ثقافتنا في مواجهة العصر
ثقافتنا في مواجهة العصر
اصناف
معنى ذلك أن جواز المرور الذي يبيح لنا الدخول في عصرنا، هو أن نطور من قيمتنا السائدة لكي تصبح قيما قائمة على علمنة، وعلى تقنية، وعلى منفعية في أسس التعامل السياسي والاقتصادي على أقل تقدير، فإذا لم تعجبنا هذه الصفات لكونها غريبة على ثقافتنا الموروثة، كان علينا أحد أمرين: إما أن نلوي عنق العصر حتى يرى الدنيا بأعيننا، وإما أن ننسحب من العصر إلى حيث شئنا أن يكون الاختفاء في ستر الظلام، لكن المفارقة العجيبة، هي أننا لا نخلق للدنيا المعاصرة فكرا يثنيها عن طرقها، وفي الوقت نفسه ترانا نقف من ثقافة العصر موقفا يقبل أسماءها المجردة ويرفض مضموناتها، بمعنى أننا على استعداد لقبول الاتجاه العلمي والتقني بل الاتجاه المنفعي في التعامل، على شرط أن يقف هذا القبول عند حدود هذه الأسماء، وأما ما يندرج تحت هذه الأسماء من مضمونات؛ فليست لدينا المعدات التي أعدت لهضمها، مما أحدث فينا ضربا عجيبا من الازدواجية الحضارية؛ فعلى سطح الأمور الظاهرة، نبدو وكأننا نعايش العصر في تصوراته، فإذا نفذنا إلى ما تحت السطح وجدنا أنفسنا ما نزال نطوي في صدورنا قيم حضارة ذهبت مع تيار الزمن.
سل من شئت: هل تحب أن تتابع العصر في عقلانيته وتقنياته؟ يجبك في استعلاء بأن العقلانية وما يترتب عليها هي جزء من ميراثنا الأصيل، لكن قل له إنها في عصرنا تستتبع عدة أمور: منها ألا تلقي بزمامك إلى العاطفة أيا كان نوعها، ومنها أن يتولى العمل من يحسن أداءه، لا من ينتمي إلى أصحاب الجاه بأواصر القربى، ومنها أن يكون الارتكاز كله على الواقع المادي الصارم، ومنها أن نصطنع في حياتنا نظرة علمانية تجعل محورها هنا على هذه الأرض، قبل أن يكون هناك في عالم آخر .. قل له هذا، يأخذه الفزع؛ لأنه عندما أعلن أنه من أنصار النظرة العقلية، لم يكن قد تخيل لنفسه أنها نظرة تلد كل هذا النسل العجيب؛ فهو عقلاني بالاسم، لا بالمضمون والنتائج، إنه يقبل من العصر تقنياته؛ لأنه يريد - كسائر عباد الله - أن ينعم بالسيارة والطيارة، وأجهزة التدفئة والتبريد، لكنه إذا علم بأن إدخال هذه الآلات في حياتنا معناه إدخال عادات جديدة في تلك الحياة، ومعناه إحلال قيم جديدة محل قيم قديمة، أخذه الهلع؛ لأنه في عمق نفسه لا يريد عن قيمه الموروثة بديلا.
وهكذا نقع في أزمة حضارية من طراز نادر؛ لأننا في الحقيقة بمنزلة من يحيا ثقافتين متعارضتين في وقت واحد: إحداهما خارج النفس، والأخرى مدسوسة في حناياها لا تريم، فترى حضارة العصر في البيوت والشوارع والأسواق، بينما تحس حضارة الماضي رابضة خلف الضلوع.
6
ونعود فنسأل: أين تقف الأمة العربية اليوم، من حيث التقدم أو التخلف على طريق الحضارة؟
إن معايير القياس كثيرة، أشرنا إلى بعضها؛ فهنالك المعيار الاقتصادي الذي يقيس التقدم بمتوسط الدخل، وهنالك المعيار الثقافي الذي يقيسه بدرجة انتشار التعليم، وهنالك المعيار الذي هو أشيعها قبولا، وهو معيار يقيس تقدم الأمة أو تخلفها بدرجة العلمنة والتصنيع؛ أي بدرجة تحولها إلى الحياة الصناعية المستندة إلى الأجهزة الآلية، وأيا ما كان المعيار الذي تختاره، فالشرط الضروري دائما هو أن تتغير طرائق العيش والتفكير، بحيث تساير روح التقدم العصري.
لكن هذا التقدم لا يعني شيئا إلا إذا عرفنا إلى أي هدف نتقدم، حتى يمكن قياس المسافة الفاصلة بين موقفنا الراهن وذلك الهدف الذي نتقدم نحوه، بعبارة أخرى: ما هو النموذج الكامل الذي نضعه نصب أعيننا في أثناء سيرنا، لنكون على يقين بحقيقة موقفنا: هل هو اقتراب أو ابتعاد عن ذلك النموذج؟ وإنه لعزيز على نفسي أن أقولها صريحة، وإنه كذلك لعزيز على نفوس القراء أن يسمعوها ، لكنه حق لا منجاة لنا عن مواجهته ، وهو أن نموذج القياس إنما هو الحياة العصرية كما تعاش اليوم في بعض أجزاء أوروبا وأمريكا، فقد شاء الله أن يكون هناك اليوم ينبوع الحضارة، كما كان ينبوعها في أرضنا ذات يوم.
وقد نوجز أهم معالم تلك الحياة الأوروبية الأمريكية التي هي حضارة العصر في بضع نقاط، تساعدنا على قياس موقعنا بالنسبة إلى الهدف: فمن تلك المعالم المميزة سرعة التغير، وسرعة قبول الجديد، فحياة الناس هناك توشك أن تتغير يوما بعد يوم، وعليهم أن يلاحقوها، والملاحقة معناها ألا يبهرنا ما قد فات ومات، حتى لا نقف طويلا عند أطلال، بل نوجه البصر دائما نحو غد وبعد غد؛ فالقوم هناك يؤمنون إيمانا لا تحده حدود بالعلم وقدرته على النمو المطرد، وبأنه كلما اطرد نموه قلب حياة الإنسان كما وكيفا.
فإذا أردنا قياس التقدم أو التخلف، فما علينا إلا أن نقيس المسافة بين حياة الفرد العادي في مجتمعاتنا بحياة الفرد العادي في مجتمعاتهم: في حصيلة العلوم، في دقة التخطيط، في غزارة الإنتاج، في مدى الحرية السياسية والاجتماعية، وغير ذلك مما يتفرع عن أصل واحد، يتلخص في قولنا عن حضارة العصر إنها: علمية تقنية منفعية.
إنني لعلى وعي بوجه الاعتراض هنا، وهو: لماذا نفني ثقافتنا في ثقافة غيرنا بحيث نجعل منهم نموذجا لنا نحتذيه؟ وأظن أن خير جواب يزيل عن أنفسنا القلق، هو أن ينحصر تفردنا الثقافي في تلك الجوانب التي تميز الشعوب، والتي هي في الوقت نفسه ليست مقياس التقدم الحضاري كما حددناه، وأعني بها جوانب العقيدة والفن وبعض تقاليد الحياة التي لا تتنافى مع الحركة العلمية بكل فروعها، وبهذا نتيح لأنفسنا أن نتحضر بحضارة العصر في أخص خصائصها، كما نتيح لها في الوقت نفسه أن نحتفظ بما يميزها عما سواها، وبهذا نتركها تساير العصر في نظراته العلمية، وتنطوي على ذاتها في ميادين الوجدان وطرائق التعبير عنه في العقائد والأدب والفن.
نامعلوم صفحہ