ثقافتنا في مواجهة العصر
ثقافتنا في مواجهة العصر
اصناف
عصرنا يعج بنتائج العلم، ويضطرب ويموج بتغيرات الأنظمة الاجتماعية جميعا، ومهمة «الفلسفة» أن تفهمه، فماذا صنع الفلاسفة في هذه السبيل؟ أريد أن أصورهم للقارئ وكأنما هم جماعة وقفت أمام الخضم الهائل الذي هو عصرنا بكل ما فيه، وأخذت تسأل الأسئلة الأرسطية الأربعة، لكنها سألت تلك الأسئلة من سائلين متفرقين؛ أعني أن الشخص الواحد لم يسأل الأسئلة الأربعة كلها، بل اكتفى لنفسه بسؤال واحد، وترك البقية للآخرين، فاكتفى كل منهم بدوره بسؤال واحد، فكان أن سأل فريق: ما الذي أدى إلى الموقف الراهن كله؟ (كأنه يسأل عن العلة الفاعلة)، وكان أشهر الإجابات في ذلك جواب المادية الجدلية، وسأل فريق آخر سؤالا آخر: ما الهدف من هذا أو ذلك مما نقول ونسمع؟ (سؤال عن الغاية)، وكان أشهر الإجابات جواب الفلسفة البرجماتية، وسأل فريق ثالث سؤالا ثالثا: مم صنع هذا العلم كله، وهذه المذاهب الفكرية كلها؟ بمعنى: على أي نحو نسجت اللحمة بالسداة ليتكون هذا القماش الفكري الممدود أمامنا؟ (سؤال عن الكيان ومادته)، وكان أشهر الإجابات في ذلك جواب الفلسفة التحليلية، ويلحق به جواب الوضعية المنطقية، وسأل فريق رابع سؤالا رابعا: أليس من حقنا أن نفترض بأن وراء هذا الفكر كله، البادي فيما يقال ويكتب، «وعيا» ذا خصائص معينة، لا بد من النظر إليه قبل أن ننظر إلى ما نبع منه (سؤال عن العلة الصورية)، وكان أشهر الإجابات هنا إجابة مذهب الظاهراتية (الفينومينولوجيا)، ويلحق به الفلسفة الوجودية.
ذلك مخطط تقريبي لجوانب الموقف، أفلم يكن الإنصاف يقتضي أن ننظر إلى هذه الوقفات الأربع باعتبارها مكملة إحداها لبقيتها، ما دامت كل منها تقنع بجانب واحد وتترك الجوانب الثلاثة الأخرى لسواها؟ نعم، ولكن يحلو دائما لمن لا يرى الموقف في مجمله أن يقول: إن هناك «صراعا» مذهبيا بين اتجاهات أربعة تغطي الميدان الفلسفي المعاصر، وحقيقة الأمر عندنا هي ألا صراع، بل تكامل، والفهم الكامل يتطلب الإجابات الأربع جميعا.
لكني أرسل حديثي وكأنما القارئ على علم كاف بهذه الاتجاهات الرئيسية الأربعة: المادية الجدلية، البرجماتية، الفلسفة التحليلية، والظاهراتية! وأحسبني مطالبا بشيء ولو يسير من الشرح؛ ليتاح لنا جميعا بعد ذلك أن نشترك في التفكير: ما موقف الفكر العربي من هذا كله؟
أما المادية الجدلية، فهي «مادية» بمعنى أن مرد الكائنات جميعا إلى مادة، على أن «المادة» هنا لا تعني خصائص سكونية ثابتة لا يصيبها تغير؛ إذ إن مادة الطبيعة دائبة التطور والتغير وفق قوانين «الجدل» (الديالكتيك)، والمقصود ب «الجدلية» هو أقرب شيء إلى ما يحدث بين متحاورين يتعارضان؛ أحدهما يقول الرأي، والآخر يقول نقيض ذلك الرأي، حتى إذا ما تصادم النقيضان تولد عنهما رأي ثالث، هو الصحيح، أو قل إن «الجدلية» هي عملية شبيهة بما يحدث إذا أنت «جدلت» أو ضفرت خيطين، ليتكون منهما - آخر الأمر - ناتج يحتويهما معا، فهكذا الحال في الطبيعة وفي المجتمع، يتصادم في أثناء سيره النقيضان فيتولد وضع جديد، وبذلك يتحقق التطور.
وإنهم ليصوغون قوانين السير الجدلي هذا في ثلاثة: أولها: أن يعد التناقض مقوما أصيلا في الطبيعة؛ لأنه كان يستحيل التغير إلى جديد ما لم يكن في صلب القديم ما ينقضه، وثانيها: أن هذا النقض الذي ينسخ الحالة الأولى لينقلها إلى حالة جديدة، لا بد بدوره أن يجد هو الآخر ما ينقضه؛ ليدوم السير على طريق التطور، وثالثا: أنه كلما تراكمت التغيرات من جنس واحد، وصلت حدا انقلب معه ذلك الكم المتراكم إلى كيف جديد؛ أي إلى حالة من جنس آخر، وهكذا يسير العالم: من وضع معين قائم، إلى نقيضه، ثم إلى وضع ثالث يؤلف بين النقيضين، وما إن يصبح هذا الوضع الجديد هو الأمر الواقع حتى ينسخه نقيضه، فإلى وضع يجمع النقيضين، وهلم جرا.
