ثقافتنا في مواجهة العصر
ثقافتنا في مواجهة العصر
اصناف
أحسب ألا خلاف على أن فكرة «التقدم» هي من أبرز ما يميز العصر الحديث كله، لثلاثة قرون مضين وإلى يومنا، فلا أظنك مصادقا في جموع الناس أحدا يرضى لنفسه أن يكون عدوا «للتقدم» في شتى جوانب الحياة العقلية والمادية؛ فمهما يكن مذهبه الذي يدعو إليه، فهو يزعم لنفسه وللناس أنه مذهب يعمل على تقدم الحضارة بكل فروعها، وإلا لما دعا إليه.
إلى هنا والناس على إجماع، فلنأخذ في تحليل الفكرة لنرى كم منهم يظل صامدا في دعوته إلى «التقدم»: إنك لكي «تتقدم» من حالة إلى حالة، لا بد أن تعد الحالة الأولى متخلفة بالنسبة للحالة الثانية، فالنقلة لا تكون تقدما إلا إذا كان وراء ذلك فرض هو أنها نقلة مما هو أسوأ إلى ما هو أفضل، لا مما هو حسن إلى ما هو حسن آخر، فضلا عن أن تكون نقلة من الأفضل إلى الأسوأ! ومعنى ذلك في عبارة صريحة هو أن «الماضي» دائما، وفي كل الظروف، أقل صلاحية من «الحاضر» دائما وفي كل الظروف؛ ذلك أن زعمنا أن الحضارة «تتقدم» وإلا فقدت هذه الكلمة معناها.
وها هنا نضع أصابعنا على ركيزة أولى، لا محيص لنا عن قبولها إذا أردنا أن نتشرب روح عصرنا، وهي أن نزيل عن الماضي كل ما نتوهمه له من عصمة وكمال؛ فمهما تكن وسائل الماضي الثقافية والحضارية ملائمة لظروف عصرها؛ فهي بالضرورة تفقد هذه الصلاحية في ظروف عصرنا، فإذا وجدت مكابرا يدعي بأنه عصري الوقفة والنظر، ثم وجدته - في الوقت نفسه - يتمنى لو كرت الأيام راجعة، بحيث تعود إلى الناس ما كان للأسلاف من رؤية وسلوك، فاعلم أن سطحه الفكري مناقض لأعماقه، وأنه بعيد عن عصره بعد ما بين السطح والأعماق! وليس يعني هذا بترا للماضي، كلا؛ فبغير الماضي لا تكون للحاضر هويته! وإنما يعني تطويرا له، فالشباب لا ينسخ الطفولة نسخا، لكنه يطورها، بحيث تظل هوية الشخص الواحد قائمة، والرجولة لا تنسخ الشباب، لكنها تطوره، ليكون حاضر الإنسان امتدادا لماضيه، امتدادا لا يكرر ذلك الماضي، بل ينبثق منه كائنا جديدا، يحمل من ماضيه بعض ملامحه، ويضيف إليها بحاضره ملامح أخرى.
إذا آمنا «بالتقدم» إيمانا يجاوز نطقنا باللفظة صوتا تفوه به الشفتان، كانت النقلة الفكرية بعيدة بعدا فسيحا؛ لأننا عندئذ سنقلب الميزان، فنجعل معيارنا هو المستقبل المرجو، بعد أن كان الماضي الذي خلفناه وراء ظهورنا؛ أي إن معيارنا بعدئذ لا يكون هو «المبدأ» بل «المنتهى»، لا ما قد كان بل ما سوف يكون، فلو سئلنا عندئذ: ماذا ترى في هذا السلوك المعين يسلكه الأفراد، أو في هذا التشريع المعين تسنه الدولة، أو في هذا الوضع أو ذاك من أوضاع الحضارة السائدة، لم يكن جوابنا عندئذ: انتظر حتى أقيسه إلى سلوك الآباء وتشريعهم وأوضاعهم الحضارية، بل يكون الجواب: انتظر حتى أحسب النتائج المترتبة على هذه الأشياء، فإذا وجدت النتائج مزيدا من علم ومن صحة ومن حرية ... إلخ، قبلت السلوك ورضيت بالتشريع وأقبلت على الأوضاع الحضارية الجديدة، إن المعول عندئذ لا يكون: ماذا كان بالأمس؟ بل يكون: ماذا سيكون غدا؟
