ثقافتنا في مواجهة العصر
ثقافتنا في مواجهة العصر
اصناف
وأما بالنسبة إلى المجال الثالث، الذي هو علاقة العربي بالمكان، وهي علاقة - كما أسلفنا - قوامها الفعل والحركة والبطولة والسيطرة على البيئة بكل تفصيلاتها؛ فلقد انطوينا على أنفسنا إثر ما ابتلينا به من قهر وهزيمة خلال القرون الثلاثة الأخيرة، وبهذا الانطواء الذليل، لا نحن عالجنا الطبيعة كما كان أسلافنا يعالجونها، ولا نحن تناولناها كما يتناولها أبناء الحضارة الغربية الحديثة، وتركنا ما تحت أقدامنا من رقعة الأرض، وما فوق رءوسنا من جو السماء، للأوروبي وحده، أو للأمريكي وحده، يفعل فيهما ما شاء أن يفعل، لولا أننا - والحمد لله - قد أخذتنا آخر الأمر يقظة واعية، نحاول بها النهوض من كبوتنا التي كانت، والأمل معقود بجيل جديد يتناول أرجاء الوطن العربي بنظرة فيها تقليد التراث، وفيها تجديد الحضارة معا.
وأما المجال الرابع والأخير، من المجالات الأربعة التي جعلناها مدار الحديث، وهو مجال اللغة، فلا شك أننا قد مضينا في شوط إحيائها بمضمون الحضارة العصرية مسافة بعيدة، لكننا مع ذلك ما زلنا بعيدين بعدا شديدا عن الهدف النهائي، الذي هو - كما أراه - أن نسكب كل مقومات العلم والأدب والفلسفة الشائعة في دنيا العصر، أن نسكبها كلها في لغة عربية، ولن يحق لنا الحديث عن وجودنا في عصرنا قبل أن نجد هذا العصر قد نطق بلسان عربي مبين.
أزمة العقل في حياتنا
نقول في أحاديثنا الجارية: إن فلانا «متزن»، وذلك إذا أردنا مدحه بصفة لعلها أن تكون من أعظم ما يوصف به إنسان، وفيم يكون هذا «التوازن» المحمود؟ إنه يكون بين مقومات متباينة هي قوام الإنسان، قد تتعاون كلها على بلوغ هدف معين، لكنها كذلك قد تتنازع بحيث تتجه كل منها وجهة غير الوجهة التي تتجه إليها المقومات الأخريات، ولو أخذنا بالتصنيف الأفلاطوني القديم لهذه المقومات، لقلنا إنها صنوف ثلاثة، كل صنف فيها يتعلق بجزء من البدن، على سبيل الحقيقة، أو على سبيل المجاز، وتلك هي شهوات البطن، وعواطف القلب، وحكمة الرأس، وليس من الخير لأحد أن تطمس منه الشهوة أو العاطفة، أو أن يقيد منه العقل، الذي هو مصدر الحكمة، وإنما الخير كل الخير في أن تبقى هذه العناصر الثلاثة جميعا؛ على أن يكون بينها اتساق في طرائق السير، واتحاد في الهدف، ولقد صور أفلاطون هذا الاتحاد، وذلك الاتساق، بصورة مشهورة، وهي أن تصور الشهوة والعاطفة جوادين يجران عربة، ويمسك باللجام سائق، هو العقل، فلو ترك الجوادان لدفعتهما الفطرية لجمحا، لكن العقل السائق يعرف كيف يضبط منهما خطوات السير نحو الهدف المقصود، فإذا توافرت لشخص مثل هذه الحالة التي تنساق بها الشهوة والعاطفة مقيدة بشكائم العقل، قلنا عنه إنه بذلك قد اكتسب فضيلة «العدالة» - كما يسميها أفلاطون - وصفة «الاتزان» كما نحب نحن أن نسميها لتساير أفهام الناس في عصرنا القائم، وهذا الاتزان (أو هذه «العدالة» بالمصطلح الأفلاطوني) إنما يصف الفرد كما يصف الدولة سواء بسواء، ففي كليهما بطن يشتهي، وفي كليهما قلب ينفعل بالعاطفة، وفي كليهما رأس يسوس.
