نامعلوم صفحہ