كان «للمبادئ» رهبة تدنو من التقديس، إن لم تكن هي التقديس نفسه، وكان سر الرهبة كامنا في أن مصدر المبادئ مجهول، فازدادت بذلك ألغازا يصرفنا عن تحليلها والنظر في محتواها، هل يصلح مقياسا للعصر أو لا يصلح؛ ولذلك رأينا فلاسفة الأخلاق على طول الزمن، من اليونان الأقدمين إلى مشارف العصر الحديث، لا يسألون أنفسهم: ما حقيقتها؟ بل يسألون: من أين جاءت؟ وهنا اختلف الفلاسفة في ذلك مذهبا، فقال قائل: إنها منبثقة من فطرة الإنسان، سواء كانت هذه الفطرة عندهم «عقلا» أو «ضميرا» أو ما شاء لكل منهم مذهبه، وقال قائل آخر: بل نزلت من السماء وحيا يهدي البشر سواء السبيل، على أن ما نزل على الناس وحيا، وما انبثق من دخائلهم يتساويان آخر الأمر، كأنما الشريعة السماوية عقل ظاهر، والعقل في توجيهه شريعة باطنة، وهكذا أخذتهم الحيرة أمام «المبادئ» بين ظاهر وباطن، بين سطح وأعماق، على اختلافهم بعد ذلك في ماذا يكون السطح، وماذا تكون الأعماق: أيكون على السطح رغبات وأهواء ربما جمحت بصاحبها لولا أن في أعماقه عقلا يوجهها نحو ما ينبغي أن يكون؟ (هذا هو الفيلسوف الألماني «كانت» في القرن الثامن عشر)، أم يكون «العقل» هو القشرة السطحية البادية، وأما أعماقه فوجدان صادق، يوجه ويملي؟ (وهذا هو «جان جاك روسو» في القرن الثامن عشر أيضا)، ترى هل يكون على السطح الظاهر مجتمع يفرض على الأفراد ما أراده لهم من تقاليد، يتقيد بها هؤلاء الأفراد وكأنها قيود من حديد، وإذن لا نتوقع في الخفي الباطن إلا جيشانا وغليانا يلتمس طريقه إلى الخروج في ثورات الاحتجاج حينا بعد حين؟ (وهذا شيء قريب مما ذهب إليه «ماركس») أو لعل الذي خفي عن الأبصار هو تقاليد المجتمع وأوامر الدولة، خفيت عن الأبصار واتخذت لنفسها كيانا مطويا في حنايا النفس، ونطلق عليها «الضمير»، وأما الذي ظهر على السطح فهو النزوات الفردية التي تنزو بأصحابها أن يفلتوا من رقابة المجتمع والدولة، فما يلبثون أن يسمعوا صوت الضمير في أنفسهم صارخا ومؤنبا؟ أم هل يكون الظاهر وعيا صاحيا مدركا لكل ما فرض علينا من قيود، يبطنه اللاوعي أو اللاشعور، الذي إذا لم يجد لنفسه متنفسا في عالم الصحو التمسه في دنيا النعاس والأحلام؟ .. مذاهب اختلفت كما ترى في أي الجوانب هو ظاهر الإنسان وأيها هو باطنه؟ لكنها اتفقت جميعا على افتراض ظاهر وباطن معا، وما ذلك كله إلا لأنهم سلموا بمقدمة لم يجادلوها، وهي أن ثمة «مبادئ» ترسم صور السلوك الأمثل، فمن أين جاءت يا ترى؟!
والذي يفرض قيام هذه المبادئ قبل خوض التجربة الحية، إنما يكون قد خطا بالناس أجرأ خطوة نحو صورة من صور الاستبداد السياسي؛ لأن المبادئ قواعد، فإذا أنت جعلتني أقدم على حياتي ونصب عيني هذه القواعد الأولية فقد حددت الإطار العام لسلوكي، ثم ما هو إلا أن يخرج على الناس مارد من هؤلاء المردة الجبابرة، فيأخذ لنفسه حق تفسير هذه القواعد، ليضع أعناق العباد في أي شكيمة أراد، مسدلا على وجهه قناع «المثل العليا» التي يسعى إلى تحقيقها، والويل عندئذ لمن أخذته في الأمر ريبة أو اجترأ على طرح سؤال على الملأ! وفيم الريبة وفيم السؤال؟ إن «القواعد» بحكم طبيعتها ومنطقها تبرر نفسها، خذ قواعد لعبة الكرة مثلا، فهل يحق للاعب وهو في معمعان اللعب أن يسأل: لماذا يكون خط الجزاء هنا وليس هناك؟ ولماذا يجوز مس الكرة بالقدم ولا يجوز مسها بالأصابع؟ لا، إنها «قواعد» اللعبة التي تقبل ابتداء؛ لأنه بغيرها لا يكون لعب يمكن الحكم عليه بالصواب أو بالخطأ؛ ولذلك «فالحكم» في لعبة الكرة هو حاكم مطلق، وله أمره، وأمره نافذ، وهكذا قل في كل ضروب «القواعد»، بما فيها قواعد الأخلاق، فإذا نحن سلمنا بقيامها قياما مسبقا، فقد مهدنا الطريق أمام الحاكم المستبد، يظهر كلما ظهر الشخص الذي يريد ذلك ويستطيعه.
