وقال أحمد نصر: إن كل حي هو جاد، ويمارس حياته على أساس من الجدية. وإن العبث يقتصر عادة على الأدمغة. وقد تجد قاتلا بلا سبب في رواية مثل رواية الغريب، أما في الحياة الحقيقية فإن «بيكت» نفسه أول من يسارع بإقامة الدعوى على ناشره إذا أخل بشرط من شروط العقد الخاص بأي كتاب من كتبه العبثية. ولم تقبل سمارة الرأي على علاته، قالت: إن ما يستقر في الرأس لا بد وأن يؤثر بطريقة أو بأخرى في السلوك، أو على الأقل في المشاعر. وضربت الأمثال بالسلبية واللاأخلاقية والانتحار المعنوي. ولكي يبقى الإنسان إنسانا فعليه أن يثور ولو كل سنة مرة! ولكن رجب اقترح عليها أن تبقى حتى يشاهدوا مطلع الفجر من وراء أشجار الأكاسيا اندوزا، فاعتذرت، ثم صممت على الذهاب عند منتصف الليل، ورفضت شاكرة فكرة أن يوصلها أحدهم بسيارته. وفي أثر ذهابها ساد الجو صمت كالراحة بعد التعب. وأوشك أن يدركهم فتور ما. وهم أنيس بأن يحدثهم عن تجربته الذرية، ولكنه سرعان ما عدل عن فكرته كسلا. وتساءل أحمد نصر: ماذا وراء المرأة الغريبة الفاتنة؟
فقال علي السيد وقد احمرت عيناه الكبيرتان وبدا أنفه الكبير متهدلا لزجا: إنها تحب أن تعرف كل شيء، وأن تصادق كل جدير بالصداقة.
فتساءل مصطفى راشد: هل يمكن أن يدور بخلدها أن تدعونا يوما إلى الجدية؟
فقال خالد عزوز: في تلك الحال علينا أن ندعوها بدورنا إلى حجرة من الحجرات الثلاث. - هذه مهمة رجب القاضي!
امتقع وجه سناء، ولكن السطل لم يجعل لملاحظة قيمة.
وقال خالد: علينا من الآن أن نتفق على وريث لسناء!
ورمقت سناء رجب بنظرة قاسية، فقال ملاطفا: ليس على المسطول حرج.
وعاد خالد يسأل: أمن السهل على عابث أن يعشق امرأة جادة؟
ودارت الجوزة وامتلأت الأعين بالنعاس. ونقلت المجمرة إلى الشرفة فنفضت عنها الرماد وتوهجت، ثم طقطقت مطلقة الشرر. واقترب أنيس من الشرفة مستزيدا من نسيم الليل الرطيب. ورنا إلى النار بإعجاب مستسلما لسحرها العجيب. وقال إن أحدا لا يعرف سر القوة كالدلتا. الأبراص والفئران والهاموش وماء النهر، كل أولئك عشيرتي. ولكن لا يعرف سر القوة إلا الدلتا. الشمال كله دنيا سحرية مغطاة بالغابات لا تعرف النهار إلا دفعات من الضوء المتسلل من شباك الأوراق والغصون. وذات يوم تراكضت السحب هاربة، وحل ضيف ثقيل مشقق الجلد كالح الوجه اسمه الجفاف. ماذا نصنع وهاكم الموت يزحف علينا؟ ذوت الخضرة وهاجرت الطيور وهلك الحيوان. قلت هاكم الموت يزحف ويمد قبضته إلينا. أما أبناء عمي فقد مضوا إلى الجنوب التماسا للعيش اليسير والقطوف الدانية ولو في أقصى الأرض. وأما أسرتي فقد اتجهت نحو المستنقعات المتخلفة من مياه النيل ولا سلاح لها إلا عزيمتها، ولا شاهد على مغامراتها الجنونية إلا الدلتا. وفي انتظارها تكتل نبات الشوك والزواحف والوحوش والذباب والبعوض، ثمة مأدبة وحشية للفناء، ولا شاهد إلا الدلتا. قالوا ليس أمامنا إلا أن نقاتل شبرا فشبرا، وأن نجالد بالعرق والدم. السواعد الدامية، والأعين المحملقة، والآذان المرهفة، ولا شيء يسمع إلا دبيب الموت. وانتشرت الأشباح، ودومت النسور تنتظر الضحايا. لا وقت إلا للعمل، لا هدنة لدفن الموتى، ليس ثمة من يسأل أين يذهبون. وولدت أعاجيب، وبذرت بذور المعجزات، ولا شاهد إلا الدلتا.
8
نامعلوم صفحہ