ثقافتنا في مواجهة العصر
ثقافتنا في مواجهة العصر
اصناف
فها هنا يحتج الأوكامي مستخدما «نصله البتار»، فكأنه يسأل: أإذا أردت معرفة هذه الشجرة أو هذا الطائر، فأخذت في تحليل خصائصه وطريقة تكوينه وما إلى ذلك، حتى لا يبقى من تلك الخصائص والطبائع شيء، فهل أزداد علما بالشجرة التي أحللها أو بالطائر الذي أفحصه إذا أنا أضفت زعما يقول إن هنالك فيما وراء السماء نموذجا لا ماديا للشجرة أو للطائر؟! إذا كانت الإجابة بالنفي، إذن فلا مناص من «بتر» هذه الزائدة من عملية العلم بالشجرة أو بالطائر.
والنص الحرفي لمبدأ «النصل» الأوكامي هو: «لمضيعة للوقت أن نستخدم أسسا كثيرة للتعليل والعلم بشيء معين إذا كانت تكفينا الأسس القليلة»، «ولا يجوز أن نفترض وجود عدة عناصر (في الكائن الذي نريد الإلمام بحقيقته) إلا إذا لم يكن لنا بد من افتراض وجودها.»
انظر كيف يتعلم الطفل ما يتعلمه منذ شهوره الأولى، إنه يرى مقعدا، فنلفظ له نحن بكلمة «كرسي» وتتكرر هذه العملية، فيرتبط الشيء عنده باسمه، ويكون بذلك قد «عرف» هذا الجزء من عالمه المحيط به، ولنلحظ هنا جيدا أنه ليس هنالك في هذه الحالة إلا طرفان: المقعد في دنيا الأشياء، ولفظ الكرسي في دنيا اللغة، ومعنى ذلك أن المعرفة كلها ترتد إلى ألفاظ وطريقة استخدامها وتركيبها لتجيء دالة على دنيا الأشياء، وأما ما عدا ذلك فليس له عند الأوكامي إلا «النصل» أو «الموسى» يبتره به بترا؛ لأنه زوائد لا تزيدنا من العلم بالأشياء، أو قل إنه وهم خلقه الإنسان لنفسه فأحدث لها الربكة بغير داع، ومن هذا القبيل نفسه ما كان يفرضه الفلاسفة دائما، وهو أن لكل شيء «جوهرا» مطويا خلف ظواهره، وأن معرفة أي شيء معرفة صحيحة إنما تكون بمعرفة ذلك الجوهر الخبيء، لا بالوقوف عند الظواهر البادية، فيجيء النصل الأوكامي ليبتر هذا «الجوهر» إذا وجدنا أن معرفتنا بظاهر الشيء قد أتاحت لنا العلم به.
وخلاصة الموقف الجديد هي أن الحواس وحدها - السمع والبصر واللمس وغيرها - هي وسيلتنا الوحيدة للعلم بالعالم، فإذا رأيتنا نأخذ بالقبول بعض القضايا العامة المجردة، التي قد لا تظهر العلاقة بينها وبين دنيا المحسوسات علاقة مباشرة، فاعلم أننا نستطيع بالتحليل أن نردها خطوة خطوة حتى نرتد إلى أصولها بين الأشياء المحسوسة، وإلا لحكمنا عليها بالبطلان.
وذلك هو لباب الثورة الفكرية التي أثارها وليم الأوكامي في أواسط القرن الرابع عشر، فجاءت من البشائر التي آذنت بقيام نهضة عقلية علمية في أوروبا، هي التي ننعم اليوم بآثارها.
أما بعد؛ فلقد اخترت للقارئ هذين النموذجين لثورة الفكر عامدا، فانظر إلى العربي المعاصر واسأل: ماذا أصابه من جوانب الضعف حتى صار إلى ما صار إليه من سلبية واسترخاء، برغم ما قد يدعيه لنفسه فيما يقول وما يكتب؛ لأنك تعرف حقيقة الإنسان من سلوكه وطرائق سعيه، لا مما يخطب به فوق المنابر أو ما تجري به الأقلام في أنهر الصحف من مقالات وقصائد! لا أعلم بماذا يجيء جوابك، لكنني أجيب فأقول: إن علل الضعف كثيرة؛ من بينها اثنتان بارزتان، إحداهما ما بين أفراد الناس من تفاوت في ممارسة الحقوق والواجبات، والأخرى مجاوزة الواقع إلى ما يخلقه الناس عن ذلك الواقع من أوهام، فكان من شأن الضعف الأول أن أهدرت كرامة البشر، وبالتالي غيض في أنفسهم معين الابتكار والخلق، وكان من شأن الضعف الثاني أن اهتزت صورة العالم الطبيعي في أعيننا، وبالتالي سدت المصادر الحقيقية التي تنشأ عنها العلوم، فاستعرنا من تاريخ الفكر الإنساني ثورتين: أولاهما من إخوان الصفا، نعالج بها العلة الأولى، وثانيتهما من وليم الأوكامي، نعالج بها العلة الثانية، وقصارى الكاتب أن يكتب، وليس في وسعه أن تنفتح له الأبصار والأسماع والقلوب.
الحضارة وقضية التقدم والتخلف
1
لطالما تعرض هذا الكاتب لهجمات الناقدين، طوال الخمسة والعشرين عاما الماضية (وأعني بها الخمسينيات والستينيات ونصف السبعينيات)، لماذا؟ لأنه ما فتئ خلال تلك الفترة ينادي بكل ما في إرادته من إصرار، وبكل ما لقلمه من صرير، ما فتئ ينادي بأن نلجم شهوة الحديث فينا بشكائم الدقة والتحديد؛ لعله يتاح للمتكلم والسامع، أو الكاتب والقارئ، أن ينتهي بهما الحديث أو الكتابة إلى اتفاق على رأي واحد، فيسلكوه في تيار الحياة الجارية عملا وسلوكا؛ ذلك لأنه مما يلاحظ، حتى للعين العابرة، أن أحاديثنا وكتاباتنا كثيرا ما تتخبط في أبحر ظلمات المعاني الغامضة، كأننا جماعة من الصم، يتحدث بعضنا إلى بعض دون أن يستمع أحد إلى أحد.
نعم، ما فتئ هذا الكاتب طوال هذه الأعوام يتعرض لهجمات الناقدين؛ لأنه رفع الصوت، وما يزال يرفعه في عصبية المخلص لدعوته، بأن تراعى - عند الحديث والكتابة - دقة التحديد في ضبط المعاني التي نجريها على الألسنة والأقلام، ما دام الموضوع المطروح يتسم بجدية العلم، ويمس حياتنا في أسسها وأركانها؛ إذن ففيم كانت هجمات النقد إذا كان هذا هو هدف الدعوة ولبها؟ والجواب هو أن علتها تكمن في رغبتنا الجامحة نحو أن تنساب من أفواهنا وأقلامنا خيوط اللفظ، لا نكاد نطلب منها إلا حلاوة جرسها في الأسماع، أما من أراد أن يقف بنا عند هذه اللفظة، أو عند تلك العبارة، سائلا ومدققا في المعنى المقصود، فجزاؤه عندنا هو الإهمال، وإنه لمجدود لو اكتفى منا بإهماله، دون أن نكيل له مع الإهمال صاعا من الشتائم أو صاعين.
نامعلوم صفحہ