ثقافتنا في مواجهة العصر
ثقافتنا في مواجهة العصر
اصناف
إننا لو قصدنا ب «الفكر العربي» أشخاص الرجال الذين حملوه، تدريسا في الجامعات، أو تحريرا في الكتب والمجلات؛ وجدنا أمرا عجبا؛ لأننا واجدون هؤلاء الرجال قد اقتسموا فيما بينهم تلك المذاهب الفلسفية الأربعة، كل أخذ منها بما يتفق مع تكوينه العقلي، فما من مذهب منها إلا وقد كان له الأتباع المؤيدون العارضون الشارحون، ثم أضيفت إلى هؤلاء جميعا فئة خامسة، انتشر أفرادها على مدارج المثقفين، من أعلاها تخصصا إلى أدناها علما، وهي فئة جمعت قوما لا يكادون يعرفون عن عصرهم شيئا، واكتفوا بزاد كثير أو قليل، يقطفونه من كتب الأقدمين، وقد اقتضى دفاع هؤلاء عن أنفسهم - أحيانا عن قصد ووعي، وأحيانا أخرى عن غير قصد ولا وعي - أن يوجهوا سهام النقد - والشتم في كثير من الحالات - إلى ما ليس يعرفون عنه شيئا، أعني أنهم يوجهونها إلى العصر وفكره وأهله، فلنتركهم في كهوفهم يظلمون.
ولننظر إلى المؤيدين لمذاهب عصرهم هذا، على اختلافهم بعد ذلك في أي من تلك المذاهب يؤيدون، وها هنا سنجد الأمر العجب الذي أشرت إليه، وهو أنه بينما المذاهب المعاصرة جميعا تتفق آخر الأمر في وجوب ارتباط الأفكار بالأشياء والأفعال، فإن واحدا منها فقط هو الذي يجعل هذا الارتباط الضروري موضوعه الخاص، وذلك هو مذهب التحليل المنطقي، على حين يظل ذلك الارتباط مضمرا إلى حد بعيد أو قريب في سائر المذاهب، ومع ذلك، فلما شاءت المصادفة النافعة أن يتصدى لمذهب التحليل المنطقي من أولاه اهتمامه وعنايته، فعرضه محاضرا وكاتبا، تألب عليه الآخرون تألبهم على عدو ظهر في الميدان، يخشون أن تنقلب عصاه حية تبتلع سائر الحيات، لماذا؟ لأن المفكر العربي - شأنه شأن الإنسان العربي على إطلاق - يخاف أن تجعلها له صريحة، بأن الفكرة أو العبارة إما تحولت إلى عمل، وإما كانت وهما ولغوا، إنه يخاف ذلك لأننا قوم نأكل لفظا، ونشرب لفظا، ونتسلى في أوقات فراغنا بلفظ، وقد يعمل منا العاملون، لكن أعمالهم - مع ذلك - تكون في عالم لا يؤثر ولا يتأثر بعالم اللافظين.
وهذا هو أول الإصلاح الفكري في حياتنا: أن ندمج العالمين في واحد، فيكون عالم «الكلام» هو جانب «التخطيط» لعالم العمل والتطبيق، إنه لم يكن مصادفة أن أصبح «التخطيط» علامة من أبرز العلامات المميزة لعصرنا؛ لأن التخطيط تحليله هو أن «الفكر» خطة لعمل نؤديه أو هو لا يكون فكرا، فعملية التخطيط التي شاعت إنما هي انعكاس لفلسفة العصر كلها، أو إن شئت فقل إن فلسفة العصر قد استقت ماءها من ميول العصر واتجاهاته.
فالمدخل الذي أقترح أن يكون بابنا الذي ندخل منه إلى ساحة الفلسفة المعاصرة، هو الوصول إلى هذه الحقيقة الكبرى بشتى السبل، حقيقة أن الفكر لا يستحق أن يكون فكرا بمعناه الصحيح، إلا إذا رسم الطريق المؤدي إلى التغيير، وهي حقيقة التقت عندها كل مذاهب العصر كما أسلفت، فلا ضير على المتفلسف منا أن يختار أيا ما شاء من تلك المذاهب، ليدرسه لنا بكل تفصيلاته، ولن يكون في اختلافنا فيما يختاره كل لنفسه «صراع» بقدر ما ينتج عنه التأييد والتركيز لما نحن في أشد الحاجة إلى تأييده وتوكيده، وهو - وأقولها مرة ثانية وثالثة وعاشرة بلا ملل - أن «الفكر» ليس له في عصرنا معنى إلا أن يكون أداة لتغيير ما نود تغييره مما يحيط بنا: من مواقف في السياسة إلى شئون في الاقتصاد، أو في التعليم، أو في نقد الفنون، أو فيما شئت أن تغيره.