لقد استهل أفلاطون محاورة «الجمهورية» ببحث مستفيض في هذه «العدالة»، ما معناها على وجه التحديد؟ كان لا بد له أن يفعل ذلك ليجعل من هذه الصفة الجوهرية أساسا يقيم عليه الدولة التي أراد أن يقيمها، لكنه تردد لحظة: أي الطرفين يبدأ ببحثه ليطبق النتيجة التي ينتهي إليها على الطرف الآخر؟ يبدأ بالفرد الإنساني فيحلل خصائصه؛ ليكون له بذلك ما يمكن إسقاطه على بناء الدولة، أم يبدأ بالدولة ليستخلص من تعادل كيانها كيف يجيء الفرد الإنساني المتعادل؟ ولقد آثر هذا البديل الثاني، وهاك نص حديثه في هذا الصدد لطرافته: «هب أنه قد طلب إلى شخص قصير النظر أن يقرأ حروفا صغيرة، وهو منها على مبعدة، ثم جاءه من أنبأه بأن هذه الحروف نفسها مكتوبة في مكان آخر بحجم أكبر، أفلا تكون هذه فرصة نادرة له، تتيح له أن يبدأ بقراءة الحروف الكبيرة، ثم ينتقل منها إلى الصغيرة، ليرى ما بينهما من تماثل إن وجد؟ .. إن «العدالة» التي هي موضوع بحثنا، إذا كانت تصف الفرد باعتبارها فضيلة له، فهي كذلك تصف الدولة .. والدولة أكبر من الفرد .. وإذن فالأيسر هو رؤية العدالة في صورتها الكبيرة؛ ومن ثم فإني أقترح البحث عن طبيعة العدالة كما تتجلى في الدولة أولا، لننتقل من الأكبر إلى الأصغر فتسهل المقارنة بين الصورتين .. وإذن فلنتخيل دولة تنمو وتتكون أمام أبصارنا، لنرى العدل والظلم إذ هما ينموان فيها.»
هكذا أراد أفلاطون أن يفهم حقيقة الفرد في اكتسابه لفضيلة العدل (أو فضيلة «الاتزان»)، وقد يكون هذا هو المنهج السديد، عندما تكون المعاني المطروحة للبحث منظورا إليها في صورة كمالها النظري، فعندئذ يمكننا أن نرسم صورة للدولة المثلى، فنرى في جنباتها كيف يكون الفرد الأمثل من أفرادها، أما إذا كانت الصورة المطروحة للبحث مأخوذة من الواقع الفعلي المحسوس بكل ما يشوبه من نقص وتشويه، فإن المنهج الأفلاطوني لا يسعف، ويكون حتما علينا أن نعكس طريق السير، فنرى الأفراد في نقصهم، لنخلص منها إلى تصور الدولة التي تسودهم في أوجه نقصها الذي يعكس بالضرورة نقص الأفراد؛ إذ الأمر - كما قيل - هو أنه كيفما يكون أفراد الناس، تكون الدولة التي تولى عليهم.
وإني لأزعم هنا بأن متوسط الفرد من أبناء الأمة العربية في عصرنا، يفلت من يديه زمام العقل، فتجمح عنده الشهوة والعاطفة جموحا يحجب عنه رؤية الأهداف واضحة، ومن ثم فهو يسد أمامه سبل الوصول.
فلننظر - إذن - إلى أوساط الناس من حولنا، فماذا نرى؟ نراهم على عداوة حادة مع العقل، وبالتالي فهم على عداوة لكل ما يترتب على العقل من علوم ومن منهجية النظر ودقة التخطيط والتدبير، فإذا انطلقت الصواريخ تغزو الفضاء ويرود أصحابها أرض القمر، تمنوا من أعماق نفوسهم أن تجيء الأنباء بفشل التجربة، وإذا سمعوا عن قلوب أو غير قلوب، تؤخذ من آدمي لتزرع في آدمي آخر، أحزنهم أن يتحقق النجاح، وأفرحهم أن تخفق المحاولة، وهاك هذين المثلين من خبرتي الخاصة، لم أقرأ عنهما في صحيفة أو كتاب، بل شهدتهما بعيني وسمعتهما بأذني:
أقيمت ندوة ثقافية كنت أحد أعضائها، وكان من المسهمين فيها كذلك عميد لإحدى كليات العلوم عندئذ، وكان السؤال المطروح هو: ماذا نرى في هذه الوثبة العلمية الجريئة، التي هي صعود الإنسان إلى أرض القمر؟ فكان مما قاله عميد كلية العلوم بإحدى الجامعات العربية أنه يعوذ بالله من هذا الشطط، الذي قد يؤدي بالكون إلى دمار، ثم تساءل قائلا: أليس يجوز أن يهبط الصاروخ على القمر بدفعة قوية فإذا القمر ينحرف عن مداره فتكون الطامة على البشر؟
أما المثل الثاني فهو أنه سئل قطب من أقطاب الطب في الأمة العربية: ما رأيك فيما سمعناه عن زرع القلوب في أبدان غير أبدانها؟ فاستعاذ بالله هو الآخر من شر ما يسمع، مؤكدا أنها محاولات مجنونة، لن تؤدي إلى شيء، وربما كانا هذان العالمان لا يعتقدان في صدق ما قالاه، وإنما قصدا به إلى إرضاء السامعين، فتكون الطامة أكبر؛ لأن الدليل عندئذ ينهض ليؤيد ما نزعمه، وهو أن مثل هذا القول هو ما يرضي الناس، ثم نكون قد خسرنا بالنفاق نزاهة العلم والعلماء!
نامعلوم صفحہ