ثقافتنا في مواجهة العصر
ثقافتنا في مواجهة العصر
اصناف
إلا أن النية خالصة، وعلى الله التوفيق.
د. زكي نجيب محمود
الأصالة والتجديد في الثقافة العربية
المعاصرة
1
صميم الثقافة العربية - لا فرق في ذلك بين قديمها وحديثها - هو أنها تفرق تفرقة حاسمة بين الله وخلقه، بين الفكرة المطلقة وعالم التحول والزوال، بين الحقيقة السرمدية وحوادث التاريخ، بين سكونية الكائن الدائم ودينامية الكائن المتغير؛ فالأول جوهر لا يتبدل، والثاني عرض، يظهر ويختفي، على أنها تفرقة لا تجعل الوجودين على مستوى واحد، بل تتخذ من عالم الحوادث رمزا يشير إلى عالم الخلود، فمهما تكن طبيعة الواقع والأحداث، مما يقع عليه البصر والسمع، فليست هي إلا علاقات تشير - لصاحب البصيرة النافذة - إلى الكائن الروحاني الكامن وراءها، إلى مبدعها ومجريها، وسواء نظرنا إلى الإنسان باعتباره عالما صغيرا، أو نظرنا إلى الكون كله باعتباره إنسانا كبيرا - وهي مقابلة يكثر ورودها في ثقافة العرب الأقدمين - فإن مادة الجسم في كلتا الحالتين، إنما هي ستار يستر وراءه روحا يمتنع على الفناء.
تلك التفرقة الفاصلة بين ظاهر الأمر وباطنه، هي المنبت العميق الذي يوضح لنا ما يقسم رجال الثقافة عندنا في فترات التحول، قسمين، أطلق عليهما حينا (في عشرينيات هذا القرن وثلاثينياته) أسماء القديم والجديد، وحينا آخر (في أيامنا هذه) أسماء الرجعية والتقدمية؛ وذلك أن رجال الثقافة هؤلاء، كلما عصفت بهم رياح الحوادث، ونظروا حولهم فإذا هذا الهيكل الصوري راسخ كالجبال العاتية التي لا تنال منها الرياح، ظن منهم فريق أن النجاة هي في اعتصامهم بأركانه، وظن فريق آخر ألا نجاة إلا في الخروج منه ليلوذوا بهيكل ثقافي آخر، أقامته حضارة أخرى، أثبت العصر نجاحها، ومهد لها سبيل السطوة والسيادة، فأنصار القديم أو الرجعيون هم - في كلتا الفترتين - الذين يلوذون بالمبادئ نفسها، وبالقواعد نفسها، وبالصورة نفسها التي ميزت الثقافة العربية الكلاسيكية، والتي قلنا عنها إنها في صميمها تفرقة بين عالم الأزل وعالم الزوال، وأما أنصار الجديد، أو التقدميون، فهم الذين يودون لو بتروا الشجرة من جذورها، فلا يعود الظاهر مردودا إلى الباطن، ولا الحاضر منسوبا إلى الماضي، ولا الأحداث محكومة بمبادئ سوى المبادئ التي نقررها نحن المعاصرين لها، حتى لا نترك قيادة الأحياء للموتى.
ولم يكن ذلك البناء الهيكلي للثقافة العربية في صميمها، ليكون ذا معنى، لولا أن جانب الثبات والدوام من بنائه، بالقياس إلى جانب التغير والزوال، يشتمل على مجموعة «القيم» التي يناط بها توجيه السلوك والمفاضلة بين الأفعال، فليست معايير الإنسان التي يحتكم إليها من صنعه - بناء على هذه النظرة الثقافية - بل هي مفروضة عليه، وإنما فرضت عليه لأنها بمنزلة «الحق» الموضوعي الذي لا قبل للإنسان أن يغيره أو يحوره، فهل في وسع الإنسان أن يغير من طبيعة المثلث أو المربع، فيجعل المثلث محوطا بخمسة أضلاع إذا شاء؟ كلا، فهكذا المثلث بحكم تعريفه، أن تحيط به ثلاثة أضلاع، وكذلك قل في العدل والصدق وغيرهما من معايير السلوك، ثم نتوسع قليلا في هذه المعايير الثابتة، فإذا هي المبادئ كلها والقواعد كلها، التي تهدي الإنسان في نشاطه، كائنا ما كان ذلك النشاط، من عبادة المتعبد، إلى فروسية الفارس، ومن توقيعات الموسيقى والغناء، إلى زخرفات الفنان وتفعيلات الشاعر ... معايير هي التي في مجموعها تصنع «الذوق» العربي على جميع مستوياته، من «الذوق» الصوفي إلى «ذوق» الناقد الأدبي، وهي معايير لو حللتها ألفيتها على تنوعها تلتقي في نهاية الأمر عند نقطة مشتركة، وهي أن الوقائع الجزئية الماثلة على مرأى البصر، أو على مسمع الأذن، تنتهي بك - لو تعقبتها إلى أصولها الأولى - إلى فكرة مطلقة ثابتة، لا يوصل إليها عن طريق التجريد والتعميم من خبرات الحياة الجارية، بل هي فكرة «أولية» - باصطلاح الفلاسفة في ذلك - يجدها الإنسان مغروزة في فطرته إذا هو استبطن فطرته، أو يستدلها من ظواهر الكون إذا هو نفذ خلال تلك الظواهر إلى جوهرها الباطن.
ومن هنا كان بين الأسس العميقة في بناء الثقافة العربية الصميمة أن تكون «للإرادة» أولوية منطقية على «العقل»؛ فالإرادة «فعل»، والفعل باطنه «قيمة» توجهه، وما دامت مجموعة القيم قائمة أمامنا، لم نصنعها، بل نشخص إليها لنحذو حذوها؛ فلم يبق «للعقل» إذن مهمة يؤديها إلا أن يرسم الطريق المؤدية إلى تحقيق ما تقتضيه تلك النماذج العليا المنصوبة أمامنا، ومعنى ذلك أن مجال «العقل» منحصر في دنيا التنفيذ، بحيث نلتمس به السبل المؤدية إلى الغاية المطلوبة، أما الغاية نفسها فلا شأن له بها؛ لأنها تنتمي إلى عالم القيم، فليختلف الناس كيف شاءوا في أي الطرق يسلكون، لكن الغايات مرسومة لهم، تسدد الخطى كأنها أنجم السماء تهدي السائرين في تيه الفلاة.
وواضح أن أداة الإنسان في إدراكه للغايات التي «ينبغي» عليه بلوغها، غير أداته في إدراك الخطوات التي تؤدي إلى تلك الغايات؛ فهذه الخطوات هي تخطيط «عقلي» تتتابع فيه المقدمات والنتائج، وأما تلك الغايات فإدراكها يكون «بالحدس» - وهذا مصطلح فلسفي - وإذا شئت فقل عنه إنه إدراك بالبصيرة، أو بالقلب، أو بالوجدان، أو بإلهام، أو بما تختاره من لفظ يؤدي معنى الإدراك الذي يتم بصورة مباشرة بين الذات العارفة والشيء الذي تعرفه، وإذن تكون الثقافة العربية الأصيلة - بناء على هذا التحليل - قائمة على دعامتين: الإلهام والعقل؛ بالأول ندرك ما «ينبغي»، وبالثاني نحقق ما انبغى.
نامعلوم صفحہ