ثقافتنا في مواجهة العصر
ثقافتنا في مواجهة العصر
اصناف
وعلى هذا النحو نفسه تختلف العصور، وتختلف الأمم، فمن عصور التاريخ ما تغلب عليه النظرة إلى الواقع كما تقع صورته على حواس المشاهدين - مثل عصرنا الراهن في جملته - ومنها ما تغلب عليه النظرة الأخرى التي تتخذ من هذا الواقع رمزا، ثم تحاول البحث وراءه عما يرمز إليه - مثل العصور التي اشتدت فيها روح التدين - ومنها عصور حاولت أن توازن بين النظرتين كما حدث في ظني إبان القرن الماضي حين كادت تتجاوز مثالية هيجل مع وضعية أوجست كونت، وكذلك تختلف الأمم كما تختلف العصور، ولقد جرى عرف الناس في أحاديثهم الجارية على أن ينعتوا الشعوب التي يغلب عليها الوقوف عند حدود الواقع لا يجاوزونها ما استطاعوا، بأنها شعوب «مادية» - كما نقول اليوم عن الشعب الأمريكي مثلا في وقفاته العلمية الصارمة - وأن ينعتوا الشعوب التي يغلب عليها الميل إلى مجاوزة الرمز إلى المرموز إليه - أعني مجاوزة الواقع إلى ما وراءه، بأنها شعوب «روحانية» - كما نقول نحن عن أنفسنا أحيانا، وعن الشعب الهندي، وعن الشرق كله بصفة عامة.
أما بعد هذا التمهيد الشارح، فإني أعرض للمشكلة الكبرى التي تشغلني وتشغل سواي من رجال الثقافة في الأمة العربية، وهي: كيف نلتمس لأنفسنا طريقا في عصرنا هذا، بحيث نعاصره حقا وفعلا وإيجابا، ونحافظ في الوقت نفسه على المقومات الأساسية التي تجعلنا أمة عربية؟
إن أغلب الظن عندي هو أن أوضح سمة تميز العربي في ثقافته - وذلك حين يكون هذا العربي في عصور قوته - هي أنه يوازن في دقة وبراعة بين وجهي الحياة؛ فللواقع المحدود المحسوس مجال، ولما وراءه مجال آخر، بحيث لا يطغى أحد المجالين على الآخر، بل يتكامل المجالان في حياة سوية متزنة، وربما كان المعنى المقصود من الحديث الشريف بأن يعمل الإنسان لدنياه كأنه يعيش أبدا، ولآخرته كأنه يموت غدا، هو وجوب مراعاته لهذا التوازن بين النظر إلى الواقع حين ينبغي أن يحصر رؤيته فيه، ثم النظر إلى ما وراءه باعتبار الواقع في هذه الحالة رمزا يشير إلى ما هو أرفع وأسمى؛ فالواقع مهما كانت قيمته، إنما هو جزئية عابرة تجيء وتمضي، وأما ما يمكن أن يشير إليه فمطلق أزلي لا يتعاوره الحدوث والفناء.
لكن الأمة العربية لم تكن دائما بهذه القوة التي توازن بين الطرفين في اتساق وتوازن، بل أصابها الضعف حينا، ولعلها ما زالت تئن من بعضه إلى يومنا، فماذا يصنع ضعيف البنية إلا أن يفر من حمل الأعباء الثقال؟ ماذا يصنع ضعيف المعدة سوى تجنب الطعام؟ ومثل هذا الفرار رأيناه في العربي الضعيف، حين رأيناه يفر من الواقع لائذا بما وراه، فتكون النتيجة أن يضيع منه الجانبان معا، عندئذ يكثر التواكل والتخاذل، وتشيع الخرافة، ويضيع الإيمان بالعلم وروابطه السببية! إذا أراد الناس قمحا ليأكلوا، فلماذا يلتمسونه على أرض الواقع ما دام في وسع أصحاب الخوارق أن يضعوا أيديهم في أوعيتهم الخالية فإذا هي مليئة بالخبز والأرز واللحم والمرق؟
على أن ضعف العربي الضعيف لم يظهر دائما في صورة الفرار من الواقع، بل كثيرا ما ظهر - وما يزال - في الوقوف عند الواقع المحسوس، لا وقفة العلماء يحللونه ويركبونه ويخترعون منه الأجهزة العلمية ويخلقون منه حضارة جديدة، بل وقفة الخلعاء يكثرون من الطعام والشراب والثياب والبذخ واللهو الفارغ، وسواء لها العربي الضعيف عن الواقع أو انغمس فيه، فهو في كلتا الحالتين صورة شائهة للثقافة العربية إبان قوتها.