لم تكن الدنيا على هذا الاهتمام كله بالجانب التطبيقي العملي من الفكرة في أي عصر مضى؛ لأن فكرتنا عن «العلم» نفسها قد تغيرت مع العصور: كان «العلم» عند اليونان الأقدمين هو أن تصنف الكائنات أنواعا وأجناسا، ثم ترتب تصوراتك الذهنية عن تلك الأنواع والأجناس ترتيبا يصعد بها من الأخص إلى الأعم على صورة هرمية، وتستطيع أن تلم بالعالم كله - على هذا النحو - دون أن يكون في يدك جهاز واحد، ودون أن تحرك من كائنات العالم جناحا لبعوضة، وجاء العصر الوسيط، فكان «العلم» هو ما مهد الطريق إلى السعادة في الآخرة، وإذا شئت فاقرأ - مثلا - كتاب الغزالي «إحياء علوم الدين»، لترى كيف يكون العلم في تصوره رسما لكل خطوة يخطوها من أراد نعيم الآخرة، أو اقرأ له «ميزان العمل»، وكانوا جميعا على هذا المنوال نفسه في تصورهم «للعلم»، ثم جاءت النهضة الأوروبية وما بعدها، فنشأ العلم الطبيعي نشأة متكاملة بعد أن اجتاز مراحل التمهيد قبل ذلك، لكنه كان أيضا علما نظريا إلى حد كبير، فقد ينشر نيوتن - مثلا - نظريته عن الجاذبية، فيعلمها دراسو العلم، لكن شيئا من أوضاع الحياة العملية لا يتغير، وأما في مرحلتنا التاريخية هذه فقد تغير الموقف من أساسه، وأصبح العلم ممزوجا بالأجهزة التي تعين على إنتاجه، مزجا جعل النظر والعمل وجهين لكل خطوة نخطوها في مجاله، ثم لا تكاد النتيجة العلمية الجديدة تظهر حتى تنبني عليها أدوات للحياة العملية نراها في كل ركن من أركان الدنيا ماثلة .. هذا هو «العلم» الذي فلسفناه في المذاهب الفكرية التي اختلفت منهجا، واتفقت في نتيجة عظمى، هي أن الفكرة أداة للعمل، وهي النتيجة التي تلزمنا - أعني الأمة العربية - أكثر مما تلزم سوانا، للإسهال اللفظي الذي أصيبت به ثقافتنا، دون أن يحد اللفظ إنجاز في دنيا العمل.
وقد يسألني سائل ممن يحبون القول ويكرهون العمل: أتريدنا على أن نقيد كل لفظ نلفظه بعمل يتبعه؟ وأجيب مسرعا بالنفي؛ فلك مجالات كثيرة تستطيع فيها أن تمرح بلفظ غير مسئول، أما حيث تقف أمامنا مشكلات الحياة تتحدى مطالبة بالحلول، فها هنا لن يزحزح اللفظ جبالها مهما زخرفته ببيان وبديع، وضبطت له الوزن والقافية، ها هنا لا بد أن يرسم خطة للعمل الذي نؤديه حيال المشكلة القائمة. ذلك هو الدرس الذي نتعلمه من مذاهب الفلسفة المعاصرة جميعا، وذلك وحده هو جواز المرور، الذي لا يمكنك الدخول في أجواء هذا العصر إلا به.
وهل في هذا الذي يتطلبه منا العصر شيء جديد كل الجدة على ما ورثناه عن تراثنا الفكري من مبادئ؟ إن القرآن الكريم كلما وجه الخطاب إلى «الذين آمنوا» أضاف إلى ذلك قوله: «وعملوا الصالحات»، كأن الإيمان لا يكون إيمانا كاملا إلا إذا اقترن بالعمل الصالح، وصلاحية العمل إنما تكون بالنسبة إلى الهدف المنشود، وإلى نوع الموقف الذي نواجهه، كالمفتاح لا يكون «صالحا» للباب إلا إذا نفع في فتحه وإقفاله، والسيارة لا تكون صالحة إلا إذا دارت آلتها على النحو المطلوب للسير، وكذلك السياسي لا يكون صالحا إلا إذا رسم لقومه خطة للعمل الناجح، والاقتصادي لا يكون صالحا إلا إذا عرف الطريق الذي ينقذنا من التخلف ... وهكذا، كل هؤلاء عاملون للصالحات، التي وإن بدأت بدنيا الناس؛ فهي الطريق إلى مرضاة الله، فليست تعوزنا المبادئ النظرية في ثقافتنا الموروثة، ولكن ماذا تجدي المبادئ إذا لم تنسكب في سلوك الناس «عادات» يحيون على أساسها؟ بمثل هذه العادات، ننشأ عليها في ربط القول بصلاحيته في دنيا العمل، ننخرط في تيار عصرنا، وفي الوقت نفسه نلتزم ميراثا كريما ورثناه.
التوفيق بين ثقافتين
1
لست أتردد لحظة حين أقرر بأن أم المشكلات في حياتنا الثقافية الراهنة هي محاولة الكشف عن صيغة لحياتنا الفكرية والعملية، تجمع لنا في طيها طرفين؛ إذ تحافظ لنا على خصائصنا العربية الأصيلة، وفي الوقت نفسه تفتح لنا الأبواب على مصاريعها، لنستقبل - في رحابة صدر - أسس الحضارة العصرية كما يحياها اليوم روادها.
نامعلوم صفحہ