ثقافتنا في مواجهة العصر
ثقافتنا في مواجهة العصر
اصناف
وكذلك لا خلاف في الرأي حول المبدأ الثامن الذي يدعو إلى ضرورة الإجادة الفنية، فلا يكون الكم هو مدار إنتاجنا، بل لا بد أن يجيء الكيف في المرتبة الأولى، حتى إذا ما اتسع نطاق الإقبال عليه بين الجمهور، كان إقبالا على ثمرات ممتازة تسمو بالإنسان روحا وعقلا؛ ولكنني ألاحظ هلهلة في صياغة هذا المبدأ، قد تضيع علينا دقة المعنى المقصود، كما أنني أخشى أن يكون ثمة تناقض بين مضمون هذه المادة ومضمون المادة رقم 2؛ لأن الضغط هنا واضح على أن العمل الجيد لا يعود بالربح، وأن هدفنا ليس هو الكسب المادي، بل هو كسب العقول والأرواح، وهو الاتجاه الصحيح؛ على حين أن المادة رقم 2 قد يفهم منها أن العمل الفني يحكم على جودته بسعة الإقبال عليه من قبل الجمهور، وإذن تكون كثرة الإقبال هي الأصل، والحكم بالجودة فرع عنه، أي إن الحكم بجودة الكيف نتيجة متفرعة عن زيادة الكم، وليست تلك الجودة الكيفية حقيقة قائمة بذاتها، يمكن الحكم عليها بمعايير النقد الفني التي لا تركز على كثرة التوزيع أو قلته، فموضوع الكم والكيف في حاجة إلى مزيد من الإيضاح والتحديد.
وأما المبدأ التاسع الذي يقرر أن الفن أصدق من الطبيعة؛ فأرى أنه أقرب إلى الملاحظات العابرة التي تقال عند الموازنة بين خلق الطبيعة والخلق الفني، منه إلى «المبدأ» الذي يضعه المثقفون في دستور لهم ليلتزموه في إنتاجهم الفني والأدبي.
يضع المبدأ العاشر مواصفات للعمل الفني إذا أريد له أن يكون عالميا غير منحصر في حدود إقليمه المحلية، ومن تلك المواصفات أن الذي يقرر عالمية العمل هو مضمونه «وليس اللغة أو الوسيلة التي نفذ بها»، ونحن لا نتردد في قبول ذلك من حيث «اللغة»، لكننا نتردد في قبوله من حيث «وسيلة التنفيذ»؛ إذ ماذا تكون «وسيلة التنفيذ» سوى «الشكل» الفني الذي صب فيه المضمون؟ .. لقد سبق أن قررنا في المبدأ الرابع أن «على الاشتراكيين أن يؤكدوا في وضوح ضرورة الالتحام العضوي بين الشكل والمضمون في العمل الفني الواحد»، فكيف يجوز الآن أن نقول إن أحد هذين الجانبين فقط - وهو المضمون - هو الذي يؤدي إلى عالمية العمل، كأنما نريد أن نقول إن الفصل ممكن بين الجانبين، بعد أن قررنا التحامهما التحاما عضويا؟ هل يمكن مثلا أن يحتفظ شكسبير بكل مكانته في الأدب المسرحي، إذا نحن نقلنا «معانيه» مجردة عن القالب المسرحي الذي انصبت فيه تلك المعاني؟ هل يكون دانتي هو دانتي إذا غضضنا النظر عن هيكل بنائه الفني واكتفينا بمضمون المعاني التي يريد نقلها؟ لا، إن العمل الفني وحدة عضوية كما قرر البيان في مواضع مختلفة، وإذن فهو عالمي - أو محلي - من حيث هو كيان موحد، والذي يجعل العمل الفني عالميا، هو السبب نفسه الذي ذكر في المبدأ السابع، الخاص بضرورة احتفاظنا بالتراث، حين قررنا أننا نصون تراث الماضين إذا وجدناه يتناول الإنسان من حيث هو كذلك، ولا يقصر نفسه على إقليمه المحدود، فكذلك نحن اليوم، إذا أردنا لسوانا أن يقدر إنتاجنا، فعلينا ألا نقصره على إقليمنا المحدود، بل لا بد أن نعلو به إلى حيث يتناول الإنسانية جمعاء، متمثلة ومتجسدة فيما نبثه في أعمالنا من مثل الحق والخير والجمال.
وأما المادة الحادية عشرة - وهي الأخيرة - فأظنها لا تضيف شيئا إلى ما سبق ذكره في مواد أخرى، حين تقول إن للعمل الفني جانبين؛ أحدهما سياسي والآخر تقني، والمقصود بالسياسي خدمته لمصالح الشعب، والمقصود بالجانب التقني مراعاة الجودة الفنية.