وتطبيقا لهذا السير المثلث الخطوات، على تاريخ الإنسان ونظمه الاجتماعية، تنشأ ما يسمونها ب «المادية التاريخية»، ومؤداها أنه لما كان البناء الاقتصادي للمجتمع هو أهم جوانبه، ثم لما كان هذا البناء الاقتصادي قائما على ما ينشط به الناس نشاطا عمليا، نتج عن ذلك أن جوهر الإنسان ليس هو أنه كائن يعقل الفكرة النظرية (الحيوان الناطق، كما كان يقال عنه)، بل هو الكائن الذي «يعمل» العمل المنتج في زراعة أو تجارة أو صناعة، أو في ما شئت من ضروب النشاط في دنيا الاقتصاد، وبهذا المعيار يتحد الفكر بالعمل اتحادا يجعلهما حقيقة واحدة ذات وجهين؛ ومن ثم جاءت عبارة ماركس الشهيرة «لقد حاول الفلاسفة تفسير العالم بطرق شتى، مع أن المهم هو أن يغيروه.» ورجائي أن يحتفظ القارئ بهذه النتيجة التي جعلت لنا الفكر وعمليات التغيير شيئا واحدا؛ لأننا سوف نرى هذه النتيجة نفسها، أو ما يقرب منها في المذاهب الفلسفية الأخرى؛ مما يكاد يجعلها هي روح عصرنا وصميمه، وقد يوحي لنا بالموقف الذي نريده للفكر العربي.
يعتقد أنصار المادية الجدلية أن فلسفتهم هي الفلسفة العلمية؛ لأنها هي التي تتناول واقع العالم تناولا علميا سليما، ولعلهم في استخدامهم لكلمة «العلمية» إنما يقصدون «المادية»؛ فالمعرفة العلمية كلها مرهونة بما هو مادي، وبما هو واقع في التجربة الحسية، فإذا كانت هنالك كائنات عضوية، رددناها جميعا إلى أصل لا عضوي، وإذا لحظنا في أنفسنا حالات وعمليات وجدانية أو عقلية، أرجعناها كلها إلى أساس فسيولوجي، فمهما تكن النظرية العلمية، ومهما يكن موضوعها؛ فما لم تكن قابلة للرد إلى ما هو واقع في التجربة الحسية، تجردت من علميتها وأصبحت لغوا. ومرة أخرى نرجو القارئ أن يحتفظ بهذه النتيجة التي تحتم أن تنبني النظرية العلمية على تجربة وتطبيق؛ لأنها نتيجة سنصادفها هي الأخرى في مذاهب فلسفية غير المادية الجدلية، مما قد يشير إلى أنها علامة تميز المعرفة العلمية اليوم، ومما قد يوحي بما نجعله أساسا ضروريا في الموقف الذي نختاره للفكر العربي.
إذا حق لنا القول عن «المادية الجدلية» (ومعها المادية التاريخية) بأنها فلسفة للتاريخ، بمعنى أنها تصوب النظر إلى الماضي لترى كيف سار حتى انتهى به السير إلى الحالة الحاضرة الراهنة، حق لنا كذلك أن نقول عن الفلسفة «البرجماتية» إنها فلسفة المستقبل، بمعنى أنها تقيس الأمر الراهن إلى ما يترتب عليه من نتائج عملية تستطيع الحكم عليه بقبول أو برفض، إن المعنى الحقيقي للفكرة - أي فكرة - هو مجموع التصرفات العملية التي تؤديها بناء عليها، فإذا كان لديك ما تزعم له أنه «فكرة»، ثم بحثت فلم تجد عملا واحدا تؤديه بناء عليها، فاعلم أنها ليست من الفكر في شيء؛ لقد كان «تشارلس بيرس
Charles peirce » إمام البرجماتية في العصر الحديث، (وتبعه على التوالي ثلاثة آخرون: وليم جيمس، وشلر، وجوني ديوي، فكانت أربعتهم عمد المذهب البرجماتي)، وفي العبارة الآتية التي قالها «بيرس» ما يبرز أهم خصائص هذا المذهب: «إذا كانت لديك فكرة، وأردت تحديدا لمضمونها، فانظر: ماذا عسى أن يكون لها من نتائج تطبيقية في دنيا العمل، ثم اجمع هذه النتائج العملية معا؛ يكن لك قوام فكرتك»، وبعبارة أخرى، إن قولك: «إني أعرف كذا» مساو لقولك: «إني أستطيع أن أعمل كذا»، وما ليس في وسعك أن «تعمل» به شيئا، لا يكون لك به «علم»؛ لأن علما بلا عمل يؤديه، كلام ينقض نفسه بنفسه.
ويتصل بالبرجماتية اتصالا وثيقا مذهب يقال له «مذهب الإجرائية» في فهم المعاني أو الأفكار؛ فالفكرة معناها هو مجموعة الإجراءات التي نجريها في تحقيقها، وهو قول - كما ترى - مطابق لما تقوله البرجماتية، لولا أن «الإجرائية» لا تقصر الأمر على الإجراءات المادية التي تتم في سلوك منظور، بل توسعه حتى تشمل به الإجراءات التي تتم في العقل، كما يحدث في تناولنا لمسألة رياضية أو ما يشبهها.
نامعلوم صفحہ