ومع ذلك فهذا كلام جاء عرضا في سياق الحديث، وليس هو ما قصدت إليه، وإنما قصدت إلى بحث للثقافة العربية الحديثة عن وقفة تحقق بها ذاتها وتشارك بها عصرها في آن معا، وهي إنما تحقق ذاتها - ولا جدال في هذا - بأن تضيف إلى الواقع ما وراءه، ولكن كيف؟
تستطيع أن تقول عن عصرنا هذا أي شيء تريد، لكنك لا بد ناعته بأنه عصر علمي من الرأس إلى أخمص القدم، ولا ينفي عن العصر علميته هذه أن نراه يلجأ في دنيا الأدب والفن إلى ضروب يتحلل فيها من روابط المنطق، مستهدفا بذلك أن يزيح عن ظهره صرامة العلم ومنطقه ولو لبضع ساعات ليستريح، وإذا قلنا عن العصر إنه ذو طابع علمي ظاهر في أدواته وآلاته وتقنياته، فقد قلنا بالتالي إنه عصر يرتكز على «الواقع» وحده، وإلا فهل يترك عالم الضوء - مثلا - ظاهرة الضوء لينظر إلى ما وراءها؟ هل تريد لعالم الطبيعة الذرية أن يغض النظر عن الذرة التي هي موضوع بحثه ليبحث عن خفاء كامن خلفها؟ لا؛ فالعلم مربوط بالواقع أوثق الروابط، والعالم مشدود العنق إلى موضوع بحثه، يصب عليه المشاهدة، ويجري عليه التجارب، ليستخرج خصائصه وتفاعلاته مع غيره، ثم ليصوغ له القوانين آخر الأمر في صورة رياضية ليتمكن الإنسان بعد ذلك من إلجام الظواهر الطبيعية بكل ما استطاع من شكائم، فيركبها ويوجهها، كما يفعل مهرة الفرسان في جيادهم.
فإذا شاء العربي أن يعاصر زمانه، فلا مندوحة له عن العلم، ثم العلم، ثم لا ثم بعد العلم، وإنما عنيت العلم بمعناه الطبيعي، لا بالمعنى الذي يتصوره بعضنا حفظا لما ورد في صحائف الأقدمين، فلن تزداد عصرية لو رويت عن ظهر قلب ألف ألف بيت من الشعر، لكنك تزداد عصرية لو شاركت في العلم بالإلكترون وفي تسييره لخدمة الإنسان، وكما أن الحياة يقظة للنشاط المنتج، ونعاس للراحة والأحلام، فكذلك حياة الإنسان الثقافية: يقظتها في دراسة العلم الطبيعي وتطبيقاته، ونعاسها الحالم في رحاب الأدب والفن.
ولنترك المعاصرة ووسيلتها؛ فما أظن عليها بين أولي الرأي اختلافا ولا خلافا، ولنعد إلى سؤالنا الأهم والأعوص، وهو: ماذا عسانا أن نضيف إلى العلم من لدنا لنصبح عربا، بعد أن بتنا بالعلم معاصرين؟ .. الجواب هذه المرة يكمن فيما وراء الواقع؛ فلئن كان الواقع المرئي، الذي هو مجال العلوم الطبيعية، مشتركا بين الناس أجمعين، فإن ما وراء الواقع تختلف صورته باختلاف الأمم، بل إنها لتختلف في الأمة الواحدة باختلاف الأفراد في أنصبتهم من الثقافة.
ولو أمعنت النظر حولك في أحاديث الناس ومسالكهم لرأيت هذه الحقيقة ماثلة أمام عينيك، لا، بل إنك لتراها ملقاة أمامك على قارعة الطريق، لا تتطلب منك إمعانا للنظر، وهي أننا لا نكاد نغفل عما وراء الواقع في حياتنا لحظة؛ فذلك - كما أسلفت القول - هو طابعنا الثقافي الأصيل المميز، ولا عجب أن كنا نحن الأمة التي عن طريقها عرفت الدنيا رسالات السماء، ومعنى ذلك أننا بحكم الوراثة الثقافية نفسها معدون أتم إعداد لإضافة الباطن الخفي إلى الظاهر البادي، فإذا استطعنا - بالمشاركة في الحركة العلمية - أن نشارك عصرنا في هذا الظاهر البادي للبصر والسمع، فما أيسر علينا بعدئذ أن نميز أنفسنا بنظرتنا الخاصة إلى ذلك الخفي الباطن!
نامعلوم صفحہ