نموذجان من ثورة الفكر
ليست ثورة الفكرة كثورة السياسة، فيها قعقعة المصفحات وهزيم الطائرات، وهتاف يثير غبار الطريق، وصياح يهز أمواج الصوت والصورة في أجهزة الإذاعة؛ لكن ثورة الفكر يغلب أن تجيء كقطرات الماء تنصب على الجلمود الأصم فتحسبها واهنة بلا أثر، وإذا بالأيام تمضي فإذا الجلمود الأصم قد تفسخ وأرهف السمع ليلتقي الرسالة، والعجب هو أن ثورات الفكر بصوتها الخافت الهادئ، هي التي تحرك النفوس - على مدى الزمن القصير أو الطويل - لتثور بذلك الهتاف والقعقعة والهزيم في دنيا السياسة والاجتماع.
وفي تراثنا ثورات فكرية مكتومة، نخشى أن يطول بها الصمت، فإذا هي كالعدم الذي لم يكن ولا هو كائن أو يكون، فما علينا نحن الكاتبين في هذا العصر إلا أن ننفض الغبار عن صفحاتها لعلها تفعل في الناس فعلها .. قال شكسبير - في مسرحية «العين بالعين» - على لسان أمير أراد أن يخبر حال إمارته متنكرا، فجاء بمن ينوب عنه في أثناء غيبة زعم أنها سفر إلى بلد آخر، وما هو في الحقيقة بسفر، بل تبديل ثوب بثوب ليخالط الناس وكأنه أحدهم، فيذوق بنفسه حلو الحياة ومرها، فأوصى نائبه ذاك بقوله: «... ألا إن السماء لتفعل بنا ما نفعله نحن بالشموع، فنحن لا نضيء الشموع لذاتها، وكذلك حسناتنا إذا هي لم تنشر ضوءها في الناس فهي عدم من العدم، إن النفوس السامية إنما اكتسبت سموها من سمو غاياتها، وإذا أقرضت الطبيعة أحدنا مثقال ذرة من كنوزها، فإنما تكون في إقراضها ذاك مثل ربة شحيحة، تعطي ما تعطيه مزهوة بنفسها، كما يفعل دائن القروض، له على المدين أن يشكر له الصنيع، وأن يدفع له ريع قرضه»، ولقد دس لنا الأسبقون في ثنايا ما أورثونا إياه كنوزا، هي كالشموع التي ذكرها شيكسبير، إذا لم تكن هادية بضوئها فهي كالعدم، أو هي كالقروض أقرضونا إياها، ويتوقعون منا أن نرد لهم قرضهم ، مضافا إليه زيادة الريع وعرفانا بالجميل.
لست أدري كم أحس القارئ في حياته العملية ما أحسسته في حياتي، لا أقول مرة، ولا عشر مرات، ولا مائة؛ لأنها مواقف تعد بالألوف، تلك التي أحسست فيها أن قدري عند الناس - ودع عنك الدولة - لم يوزن قط إلا بمقدار ما كان لي من سلطان نافذ الكلمة فعال الإرادة، ولما كانت حياتي قد خلت من كل سلطان، كنت كلما أردت قضاء لأمر؛ أجدني واحدا في زحام، لأرى بعيني كيف يكون الويل في بلادنا لمن ليس له نصير من أصحاب الإرادة النافذة؛ فالفرق بعيد بعيد في حياتنا العملية بين إنسان وإنسان، وليكتب أولو الأمر ما شاءوا في دساتيرهم المعلنة من مساواة بين المواطنين في الحقوق وفي الواجبات.
فالثورة الفكرية هنا هي أن تبدأ مع الناس من مرحلة الصفر، فتصدمهم بما لا يتوقعونه، قائلا: إن الإنسان وصنوف الحيوان سواسية، حتى إذا ما بهتوا لقولك، ثم زالت عنهم آثار الدهشة بعد حين، كان هينا عليك بعدئذ أن تقنعهم بما أردته، وهو أن أي إنسان كأي إنسان، أمام الله، وفي ساحات القضاء، وفي الطرقات والمطارات، ومكاتب البريد، ومخافر الشرطة، ومعاهد العلم، ودواوين الدولة، وأمام ضباط الجمارك والضرائب.
لنبدأ - إذن - من مرحلة الصفر، فنزعم بأن الإنسان وصنوف الحيوان سواسية .. قال ذلك «إخوان الصفا» في رسائلهم، ترى هل قالوه من أجل ثورة فكرية كالتي نريدها؟! .. ولكن كيف قالوه؟
نامعلوم صفحہ