ومع الحاكم المستبد يظهر ما يسمونه بالبيروقراطية؛ أي ذلك الضرب من الحكومة الذي يجيز أن تهبط الأوامر من أصحاب المكاتب والمناصب، لتهوي على أرواح البشر وهم في ميادين نشاطهم، كأنها ضربات القدر، وقد تسألني: لكن القواعد الخلقية نراها مفروضة حيث يظهر الحكم المستبد والبيروقراطية، وحيث لا يظهران على السواء، فلماذا ترتب على قيامها الحالة الأولى، ولا ترتب عليه الحالة الثانية؟ والجواب هو أن الشأن في هذا هو كالشأن في أشياء كثيرة أخرى، فالماء يرويك من ظمأ، والماء يقضي عليك بالغرق فيه، والنار تنضج لك الطعام، والنار تدلع الحريق المدمر، فكذلك القواعد أيا كانت حين يقال عنها إنها مفروضة من حيث لا ندري، فهي إما تصلح أداة للحاكم المستبد، وإما تتخذ أداة لحكم الشورى، والفرق بين الحالتين هو أن الحاكم المستبد يطبق القواعد على الناس ويعفي نفسه منها، وأما الحاكم الديمقراطي فهو يطبق القواعد على الناس وعلى نفسه، سواء بسواء.
من أجل هذا كله، تسود عصرنا هذا فكرة أخرى، يريد أصحابها أن يحلوها محل «المبادئ» أو القواعد التي كان يقال إنها مفروضة علينا من حيث لا ندري، ألا وهي فكرة «الأهداف»، فنحن ندخل حياتنا - أو ينبغي لنا - وليس في أيدينا القيد، ولا في أرجلنا الأغلال، وإنما ندخلها وفي رءوسنا «أهداف» يراد تحقيقها، وكل سبيل نراه محققا لها، لا رؤية «فردية» شخصية، بل رؤية «جماعية» مشتركة، فهو السبيل النموذجي الأمثل، وواضح أنه كلما تبدلت الأهداف تبدلت السبل، وبالتالي تغيرت المثل العليا، وها هنا فليسأل من شاء أن يسأل: لماذا نسلك هذا السبيل ولا نسلك ذاك؟ لنبين له أن سبيلا منهما يؤدي إلى الهدف المقصود والآخر لا يؤدي.
إني لأخشى أن يكون هذا الاستطراد الطويل قد شتت معالم الطريق، فلنذكر أننا أردنا أن نوضح كيف أن الناس كثيرا ما يعيشون في القرن العشرين، بما يدور على ألسنتهم من كلمات، أما ما وراء ذلك في بواطنهم فهم يعيشون به في القرن العاشر! أأقول القرن العاشر؟ لماذا أظلم القرن العاشر وهو قرن الفارابي وابن سينا وإخوان الصفا؟ لماذا أظلمه وهو عصر المتنبي في الشعر، وأبي حيان التوحيدي في النثر، الذي يعمق بالفكرة ولا يزخرف باللفظ.
ولكي أسوق مثلا يوضح ما أردت توضيحه أخذت فكرة واحدة تصف العصر بغير حاجة إلى جدال، وهي فكرة «التقدم»؛ فهي حديثة الظهور في تاريخ الفكر، وأما قبل ظهورها على مر القرون الطويلة، فكان الأغلب على الناس ليس هو أن العالم يسير من نقص إلى كمال، بل أنه يسير من كمال إلى نقص، يكفي تصويرا لهذا الاتجاه المضاد قصص كثيرة كانت تروى لتؤكد أن العصر الذهبي إنما هو عصر مضى وهيهات له أن يعود، إذن ففكرة «التقدم» طابع يميز فكرنا المعاصر، وسل من شئت من الناس: هل تؤمن «بالتقدم»؟ وكن على يقين أنه سوف يجيبك بالإيجاب المصحوب بالدهشة على أن يكون ذلك موضعا لسؤال، لكن امض معه بعد ذلك في تحليل الفكرة لتخرج له مكنونها، فيعلم أنه يتحتم نتيجة لقبوله هذه الفكرة أن يكف عن دعوة الحاضر إلى اتخاذ الماضي نموذجا، وأن يمسك عن إقامه مثله العليا من مبادئ هبطت إليه من حيث لا يدري، لتقيده دون الحركة الحرة نحو تحقيق أهدافه، فعندئذ سترى أي شخص تخاطب، سترى ذلك الذي قبل فكرة «التقدم» لنفسه حتى يكون معاصرا، قد ثار عليك ثورة، أخشى عليك من آثارها؛ لأنها يغلب أن تركب صهوة الغضب الجموح، فصاحبنا - كما ترى - معاصر باللفظة، متخلف باللباب.
نامعلوم صفحہ